أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-6-2019
940
التاريخ: 26-8-2017
1013
التاريخ: 26-8-2017
955
التاريخ: 26-8-2017
2012
|
كانت فرق الجيش ما تزال تتجه الى نقطة في الجنوب الغربي من «مرو» التي بدأت تستعد لخلع ثوب العواصم.
وشهد منزل الفضل لقاءات مشبوهة في الظلام وكان الذين يرتادون منزله يحرصون على اتخاذ جانب السرّية البالغة، أمّا هشام بن إبراهيم فقد أصبح وكأنه أحد أعضاء اسرة ذي الرئاستين وكان يدخل ويخرج دون إذن...
وفي تلك الليلة وفيما كانت الدوريات المسلّحة تطوف أزقة «مرو» وشوارعها.. جلس الفضل وهشام وبينهما صندوق ثمين مطعم بالجواهر يحوي وثائق رسمية هامّة..
وكان هشام يعيد وربما للمرّة الألف قراءة كتاب زوّره باسم ولي عهد.. ويطالع المقدّمة التي لفقها مما يحفظ من أحاديث الامام وخطبه..
أما الفضل فقد كان يطالع نص الكتاب المزور الذي يشيد بجهوده وخدماته للدولة هو وأخيه الحسن..
ولا أحد يدري فيما إذا كان الكتاب قد زوّر للاستفادة منه حال وقوع انقلاب عسكري يطيح بالمأمون أو أنه زوّر لتوزيعه في الاقاليم لتعزيز نفوذ ذي الرئاستين الذي أصبح الحاكم الفعلي للدولة.. وربّما للاحتفاظ به إذا قرر الفضل البقاء في خراسان وعدم عودة الى بغداد؟!
وغمغم الفضل وعيناه تبرقان كأفعى منتفخة بالسم:
ـ لن يشك أحد في الكتاب.
وعلّق هشام:
ـ إنّ الرضا نفسه لن يساوره أدنى شكّ في مقدمة الكتاب.. لقد جمعته من أحاديث وخطبه!
وتساءل الفضل وهو يطوي الكتاب بعناية فائقة ويلفّه بمنديل حريري.
ـ كم صحبته؟
ـ من؟!
ـ أعني الرضا!
أجاب ساخراً:
ـ سنوات.
ورمقة الفضل بنظرة فيها استصغار:
ـ فما الذي دفعك الى أن تخذله؟
ـ ماذا تقصد؟!
ـ أريد أن أعرف قصتك معه.. ما الذي حصل لكي تغيّر رأيك فيه.
أجاب الذي في قلبه مرض:
ـ دعني من هذا.. متى كان آباؤه يجلسون على الكراسي؟ حتى يبايع لهم بولاية العهد، كما فعل هذا؟!
أعاد الفضل الكتاب الى الصندوق وتثاءب وهو ينظر بطرف خفي الى عميله وجاسوسه الذي اشتراه بثمن بخس.
ونهض «الإسخريوطي»، بينما ظلّ ذو الرئاستين ساهراً على ضوء قنديل فضي.. يفكر ويدبّر.. فالطريق الى بغداد طويلة.. محفوظة بالأخطار.. مليئة بالمغامرات.. إن المأمون داهية بني العباس ماهر في لعبة الشطرنج وها هو يحرّك فيلة وقلاعاً وجنوداً لا يراها...
بالأمس أطلق سراح هرثمة بن أعين.. لماذا؟! لا يعرف حتى الآن! كيف يستصرف اذن.. وشعر الفضل أن رأسه قد أصبح حلبة تتسابق فيها خيل مجنونة وذئاب فأطفأ القنديل.. ونام...
كان غبش الفجر رمادياً عندما غادر الامام منزله.. لقد أزفت ساعة الرحيل.. حيث بلغت الاستعدادات ذروتها، وانتظمت قافلة طويلة تحمل دواوين الدولة وصناديق الخزانة العامّة، وكانت بعض العيون تبرق كعيون الافاعي وتشيع الرهبة حتى لا يبقى من شك في أن لأصحابها مأموريات ومهمّات سرّية..
جواسيس يرتدون بزّات مختلفة بعضهم يراقب الامام من بعيد وآخرون يراقبون الفضل حتى المأمون كانت هناك عيون خفيّة تراقب عن كثب وترصد حركاته واجتماعاته..
هبّت نسائم الفجر النديّة، وقد استوى الامام فوق راحلته متجهاً ببصره الى الأفق البعيد... البعيد... والكلمات المقدسة تتفتح على شفتيه كبراعيم ربيعية:
ـ يا من لا شبيه له.. ولا مثال.
أنت الله لا إله الا أنت..
ولا خالق الا أنت..
تفني المخلوقين.. وتبقى..
أنت حلمت عمّن عصاك وفي المغفرة رضاك..
وانسابت الراحلة على مهل:
ـ استسلمت يا مولاي لك.. وأسلمت نفسي إليك.
وتوكّلت في كل أموري عليك.. وأنا عبدك وابن عبديك..
فأخبأني اللهم في سترك عن شرار خلقك.. واعصمني من كل أذى وسوء بمنّك..
واكفني شرّ كل ذي شرّ بقدرتك..
لا إله الا انت يا أرحم الراحمين ويا إله العالمين.
أصبحت مرو خاوية على عروشها، وكان صغار التجار وأصحاب الدكاكين أكثر الناس فجيعة، أما الفقراء والبائسين فقد كانوا يذرفون الدموع بصمت..
القافلة تمضي قدماً في منخفضات أشبه بالمراعي.. تتقدمها فرق القوات المسلّحة المجهّزة تجهيزاً عالياً معزّزة بكتائب كانت تقاتل في أطراف كابل قبل أن تصدر اليها أوامر غامضة من ذي الرئاستين بإيقاف عملياتها الحربية والعودة الى مرو على جناح السرعة!
وكان المأمون يراقب بقلق الوضع الذي لم يعد يحتمل الكثير من الانتظار..
لم تكن القافلة قد وصلت البحيرة الصغيرة عندما جنحت الشمس نحو المغيب وقد بدت لوحة سماوية أخاذة..
كان منظر الغروب سخيّاً بألوانه الشفافة.. ألوان تشبه
البرتقال، وجمر المواقد الشتائية تكللها زرقة صافية..
وحطّت القافلة رحالها ليلتقط المسافرون أنفاسهم، وكان رغاء الجمال وصهيل الخيل يكسر صمت الغروب وسكينة الفلاة المنبسطة حتى الأفق.
كان المأمون يسعى أن يكون ودوداً وهو يتحدث الى الامام:
ـ يا أبا الحسن ألا تنشدني أحسن ما رويته في الحلم؟
وابتسم الامام وهو يقول:
إن كان دوني من بليت بجهله وإن كان مثلي في محلّي من النهى وان كنت أدنى منه في الفضل والحجى ... أبيتُ لنفسي أن أقابل بالجهل هربت لحلمي كي أجلُّ عن المثلِ عرفت له حق التقدّم والفضل
ـ أحسنت يا أبا الحسن!! من قائله؟
ـ بعض فتياننا.
ـ انشدني أحسن ما رويته في السكوت عن الجاهل؟
إني ليهجرني الصديق تجنّباً وأراه إن عاتبته أغريته وإذا ابتليت بجاهل متحلّم أوليته مني السكوت وربما ... فأريه أنّ لهجرة أسبابا فأرى له ترك العتاب عتابا يجد المحال من الأمور صوابا كان السكوت عن الجواب جوابا
وانتشى المأمون طرباً للمعاني الأخاذة تنساب في شعر رقيق:
ـ أحسنت! أحسنت.. ما أحسن هذا؟!! من قاله؟!
وأجاب الامام بأدبه العظيم:
ـ بعض فتياننا.
ـ انشدني أحسن ما رويته في استجلاب العدوّ حتى يكون صديقاً!
فأنشده الامام ووجهه يتألق نوراً سماوياً:
وذي غلّة سالمته فقهرته ومن لا يدافع سيئات عدوّه ولم أرَ في الأشياء أسرع مهلكا ... فأوقرته منّي لعفو التحمّل بإحسانه لم يأخذ الطول من علِ لغمر قديم من وداد معجّل
ـ ما أحسن هذا؟! من قاله؟
ـ بعض فتياننا.
ـ أنشدني أحسن ما رويته في كتمان السرّ:
قال الامام وهو ينظر باتجاه الافق الغربي، وقد تكاثفت ظلمة الغروب:
وإني لأنسى السرّ كي لا أذيعه مخافة أن يجري ببالي ذكره فيوشك من لم يفش سرّاً وجال في ... فيامن رأى سرّاً يصان بأن ينسى فينبذه قلبي الى ملتوي الحشا خواطره ألا يطيق له حبسا
ـ أحسنت يا أبا الحسن ما أحسن ما تروي من الشعر؟!
المشهد السماوي تغمره ظلمة الغروب المتكاثفة، وقد انبثقت في الافق الشمالي كبراعم فضيّة.. وكان أذان العشاء ينساب كجدول سماوي يتدفق من جناب عدن..
اجتازت قطعات الجيش البحيرة في منطقة تكثر فيها التفرعات النهرية قبل أن تصل مستنقعات ومسطحات مائية تستمد مياهها من نهر «تجن» ومن مواسم المطر.. وكان الهواء رطباً بسبب حدّة الشمس التي ألهبت مسطحات المياه طيلة النهار وبدت وجوه البغض أكثر ضيقاً، والنفوس أكثر انسحاباً الى الأعماق..، وكانت اللقاءات العابرة في المعابر تثير بعض المخاوف فقد رأى الفضل هرثمة، وتقابل الجلودي مع الامام وجهاً لوجه، ولمح المأمون الفضل ساهماً وكان هرثمة يحرص على أن يكون قريباً من الامام..
امّا محمد بن جعفر فقد كان مستغرقاً في هواجس تبدو بلا نهاية خاصة عندما وجد الفضل يحاول التودّد إليه وفي ذلك الجوّ المشحون، كان وجه الامام الوحيد الذي يعبّر عن حالة من السلام بين وجوه تموج بالقلق..
لم تبق سوى أميال معدودة الى «سرخس» التي اختارها القدر بداية لحياة الفضل.. وها هو يعود اليها.. يسوقه قدر غامض!
وصل المأمون وأركان دولته مدينة سرخس، ولم ينم تلك الليلة برغم من تعبه الشديد.. سيكون الغد يوماً فاصلاً..
في منتصف الليل وفيما كان قمر ذي الحجة آخذاً بالأفول استدعى المأمون خاله ونسجت العنكبوت بيتها..
كان الامام في منزله المخصص لاستراحته عندما سلّمه أحد حرس المأمون رسالة جاء فيها:
ـ «أرى أن نذهب الى الحمام غداً.. أنا وأنت والفضل.
وسجّل الامام اعتذاره بعدم استطاعته الذهاب الى الحمّام غداً.
لم تمرّ سوى دقائق حتى عاد الحارس وأعاد اليه الرسالة وكتب الامام في ذيل الرسالة موقفه القاطع:
ـ لست بداخلٍ غداً الحمام.. فإني رأيت رسول الله في المنام في هذه الليلة يقول لي: يا علي لا تدخل الحمام غداً.. فلا أرى لك يا أمير المؤمنين، ولا للفضل أن تدخلا الحمام غداً.
وفي المساء كان غالب مع أربعة رجال ملثمين آخذين سمتهم الى منزل يقع بالقرب من حمام المدينة وقبل أن ينفلق عمود الفجر.. دخل خمسة رجال مسلحين الحمام ليأخذوا أماكنهم مترقبين دخول فريستهم..
كان الحمام مقفراً تماماً بناءً على أوامر من الخليفة الذي قرّر ارتياد الحمام غداً ودخل الفضل ومعه خادمه الذي مكث في حجرة استبدال الثياب..
قاد صاحب الحمام على توجس وخيفة الضحية الى مكان قريب من حوض يتصاعد منه بخار كثيف كضباب يوم شتائي.. سرت قشعريرة في جسد الفضل وعزا ذلك الى برودة الرخام..
ألقى صاحب الحمّام نظرة فيها قدر من الاشفاق على رجل سيكون بعد لحظات جثّة هامدة..
كانت هناك عشرة عيون تتلصص من خلل البخار المتصاعد.
فجأة برقت أربعة سيوف وظهر خمسة رجال غلاظ.. وكان غالب ينظر بشماتة الى الفضل الذي جحظت عيناه فزعاً..
ودوّت صيحات الاستغاثة في فضاء الحمام، وكانت الجدران الصخرية تمتص صرخاته.. وتخطفته السيوف وتدفقت دماؤه لتصبغ بلاط الحمام النديّ بلون قان..
وهوى في الحوض وقد بحلقت عيناه في البخار المتصاعد لكأنه ينظر الى طموحاته تستحيل بخاراً سرعان ما تتلاشى وتذوب..
تمّ كل شيء بسرعة واختفى الرجال في ظلمة الفجر..
وفرّ الخادم مرعوباً لا يلوي على شيء.. وأقفر الحمام الا من جثة عائمة في حوض تتصاعد منه ابخرة المياه الساخنة.
ما إن اشرقت الشمس حتى كانت سرخس تموج بأهلها وظهر المأمون عصبياً أو تظاهر بذلك، وكان يرسل تهديداته ويتوعد الجناة بالموت الأحمر.
وسادت حالة الطوارئ المدينة، وكانت أصابع الاتهام في اغتيال الفضل تتجه الى المأمون، وظهرت حركة تمرّد في القوات الموالية للوزير القتيل..
واندفع الجنود الغاضبون الى القصر، وبادر الحرس الى غلق الأبواب وكانت الشرطة قد ألقت القبض على الرجال الأربعة الذي سيقوا الى القصر لمحاكمتهم..
وصرخ المأمون بعصبية:
ـ من الذي دفعتكم الى ذلك؟
وأدرك المرتزقة أنهم قد وقعوا في فخ العنكبوت فصاح أحدهم وكان اسمه «بزرگمهر».
ـ أنت أمرتنا بقتله!
وصاح المأمون بمكر:
ـ ها أنتم تعترفون بجنايتكم.. وامّا ادعائكم باني أمرتكم بذلك فدعوى ليس لها بيّنة..
والتفت الى الحرس وأمرهم بتنفيذ حكم الاعدام فوراً وتساقطت أربعة رؤوس ليسدل الستار على المزيد من الأسرار الى قد تتضمن أسماء بعض الاشخاص المقرر اغتيالهم في الحمام وفي ظلمة الفجر...
كانت جموع الجنود المشاغبين تحاصر القصر ويهدّد بإحراق القصر..
واندفع بعضهم الى باب القصر الرئيسي لإضرام النار...
واستنجد المأمون بالامام لتهدئة الموقف، وإعادة السيوف المجنونة الى أغمادها..
وما حدث لا يمكن تفسيره بنحو ما! فقد ظهر الامام من شرفة القصر وجهاً لوجه أمام عشرات الغاضبين المسلحين بالسهام والسيوف والحراب..
ظهر الامام هادئاً مطمئناً.. وكان وجهه الذي تغمره السكينة والايمان مفاجئاً تماماً في ذلك الجوّ المتفجّر..
وشيئاً فشيئاً حفتت صيحات الجنود.. كنار تخمد تحت وابل مطر غزير.. إن تيّاراً من الصفاء والنقاوة قد وجد طريقه الى هؤلاء الذين كانوا منذ لحظات يدعون بالويل والثبور..
ومن الواضح ان الامام قد اقتحم على قلوب الثائرين قلوبهم بتيار غامض من العاطفة..
ورفع على الرضا كفّه السمراء مشيراً إليهم أن انصرفوا وكانت المفاجأة انهم قد استجابوا لذلك دون تردد.
هل أثار الحادث مخاوف المأمون؟ هل عزا ذلك الى قدرة الامام وتأثيره الروحي الذي لا يقاوم؟ لا أحد يدري ماذا حصل؛ ولكن المأمون كان شغولاً بتسطير برقية عزاء رقيقة!
الى الحسن بن سهل.. ذيّلها بخطبته لـ «بوران» حسناء فارس الصغيرة ...
وفي نفس اليوم انطلق حصان يسابق الريح يحمل رسالة الخليفة ورؤوساً أربعة لم يعد يخشاها أحد لأنها لن تتكلّم الى الأبد.. ولن تفصح عن أسماء بعض من تقرر اغتيالهم!!
واقام المأمون مجلس عزاء على روح وزيره القتيل وتلبّس وجهه القاسي بحزن كذب.
كثير من الذين حضروا كان ينظرون بطرف خفي الى القاتل كيف يتباكى على ضحيته..
الطريق الى بغداد مليئة بالضحايا وفي كل مرّة تنسج العنكبوت خيوط بيت واهن.. هو أوهن البيوت..
ولم تمض سوى أيام حتى كانت قوافل المأمون تجتاز الأودية القاحلة في طريقها الى طوس.
أطل العام الهجري الجديد وقد مضى قرنان وثلاثة أعوام على هجرة آخر الانبياء... وأشرقت شمس تموز.. تتدفق نوراً ودفئاً.. فتغمر أرض خراسان المليئة بالصحاري والفلوات والملح والرمال..
وكان قصر «حميد بن قحطبة» يتألق تحت الاضواء وسط حديقة واسعة وقد نهضت أشجار الرّمان تشكل سياجاً في الجانب الشرقي.
أصبح الامام ذلك اليوم صائماً كعادته في الفاتح من محرّم الحرام وقد غمرت وجهه الأسمر سحابة من حزن كربلائي..
وكانت أعماقه تتأجج بمشاهد عاشورائية، ورثتها الذاكرة منذ اللحظة التي هوى بها الحسين ظامئاً على شطآن الفرات بين «النواويس» و«كربلاء»..
وقال الامام لصاحبه وهو يحاوره وكان رجلاً أشعرياً قميّاً:
ـ يا سعد عندكم لنا قبر؟
أجاب الأشعري:
ـ جعلت فداك.. قبر فاطمة بنت موسى؟
قال الامام وقد تجمعت في عينيه غيوم ممطرة:
ـ نعم.. من زارها عارفا بحقّها فله الجنّة.. عن أبي عن جدّي قال: «ان لله حرماً وهو مكّة، وإن للرسول حرماً وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن بها امرأة من أولادي تسمى فاطمة فمن زارها وجبت له الجنّة».
ستنهض في تلك البقعة المباركة قباب ومنائر وتتألق مآذن ومساجد يذكر فيها اسم الله وحده..
كانت الحجرة التي يقطنها الامام تفضي الى حجرة واسعة اتخذها المأمون مقرّاً له..
وجاء المأمون، فنهض الامام استقبالاً له واستأذن سعد فغادر المكان قال المأمون وقد استقرّ به المكان:
ـ يا أبا الحسن.. اليوم جمعة فاكتب لي خطبة أقرأها على الناس في الصلاة.
ـ أفعل ذلك يا أمير المؤمنين.
ـ سوف أرسل لك ابن بشير بعد ساعة.
قال المأمون ذلك ونهض.. فنهض له الامام.
وشرع الامام يكتب له خطبة فيها موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد:
ـ «.. الحمد لله الذي لا من شيء كان.. ولا على صنع شيء استعان، ولا من شيء خلق.. بل قال له: كن فيكون.
وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له.. الجليل عن منابذة الأنداد.. ومكابدة الأضداد.. واتخاذ الصواحب والأولاد... وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، وأمينه المجتبى.. أرسله بالقرآن المفصّل، ووحيه الموصّل، وفرقانه المحصّل.. فبشر بثوابه وحذّر من عقابه.. صلّى الله عليه وآله..
أوصيكم عباد الله بتقوى الله.. الذي يعلم سرّكم وجهركم.. ويعلم ما تكتمون فإن الله لم يترككم سدى ولم يخلقكم عبثا...
الحذر.. الحذر عباد الله.. فقد حذّركم الله نفسه، فلا تعرضوا للندم.. واستجلاب النقم.. والمصير الى عذاب جهنم... ان عذابها كان غراما.. إنّها ساءت مستقرّاً ومقاماً..
لا تطفى، وعيون لا ترقى... ونفوس لا تموت ولا تحيا..
في السلاسل والاغلال، والمثلات والأنكال.. «كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.. إنّ الله كان عزيزاً حكيماً..»
«نارٌ أحاط بها سرادقها».. فلا يُسمع لهم نداء.. ولا يُجاب لهم دعاء ولا يُرحم لهم بكاء..
ففرّوا عباد الله الى الله بهذه الانفس الفانية.. في الصيحة المتوالية في الايام الخالية.. من قبل أن ينزل بكم الموت.. فيغضبكم أنفسكم ويفجعكم بمهجكم.. ويحول بينكم وبين الرجعة..
هيهات حضرت آجالكم.. وختمت أعمالكم.. وجفّت أقلامكم.. فلا للرجعة من سبيل.. ولا الى الاقامة من وصول.. عصمنا الله وايّاكم، بما عصم به أولياءه الأبرار.. وأرشدنا واياكم لما أرشد له عباده الأخيار..».
استدعى المأمون ابن بشير وكان يستظل تحت شجرة كالبتوس باسقة، وما امتثل أمامه في حالة من الاستعداد والطاعة العمياء.
قال المأمون بعد أن ركز في عينيه النظر لحظات:
ـ أرني كفّين..
وفوجئ ابن بشير فقدّم كفّيه مبسوطتين وعلامات سؤال واستفهام تموج في عينيه القلقتين .
ضغط المأمون على الحروف وهو يقول له:
أطل أظفارك.. ولا تقلّمها.
وفوجئ «منصور» بهذا الأمر الغريب، ولكنه هتف:
ـ سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين.
ـ والآن اذهب الى الرضا فانه سيسلّمك رقعه فيه خطبة الجمعة فوافيني بها في المسجد..
كانت الجموع تصطف وقد زالت الشمس وشرع المأمون يقرأ خطبة الجمعة..
لم يستطع المأمون إخفاء تأثره بالكلمات الشفافة المؤثرة تنساب الى القلب.. الله المطلق مصدر الوجود ونبع الحياة المتدفق.. الله القدرة المطلقة.. الواحد الأحد.. وهذه كلمته الخالدة في القرآن جاء بها رسوله محمد النبي..
إنّ الله لم يخلق الانسانية عبثاً هناك غائية يتحرك خلالها البشر.. نحو مصير يحدّده الانسان في مساره.. ليس هناك في الدنيا ما يستأهل أن يبيع الانسان فيها نفسه للشيطان إنّ جهنم بالمرصاد.. ودقات القلب خطى الانسان نحو الموت مصير الانسان الحتم.. وحدهم الأبرار والأخيار هم الفائزون يوم لا ينفع مال ولا بنون..
وخشعت القلوب.. ودمعت العيون.. حتى المأمون ارتجف قلبه وأخذته قشعريرة.. وانتابته هواجس أربكته وهو يستعد للصلاة..
ولكنه عندما دخل حجرته وقد قضيت الصلاة ووقعت عيناه على صندوق من خشب الأبنوس.. وعلى كأس فيه بقية نبيذ من ليلة أمس نسي كل شيء.. ولم يعد يفكّر الا بعرشه ومملكته.. والعودة الى بغداد.. بغداد التي أضحت حلمه الوحيد.. وراح يستعيد ذكرياته هناك.. الموسيقى الصادحة على ضفاف النهر.. واغنيات «الموصلي» والليالي العابثة..
جنحت الشمس للمغيب.. وأرسلت آخر اشعتها الذهبية فوق الربى البعيدة.. وشيئاً فشيئاً تكاثفت الظلمة لتهب الأشياء غلاله من الغموض والرهبة..
وأوى الامام الى محرابه وقد غمرته حالة من السكينة فيما صفق المأمون بكفيه منادياً على حارس وقف كالتمثال قريباً:
ـ ليحضر ابن بشير.
فتح المأمون الصندوق الخشبي المزيّن بالنقوش والألوان واستخرج قطعة من جلد غزال مربعة الشكل ولم تكن سوى رقعة الشطرنج.. وخرجت من الصندوق فيلة وجنود وقلاع وأفراس... وراح المأمون يدندن طرباً وقد هبّت نسائم ليلية من النافذة المطلّة على حديقة غنّاء:
أرض مربعة حمراء من أدم تذاكرا الحرب فاحتالا لها شبهاً هذا يغير على هذا وذاك على فانظر الى الخيل قد جاشت بمعركة ... ما بين ألفين موصوفين بالكرم من غير أن يسيعا فيها بسفك دم هذا يغير وعين الحرب لم تنم في عسكرين بلا طبل ولا علم
وصبّ له كأساً من النبيذ في «جام» ياقوت أحمر كان امبراطور الهند قد أهداه إليه.
ودخل ابن بشير ليهتف جذلاً:
ـ البشرى يا أمير المؤمنين.
ـ خلع أهل بغداد ابن شكله.
ـ أعرف ذلك.
ـ من أين يا سيّدي والبريد لم يصل طوس.
نظر المأمون إليه وقد ارتسم ابتسامة ساخرة على شفتيه:
ـ عرفت ذلك في «سرخس» يوم قتل الفضل...
وسكت لحظات ثم قال ساخراً:
ـ مسكين عمّي لا يحسن شيئاً غير الغناء! بل هو أرق صوتاً من إسحاق الموصلي.
تجرأ ابن بشير ولكنه قال متظاهراً بالجدّ:
ـ وعمّتك عليّة يا أمير المؤمنين؟
ـ لا تتخابث علي! هيّا لتصفّ جنودك وخيلك فقد بدأت الحرب!
زجّ المأمون وزيره وقد برقت عيناه.. وكان من الواضح ان المأمون لا يكترث له.. كان قد أعدّ خطّة جديدة لم يختبرها..
وقع الوزير في مأزقٍ إذ وجد نفسه محاصراً بين أربعة بيادق... وراح المأمون يحرّك قلاعاً وجنوداً وفيلة.. وسقوط الوزير.. وهتف ابن بشير:
ـ أصبحت بلا وزير يا سيدي!
ليس مهمّا..
كان المأمون واثقاً من النصر.. تحرّكت بيادقه طبقاً لخطّة ذكية ووجد ابن بشير نفسه عاجزاً تماماً.. لقد انتهت اللعبة وانتهت المعركة لصالح المأمون الذي أشار بيده جهة الشمال:
ـ حتى لو انبعث صاحب هذا القبر فلن يستطيع أن يهزمني.
قال ذلك وأشار الى نديمه:
ـ انصرف! ولا تنسَ وصيتي في أظفارك.
ـ الى متى أفعل ذلك؟!
ـ الى أن ينضج الرمّان! أفهمت؟
انحنا الرجل بعد أن نهض وغادر المكان، وقد أصبح رأسه مسرحاً للهواجس..
وفي غمرة الليل سمع المأمون وهو يأوي الى فراشه صوتاً ينساب وعرف ذلك على الفور؛ ان الرضا يتلو آيات من القرآن..
وتمرّ الأيام ومضى محرّم الحرام يحمل معه ذكرياته الحزينة وها هو صفر يكاد يلملم آخر لياليه، وقد أطلّ الخريف يثير لواجع الحزن في قلوب الغرباء والحنين للديار والوطن..
نضج الرمّان وطالت أظفار ابن بشير حتى بات يستحي من الناس.
وجلس المأمون في الصباح وحيداً.. كعنكبوت تنسج بيتاً كان يعمل.. فتح صرّة فيها مادّة بيضاء تشبه دقيق الذرة... وأمسك بأبرة تشبه سلكاً دقيقاً وراح يهيل عليها المادّة.. ثم يزرقها في حبّات عنب كان في إناء زجاجي... كانت عملية التزريق تتم بدقّة وحذر وفي جانب واحد من الاناء!... وقد عربد الشيطان فوق الرأس المطأطئ للخطيئة..
وفي الضحى أرسل المأمون من يستدعي له الامام.. وكان المأمون ومن أجل أن يتظاهر بالقداسة يتوضأ.. وغلام يصبّ الماء على يده..
قال الامام:
ـ يا أمير المؤمنين لا تشرك بعبادة ربّك أحداً.
فأسرّها المأمون في نفسه ولم يبدها له واكتفى بأن خاطب غلامه بقسوة:
ـ هات الابريق..
استكمل المأمون وضوءه وكان ينظر بطرف عينيه الى الامام الذي جلس على سجّادة فارسية مزينة بالنقوش..
كانت شمس الخريف تغمر أشجار الرمّان بالنور والدفء وبدت مساقط النور والظلال لوحة متناغمة الألوان.
قال المأمون وهو يناول الامام عنقود عنب:
ـ يا أبا الحسن ما رأيت عنباً أحسن من هذا؟
أجاب الامام وقد أوجس خيفة:
ـ ربما كان عنباً أحسن منه في الجنّة.
ـ كل يا أبا الحسن!!
ـ لا أشتهي!
قال المأمون بغيظ مكتوم:
ـ إنّك لتحب العنب فما يمنعك؟! أم أنّك تتهمني بشيء؟!
قال ذلك وتناول حبّة لم تطالها زرقات الأبر المسمومة..
أدرك الامام أنه يقف وجهاً لوجه أمام النهاية.. إنّ إغتياله قرار لا رجعة منه.. أخذ عنقود الموت وتناول ثلاث حبّات.. ورمى بالعنقود! ونهض..
نظر الى المأمون نظرات نفّاذة.. قال المأمون مرتبكاً:
ـ إلى أين؟!
أجاب الامام بصوت فيه حزن الانبياء.
ـ الى حيث وجهتني...
وغادر الامام المكان عائداً الى حجرته.. وقد شعر بألم يشبه سكيناً تغوص ببطء وقسوة في كبده.. وأن روحه تنزف وقلبه الكبير قد بات عاجزاً عن تحمّل الحياة في عالم يعجّ بالشرور..
لزم الامام فراشه ذلك اليوم.. أمّا المأمون فقد فعل الشيء نفسه وتظاهر بالمرض ثم يرسل غلامه الى الامام:
ـ إن أمير المؤمنين يقول هل يوصيني الرضا بشيء أو ينصحني فيما أفعل؟ أجاب الامام وهو يشير الى قلب الحقيقة:
ـ «قل له: يوصيك ألا تعطي أحداً ما تندم عليه».
وكان المأمون يترقب.. يترقب صرخة.. مناحة.. ولكن لا شيء لعلّ ثلاث حبّات لا تكفي في اغتيال من لا تحبّه بغداد اللعوب.. ساءت حالة الامام ودهمته حمّى شديدة.. وانتشر نبأ العنب في أروقة القصر وخارجه.. وعمد المأمون الى التزام الفراش.. متمارضاً.. لكن الحمّى لم تدهمه وكان جسده كتلة من اللحم البارد لا مشاعر، ولا عاطفة، ولا رحمة في ذلك القلب الذي يشبه كتلة من الرصاص!
وانتابته هواجس... ماذا لو تحدّث الرضا عن مؤامرة اغتياله؟ ماذا لو همس بذلك الى أصحابه وبعض قادة الجيش.. من الذين لمح في عيونهم وسلوكهم احتراماً وحبّاً له..
ودخل جاسوس من الذين يراقبون بيت الامام قائلاً له:
ـ إن هرثمة بن أعين قد جاء يعود الرضا.
صاح بعصبية:
ـ وماذا تفعل هنا أيها الأحمق؟! اذهب واصغ لما يقولون!
ـ لقد فعلت ذلك ولكني لم التقط حتى كلمة واحدة..
فالرضا يتحدّث بصوت واهن.. وهرثمة مطرق برأسه.. ولعلّه كان يذرف الدموع.
ـ اذهب واحضر ابن بشير.
ـ سمعاً وطاعة يا سيّدي.
وجاء إبن بشير وقد بدا عليه التوجّس.. وقال مبادراً:
ـ يا أمير المؤمنين! نضج الرمّان.
ـ أعرف ذلك.. افتح ذلك الصندوق وآتني بالمزور المختوم..
واحضر ابن بشير منديلاً أصفر اللون.. قال المأمون:
ـ فضّ الختم! وادخل يديك وقلب الدواء الذي فيه...
وكان ابن بشير يفعل كل ما يؤمر ولا يسأل... ورأى فيه ما يشبه طحين الذرة البيضاء... وظلّ يقلّب كفيه داخل الطحين الأبيض العجيب حتى امتلأت أظفاره... نهض المأمون وأعاد المزور الى مكانه.. ثم التفت الى غلامه:
ـ والآن هيّا لنعود الرضا فإنه محموم! ـ؟!!
ـ ما لك تنظر كالأبله؟!
وتظاهر بالإجهاد وهو يخطو خارج حجرته متجهاً الى باب تؤدي الى حجرة الامام..
وحاول الامام النهوض أدباً، فأشار اليه المأمون بالتزام الفراش، وجلس قريباً من وسادته.. وغادر هرثمة بعد أن حيّا المأمون.. ساد صمت مهيب كسره الخليفة بقوله:
ـ إنّك محموم يا أبا الحسن.. والصواب أن تمصّ رمّاناً أو تشرب ماءه!
قال الامام بصوت واهن:
ـ ما بي إليه حاجة.
ـ لابدّ من ذلك.. أقسم بحقّي عليك! وصاح على خادم في الباب:
ـ اقطف لنا رمّانة!
وجاء الخادم برمّانة الموت..
قال المأمون مخاطباً ابن بشير الذي ما يزال مشدوهاً بما يجري:
ـ تقدّم فقشرها وفتّها!
هنا لك أدرك العبد دوره القذر في اغتيال الحقيقة. مدّ كفّه التي تشبه مخالب ذئب وتناول الرمّانة وأحضر الخادم كأساً من البلور.. وراحت المخالب البشرية تفتت حبّات الرمان في الكأس البلوري.. وذرّات بيضاء تتساقط كسمّ الأفاعي حتّى إذا امتلأ الكأس أخذه المأمون بشماله، وأمسك بملعقة الموت فملأها حبّات رمّان مداف بالسم..
كان الامام يتمتم بآيات القرآن، ثم تناول ملعقة ثم أخرى وملعقة ثالثة وقدّم المأمون ملعقة رابعة... فقال الامام وهو ينظر الى رجل يحمل سيماء قابيل:
ـ حسبك.. قد بلغت مرادك..
قال ذلك وأدار وجهه نحو شرفة تطلّ على أشجار الرمّان وقد غمرتها أنوار شمس خريفية باهتة..
ونهض المأمون وقد انبعثت في نشوة تشبه فرحة حفار القبور لدى قدوم جنائز الاطفال!
وكان الامام يواجه مصيره بشجاعة.. وقد بدت الاشياء بلا ظلال في عالم غائم والزمن نهراً صغيراً يدندن بصوت رقيق مخترقاً شجيرات الرمّان.. واجتاحت موجة من القلق الذين تخفق قلوبهم بحب الرجل المدني الذي تخطّى الخمسين بعام..
وتحلّقت النفوس المحزونة حول انسان يواجه نهايته..
وقد انبسجت في العيون دموع.. دموع مضخمة بالذكريات.. بالوفاء.. بالغضب.. بالوداع...
وكان الامام قد بدا في لحظات فريدة من الاتحاد مع الوجود والكون الحقيقية الوحيد..
وهتف «ياسر» في أعماقه المتفجّرة غضباً:
ـ اللعنة على ذئب بني العباس.. اللعنة على هذا الذئب الذي يرتدي فراء الثعالب!
شمس الخريف تجنح نحو المغيب، والروح العظيم تسطع.. تتأهب للرحيل.. والامام يردد على وهن كلمات السماء.. كلمات جاء بها جبريل الى الأرض:
ـ (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل الى مضاجعهم).
وفتح الامام عينيه قائلاً لياسر:
ـ هل أكل الناس شيئاً.
أجاب ياسر تخنقه عبرة:
ـ ومن يأكل مع ما أنت فيه؟!
وتماسك الامام على نفسه ليجلس وكان جسده ينوء بالروح التي تريد الرحيل:
ـ هاتوا المائدة!
والتفت الى صاحبه الوفي:
ـ لا تدع أحداً..
وراح ينادي ـ وقد وهن الصوت منه ـ البواب والسائس وعلى رجال من أفريقيا والروم.. وجاءوا كلهم فجلسوا حول مائدة في مشهد يشبه لوحة العشاء الأخير للمسيح.
وراح الامام يتفقدهم واحداً واحداً بنظرات تفيض حبّاً ورحمة.. ولمّا شبعوا وارتفعت المائدة... هوى الامام فوق وسادته وقد أغمي عليه..
المغيب يرش الروابي الآخر جمرات الخريف.. وعاد الانسان المقهور الى وعيه.. وكانت نظراته الواهنة في ذلك الغروب هي آخر نظرة الى هذا العالم المثقل بآلام الانسانية..
وانسابت كلمات بصوت واهن فكانت آخر ما سمعه الذين تحلّقوا حوله وهم يذرفون الدمع بفجيعة.. تمتم الإمام وقد أزفت لحظة الرحيل:
ـ (وكان أمر الله قدراً مقدوراً).
وأغمض عينيه وقد انطفأت شمس ذلك اليوم، وتكاثفت ظلمة الغروب كرماد يتراكم في أفق كئيب.. ودوّت مناحة كربلائية.. وغمرت القصر ظلمة مخيفة وظلّت القناديل مطفأة.. لقد انطفأت الشمس، وظهر الشيطان يعربد.. يرقص جذلاً فوق جثة هابيل... وجاء قابيل.. جاء المأمون يذرف دموع التماسيح وليجأر أمام صمت الامام:
ـ ما أدري أي المصيبتين أعظم عليّ... فقدي لك وفراقي إيّاك أو تهمة الناس لي أني اغتلتك.. وقتلتك».
وانطلق أحدهم لإخبار محمد بن جعفر عمّ الامام..
ولكنّه فوجئ بحراسة مكثّفة وأوامر مشدّدة بعدم مغادرة القصر أيّ كان ولأيٍّ من الاسباب!
ووضعت كتائب خاصّة في حالة استنفار قصوى، وانتشر جواسيس لهم أنوف كأنوف الكلاب في صفوف الجيش تحسّباً لردود الفعل!
ولم يعلن عن وفاة الامام الا بعد يوم وليلة، وفي أخريات صفر سنة 203 أيلول سنة 818 م رحل الروح العظيم وجرت مراسم الغسل حسب وصيته..
وكان المأمون قد أرسل وراء محمد بن جعفر وجماعة من الطالبيّين ليشهدوا على وفاة الامام في ظروف طبيعية وانه رحمه الله لم يتعرّض الى عملية اغتيال!
وبالرغم من تظاهر المأمون بالفجيعة، وتظاهره بالجزع وما سمع عنه قبل مراسم الغسل: «وقد كنت أؤمل أن أموت قبلك».
فقد بدأ الحديث عن اغتيال الامام بالسم وحكايات عن العنب المشبوه وعصير الرمّان!
جرت مراسم الغسل في صباح اليوم الثالث ونقل الجثمان الى مسجد القرية للصلاة عليه، وفي أجواء ملبّدة بالغيوم وقد ساد التوتّر وعمّ الحزن قرية «سنباد» التي لم تنس ذلك الرجل الاسمر الذي توقف عندها قبل ثلاثة أعوام وبارك أهلها وجبلاً فيها..
اتجه الموكب المهيب الى قصر حميد بن قحطبة مرّة أخرى الى حيث قبر هارون الرشيد..
وغمغم المأمون بعد أن أهيل التراب:
ـ «ليغفر الله لهارون»!
وكان محمد بن جعفر يكفكف دموعه بحزن وتذكّر أخاه موسى الذي توفى مسموماً في بغداد..
يا القدر! قتل هارون موسى، وقتل ابن هارون ابن موسى!
وعاد المشيّعون، ولم يبق أحد سوى المأمون الذي قرّر المرابطة عند القبر.. وانه سيصوم ثلاثة أيام.. وعندما تكاثف ظلمة الليل أرسل المأمون من يحضر له هرثمة بن أعين..
لم يتناول المأمون في العشاء سوى كسرة خبز وقليلاً من الملح..
وجاء هرثمة ليجلس قبالة الذئب الذي يرتدي فراء الثعلب وفاحت رائحة طين معطور.. وبكى هرثمة على الرغم منه.. فتساءل المأمون:
ـ هل قال الرضا شيئاً أول أمس؟؟
ولم يستطع هرثمة كتمان الحقيقة
ـ قال لي: «يا هرثمة هذا أوان رحيلي الى الله ولحوقي بجدّي وآبائي.. لقد بلغ الكتاب أجله.. وقد عزم هذا الطاغي على سمّي في عنب ورمّان».
وانتحب المأمون أو تظاهر بذلك وألقى نفسه على تراب القبر:
ـ ويل للمأمون من الله.. ويل من رسول الله ويل له من علي بن أبي طالب ويل.. ويل للمأمون من فاطمة.. هذا والله الخسران المبين.
ثم قال وهو يتحاشى النظر الى هرثمة:
ـ يا هرثمة اكتم ذلك ولا تذعه.
وقال بعد صمت ثقيل:
ـ انصرف!
ونهض هرثمة ليغادر المكان فالحديقة عائداً القرية.. ولكنه لم يصل اليها.. ووجد في اليوم التالي جثّة على قارعة الطريق!
أمّا ابنه حاتم فقد كان يحمل معه مرسوماً بتعيينه حاكماً على أرمينيا وأذربيجان.
أنهى المأمون صيام اليوم الثالث ليعلن عزمه على استئناف السفر في طريق العودة الى بغداد...
وفي جرجان لقي محمد بن جعفر مصرعه مسموماّ أما حاتم بن هرثمة فقد عثر عليه ميتاً في حديقة قصره وفي ظروف غامضة!
وهكذا كان المأمون يمضي قدماً باتجاه بغداد، وطاحونة الموت الغامضة ما انفكّت تلتهم رجالاً قضوا نحبهم وآخرون ينتظرون...
وبغداد تستقبل حفيد المنصور الذي عاد الى ارتداء زيّ
أجداده الأسود فيبني القصور الجديدة على ضفاف دجلة ويضاعف الضرائب على مدينة قم..
وبغداد تعود الى اللهو واللعب.. والتجارة.. والفارس الذي يتربع فوق القبة الخضراء يشير برمحه الطويل الى الأفق الذي تشتعل فيه الثورات ...
ودجلة تتدافع أمواجه.. وتمضي الأيام...
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
أولياء أمور الطلبة يشيدون بمبادرة العتبة العباسية بتكريم الأوائل في المراحل المنتهية
|
|
|