أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-5-2017
288
التاريخ: 14-5-2017
228
التاريخ: 14-5-2017
345
التاريخ: 14-5-2017
278
|
قال تعالى : {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} [الدخان: 22 - 33].
ذكر سبحانه تمام قصة موسى بأن قال {فدعا ربه} أي فدعا موسى ربه حين يئس من قومه أن يؤمنوا به فقال {أن هؤلاء قوم مجرمون} أي مشركون لا يؤمنون عن الكلبي ومقاتل فكأنه قال اللهم عجل لهم مما يستحقونه بكفرهم ما يكونون به نكالا لمن بعدهم وما دعا عليهم إلا بعد أن أذن له في ذلك وقوله {فأسر بعبادي ليلا} الفاء وقعت موقع الجواب والتقدير فأجيب بأن قيل له فأسر بعبادي أمره سبحانه أن يسير بأهله وبالمؤمنين به ليلا حتى لا يردهم فرعون إذا خرجوا نهارا وأعلمه بأنه سيتبعهم فرعون بجنوده بقوله {إنكم متبعون واترك البحر رهوا} أي ساكنا على ما هوبه إذا قطعته وعبرته وكان قد ضربه بالعصا فانفلق لبني إسرائيل فأمره الله سبحانه أن يتركه كما هو ليغرق فرعون وقومه عن ابن عباس ومجاهد وقيل رهوا أي منفتحا منكشفا حتى يطمع فرعون في دخوله عن أبي مسلم قال قتادة لما قطع موسى البحر عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده فقيل له واترك البحر رهوا أي كما هو طريقا يابسا {إنهم جند مغرقون} سيغرقهم الله تعالى.
ثم أخبر سبحانه عن حالهم بعد إهلاكهم فقال {كم تركوا من جنات} رائعة {وعيون} جارية {وزروع} كثيرة {ومقام كريم} أي مجالس شريفة ومنازل خطيرة وقيل هي المناظر الحسنة ومجالس الملوك عن مجاهد وقيل منابر الخطباء عن ابن عباس وقيل المقام الكريم الذي يعطي اللذة كما يعطي الرجل الكريم الصلة عن علي بن عيسى {ونعمة كانوا فيها فاكهين} أي وتنعم وسعة في العيش كانوا ناعمين متمتعين كما يتمتع الآكل بأنواع الفواكه {كذلك} قال الكلبي معناه كذلك أفعل بمن عصاني {وأورثناها قوما آخرين} إيراث النعمة تصييرها إلى الثاني بعد الأول بغير مشقة كما يصير الميراث إلى أهله على تلك الصفة فلما كانت نعمة قوم فرعون وصلت بعد هلاكهم إلى غيرهم كان ذلك إيراثا من الله لهم وأراد بقوم آخرين بني إسرائيل لأنهم رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون.
{فما بكت عليهم السماء والأرض} اختلف في معناه على وجوه ( أحدها ) أن معناه لم تبك عليهم أهل السماء والأرض لكونهم مسخوطا عليهم عن الحسن فيكون مثل قوله حتى تضع الحرب أوزارها أي أصحاب الحرب ونحوه قول الحطيئة :
وشر المنايا ميت وسط أهله *** كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضرة(2)
أي وشر المنايا ميتة ميت وقال ذو الرمة :
لهم مجلس صهب السبال(3) أذلة *** سواسية(4) أحرارها وعبيدها
أي لهم أهل مجلس (وثانيها) أنه سبحانه أراد المبالغة في وصف القوم بصغر القدر فإن العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك قالت بكاه السماء والأرض وأظلم لفقده الشمس والقمر قال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز :
الشمس طالعة ليست بكاسفة *** تبكي عليك نجوم الليل والقمرا(5)
أي ليست مع طلوعها كاسفة نجوم الليل والقمر لأن عظم المصيبة قد سلبها ضوءها وقال النابغة :
تبدو كواكبه والشمس طالعة *** لا النور نور ولا الإظلام إظلام
وثالثها أن يكون ذلك كناية عن أنه لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منها إلى السماء وقد روي عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقيل وهل يبكيان على أحد قال نعم مصلاة في الأرض ومصعد عمله في السماء وروى أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ((ما من مؤمن إلا وله باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه)) فعلى هذا يكون معنى البكاء الإخبار عن الاختلال بعده كما قال مزاحم العقيلي :
بكت دارهم من أجلهم فتهللت(6) *** دموعي فأي الجازعين ألوم
أ مستعبرا يبكي من الهون والبلى *** أم آخر يبكي شجوه ويهيم(7)
وقال السدي لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) بكت السماء عليه وبكاؤها حمرة أطرافها وروى زرارة بن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال بكت السماء على يحيى بن زكريا وعلى الحسين بن علي (عليهما السلام) أربعين صباحا ولم تبك إلا عليهما قلت وما بكاؤها قال كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء {وما كانوا منظرين} أي عوجلوا بالعقوبة ولم يمهلوا .
ثم أقسم سبحانه بقوله {ولقد نجينا بني إسرائيل} الذين آمنوا بموسى {من العذاب المهين} يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والاستعباد وتكليف المشاق {من فرعون إنه كان عاليا} أي متجبرا متكبرا متغلبا {من المسرفين} أي المجاوزين الحد في الطغيان وصفه بأنه عال وإن جاز أن يكون عال صفة مدح لأنه قيده بأنه عال في الإسراف لأن العالي في الإحسان ممدوح والعالي في الإساءة مذموم {ولقد اخترناهم} أي اخترنا موسى وقومه بني إسرائيل وفضلناهم بالتوراة وكثرة الأنبياء منهم {على علم} أي على بصيرة منا باستحقاقهم التفضيل والاختيار {على العالمين} أي على عالمي زمانهم عن قتادة والحسن ومجاهد ويدل عليه قوله تعالى لأمة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) كنتم خير أمة أخرجت للناس وقيل فضلناهم على جميع العالمين في أمر كانوا مخصوصين به وهو كثرة الأنبياء منهم {وآتيناهم} أي وأعطيناهم {من الآيات} يعني الدلالات والمعجزات مثل فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى {ما فيه بلاء مبين} أي ما فيه النعمة الظاهرة عن الحسن وقيل ما فيه شدة وامتحان مثل العصا واليد البيضاء فالبلاء يكون بالشدة والرخاء عن ابن زيد فيكون في الآيات نعمة على الأنبياء وقومهم وشدة على الكفار المكذبين بهم .
_____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص107-110.
2- الحاضر : القوم الحي اذا اجتمعوا في الدار التي بها مجتمعهم .
3- صهب جمع أصهب : الاحمر والاشقر . والسبال : جمع سبلة: الدائرة في وسط الشفة العليا .
وقيل : ما على الشارب من الشعر ، او طرفه / او مجتمع الشاربين. وصهب السبال : وصف الروميين ، ولأنهم اعداء العرب يوصف به الاعداء .
4- سواء وسواسية ، يقال للجمع وسواء يقال للمفرد والمثنى والجمع . وسواسية لا تقال الا في الشر كقولهم : هم سواسية في الشر ، وكذا هنا .
5- كسفت الشمس النجوم : غلب ضوئها على النجوم ، فلم يبد منها شيء . ونجوم الليل والقمر مفعول كاسفة . مقصوده: ان موتك صار سببا لقلة ضوء الشمس ، بحيث لا يغلب نورها نور القمر والنجوم ، وهي تبكي عليك .
6- تهلل العين ، سالت بالدمع.
7- هام على وجهه : ذهب من العشق وغيره ، لا يدري اين يتوجه.
{ فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ } . يئس موسى من فرعون وقومه فدعا عليهم ، وقال : اللهم عجّل لهم الهلاك في الدنيا بسبب كفرهم واجرامهم ، فاستجاب اللَّه دعاءه وقال له : {فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} . أمر سبحانه أن يخرج هو وبنو إسرائيل ليلا من مصر ، وأعلمه ان فرعون وقومه سيتبعونهم {واتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ } . اسلك الطريق في البحر ، فإذا قطعته إلى الجانب الآخر ، فدعه كما هو، لأن جيش العدو سيدخله ويغرق بكامله .
{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وعُيُونٍ وزُرُوعٍ ومَقامٍ كَرِيمٍ ونَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ } . كان آل فرعون في ألذ مطعم ومشرب ، لهم السلطان والقصور والأنهار والثمار ، فأرسل اللَّه إليهم موسى يدعوهم إلى العدل وعدم الفساد في الأرض ، فلم يستجيبوا لداعي اللَّه ، فأهلكهم وأورث ما كانوا فيه لقوم لا يمتون إليهم بسبب ولا نسب . . . قال الشيخ المراغي عند تفسير هذه الآية : (تغلب على مصر الآشوريون والبابليون حينا ، والحبش حينا آخر ، ثم الفرس مدة واليونان أخرى ، ثم الرومان من بعدهم ، ثم العرب ثم الطولونيون والأخشيديون والفاطميون والأيوبيون والمماليك والترك والفرنسيون والانكليز ، وها نحن أولاء نجاهد لنحظى بخروجهم من ديارنا ، ونتمكن من استقلال بلادنا) .
وكان هذا الشيخ في عهد الملك فاروق بن فؤاد ، ونعطف على قوله والآن يحتل الصهاينة سيناء والضفة الشرقية من قناة السويس بمعونة الولايات المتحدة قائدة الاستعمار الجديد ، والمصريون يجاهدون ويقاتلون ليخرجوا المعتدين من أرضهم . . .
وهكذا الحياة جهاد ونضال ، ولأن يستشهد الإنسان والبندقية في يده ، يدافع بها عن وطنه وكرامته ، خير من أن يعيش عيش الذل والهوان .
{فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ والأَرْضُ } . هذا كناية عن عدم الاهتمام بآل فرعون حين أغرقهم اللَّه في اليم {وما كانُوا مُنْظَرِينَ } بل عجل سبحانه لهم الهلاك في الدنيا {ولَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ} وهو قتل أبنائهم واستخدام نسائهم وبناتهم وتسخير رجالهم في أشق الأعمال {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ} الذين تجاوزوا كل حد في الفساد والطغيان والتعالي والتعاظم .
{ولَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ} . وصف سبحانه بني إسرائيل في كتابه بأقبح الأوصاف ، وسجل عليهم أعظم الجرائم كالغدر والاحتيال والتمرد على الحق وأكل المال بالباطل ، ووصفهم بالكفر والظلم ، ولعنهم في العديد من الآيات ، وهددهم بأشد العقوبات . . . ومن هنا أجمع المفسرون على ان المراد بالعالمين في هذه الآية وأخواتها ان اللَّه فضل الإسرائيليين على العالمين في زمانهم ، لا في كل زمان . . . وقلنا في ج 1 ص 95 : ان اللَّه فضلهم على أهل ذاك الزمان من جهة واحدة فقط ، وهي ان اللَّه أرسل منهم العديد من الأنبياء .
والآن استوحينا من الآية التي نحن بصددها ان المراد بالعالمين فيها فرعون ومن أقر له بالربوبية فقط ، وليس كل أهل ذاك الزمان ، أما السر في تفضيل بني إسرائيل على فرعون ومن استجاب له فواضح ، وهوان الإسرائيليين لم يعبدوا فرعون كقدماء المصريين . {وآتَيْناهُمْ مِنَ الآياتِ ما فِيهِ بَلاء مُبِينٌ} . المراد بالآيات هنا المعجزات كفلق البحر وتظليل الغمام وانزال المن والسلوى وتفجير الماء من الحجر ، والمراد بالبلاء المبين النعمة الظاهرة قال تعالى : {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 35] .
_______________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7،ص10-12.
قوله تعالى: {فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون} أي دعاه بأن هؤلاء قوم مجرمون وقد ذكر من دعائه السبب الداعي له إلى الدعاء وهو إجرامهم إلى حد يستحقون معه الهلاك ويعلم ما سأله مما أجاب به ربه تعالى إذ قال: {فأسر بعبادي} إلخ، وهو الإهلاك.
قوله تعالى: {فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون{ الإسراء: السير بالليل فيكون قوله: {ليلا} تأكيدا له وتصريحا به، والمراد بعبادي بنو إسرائيل، وقوله: {إنكم متبعون} أي يتبعكم فرعون وجنوده، وهو استئناف يخبر عما سيقع عقيب الإسراء.
وفي الكلام إيجاز بالحذف والتقدير فقال له: أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون يتبعكم فرعون وجنوده.
قوله تعالى: {واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون} قال في المفردات: واترك البحر رهوا أي ساكنا، وقيل: سعة من الطريق وهو الصحيح.
انتهى.
وقوله: {إنهم جند مغرقون} تعليل لقوله: {واترك البحر رهوا}.
وفي الكلام إيجاز بالحذف اختصارا والتقدير: أسر بعبادي ليلا يتبعكم فرعون وجنوده حتى إذا بلغتم البحر فاضربه بعصاك لينفتح طريق لجوازكم فجاوزوه واتركه ساكنا أو مفتوحا على حاله فيدخلونه طمعا في إدراككم فهم جند مغرقون.
قوله تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك} {كم} للتكثير أي كثيرا ما تركوا، وقوله: {من جنات} إلخ... بيان لما تركوا، والمقام الكريم المساكن الحسنة الزاهية، والنعمة فتح النون التنعم وبناؤها بناء المرة كالضربة وبكسر النون قسم من التنعم وبناؤها بناء النوع كالجلسة وفسروا النعمة هاهنا بما يتنعم به وهو أنسب للترك، وفاكهين من الفكاهة بمعنى حديث الأنس ولعل المراد به هاهنا التمتع كما يتمتع بالفواكه وهي أنواع الثمار.
وقوله: {كذلك} قيل: معناه الأمر كذلك، وقيل: المعنى نفعل فعلا كذلك لمن نريد إهلاكه، وقيل: الإشارة إلى الإخراج المفهوم من الكلام السابق، والمعنى: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها.
ويمكن أن يكون حالا من مفعول {تركوا} المحذوف والمعنى: كثيرا ما تركوا أشياء كذلك أي على حالها والله أعلم.
قوله تعالى: {وأورثناها قوما آخرين{ الضمير لمفعول {تركوا} المحذوف المبين بقوله: {من جنات} إلخ، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: {فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} بكاء السماء والأرض على شيء فائت كناية تخييلية عن تأثرهما عن فوته وفقده فعدم بكائهما عليهم بعد إهلاكهم كناية عن هوان أمرهم على الله وعدم تأثير هلاكهم في شيء من أجزاء الكون.
وقوله: {وما كانوا منظرين} كناية عن سرعة جريان القضاء الإلهي والقهر الربوبي في حقهم وعدم مصادفته لمانع يمنعه أو يحتاج إلى علاج في رفعه حتى يتأخر به.
قوله تعالى: {ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين{ وهوما يصيبهم وهم في أسارة فرعون من ذبح الأبناء واستحياء النساء وغير ذلك.
قوله تعالى: {من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين} {من فرعون} بدل من قوله: {من العذاب} إما بحذف مضاف والتقدير من عذاب فرعون، أومن غير حذف بجعل فرعون عين العذاب دعوى للمبالغة، وقوله: {إنه كان عاليا من المسرفين} أي متكبرا من أهل الإسراف والتعدي عن الحد.
قوله تعالى: {ولقد اخترناهم على علم على العالمين} أي اخترناهم على علم منا باستحقاقهم الاختيار على ما يفيده السياق.
والمراد بالعالمين جميع العالمين من الأمم إن كان المراد بالاختيار الاختيار من بعض الوجوه ككثرة الأنبياء فإنهم يمتازون من سائر الأمم بكثرة الأنبياء المبعوثين منهم ويمتازون بأن مر عليهم دهر طويل في التيه وهم يتظلون بالغمام ويأكلون المن والسلوى إلى غير ذلك.
وعالمو أهل زمانهم إن كان المراد بالاختيار مطلقة فإنهم لم يختاروا على الأمة الإسلامية التي خاطبهم الله تعالى بمثل قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، وقوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
قوله تعالى: {وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين} البلاء الاختبار والامتحان أي وأعطينا بني إسرائيل من الآيات المعجزات ما فيه امتحان ظاهر ولقد أوتوا من الآيات المعجزات ما لم يعهد في غيرهم من الأمم وابتلوا بذلك ابتلاء مبينا.
قيل: وفي قوله: {فيه} إشارة إلى أن هناك أمورا أخرى ككونه معجزة.
وفي تذييل القصة بهذه الآيات الأربع أعني قوله: {ولقد نجينا بني إسرائيل} - إلى قوله – {بلاء مبين} نوع تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإيماء إلى أن الله تعالى سينجيه والمؤمنين به من فراعنة مكة ويختارهم ويمكنهم في الأرض فينظر كيف يعملون.
_______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18، ص114-116.
تركوا القصور والبساتين والكنوز وارتحلوا!
لقد استخدم موسى (عليه السلام) كلّ وسائل الهداية للنفوذ إلى قلوب هؤلاء المجرمين الظلمة، إلاّ أنّها لم تؤثر فيهم أدنى تأثير، وطرق كلّ باب ما من مجيب.
لذلك يئس منهم، ولم ير لهم علاجاً إلاّ لعنهم والدعاء عليهم، لأنّ الفاسدين الذين لا أمل في هدايتهم لا يستحقون الحياة في قانون الخلقة، بل يجب أن ينزل عليهم عذاب الله ويجتثهم ويطهر الأرض من دنسهم، لذلك تقول الآية الأولى من هذه الآيات: {فدعا ربّه أنّ هؤلاء قوم مجرمون}.
انظر إلى أدب الدعاء، إنّه لا يقول: اللّهم افعل كذا وكذا، بل يكتفي بأنّ يقول: اللّهمَّ إن هؤلاء قوم مجرمون لا أمل في هدايتهم وحسب!
وقد استجاب الله سبحانه دعاءه، وكمقدمة لنزول العذاب على الفراعنة، ونجاة بني إسرائيل منهم، أمر موسى(عليه السلام) أنّ {فأسر بعبادي ليلاً إنّكم متبعون} لكن لا تقلق من ذلك، فيجب أن يتبعكم هؤلاء ليلاقوا المصير الذي ينتظرهم.
إنّ موسى(عليه السلام) مأمور بأنّ يتحرك ليلاً بصحبة عباد الله المؤمنين، أي بني إسرائيل، وجماعة من أهل مصر الذين مالت قلوبهم إلى الإيمان ولبّت دعوة موسى، وأن يأتي النيل، ويعبره بطريقة إعجازية، ثمّ يسير إلى الأرض الموعودة، «فلسطين».
صحيح أنّ حركة موسى وأنصاره قد تمّت ليلاً، إلاّ أنّ من المحتم أنّ لا تبقى حركة جماعية عظيمة كهذه خافية عن أنظار الفراعنة مدة طويلة، وربّما لم تمض عدّة ساعات حتى أوصل جواسيس فرعون هذا الخبر المهول ـ أوقل فرار العبيد الجماعي ـ إلى مسامعه، فأمر بمطاردتهم بجيش جرار.
والطريف أنّ كلّ هذه الأُمور التي حدثت جاءت ضمن إشارة موجزة في الآيات أعلاه {إنّكم متبعون}.
إن ما حذف هنا من أجل الاختصار وُضِّح في آيات أُخرى من القرآن بعبارات موجزة، فمثلاً نقرأ في الآية (77) من سورة طه {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77].
ثمّ تضيف الآية التي بعدها: عندما تصل إلى الساحل الآخر عليك أن تترك البحر بهدوء (واترك البحر رهواً) والمراد من البحر في هذه الآيات هو نهر النيل العظيم.
لقد ذكر المفسّرون وأرباب اللغة معنيين للرهو: هما الهدوء، والسعة والإنفتاح، ولا مانع هنا من اجتماعهما.
لكن لماذا صدر مثل هذا الأمر لموسى(عليه السلام)؟
من الطبيعي أنّ موسى(عليه السلام) وبني إسرائيل كانوا راغبين في أن يجتازوا البحر حتى تتصل المياه مرّة أُخرى وتملأ هذا الفراغ، ويبتعدوا بسرعة عن منطقة الخطر، ويتجهوا بسلامة إلى الوطن الموعود، إلاّ أنّهم أُمروا أنّ لا يعجلوا أثناء عبورهم نهر النيل، بل ليدعوا فرعون وآخر جندي من جنوده يردون النيل، فإنّ أمر إهلاكهم وإماتتهم قد صدر إلى أمواج النيل المتلاطمة الغاضبة، ولذلك تقول الآية في ختامها {إنّهم جند مغرقون}.
هذا هو أمر الله عزَّوجلَّ الحتمي الصادر بحق هؤلاء القوم، بأنّهم يجب أن يغرقوا جميعاً في نهر النيل العظيم، الذي كان أساس ثروتهم وقوّتهم! وبأمر إلهي واحد تحول هذا النهر الذي كان عصب حياتهم إلى أداة فنائهم وموتهم.
نعم، عندما وصل فرعون وجنوده إلى شاطئ النيل كان بنو إسرائيل قد خرجوا من الجانب الآخر، وكان ظهور مثل ذلك الطريق اليابس وسط النيل كافياً وحده لأن يلفت نظر حتى الطفل الساذج إلى تحقق إعجاز إلهي عظيم في البحر، إلاّ أنّ كبر أُولئك الحمقى وغرورهم لم يسمح لهم بإدراك هذه الحقيقة الواضحة فيقفوا على اشتباهاتهم وأخطائهم، ويتوجهوا إلى الله سبحانه!
ربّما كانوا يظنون أنّ هذا التغير الذي طرأ على النيل قد تمّ بأمر فرعون أيضاً! وربّما قال هذا الكلام لجنوده، ثمّ ورد بنفسه ذلك الطريق فتبعه جنوده حتى الجندي الأخير!
لكن، أمواج النيل تلاطمت فجأةً وانهالت عليهم كبناء شاهق انهدمت قواعده فانهار إلى الأرض، فغرقوا جميعاً.
والنكتة التي تلفت النظر في هذه الآيات، هي اختصارها الفائق، وكونها بليغة ومعبرة في الوقت نفسه، فقد ذكرت قصة مفصلة في ثلاث آيات ـ أو جمل ـ بحذف الجمل الإضافية التي تفهم من القرائن أو الجمل الأُخرى، ونراها اكتفت بالقول: {فدعاه ربّه أنّ هؤلاء قوم مجرمون. فأسر بعبادي ليلاً إنّكم متبعون، واترك البحر رهواً إنّهم جند مغرقون}.
إنّ التعبير بـ«مغرقون» مع أنّهم لم يكونوا قد غرقوا بعدُ إشارة إلى أنّ هذا الأمر الإلهي حتمي وقطعي.
ولنر الآن ماذا جرى من الحوادث التي تدعو إلى الاعتبار بها، بعد غرق فرعون والفراعنة.
يبيّن القرآن الكريم في الآيات التالية تركة الفراعنة العظيمة التي ورثها بنو إسرائيل، ضمن خمسة مواضيع تكون الفهرس العام لكلّ حياة الفراعنة، فيقول أوّلاً: (كم تركوا من جنات وعيون).
لقد كانت البساتين والعيون ثروتين من أهم وأروع ثروات هؤلاء، لأنّ مصر كانت أرضاً خصبة مليئة بالبساتين بوجود نهر النيل. وهذه العيون يمكن أن تكون إشارة الى العيون التي كانت تنبع هنا وهناك، أو أنّها جداول كانت تستمد مياهها من النيل، وتمر في بساتين أولئك وحدائقهم الغناء الخضراء، وليس بعيداً إطلاق العين على هذه الجداول.
ثمّ يضيف القرآن الكريم (وزروع ومقام كريم) وكانت هاتان ثروتين مهمتين أخريين، فمن جهة كانت الزراعة العظيمة التي تعتمد على النيل، حيث أنواع المواد الزراعية الغذائية وغيرها، والمحصولات التي امتدت في جميع أنحاء مصر، وكانوا يستخدمونها غذاءاً لهم ويصدرون الفائض منها إلى الخارج، ومن جهة اُخرى كانت القصور والمساكن العامرة، حيث أنّ من أهم مستلزمات حياة الإنسان هو المسكن المناسب.
لاشك أنّ هذه القصور كريمة من الناحية الظاهرية، ومن وجهة نظر هؤلاء أنفسهم، وإلاّ فإنّ مساكن الطواغيت المزينة هذه، والتي تسبب الغفلة عن الله، لا قيمة لها في منطق القرآن.
واحتمل البعض أن يكون المراد من المقام الكريم مجالس الأنس والطرب، أو المنابر التي كان يرتقيها المدّاحون والشعراء للثناء على فرعون.
لكن، الظاهر أنّ المعنى الأوّل أنسب من الجميع.
ولما كان هؤلاء يمتلكون وسائل رفاه كثيرة غير الأُمور الأربعة المهمّة التي مرَّ ذكرها، فقد أشار القرآن إليها جميعاً في جملة مقتضبة، فقال: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 27] (2)(3).
ثمّ يضيف {كذلك وأورثناها قوماً آخرين}(4).
والمراد من (قوماً آخرين) هم بنو إسرائيل، حيث صرّح بذلك في الآية (95) من سورة الشعراء. والتعبير بالإرث إشارة إلى أنّهم حصلوا على كلّ هذه الأموال والثروات من دون أن يبذلوا أدنى جهد، أو يتحملوا أقل تعب ومشقّة، كما يحصل الإنسان على الإرث دون أن يشقى ويجهد في تحصيله.
والجدير بالانتباه أنّ الآية المذكورة ونظيرتها في سورة الشعراء توحيان بأنّ بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر بعد غرق الفراعنة وورثوا ميراثهم، وحكموا هناك، وسير الحوادث يقتضي ـ أيضاً ـ أنّ لا يدع موسى(عليه السلام) مصر تعيش فراغاً سياسياً بعد انهيار دعائم حكومة الفراعنة فيها.
لكن هذا الكلام لا ينافي ما ورد في آيات القرآن الكريم من أنّ بني إسرائيل قد ساروا إلى الأرض الموعودة، أرض فلسطين، بعد خلاصهم من قبضة الفراعنة، والذي جاء مفصلاً في القرآن، فمن الممكن أن تكون جماعة منهم قد أقاموا في مصر بعد استيلائهم عليها كوكلاء لموسى (عليه السلام)، وسار القسم الأعظم إلى فلسطين.
ولمزيد من الإيضاح حول هذا الكلام انظر ذيل الآية (59) من سورة الشعراء.
وتقول الآية الأخيرة من هذه الآيات {فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين}.
إنّ عدم بكاء السماء والأرض ربّما كان كناية عن حقارتهم، وعدم وجود ولي ولا نصير لهم ليحزن عليهم ويبكيهم، ومن المتعارف بين العرب أنّهم إذا أرادوا تبيان أهمية مكانة الميت، يقولون: بكت عليه السماء والأرض، وأظلمت الشمس والقمر لفقده.
واحتمل أيضاً أنّ المراد بكاء أهل السماوات والأرض، لأنّهم يبكون المؤمنين المقربين عند الله، لا الجبابرة والطواغيت وأمثاله.
وقال البعض: إنّ بكاء السماء والأرض بكاء حقيقي، حيث تُظهر احمراراً خاصاً غير احمرار الغروب والطلوع، كما نقرأ في رواية: «لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) بكت السماء عليه، وبكاؤها حمرة أطرافها»(6).
وفي رواية أُخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام): «بكت السماء على يحيى بن زكريا وعلى الحسين بن علي (عليهما السلام) أربعين صباحاً، ولم تبك إلاّ عليهما» قلت: وما بكاؤها؟ قال: «كانت تطلع حمراء، وتغيب حمراء»(7).
غير أننا نقرأ في حديث روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما من مؤمن إلاّ وله باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه»(8).
ولا منافاة بين هذه الرّوايات، حيث كان لشهادة الحسين (عليه السلام) ويحيى بن زكريا(عليه السلام) صفة العموم في كلّ السماء، ولما ورد في الرّوايات الأخيرة صفة الخصوص(9).
على أي حال، فلا تضاد بين هذه التفاسير، ويمكن جمعها في معنى الآية.
نعم لم تبك السماء لموت هؤلاء الضالين الظالمين، ولم تحزن عليهم الأرض، فقد كانوا موجودات خبيثة، وكأنّما لم تكن لهم أدنى علاقة بعالم الوجود ودنيا البشرية، فلما طرد هؤلاء الأجانب من العالم لم يحس أحد بخلو مكانهم منهم، ولم يشعر أحد بفقدهم، لا على وجه الأرض، ولا في أطراف السماء، ولا في أعماق قلوب البشر، ولذلك لم تذرف عين أحد دمعة لموتهم.
وننهي الكلام في هذه الآيات بذكر رواية عن أمير المؤمنين(عليه السلام).
فقد ورد في رواية أنّ أمير المؤمنين علياً(عليه السلام) لما مرّ على المدائن، ورأى آثار كسرى مشرفة على السقوط والإنهيار، أنشد أحد أصحابه الذين كانوا معه:
جرت الرياح على رسومهم فكأنّهم كانوا على ميعاد!
فقال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «أفلا قلت (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين... فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين)»(10).
بنو إسرائيل في بوتقة الاختبار:
كان الكلام في الآيات السابقة عن غرق الفراعنة وهلاكهم، وانكسار شوكتهم وانتهاء حكومتهم، وانتقالها إلى الآخرين. وتتحدث هذه الآيات في النقطة المقابلة لذلك أي نجاة بني إسرائيل وخلاصهم، فتقول: {ولقد نجيّنا بني إسرائيل من العذاب المهين} من العذاب الجسمي والروحي الشاق، والذي نفذ إلى أعماق أرواحهم.. من ذبح الأطفال الذكور، واستحياء البنات للخدمة وقضاء المآرب، من السخرة والأعمال الشاقة جدّاً، وأمثال ذلك.
فكم هو مؤلم أن يكون مصير أُمة بيد هكذا عدو دموي شيطاني، وأن تبتلى بهكذا ظلمة لا يعرفون الرحمة ولا الإنسانية؟
نعم، لقد نجّى الله سبحانه هذه الأمّة المظلومة من قبضة هؤلاء الظالمين، أعظم سفاكي الدماء في التأريخ، في ظل ثورة موسى بن عمران(عليه السلام) الرّبانية، لذلك تضيف الآية (من فرعون إنّه كان عالياً من المسرفين).
ليس المراد من «عالياً» هنا علو المنزلة، بل هو إشارة إلى استشعاره العلو، وإنّما علوه في الإسراف والتعدي، كما جاء ذلك أيضاً في الآية (4) من سورة القصص { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4] حتى أنّه ادعى الألوهية، وسمى نفسه الرب الأعلى.
و«المسرف» من مادة «إسراف»، أي كلّ تجاوز للحدود، سواء في الأقوال أم الأفعال، ولذلك استعملت كلمة المسرف في آيات القرآن المختلفة في شأن المجرمين الذين يتعدون الحدود في ظلمهم وفسادهم، وكذلك أطلقت على العصاة المسرفين، كما نقرأ ذلك في الآية (53) من سورة الزمر { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53].
وتشير الآية التالية إلى نعمة أُخرى من نعم الله سبحانه على بني إسرائيل، فتقول: {ولقد اخترناهم على علم على العالمين} إلاّ أنّهم لم يعرفوا قدر هذه النعمة، فكفروا وعوقبوا.
وعلى هذا فإنّهم كانوا الأمة المختارة في عصرهم، لأنّ المراد من العالمين البشر في ذلك العصر والزمان لا في كلّ القرون والأعصار، لأنّ القرآن يخاطب الأمة الإسلامية بصراحة في الآية (110) من سورة آل عمران ويقول: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
وكذلك الحال بالنسبة إلى الأراضي التي ورثها بنو إسرائيل، إذ يقول القرآن الكريم في الآية (137) من سورة الأعراف {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } [الأعراف: 137] في حين أنّ بني إسرائيل لم يرثوا كلّ الأرض، والمراد شرق منطقتهم وغربها.
ويعتقد بعض المفسّرين أنّه كان لبني إسرائيل بعض الميزات التي كانت منحصرة فيهم على مرّ التأريخ، ومن جملتها كثرة الأنبياء، إذ لم يظهر في أي قوم هذا العدد من الأنبياء.
إلاّ أنّ هذا الكلام، إضافة إلى أنّه لا يثبت مزيتهم المطلقة هذه، فإنّه يدل على أنّها ليست مزية أساساً، فربَّما كانت كثرة الأنبياء فيهم دليلاً على غاية تمرد هؤلاء القوم وقمة عصيانهم، كما بيّنت الحوادث المختلفة بعد ظهور موسى(عليه السلام)أنّهم لم يتركوا شيئاً سيئاً لم يفعلوه ضد هذا النّبي العظيم.
وعلى أية حال، فإنّ ما ذكرناه أعلاه في تفسير الآية، هو المقبول من قبل كثير من المفسّرين في شأن أهلية بني إسرائيل النسبية.
غير أنّ هؤلاء القوم المعاندين كانوا يؤذون أنبياءهم دائماً ـ حسب ما يذكره القرآن ـ وكانوا يقفون أمام أحكام الله سبحانه بكلّ تصلب وعناد، بل إنّهم بمجرّد أنّ نجوا من النيل وأهواله طلبوا من موسى أن يجعل لهم آلهة يعبدونها! وهذا يدلنا على إمكانية أن يكون الهدف من الآية ليس بيان خصيصة لبني إسرائيل، بل بيان حقيقة أُخرى. وعليه يصبح معنى الآية: مع أننا نعلم أنّ هؤلاء سيسيئون استغلال نعم الله ومواهبه، فقد منحناهم التفوق لنختبرهم.
كما يستفاد من الآية التالية ـ أيضاً ـ أنّ الله سبحانه قد منحهم مواهب اُخرى ليبلوهم.
ولذا فإنّ هذا الاختبار الإلهي لا يدل على كونه مزية لهؤلاء، وليس هذا وحسب، بل هو ذم ضمني أيضاً، لأنّهم لم يشكروا هذه النعمة، ولم يؤدّوا حقها، ولم ينجحوا في الامتحان.
وتشير آخر آية من هذه الآيات إلى بعض المواهب الأُخرى التي منحهم الله إيّاها، فتقول: {وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين} فمرة ظللنا عليهم الغمام في صحراء سيناء، وفي وادي التيه وأُخرى أنزلنا عليهم مائدة خاصة من المن والسلوى، وثالثة أجرينا لهم العيون من الصخور الصماء، ومنحناهم أحياناً نعماً مادية ومعنوية أُخرى. إلاّ أنّ كلّ ذلك كان لغرض الابتلاء والامتحان، لأنّ الله سبحانه يختبر قوماً بالمصيبة، وآخرين بالنعمة، كما نقرأ ذلك في الآية (168) من سورة الأعراف: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168].
وربّما كان الهدف من ذكر قصة بني إسرائيل للمسلمين الأوائل، هو أنّ لا يخافوا من كثرة الأعداء وتعاظم قوّتهم، وليطمئنوا بأنّ الله الذي أهلك الفراعنة ودمرهم، وأورث بني إسرائيل ملكهم وحكومتهم، سيمنّ عليهم في القريب العاجل بمثل هذا النصر، وكما اختبر أُولئك بهذه المواهب، فإنّكم ستوضعون أيضاً في بوتقة الامتحان والاختبار، ليتّضح ماذا ستفعلون بعد الانتصار وتقلد الحكم؟
وهذا تحذير لكلّ الأُمم والأقوام فيما يتعلق بالانتصارات والمواهب التي يحصلون عليها بفضل الله ولطفه، فإنّ الامتحان عندئذ عسير.
_______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12،ص452-460.
2 ـ «نعمة» بفتح النون تعني التنعم، وبكسرها تعني الإنعام، وقد صرح جماعة من المفسّرين وأرباب اللغة بهذا المعنى، في حين يعتقد جمع آخر أنّ للإثنين معنى واحداً يشمل كلّ المنافع التي تستحق الإلتفات والنظر.
3 ـ فسّرت كلمة «فاكهين» بالإستمتاع بالفواكه تارة، وأخر بالأحاديث الفكاهية السارة، وثالثة بالتنعم والتلذذ، والمعنى الأخير أجمع من الجميع.
4 ـ «كذلك» خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: الأمر كذلك، ويستعمل هذا التعبير للتأكيد. واحتمل البعض احتمالات أُخرى في تركيبها.
6 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 65 ذيل الآية مورد البحث.
7 ـ المصدر السابق.
8 ـ المصدر السابق.
9 ـ روي في الدر المنثور حديث في باب الجمع بين هذه الروايات. الدر المنثور، طبقاً لنقل الميزان، المجلد 18، صفحة 151.
10ـ سفينة البحار، ج2، ص531 (مادة مدن).
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|