أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-5-2017
404
التاريخ: 14-5-2017
282
التاريخ: 14-5-2017
327
التاريخ: 19-9-2017
414
|
قال تعالى : {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } [الدخان: 10 - 21].
خاطب الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {فارتقب} أي فانتظر يا محمد {يوم تأتي السماء بدخان مبين} وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) دعا على قومه لما كذبوه فقال (اللهم سنينا(2) كسني يوسف) فأجدبت الأرض فأصابت قريشا المجاعة وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان وأكلوا الميتة والعظام ثم جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقالوا يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وقومك قد هلكوا فسأل الله تعالى لهم بالخصب والسعة فكشف عنهم ثم عادوا إلى الكفر عن ابن مسعود والضحاك وقيل إن الدخان آية من أشراط الساعة تدخل في مسامع الكفار والمنافقين وهو لم يأت بعد وإنه يأتي قبل قيام الساعة فيدخل أسماعهم حتى أن رءوسهم تكون كالرأس الحنيذ ويصيب المؤمن منه مثل الزكمة وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص(3) ويمكث ذلك أربعين يوما عن ابن عباس وابن عمر والحسن والجبائي {يغشى الناس} يعني أن الدخان يعم جميع الناس وعلى القول الأول المراد بالناس أهل مكة وهم الذين يقولون {هذا عذاب أليم} أي موجع مؤلم .
وقوله تعالى: {رَّبَّنَا اكْشِف عَنَّا الْعَذَاب إِنَّا مُؤْمِنُونَ.....}
فلما أخبر سبحانه أن الدخان يغشى الناس عذابا لهم وأنهم قالوا ويقولون على ما فيه من الخلاف هذا عذاب أليم حكى عنهم أيضا قولهم {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) والقرآن قال سبحانه {أنى لهم الذكرى} أي من أين لهم التذكر والاتعاظ وكيف يتذكرون ويتعظون {وقد جاءهم رسول مبين} أي وحالهم أنهم قد جاءهم رسول ظاهر الصدق والدلالة {ثم تولوا عنه} أي أعرضوا عنه ولم يقبلوا قوله {وقالوا معلم مجنون} أي هو معلم يعلمه بشر مجنون بادعاء النبوة.
ثم قال سبحانه {إنا كاشفوا العذاب} أي عذاب الجوع والدخان {قليلا} أي زمانا قليلا يسيرا إلى يوم بدر عن مقاتل {إنكم عائدون} في كفركم وتكذيبكم فلما كشف الله سبحانه ذلك عنهم بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) واستسقائه لهم عادوا إلى تكذيبه هذا على تأويل من قال إن ذلك الدخان كان وقت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأما على القول الآخر فمعناه أنكم عائدون إلى العذاب الأكبر وهو عذاب جهنم والقليل مدة ما بين العذابين {يوم نبطش البطشة الكبرى} أي واذكر لهم ذلك اليوم يعني يوم بدر على القول الأول قالوا لما كشف عنهم الجوع عادوا إلى التكذيب فانتقم الله منهم يوم بدر وعلى القول الآخر البطشة الكبرى تكون يوم القيامة والبطش هو الأخذ بشدة وقع الألم {إنا منتقمون} منهم ذلك اليوم.
ثم قال سبحانه {ولقد فتنا قبلهم} أقسم سبحانه أنه فتن قبل كفار قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) {قوم فرعون} أي اختبرهم وشدد عليهم التكليف لأن الفتنة شدة التعبد وأصلها الإحراق بالنار لخلاص الذهب من الغش وقيل إن الفتنة معاملة المختبر ليجازي بما يظهر دون ما يعلم مما لا يظهر {وجاءهم رسول كريم} أي كريم الأخلاق والأفعال بالتجاوز والصفح والدعاء إلى الصلاح والرشد وقيل كريم عند الله بما استحق بطاعته من الإكرام والإعظام وقيل كريم شريف في قومه من بني إسرائيل {أن أدوا إلي عباد الله} هذا من قول موسى (عليه السلام) لفرعون وقومه والمعنى أطلقوا بني إسرائيل من العذاب والتسخير فإنهم أحرار فهو كقوله {فأرسل معي بني إسرائيل} فيكون عباد الله مفعول أدوا وقال الفراء معناه أدوا إلي ما أمركم به يا عباد الله.
{إني لكم رسول أمين} على ما أؤديه وأدعوكم إليه {وأن لا تعلوا على الله} أي لا تتجبروا على الله بترك طاعته عن الحسن وقيل لا تتكبروا على أولياء الله بالبغي عليهم وقيل : لا تبغوا عليه بكفران نعمه وافتراء الكذب عليه عن ابن عباس وقتادة {إني آتيكم بسلطان مبين} أي بحجة واضحة يظهر الحق معها وقيل بمعجز ظاهر يبين صحة نبوتي وصدق مقالتي.
فلما قال ذلك توعدوه بالقتل والرجم فقال {وإني عذت بربي وربكم} أي لذت بمالكي ومالككم والتجأت إليه {أن ترجمون} أي من أن ترموني بالحجارة عن قتادة وقيل إن الرجم الذي استعاذ منه موسى هو الشتم كقولهم هو ساحر كذاب ونحوه عن ابن عباس وأبي صالح {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} أي إن لم تصدقوني فاتركوني لا معي ولا علي وقيل معناه فاعتزلوا أذاي عن ابن عباس .
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص104-106.
2- في نسخة (سنين) وهو الصواب ، فان علامة النصب فيه الياء من دون التنوين.
3- الخصاص : كل خلل وخرق في باب ، منخل ، وبرقع ونحوه . والفُرج في البناء بين الأثافي.
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ} . الخطاب من اللَّه سبحانه لنبيه الكريم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) يعده فيه باستجابة دعائه على قريش . . . وذلك ان قريشا بعد أن بالغوا في أذى الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) دعا عليهم ، وقال : اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ، فقطع اللَّه عنهم المطر ، وأجدبت الأرض وأصاب قريشا الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة . . . وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان ، فقالوا : {هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} . أتوا النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وقالوا له : سل اللَّه سبحانه أن يكشف عنا هذا العذاب ، ونحن نؤمن برسالتك .
{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}.
معلم بفتح اللام مع التشديد . . . وعدوا بالتذكر والاتعاظ ان كشف اللَّه عنهم العذاب . . . ولكنهم لا يتوبون ولا يوفون بالوعد ، ألم يشاهدوا دلائل التوحيد ومع ذلك أشركوا باللَّه ؟ . ألم يأتهم الرسول بالبينات الواضحة فكذبوه ، وقالوا :
هو مجنون يتلقى بعض الكلمات من جني أو إنسي ويلقيها علينا ؟ . {إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ} . المراد بالعذاب هنا عذاب القحط والجوع ، وعائدون ناكثون ، والمعنى سنرفع عنهم ما هم فيه بعض الوقت ونحن نعلم انهم ناكثون بالوعد . . ولكن من باب إلقاء الحجة وقطع المعذرة { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} . هذا تهديد بأن اللَّه سيأخذهم يوم القيامة بعذاب مهين على عتوهم وتمردهم .
والخلاصة ان قريشا آذوا النبي (صلى الله عليه واله وسلم) فدعا عليهم ، ولما مسهم السوء استجاروا به ووعدوه بالتوبة ، ولكنهم نكثوا بعد أن فرج اللَّه عنهم ، فهددهم سبحانه بجهنم وبئس المهاد .
{ولَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} . ضمير قبلهم يعود إلى قريش ، والمعنى ان اللَّه اختبر آل فرعون بالنعم والتمكين في الأرض كما اختبر قريشا بكشف العذاب عنهم ، وأرسل سبحانه موسى إلى قوم فرعون كما أرسل محمدا إلى قريش ، فعصوا جميعهم وعتوا عن أمر اللَّه ، وقال موسى لفرعون وقومه : {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}. كان فرعون يضطهد بني إسرائيل ، يذبح المواليد الذكور منهم ، ويبقي الإناث للخدمة ، فطلب منه موسى أن يرسلهم معه ليذهب بهم حيث يشاء ، ومثله قوله تعالى : {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 47] طه ج 5 ص 220 .
{وأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ}. هذا من كلام موسى لقوم فرعون ، ومعناه لا تتعالوا على طاعة اللَّه ، فإن لديّ الحجة الكافية الوافية بإثبات الحق {وإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} ألوذ باللَّه والتجأ إليه ان أردتم بي سوءا {وإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} أي اعتزلوني ، ودعوني وشأني لا علي ولا معي ان لم تصدقوني وتستجيبوا لدعوتي .
_____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7، ص8-9.
قوله تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس} الارتقاب الانتظار وهذا وعيد بالعذاب وهو إتيان السماء بدخان مبين يغشى الناس.
واختلف في المراد بهذا العذاب المذكور في الآية.
فقيل: المراد به المجاعة التي ابتلي بها أهل مكة فإنهم لما أصروا على كفرهم وأذاهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين به دعا عليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: اللهم سنين كسني يوسف فأجدبت الأرض وأصابت قريشا مجاعة شديدة، وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان وأكلوا الميتة والعظام ثم جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وقومك قد هلكوا، ووعدوه إن كشف الله عنهم الجدب أن يؤمنوا، فدعا وسأل الله لهم بالخصب والسعة فكشف عنهم ثم عادوا إلى كفرهم ونقضوا عهدهم.
وقيل: إن الدخان المذكور في الآية من أشراط الساعة وهو لم يأت بعد وهو يأتي قبل قيام الساعة فيدخل أسماع الناس حتى أن رءوسهم تكون كالرأس الحنيذ.
ويصيب المؤمن منه مثل الزكمة وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص ويمكث ذلك أربعين يوما.
وربما قيل: إن المراد بيوم الدخان يوم فتح مكة حين دخل جيش المسلمين مكة فارتفع الغبار كالدخان المظلم، وربما قيل: المراد به يوم القيامة، والقولان كما ترى.
وقوله: {يغشى الناس} أي يشملهم ويحيط بهم، والمراد بالناس أهل مكة على القول الأول، وعامة الناس على القول الثاني.
قوله تعالى: {هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} حكاية قول الناس عند نزول عذاب الدخان أي يقول الناس يوم تأتي السماء بدخان مبين: هذا عذاب أليم ويسألون الله كشفه بالاعتراف بربوبيته وإظهار الإيمان بالدعوة الحقة فيقولون: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.
قوله تعالى: {أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين} أي من أين لهم أن يتذكروا ويذعنوا بالحق والحال أنه قد جاءهم رسول مبين ظاهر في رسالته لا يقبل الارتياب وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي الآية رد صدقهم في وعدهم.
قوله تعالى: {ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون} التولي الإعراض، وضمير {عنه} للرسول و{معلم مجنون{ خبران لمبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى الرسول والمعنى: ثم أعرضوا عن الرسول وقالوا هو معلم مجنون فرموه أولا بأنه معلم يعلمه غيره فيسند ما تعلمه إلى الله سبحانه، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] ، وثانيا بأنه مجنون مختل العقل.
قوله تعالى: {إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون} أي إنا كاشفون للعذاب زمانا أنكم عائدون إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب هذا بناء على القول الأول والآية تأكيد لرد صدقهم فيما وعدوه من الإيمان.
وأما على القول الثاني فالأقرب أن المعنى: أنكم عائدون إلى العذاب يوم القيامة.
قوله تعالى: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} البطش - على ما ذكره الراغب - تناول الشيء بصولة، وهذا اليوم بناء على القول الأول المذكور يوم بدر وبناء على القول الثاني يوم القيامة، وربما أيد توصيف البطشة بالكبرى هذا القول الثاني فإن بطش يوم القيامة وعذابه أكبر البطش والعذاب، قال تعالى: {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ } [الغاشية: 24] ، كما أن أجره أكبر الأجر قال تعالى: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ } [النحل: 41].
قوله تعالى: {ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم} الفتنة الامتحان والابتلاء للحصول على حقيقة الشيء، وقوله: {وجاءهم رسول كريم} إلخ، تفسير للامتحان، والرسول الكريم موسى (عليه السلام)، والكريم هو المتصف بالخصال الحميدة قال الراغب: الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه وإنعامه المتظاهر نحو قوله: {إن ربي غني كريم} وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه، ولا يقال: هو كريم حتى يظهر ذلك منه، قال: وكل شيء شرف في بابه فإنه يوصف بالكرم قال تعالى: {أنبتنا فيها من كل زوج كريم} {وزروع ومقام كريم} {إنه لقرآن كريم} {وقل لهما قولا كريما} انتهى.
قوله تعالى: {أن أدوا إلى عباد الله إني لكم رسول أمين} تفسير لمجيء الرسول فإن معنى مجيء الرسول تبليغ الرسالة وكان من رسالة موسى (عليه السلام) إلى فرعون وقومه أن يرسلوا معهم بني إسرائيل ولا يعذبوهم، والمراد بعباد الله بنو إسرائيل وعبر عنهم بذلك استرحاما وتلويحا إلى أنهم في استكبارهم وتعديهم عليهم إنما يستكبرون على الله لأنهم عباد الله.
وفي قوله: {إني لكم رسول أمين} حيث وصف نفسه بالأمانة دفع لاحتمال أن يخونهم في دعوى الرسالة وإنجاء بني إسرائيل من سيطرتهم فيخرج معهم عليهم فيخرجهم من أرضهم كما حكى تعالى عن فرعون إذ قال للملإ حوله: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء: 34، 35].
وقيل: {عباد الله} نداء لفرعون وقومه والتقدير أن أدوا إلى ما آمركم به يا عباد الله، ولا يخلو من التقدير المخالف للظاهر.
قوله تعالى: {وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين} أي لا تتجبروا على الله بتكذيب رسالتي والإعراض عما أمركم الله فإن تكذيب الرسول في رسالته استعلاء وتجبر على من أرسله والدليل على أن المراد ذلك تعليل النهي بقوله: {إني آتيكم بسلطان مبين} أي حجة بارزة من الآيات المعجزة أو حجة المعجزة وحجة البرهان.
قيل: ومن حسن التعبير الجمع بين التأدية والأمين وكذا بين العلو والسلطان.
قوله تعالى: {وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون} أي التجأت إليه تعالى من رجمكم إياي فلا تقدرون على ذلك، والظاهر أنه إشارة إلى ما آمنه ربه قبل المجيء إلى القوم كما في قوله تعالى: { قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 45، 46].
وبما مر يظهر فساد ما قيل: إن هذا كان قبل أن يخبره الله بعجزهم عن رجمه بقوله سبحانه: {فلا يصلون إليكما}.
قوله تعالى: {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} أي إن لم تؤمنوا لي فكونوا بمعزل مني لا لي ولا علي ولا تتعرضوا لي بخير أوشر، وقيل: المراد تنحوا عني وانقطعوا، وهو بعيد.
___________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18 ، ص112-114.
انتقلت الآية إلى تهديد هؤلاء المنكرين المعاندين المتعصبين، في الوقت الذي وجهت الخطاب إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم}.
عند ذلك سيعم الخوف والاضطراب كل وجودهم، وتزول الحجب من أمام أعينهم، فيقفون على خطئهم الكبير، ويتجهون إلى الله تعالى بالقول: {ربّنا اكشف عنّا العذاب إنّا مؤمنون}.
إلاّ أنّ الله عزَّوجلّ يرفض طلب هؤلاء ويقول: {أنّى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين} رسول كان واضحاً في نفسه وتعليماته وبرامجه وآياته ومعجزاته، ومبيناً لها جميعاً.
غير أنّ هؤلاء بدل أن يذعنوا له، ويؤمنوا بالله الواحد الأحد، ويتقبلوا أوامره بكل وجودهم، أعرضوا عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) {ثمّ تولوا عنه وقالوا معلم مجنون}.
فكانوا يقولون تارة: إنّ غلاماً رومياً سمع قصص الأنبياء وأخبارهم يعلمه إياها، وهذه الآيات من اختراعه وإملائه على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } [النحل: 103]
ويقولون تارة أُخرى: إنّه مصاب بالاختلال الفكري والعقلي، وهذه الكلمات وليدة فقدانه التوازن الفكري.
ثمّ تضيف الآية التالية: {إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون} ومن هنا يتّضح أنّهم عندما يقعون في قبضة العذاب، يندمون على ما بدر منهم من أفعال، ويصممون على تعديل سلوكهم وإصلاحه، إلاّ أن هذا الموقف الجديد مؤقت وسريع الزوال، فما أن تهدأ عاصفة الأحداث حتى يعودوا لما كانوا عليه من قبل.
ويقول سبحانه في آخر آية من هذه الآيات {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون}.(2)
«البطش» هو تناول الشيء بصولة، وهنا بمعنى الأخذ للانتقام الشديد، ووصف البطشة بالكبرى إشارة إلى العقوبة الشديدة التي تنتظر هذه الفئة.
والخلاصة: أنّه على فرض تخفيف العقوبات المؤقتة في حق هؤلاء، فإن العقوبات النهائية العسيرة تنتظرهم، ولا مفرّ لهم منها.
«منتقمون» من مادة الانتقام، وكما قلنا سابقاً فإنّها تعني العقوبة والجزاء، وإن كانت كلمة الإنتقام تعطي معنى آخر في محادثاتنا اليومية في عصرنا الحاضر، حيث تعني العقوبة المقترنة بإخماد نار الغضب وتفريغ ما في القلب من انفعال وحب الإنتقام، إلاّ أن هذا الأمر لا وجود له في المعنى اللغوي للكلمة.
وقوله تعالى : {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ( 17 ) أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللهِ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ( 18 ) وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّى ءَاتِيكُم بِسُلْطَان مُّبِين( 19 ) وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ( 20 ) وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ}
إذا لم تؤمنوا فلا تصدّوا الآخرين عن الإِيمان:
متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث حول تمرد مشركي العرب وعدم إذعانهم للحق، تشير هذه الآيات إلى نموذج من الأمم الماضية التي سارت في نفس هذا المسير، وابتليت أخيراً بالعذاب الأليم والهزيمة النكراء، ليكون ذلك تسلية للمؤمنين، وتحذيراً للمنكرين المعاندين. وذلك النموذج هو قصّة موسى وفرعون، حيث تقول الآية: {ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون}.
«فتنّا» من مادة فتنة، وهي في الأصل تعني وضع الذهب في فرن النّار لتخليصه من الشوائب، ثمّ أطلقت على كل امتحان واختبار يجري لمعرفة نسبة خلوص البشر... ذلك الاختبار الذي يعم كل حياة الإِنسان والمجتمعات البشرية، وبتعبير آخر، فإن كل مراحل حياة الإِنسان في هذه الدنيا تطوى في هذه الإِختبارات، فإن هذه الدنيا دار امتحان وابتلاء.
لقد كان قوم فرعون يعيشون أوج قوتهم وعظمتهم بامتلاكهم حكومة قوية، وثروات ضخمة، وإمكانيات واسعة، فغرتهم هذه القدرة العظيمة، وتلوثوا بأنواع المعاصي والظلم والجور.
ثمّ تضيف الآية {وجاءهم رسول كريم} فهو كريم من ناحية الخلق والطبيعة، وكريم من ناحية العظمة والمنزلة عند الله، وكريم من ناحية الأصل والنسب، ولم يكن هذا الرّسول إلا موسى بن عمران(عليه السلام).(3)
لقد خاطبهم موسى(عليه السلام) بأُسلوبه المؤدب جدّاً، المليء بالود والمحبة، فقال: (أن أدوا إليّ عباد الله).(4)
وطبقاً لهذا التّفسير، فإنّ (عباد الله) بحكم المخاطب، والمراد منهم الفراعنة، وبالرغم من أنّ هذا التعبير يستعمل في آيات القرآن في شأن العباد الصالحين، إلا أنّه أطلق أيضاً في موارد عديدة على الكفار والمجرمين، من أجل تحريك وجدانهم، وجذب قلوبهم نحو الحق(5).
بناء على هذا، فإنّ المراد من (أدّوا) إطاعة أمر الله سبحانه وتنفيذ أوامره.
وقد ذكر جماعة من المفسّرين تفسيراً آخر لهذه الجملة، فقالوا: المراد من (عباد الله) بنو إسرائيل، ومن (أدّوا) إيداعهم بيد موسى، ورفع الذلة والعبودية عنهم، كما جاء في الآية (17) من سورة الإِسراء {أن أرسل معنا بني إسرائيل} وورد نظير هذا المعنى في الآية 105 ـ الأعراف، و47 ـ طه أيضاً.
والأمر الذي لا ينسجم مع هذا التّفسير، هو أن جملة (أدّوا) تستعمل عادة في أداء الأموال والأمانات والتكاليف، لا في مورد إيداع الأشخاص، ويتّضح هذا الموضوع جيداً بملاحظة موارد استعمال هذه الكلمة.
وعلى أية حال، فإنّه يضيف في بقية الآية (إنّي لكم رسول أمين) وذلك لنفي كل اتهام عن نفسه.
إنّ هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ داحض للإتهامات الباطلة التي ألصقها به الفراعنة، كالسحر، والسعي إلى التفوق واستلام الحكم في أرض مصر، وطرد أصحابها الأصليين، والتي أشير إليها في الآيات المختلفة.
ثمّ يقول لهم موسى(عليه السلام) بعد أن دعاهم إلى طاعة الله سبحانه، أو إطلاق سراح بني إسرائيل وتحريرهم: إنّ مهمّتي الأُخرى أن أقول لكم: {وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين} معجزاته بينة، وأدلته منطقية واضحة.
والمراد من عدم العلو على الله سبحانه، هو عدم القيام بأي عمل لا ينسجم مع أصول العبودية، من المخالفة والتمرد، وحتى إيذاء رسل الله، أو ادعاء الألوهية وأمثال ذلك.
ولما كان المستكبرون وعبيد الدنيا لا يدعون أي تهمة وافتراء، إلاّ وألصقوهما بمن يرونه مخالفاً لمنافعهم ومصالحهم اللامشروعة بل لا يتورعون حتى عن قتله وإعدامه، لذا فإنّ موسى(عليه السلام) يضيف للحد من مسلكهم هذا {وإنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون}.
إنّ هذا التعبير لعله إشارة إلى أنّي لا أخاف تهديداتكم، وسأصمد حتى آخر نفس، والله حافظي وحارسي، وكانت مثل هذه التعبيرات تمنح القادة الإِلهيين حزماً أكبر في دعوتهم، وتزيد في انهيار إرادة الأعداء ومعنوياتهم، وتزيد من جانب آخر ثبات المحبين والمؤمنين واستقامتهم، لأنّهم يعلمون أن إمامهم وقائدهم يقاوم حتى اللحظات الأخيرة.
وربّما كان التأكيد على مسألة الرجم من جهة أن كثيراً من رسل الله قبل موسى(عليه السلام) قد هددوا بالرجم، ومن جملتهم نوح(عليه السلام) { قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116] .
وكذلك الحال بالنسبة إلى إبراهيم(عليه السلام) لما هدده آزر وقال له: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ } [مريم: 46] ، وشعيب لما هدده الوثنيون قالوا له: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91].
أمّا اختيار الرجم من بين أنواع القتل، فلأنّه أشدّها جميعاً. وعلى قول بعض أرباب اللغة فإن هذه الكلمة جاءت بمعنى مطلق القتل أيضاً.(6)
واحتمل كثير من المفسّرين أن يكون الرجم بمعنى الإِتهام وإساءة الكلام، لأن هذه الكلمة قد استعملت في هذا المعنى أيضاً. وكانت هذه الإستعاذة في الحقيقة مانعاً من تأثير التهم التي اتهموا بها موسى فيما بعد.
ويمكن أن تكون هذه الكلمة قد استعملت في معناها الواسع الذي يشمل كلا المعنيين.
وتخاطب الآية الأخيرة هؤلاء القوم فتقول: {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} لأن موسى(عليه السلام)كان واثقاً من نفوذه بين أوساط الناس، ومختلف طبقاتهم، بامتلاكه تلك المعجزات الباهرات، والأدلة القوية، والسلطان المبين، وأن ثورته ستؤتي أكلها بعد حين، ولذلك كان يرضى من هؤلاء القوم أن يتنحوا عن طريقه ولا يكونوا حاجزاً بينه وبين الناس.
لكن، هل يمكن أن يهدأ هؤلاء الجبابرة المغرورون وهم يرون الخطر يهدد مصالحهم وثرواتهم اللامشروعة، ويقبلوا مثل هذا الاقتراح ويدعوا موسى وشأنه؟
الآيات الآتية كفيلة بأن تبيّن تتمة هذه الأحاديث.
_________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12 ، ص443-451.
2 ـ احتمل المفسّرون في تركيب هذه الجملة احتمالات كثيرة، وأكثرها قبولا من قبل المفسّرين، وهو المناسب أيضاً لسياق الآية: إن (يوم) متعلق بفعل (ننتقم) الذي يفهم من جملة (إنا منتقمون) وعلى هذا يكون التقدير: ننتقم منهم يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون.
3 ـ يقول الراغب في المفردات: الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه وإنعامه، نحو قوله: (إن ربّي غني كريم) وإذا وصف ربّه الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه.
ولقد ورد هذا الوصف لأمور أخرى أيضاً القرآن المجيد، مثل: كتاب كريم، كل زوج كريم، رزق كريم مقام كريم، أجر كريم.
4 ـ «أن» في جملة: (أن أدوا إليّ عباد الله) تفسير لفعل مقدر يفهم من الكلام السابق، والتقدير: (جئتكم أن أدّوا إليّ عباد الله).
5 ـ كالآية 17 ـ الفرقان، و13 ـ سبأ، و58 ـ الفرقان، وغيرها.
6 ـ لسان العرب، ماده رجم.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|