أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-3-2017
4488
التاريخ: 12-2-2017
4594
التاريخ: 4-12-2016
2865
التاريخ: 4-12-2016
17204
|
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 267 ، 268] .
لما تقدم ذكر الإنفاق وبيان صفة المنفق وأنه يجب أن ينوي بالصدقة التقرب وأن يحفظها مما يبطلها من المن والأذى بين تعالى صفة الصدقة والمتصدق عليه ليكون البيان جامعا فقال {يا أيها الذين آمنوا} خاطب المؤمنين {أنفقوا} أي تصدقوا {من طيبات ما كسبتم} أي من حلال ما كسبتم بالتجارة عن ابن مسعود ومجاهد وقيل من خياره وجياده ونظيره قوله {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وروي عن عبيد بن رفاعة قال خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال يا معشر التجار أنتم فجار إلا من اتقى وبر وصدق وقال بالمال هكذا وهكذا وقال (عليه السلام) ((تسعة أعشار الرزق في التجارة والجزء الباقي في السابياء)) وروت عائشة عنه أنه قال : ((أطيب ما أكل الرجل من كسبه وأن ولده من كسبه)) وقال سعيد بن عمير ((سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي كسب الرجل أطيب قال عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور)) وقال علي (عليه السلام) من اتجر بغير علم (2) ، ارتطم في الربا ثم ارتطم .
واختلفوا في ذلك على وجوه فقيل هذا أمر بالنفقة في الزكاة عن عبيدة السلماني والحسن وقيل هو في الصدقة المتطوع بها لأن المفروض من الصدقة له مقدار من القيمة إن قصر عنه كان دينا عليه إلى أن يؤديه بتمامه وإن كان مال المزكي كله رديا فجائز له أن يعطي منه عن الجبائي وقيل هو الأصح أنه يدخل فيه الفرائض والنوافل والمراد به الإنفاق في سبيل الخير وأعمال البر على العموم وفيه دلالة على أن ثواب الصدقة من الحلال المكتسب أعظم منه من الحلال غير المكتسب وإنما كان ذلك لأنه يكون أشق عليه .
{ومما أخرجنا لكم من الأرض} أي وأنفقوا وأخرجوا من الغلات والثمار مما يجب فيه الزكاة {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} أي لا تقصدوا الرديء من المال أو مما كسبتموه أو أخرجه الله لكم من الأرض فتنفقون منه وقيل المراد بالخبيث هاهنا الحرام ويقوي القول الأول قوله {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} لأن الإغماض لا يكون إلا في الشيء الرديء دون ما هو حرام وفيه قولان ( أحدهما ) أن معناه لا تتصدقوا بما لا تأخذونه من غرمائكم إلا بالمسامحة والمساهلة فالإغماض هاهنا المساهلة عن البراء بن عازب ( والآخر ) أن معناه بما لا تأخذونه إلا أن تحطوا من الثمن فيه عن الحسن وابن عباس وقتادة ومثله قول الزجاج ولستم ب آخذيه إلا في وكس فكيف تعطونه في الصدقة .
{واعلموا أن الله غني} عن صدقاتكم {حميد} أي مستحق للحمد على نعمه وقيل مستحمد إلى خلقه بما يعطيهم من النعم أي مستدع لهم إلى ما يوجب لهم الحمد وقيل أنه بمعنى الحامد أي أنه مع غناه عنكم وعن صدقاتكم يقبلها منكم ويحمدكم عليها وحميد بهذا الموضع أليق من حليم كما أن حليما بالآية المتقدمة أليق من حميد لأنه سبحانه لما أمر بالإنفاق من طيبات المكاسب بين أنه غني عن ذلك وأنه يحمد فاعله إذا فعله على ما أمره به ومعناه أنه يجازيه عليه .
والآية الثانية : {الشيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ويَأْمُرُكم بِالْفَحْشاءِ واللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وفَضلاً واللَّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ} :
ثم حذر تعالى من الشيطان المانع من الصدقة فقال {الشيطان يعدكم الفقر} بالنفقة في وجوه البر وبإنفاق الجيد من المال وقيل بتأدية الزكاة عليكم في أموالكم {ويأمركم بالفحشاء} أي بالمعاصي وترك الطاعات وقيل بالإنفاق من الرديء وسماه فحشاء لأن فيه معصية الله تعالى فإن الغني إذا ترك الإنفاق على وجه ذوي الحاجات من أقاربه وجيرانه أدى ذلك إلى التقاطع {والله يعدكم مغفرة منه} أي يعدكم بالإنفاق من خيار المال أن يستر عليكم ويصفح عن عقوبتكم {وفضلا} أي ويعدكم أن يخلف عليكم خيرا من صدقتكم ويتفضل عليكم بالزيادة في أرزاقكم وروي عن ابن عباس أنه قال اثنان من الله واثنان من الشيطان فاللذان من الله المغفرة على المعاصي والفضل في الرزق واللذان من الشيطان الوعد بالفقر والأمر بالفحشاء وروي عن ابن مسعود أنه قال للشيطان لمة وللملك لمة وروي مثله عن أبي عبد الله (عليه السلام) ثم قال فلمة الشيطان وعده بالفقر وأمره بالفحشاء ولمة الملك أمره بالإنفاق ونهيه عن المعصية {والله واسع} ذكرناه معناه فيما تقدم وقيل واسع معناه يعطي عن سعة بمعنى إن عطيته لا تضره ولا تنقص خزائنه {عليم} بمن يستحق العطية ومن لا يستحقها .
___________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص191-193 .
2- وفي المخطوطتين (فقه) بدل (علم) .
بعد ان حث اللَّه سبحانه في الآيات السابقة على الصدقة ، وبين ما يجب أن يتصف به المتصدق من الإخلاص للَّه في صدقته ، والبعد عن الرياء ، والمنّ والأذى ، بعد هذا أشار هنا إلى صفة الصدقة ، وانها ينبغي أن تكون من جيد المال ، لا من رديئه ، وبذلك تكمل الصدقة من سائر جهاتها ، قال تعالى : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ومِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} .
لو نظرنا إلى ظاهر هذه الآية صارفين النظر عما جاء في السنة النبوية من بيان الواجبات المالية ، وتحديد نوعها ومقدارها ومصرفها – لو نظرنا إلى الآية من حيث هي لاستفدنا منها ان في كل مال يكسبه الإنسان حقا للَّه ، يجب أن ينفق في سبيل مرضاته سبحانه ، على شريطة أن يكون الإنفاق من جيد ما يملك ، لا من رديئه ، وأصرح من هذه الآية قوله تعالى : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران : 92] .
وهذا الإنفاق يجب في كل مال سواء أكان مصدره الصناعة أو التجارة أو الزراعة أو الهدية أو الإرث أو الغوص أو المعدن ، أو أي شيء آخر . . هذا ما تدل عليه ألفاظ الآية ، لأن الإنفاق جاء بصيغة الأمر ، وهو يدل على الوجوب وقوله : {مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ} يشمل جميع المكاسب ، وقوله : {مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} يشمل النبات والمعدن والبترول ، ولكن السنة النبوية - وهي تفسير وبيان للقرآن ، بخاصة ما يتصل بآيات الأحكام الشرعية - قد حددت الواجب المالي زكاة كان أو خمسا ، أو نذورات أو كفارات ، وبينت المقدار والمصرف . .
وقد تعرض الفقهاء لكل ذلك بالتفصيل في باب الزكاة والخمس والكفارات والنذورات . . وعليه تكون الآية واردة لمجرد تشريع الإنفاق ورجحانه ، تماما كقوله تعالى : {أَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ} .
{ ولا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . أي لا تقصدوا الرديء من أموالكم فتنفقوا منه . . وقيل في سبب نزول الآية : ان بعض المسلمين كانوا يأتون بصدقتهم من حشف التمر ، أي رديئه ، وهذه الجملة ، وهي لا تيمموا الخبيث تأكيد للجملة الأولى ، وهي أنفقوا من طيبات ، ومجمل المعنى : أنفقوا من الجيد دون الرديء .
وأفتى الفقهاء في من يملك نوعا من المال ، بعضه جيد ، وبعضه رديء ، أفتوا بأنه لا يجوز لهذا أن يخرج حق اللَّه من القسم الرديء ، وعليه أن يخرجه من وسط الجيد ، وان اختار الأعلى فأفضل ، وبالأولى أن لا يكفي الرديء إذا كان جميع المال جيدا . . أجل ، يجوز الإخراج من الرديء إذا كان المال كله كذلك ، لأن الحق يتعلق بالعين الخارجية ، لا بالذمة .
{ ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . ان المنصف يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به . . فإذا كان له مال جيد على غيره فلا يقبل الرديء بدلا عنه الا إذا أغمض وتنازل ، إذن يلزمه - والحال هذه - إذا كان عليه مال جيد أن لا يدفع الرديء بدلا عنه الا إذا أغمض صاحب الحق وتسامح ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : {ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . فهذا حجة بالغة على من يتصدق بالرديء ، مع انه لا يستوفيه بدلا عن الجيد الا إذا تساهل هو وتسامح ، قال الإمام علي ( عليه السلام ) : كما تدين تدان .
{ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ويَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ } . معنى وعد الشيطان بالفقر ان يحرض بالوسوسة على الحرص والشح والتكالب ، وان يخوف من الإنفاق بأنه يؤدي إلى الفقر وسوء الحال ، ومعنى أمره بالفحشاء أن يغري بوسوسته بارتكاب المعاصي ، وترك الطاعات ، ومنها البخل والشح .
{ واللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وفَضْلاً } . لقد وعد اللَّه سبحانه من ينفق الجيد من ماله ابتغاء مرضاته سبحانه ، وعد هذا في كتابه وعلى لسان نبيه بأمرين : الأول أن يكفر عنه الكثير من الخطايا ، قال تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة : 103] . الثاني أن يخلف على المنفق خيرا مما أنفق ، قال تعالى : {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ : 39] .
ومن حكم الإمام علي ( عليه السلام ) : (الصدقة دواء منجح . . استنزلوا الرزق بالصدقة . .
تاجروا اللَّه بالصدقة) .
ويوم كانت الروح الدينية مسيطرة على النفوس ، وموجهة التربية وسلوك الأفراد كان الأب يعطي بعض المال لولده الصغير ، ويأمره أن يتصدق به على الفقير معتقدا ان هذه الصدقة تمهد له سبيل التوفيق والنجاح .
___________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص419-421 .
قوله تعالى : {يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم} إلخ ، التيمم هو القصد والتعمد ، والخبيث ضد الطيب ، وقوله : {منه} ، متعلق بالخبيث ، وقوله : {تنفقون} حال من فاعل لا تيمموا ، وقوله : {ولستم بآخذيه} حال من فاعل تنفقون ، وعامله الفعل ، وقوله {أن تغمضوا فيه} في تأويل المصدر ، واللام مقدر على ما قيل والتقدير إلا لإغماضكم فيه ، أو المقدر باء المصاحبة والتقدير إلا بمصاحبة الإغماض .
ومعنى الآية ظاهر ، وإنما بين تعالى كيفية مال الإنفاق ، وأنه ينبغي أن يكون من طيب المال لا من خبيثه الذي لا يأخذه المنفق إلا بإغماض ، فإنه لا يتصف بوصف الجود والسخاء ، بل يتصور بصورة التخلص ، فلا يفيد حبا للصنيعة والمعروف ولا كمالا للنفس ، ولذلك ختمها بقوله : {واعلموا أن الله غني حميد} أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيب المال ، أو أنه غني محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جل جلاله .
قوله تعالى : {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} إقامة للحجة على أن اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيبه فإنه خير لهم ، ففي النهي مصلحة أمرهم كما أن في المنهي عنه مفسدة لهم ، وليس إمساكهم عن إنفاق طيب المال وبذله إلا لما يرونه مؤثرا في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه ، وهذا من تسويل الشيطان يخوف أولياءه من الفقر ، مع أن البذل وذهاب المال والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مر ، مع أن الذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال ، قال تعالى : {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} [النجم : 48] .
وبالجملة لما كان إمساكهم عن بذل طيب المال خوفا من الفقر خطأ نبه عليه بقوله : الشيطان يعدكم الفقر ، غير أنه وضع السبب موضع المسبب ، أعني أنه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدل على أنه خوف مضر لهم فإن الشيطان لا يأمر إلا بالباطل والضلال إما ابتداء ومن غير واسطة ، وإما بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنه حق .
ولما كان من الممكن أن يتوهم أن هذا الخوف حق وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك باتباع قوله : {الشيطان يعدكم الفقر} بقوله : {ويأمركم بالفحشاء} أولا ، فإن هذا الإمساك والتثاقل منهم يهيئ في نفوسهم ملكة الإمساك وسجية البخل ، فيؤدي إلى رد أوامر الله المتعلقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم ، ويؤدي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار والفقر والمسكنة التي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكل جناية وفحشاء ، قال تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التوبة : 75 - 79] .
ثم بإتباعه بقوله : {والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم} ثانيا ، فإن الله قد بين للمؤمنين : أن هناك حقا وضلالا لا ثالث لهما ، وأن الحق وهو الطريق المستقيم هومن الله سبحانه ، وأن الضلال من الشيطان ، قال تعالى : {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس : 32] ، وقال تعالى : {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ } [يونس : 35] ، وقال تعالى في الشيطان : { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص : 15] ، والآيات جميعا مكية ، وبالجملة نبه تعالى بقوله : {والله يعدكم} ، بأن هذا الخاطر الذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإن مغفرة الله والزيادة التي ذكرها في الآيات السابقة إنما هما في البذل من طيبات المال .
فقوله تعالى : {والله يعدكم} "إلخ" ، نظير قوله : {الشيطان يعدكم} "إلخ" ، من قبيل وضع السبب موضع المسبب ، وفيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان ، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما .
فحاصل حجة الآية : أن اختياركم الخبيث على الطيب إنما هو لخوف الفقر ، والجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق ، أما خوف الفقر فهو إلقاء ، شيطاني ، ولا يريد الشيطان بكم إلا الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتبعوه ، وأما ما يستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة والمغفرة اللتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة ، وهو استتباع بالحق لأن الذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حق ، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئا ولا حالا من شيء فوعده وعد عن علم .
قوله تعالى : {يؤتي الحكمة من يشاء} ، الإيتاء هو الإعطاء ، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدل على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أونوع من الأمر المحكم المتقن الذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور ، وغلب استعماله في المعلومات العقلية الحقة الصادقة التي لا تقبل البطلان والكذب البتة .
والجملة تدل على أن البيان الذي بين الله به حال الإنفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هومن الحكمة ، فالحكمة هي القضايا الحقة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقة الإلهية في المبدإ والمعاد ، والمعارف التي تشرح حقائق العالم الطبيعي من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطرية التي هي أساس التشريعات الدينية .
__________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج2 ، ص334-336 .
الأموال التي يمكن إنفاقها :
شرحت الآيات السابقة ثمار الإنفاق وصفات المنفقين والأعمال التي قد تبطل أعمال الإنفاق الإنسانية في سبيل الله . وهذه الآية تبيّن نوعيّة الأموال التي يمكن أن تنفق في سبيل الله .
في بداية الآية يأمر الله المؤمنين أن ينفقوا من (طيبات) أموالهم . و«الطيب» في اللغة هو الطاهر النقي من الناحية المعنوية والمادّية ، أي الأموال الجيدة النافعة والتي لا شبهة فيها من حيث حلّيتها . ويؤيّد عمومية الآية الروايتان المذكورتان في سبب النزول .
كما انّ جملة {لستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا فيه} أي أنكم أنفسكم لا تأخذون غير الطيّب من المال إلاَّ إذا أغمضتم أعينكم كارهين ، دليل على أنّ المقصود ليس الطهارة الظاهريّة فقط ، لأنّ المؤمنين لا يقبلون مالاً تافهاً ملوّثاً في ظاهره ، كما لا يقبلون مالاً مشبوهاً مكروهاً إلاَّ بالإكراه والتغاضي .
{وممّا أخرجنا لكم من الأرض} .
كانت عبارة {ما كسبتم} إشارة إلى الدخل التجاري ، وهذه العبارة إشارة إلى الدخل الزراعي وعائدات المناجم ، فهو يشمل كلّ أنواع الدخل ، لأنّ أصل دخل الإنسان ينبع من الأرض ومصادرها المتنوّعة ، بما فيها الصناعة والتجارة وتربية المواشي وغير ذلك .
تقول هذه الآية : إننا وضعنا مصادر الثروة هذه تحت تصرّفكم ، لذلك ينبغي أن لا تمتنعوا عن إنفاق خير ما عندكم في سبيل الله .
{ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا فيه}(2) .
اعتاد معظم الناس أن ينفقوا من فضول أموالهم التي لا قيمة لها أو الساقطة التي لم تعد تنفعهم في شيء . إنّ هذا النوع من الإنفاق لا هو يربّي روح المنفق ، ولا هو يرتق فتقاً لمحتاج ، بل لعلّه إهانة له وتحقير . فجاءت هذه الآية تنهي بصراحة عن هذا وتقول للناس : كيف تنفقون مثل هذا المال الذي لا تقبلونه أنتم إذا عرض عليكم إلاَّ إذا اضطررتم إلى قبوله ؟ أترون إخوانكم المسلمين ، بل أترون الله الذي في سبيله تنفقون أقلّ شأناً منكم ؟
الآية تشير في الواقع إلى فكرة عميقة وهي أنّ للإنفاق في سبيل الله طرفين ، فالمحتاجون في طرف ، والله في طرف آخر . فإذا اختير المال المنفق من زهيد الأشياء ففي ذلك إهانة لمقام الله العزيز الذي لم يجده المنفق جديراً بطيّبات ما عنده كما هو إهانة للذين يحتاجونه ، وهم ربما يكونون من ذوي الدرجات الإيمانية السامية ، وعندئذ يسبّب لهم هذا المال الرديء الألم والعذاب النفسي .
التعبير بكلمة (الطيّبات) يشمل الطيّب الظاهري الذي يستحقّ الإنفاق والمصرف ، وكذلك الطيّب المعنوي ، أي الطاهر من الأموال المشتبه والحرام لأنّ المؤمنين لا يرغبون في تناول مثل هذه الأموال .
وجملة (إلاّ أن تغمضوا فيه)تشمل الجميع ، فما ذهب إليه بعض المفسّرين من حصرها بأحد هذين المعنيين بعيدٌ عن الصواب ، ونظير هذه الآية ما جاء في سورة آل عمران الآية 92 حيث يقول : {لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون} وطبعاً هذه الآية ناظرة أكثر إلى الآثار المعنويّة للإنفاق .
وفي ختام الآية يقول : {واعلموا أنّ الله غني حميد} أي لا تنسوا أنّ الله لا حاجة به لإنفاقكم فهو غنيٌّ من كلّ جهة ، بل أنّ جميع المواهب والنعم تحت أمره وفي دائرة قدرته ، ولذلك فهو حميد ومستحق للثناء والحمد ، لأنّه وضع كلّ هذه النعم بين أيديكم .
واحتمل البعض أنّ كلمة (حميد) تأتي هنا بمعنى إسم الفاعل (حامد) لا بمعنى محمود ، أي أنّه على الرغم من غناه عن إنفاقكم فإنّه يحمدكم على ما تنفقون .
مكافحة موانع الإنفاق :
تشير الآية هنا وتعقيباً على آيات الإنفاق إلى أحد الموانع المهمّة للإنفاق ، وهو الوساوس الشيطانيّة التي تخوّف الإنسان من ا لفقر والعوز وخاصّة إذا أراد التصدّق بالأموال الطيّبة والمرغوبة ، وما اكثر ما منعت الوساوس الشيطانيّة من الإنفاق المستحبّ في سبيل الله وحتّى من الإنفاق الواجب كالزكاة والخُمس أيضاً .
فتقول الآية في هذا الصدد {الشيطان يعدكم الفقر} ويقول لكم : لا تنسوا مستقبل أطفالكم وتدبّروا في غدكم ، وأمثال هذه الوساوس المظلّة ، ومضافاً إلى ذلك يدعوكم إلى الإثم وإرتكاب المعصية {ويأمركم بالفحشاء} .
(الفحشاء) تعني كلّ عمل قبيح وشنيع ، ويكون المراد به في سياق معنى الآية البخل وترك الإنفاق في كثير من الموارد حيث يكون نوعٌ من المعصية والإثم (رغم أنّ مفرده الفحشاء تعني عادةً الأعمال المنافية للعفّة ولكنّنا نعلم أنّ هذا المعنى لا يناسب السياق) .
حتّى أنّ بعض المفسّرين صرّح بأنّ العرب يسمّون الشخص البخيل (فاحش) (3) .
ويحتمل أيضاً أنّ الفحشاء هنا بمعنى إختيار الأموال الرديئة وغير القابلة للمصرف والتصدّق بها ، وقيل أيضاً : أنّ المراد بها كلّ معصية ، لأنّ الشيطان يحمل الإنسان من خلال تخويفه من الفقر على إكتساب الأموال من الطرق غير المشروعة .
والتعبير عن وسوسة الشيطان بالأمر (ويأمركم) إشارة لنفس الوسوسة أيضاً ، وأساساً فكلّ فكرة سلبيّة وضيّقة ومانعة للخير فإنّ مصدرها هو التسليم مقابل وساوس الشيطان ، وفي المقابل فإنّ كلّ فكرة إيجابيّة وبنّاءة وذات بعد عقلي فإنّ مصدرها هو الالهامات الإلهيّة والفطرة السليمة .
ولتوضيح هذا المعنى ينبغي أن نقول : إنّ النظرة الاُولى إلى الإنفاق وبذل المال توحي أنه يؤدي إلى نقص المال ، وهذه هي النظرة الشيطانية الضيّقة ، ولكنّنا بتدقيق النظر ندرك أن الإنفاق هو ضمان بقاء المجتمع ، وتحكيم العدل الاجتماعي ، وتقليل الفواصل الطبقية ، والتقدّم العام .
وبديهيّ أنّ تقدّم المجتمع يعني أنّ الأفراد الذين يعيشون فيه يكونون في رخاء ورفاه ، وهذه هي النظرة الواقعية الإلهيّة .
يريد القرآن بهذا أن يعلم الناس أنّ الإنفاق وإن بدأ في الظاهر أنّه أخذ ، ولكنّه في الواقع عطاء لرؤوس أموالهم مادّياً ومعنوياً .
في عالمنا اليوم حيث نشاهد نتائج الإختلافات الطبقية والمآسي الناتجة عن الظلم واحتكار الثروة ، نستطيع أن نفهم معنى هذه الآية بوضوح .
كما أنّ الآية تفيد أيضاً أنّ هناك نوعاً من الإرتباط بين ترك الإنفاق والفحشاء . فإذا كانت الفحشاء تعني البخل ، فتكون علاقتها بترك الإنفاق هو أنّ هذا الترك يكرّس صفة البخل الذميمة في الإنسان شيئاً فشيئاً . وإذا كانت تعني الإثم مطلقاً أو الفحشاء في الاُمور الجنسية فإن علامة ذلك بترك الإنفاق لا تخفى ، إذ أنّ منشأ كثير من المعاصي والإنحرافات الجنسية هو الفقر والحاجة . يضاف إلى ذلك أن للإنفاق آثاراً ونتائج معنوية مباركة لا يمكن إنكارها .
{والله يعِدُكم مغفرةً منه وفضلاً} .
جاء في تفسير «مجمع البيان» عن الإمام الصادق (عليه السلام) : أنّ في الإنفاق شيئين من الله وشيئين من الشيطان ، فاللذان من الله هما غفران الذنوب والسعة في المال ، واللذان من الشيطان هما الفقر والأمر بالفحشاء» . (4)
وعليه فإنّ المقصود بالمغفرة هو غفران الذنوب ، والمقصود بالفضل هو ازدياد رؤوس الأموال بالإنفاق ، كما رواه ابن عبّاس .
وقد جاء عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «اذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة» (5) .
{والله واسعٌ عليم} .
في هذا إشارة إلى أنّ لله قدرة واسعة وعلماً غير محدود ، فهو قادر على أن يفي بما يعد ، ولا شكّ أنّ المرء يطمئّن إلى هذا الوعد ، لا كالوعد الذي يعده الشيطان المخادع الضعيف الذي يجرّ المرء إلى العصيان ، فالشيطان ضعيف وجاهل بالمستقبل ، ولذلك ليس وعده سوى الضلال والتحريض على الإثم .
____________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2 ، ص130-135 .
2ـ «يتمم» في الأصل بمعنى القصد أي شيء وجاءت هنا بهذا المعنى واُطلقت هذه الكلمة على التيمم لأن الإنسان يقصد الاستفادة من التراب الطاهر كما يقول القرآن : {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } [النساء : 43] .
3 ـ تفسير روح البيان : ج 1 ص 431 ، وتفسير مجمع البيان ، والتفسير الكبير ، ذيل الاية مورد البحث .
4- تفسير مجمع البيان ، ذيل الاية مورد البحث ، وتفسير التبيان ، ج2 ، ص346 .
5 ـ نهج البلاغة : الكلمات القصار : رقم 258 .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|