أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-2-2017
4883
التاريخ: 27-2-2017
8756
التاريخ: 10-2-2017
9507
التاريخ: 10-2-2017
4087
|
قال تعالى : {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء : 163-166].
خاطب سبحانه نبيه بقوله {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يا محمد ، قدمه في الذكر ، وإن تأخرت نبوته ، لتقدمه في الفضل {كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} ، وقدم نوحا لأنه أبو البشر كما قال : {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} وقيل : لأنه كان أطول الأنبياء عمرا ، وكانت معجزته في نفسه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، لم يسقط له سن ، ولم تنقص قوته ، ولم يشب شعره . وقيل : لأنه لم يبالغ أحد منهم في الدعوة ، مثل ما بالغ فيها ، ولم يقاس أحد من قومه ، ما قاساه ، وهو أول من عذبت أمته بسبب أن ردت دعوته {وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} أي : وأوحينا إلى النبيين من بعد نوح ، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أعاد ذكر هؤلاء ، بعد ذكر النبيين ، تعظيما لأمرهم ، وتفخيما لشأنهم {وَالْأَسْبَاطِ} وهم أولاد يعقوب .
وقيل : إن الأسباط في ولد إسحاق ، كالقبائل في ولد إسماعيل ، وقد بعث منهم عدة رسل ، كيوسف ، وداود ، وسليمان ، وموسى ، وعيسى ، فيجوز أن يكون أراد بالوحي إليهم ، الوحي إلى الأنبياء منهم ، كما تقول : أرسلت إلى بني تميم ، إذا أرسلت إلى وجوههم . ولم يصح أن الأسباط الذين هم أخوة يوسف ، كانوا أنبياء .
{وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} وقدم عيسى على أنبياء كانوا قبله ، لشدة العناية بأمره ، لغلو اليهود في الطعن فيه . والواو لا يوجب الترتيب {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} أي : كتابا يسمى {زَبُورًا} : واشتهر به كما اشتهر كتاب موسى بالتوراة ، وكتاب عيسى بالإنجيل .
{وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء : 164- 165] .
ثم أجمل ذكر الرسل بعد تسمية بعضهم فقال {وَرُسُلًا} أي : ورسلا آخرين {قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} أي : ما حكينا لك أخبارهم ، وعرفناك شأنهم وأمورهم ، من قبل . قال بعضهم : قصهم عليه بالوحي في غير القرآن {مِنْ قَبْلُ} ثم قصهم عليه من بعد في القرآن . وقال بعضهم : قصهم عليه من قبل هؤلاء بمكة في سورة الأنعام ، وفي غيرها ، لأن هذه السورة مدنية {وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} هذا يدل على أن الله سبحانه أرسل رسلا كثيرة لم يذكرهم في القرآن ، وإنما قص بعضهم على النبي لفضيلتهم على من لم يقصهم عليه . {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} فائدته أنه سبحانه كلم موسى بلا واسطة ، إبانة له بذلك من سائر الأنبياء ، لان جميعهم كلمهم الله سبحانه بواسطة الوحي . وقيل : إنما قال تكليما ، ليعلم أن كلام الله عز ذكره من جنس هذا المعقول الذي يشتق من التكليم ، بخلاف ما قاله المبطلون .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قرأ الآية التي قبل هذه ، على الناس ، قالت اليهود فيما بينهم : ذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم النبيين ، ولم يبين لنا أمر موسى . فلما نزلت هذه الآية ، وقرأها عليهم ، قالوا : إن محمدا قد ذكره وفضله بالكلام عليهم {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ} بالجنة والثواب ، لمن آمن وأطاع . {وَمُنْذِرِينَ} بالنار والعقاب لمن كفر وعصى {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فيقولوا : لم ترسل إلينا رسولا ، ولو أرسلت لآمنا بك ، كما أخبر سبحانه في آية أخرى بقوله {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} .
وفي هذه الآية دلالة على فساد قول من زعم أن عند الله تعالى من اللطف ، ما لو فعله بالكافر لآمن ، لأنه لو كان كذلك ، لكان للكافر الحجة بذلك على الله تعالى قائمة . فأما من لم يعلم من حاله أن له في إنفاذ الرسل إليه لطفا ، فالحجة قائمة عليه بالعقل ، وأدلته الدالة على توحيده وعدله ، ولو لم يقم الحجة إلا بإنفاذ الرسل لفسد ذلك من وجهين أحدهما : إن صدق الرسول لا يمكن العلم به إلا بعد تقدم العلم بالتوحيد والعدل ، فإن كانت الحجة عليه (2) غير قائمة ، فلا طريق له إلى معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه . والثاني : إنه لو كانت الحجة لا تقوم إلا بالرسل ، لاحتاج الرسول أيضا إلى رسول آخر ، حتى تكون الحجة عليه قائمة ، والكلام في رسوله كالكلام فيه ، حتى يتسلسل ، وذلك فاسد . فمن استدل بهذه الآية على أن التكليف لا يصح بحال إلا بعد إنفاذ الرسل ، فقد أبعد لما قلناه . {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} أي : مقتدرا على الانتقام ممن يعصيه ، ويكفر به {حَكِيمًا} فيما أمر به عباده ، وفي جميع أفعاله .
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء : 166] .
ثم قال سبحانه بعد إنكارهم وجحودهم : {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} معناه : إن لم يشهد لك هؤلاء بالنبوة ، فالله يشهد لك بذلك . قال الزجاج : والشاهد هو المبين لما يشهد به ، والله سبحانه يبين ما أنزل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بنصب المعجزات له ، ويبين صدقه بما يغني عن بيان أهل الكتاب {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} معناه :
أنزل القرآن ، وهو عالم بأنك موضع لإنزاله عليك ، لقيامك فيه بالحق ، ودعائك الناس إليه . وقيل : معناه أنزل القرآن الذي فيه علمه ، عن الزجاج . {وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} بأنك رسول الله ، وأن القرآن نزل من عند الله {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} معناه : إن شهادة الله تكفي في تثبيت المشهود به ، ولا يحتاج معها إلى شهادة .
وفي هذه الآية تسلية النبي على تكذيب من كذبه ، ولا يصح قول من استدل على أن الله سبحانه عالم بعلم (3) بما في هذه الآية من قوله {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ، لأنه لو أراد بالعلم ما ذهبوا إليه ، من كونه ذاتا سواه ، لوجب أن يكون آلة له في الإنزال ، كما يقال : كتبت بالقلم ، وعمل النجار بالقدوم (4) ، ولا خلاف أن العلم ليس بآلة في الإنزال .
______________________________
1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 241-244 .
2. [بالعقل] .
3. أي زائدا على الذات .
4. القدوم : آلة للنحت والنجر .
{ إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ والنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وإِسْماعِيلَ وإِسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأَسْباطِ وعِيسى وأَيُّوبَ ويُونُسَ وهارُونَ وسُلَيْمانَ وآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً } . الأسباط واحدها سبط ، وسبط الرجل ولد ولده ، والمراد بالأسباط هنا الاثنا عشر سبطا من اثني عشر ابنا ليعقوب بن اسحق بن إبراهيم ، والزبور الكتاب بمعنى المكتوب ، والمراد بالوحي إلى الأسباط الوحي إلى الأنبياء منهم ، لا الوحي إليهم جميعا .
وهذه الآية وما بعدها تتصل بالآيات السابقة ، ووجه الصلة ان اللَّه سبحانه حكى فيما تقدم عن أهل الكتاب انهم يؤمنون بفكرة النبوة من حيث هي ، ويعترفون بأن للَّه رسلا ، ولكنهم لا يعترفون بهم جميعا ، بل يؤمنون ببعض ، ويكفرون ببعض ، ومحمد من هذا البعض الذين كفروا بنبوتهم ، وبيّن سبحانه هناك ان من كفر بنبوة واحد من أنبيائه فهو كمن كفر باللَّه ، وان الإيمان الصحيح هو الإيمان باللَّه واليوم الآخر ، وملائكته وجميع كتبه ورسله .
ثم قرر سبحانه في الآية التي نفسرها وما بعدها ان من اعترف بمبدأ النبوة من حيث هو ، وآمن بنبوة واحد كائنا من كان يلزمه قهرا ان يؤمن بنبوة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، لأن اللَّه سبحانه قد أوحى إليه كما أوحى إلى غيره من الأنبياء ، وأظهر على يده المعجزات كما أظهر على يد غيره « وما حصل به الاتفاق لا يكون سببا للافتراق » ومن جزأ وفرق فقد فرق بين الشيء ونفسه .
{ ورُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ورُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } . بعد أن ذكر سبحانه جملة من أسماء الرسل في الآية السابقة قال لنبيه الأكرم : وهناك أيضا غير هؤلاء من الرسل قصصنا عليك البعض منهم قبل تنزيل هذه السورة ، والبعض الآخر لم نقصصهم عليك . . وجاء في تفسير المنار ان أجمع الآيات لأسماء الأنبياء الآية 84 من سورة الأنعام : { ووَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ويَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا ونُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ومِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وسُلَيْمانَ وأَيُّوبَ ويُوسُفَ ومُوسى وهارُونَ وكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وزَكَرِيَّا ويَحْيى وعِيسى وإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وإِسْماعِيلَ والْيَسَعَ ويُونُسَ ولُوطاً وكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ } . ومنهم هود وصالح وشعيب ، وهم من العرب » .
قال سبحانه : { ورُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } دون أن يشير إلى عدد الذين لم يذكرهم لنبيه ، ولكن أهل الفضول أبوا إلا الإحصاء ، وهم فيه بين إفراط وتفريط ، فمن قائل : ثلاثمائة وثلاثة عشر . وقائل : ألف ألف وأربعمائة وأربعة وعشرون ألفا . وثالث : ثمانية آلاف نصفهم من بني إسرائيل . ورابع : مائة وأربعة وعشرون ألفا . وكل هذه الأقوال وغيرها رجم بالغيب ، والصحيح ان اللَّه أعلم بعدتهم وهويتهم .
هل الأنبياء كلهم شرقيون ؟
وهنا تساؤل يعرض لكل إنسان ، وهو : هل الأنبياء كلهم شرقيون ، ولا غربي واحد منهم ؟ . وإذا كانوا كلهم من الشرق ، فهل فيهم من الصين واليابان والهند ، وما إليها من بلاد الشرق الأقصى ؟ . ثم على فرض ان جميع الأنبياء شرقيون ، فكيف تجمع بين هذا ، وبين المبدأ القائل : ان اللَّه لا يترك الناس سدى ، وان حكمته ورحمته تقتضي أن يرسل إليهم جميعا رسلا « مبشرين ومنذرين » يذكرونهم ويبصرونهم لئلا يكون لهم على اللَّه حجة ؟ وهل يقبل هذا المبدأ التخصيص بشعب ، دون شعب ، وبجنس ، دون جنس ؟ .
الجواب : ان هذا المبدأ الذي يقول : ان اللَّه لا يترك الناس سدى ، وانه لا بد أن يلقي الحجة عليهم قبل الحساب والعقاب هو مبدأ عام لا يقبل التخصيص بأرض شرقية ، ولا غربية ، ولا بجنس أبيض أو أصفر أو أسود . . ولكن الحجة لا تنحصر بوجود النبي بذاته في كل بلد ، وفي كل جيل ، بل تكون به ، أو بكتاب منزل ، أو بشريعة إلهية يقوم عليها نواب عن النبي ، حتى إذا توفاه اللَّه بقيت الحجة من بعده قائمة بين الناس ، قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الخطبة الأولى من نهج البلاغة : « لم يخل سبحانه خلقه من نبي مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجة لازمة ، أو محجة قائمة » . والحجة النائب عن النبي ، والمحجة الشريعة التي أتى بها من عند اللَّه ، فكل واحد من هذه الأربعة منفردا أو منضما إلى نظيره تقوم به الحجة للَّه على الناس .
وبهذا نجد تفسير الآية 36 من سورة النحل : { ولَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهً واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } . والآية 35 من سورة فاطر : { وإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ } . والآية 41 من النساء : { فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً } . فالمراد بالرسول في الآية الأولى ، وبالنذير في الثانية ، وبالشهيد في الثالثة - واحد من الأربعة : الرسول بشخصه أو نائبه أو الكتاب المنزل أو الشريعة القائمة ، ومعلوم ان الثلاثة الأخيرة تنتهي إلى النبي ، ولهذا صح إسناد الشهادة وما إليها إلى النبي .
وهنا سؤال يفرض نفسه ، وهو : لما ذا لم تذكر العقل مع ما ذكرت من الحجج ، مع ان اللَّه يحتج به كما يحتج بالنبي ؟ .
الجواب : ان العقل حجة ما في ذلك ريب ، ولكنه حجة مستقلة في معرفة وجود اللَّه ، أما فيما عداها كمعرفة اليوم الآخر ، وحلال اللَّه وحرامه فإنه يحتاج إلى موقظ ومنبه يرشده إليها ، ويرسم له المنهج الصحيح لإدراكها ، فوظيفة العقل في هذا الميدان الذي نحن بصدده هي أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول من موجبات الإيمان ، ودلائل الهدى إلى خير الدنيا والآخرة ، ومتى فهم عن الرسول أقر وأذعن من غير تردد .
وبعد هذا التمهيد الذي لا بد منه لمعرفة موضوعنا نعود إلى السؤال : هل كل الأنبياء شرقيون ؟ ونجيب : كلا ، وإذا لم تصل إلينا أخبار المرسلين لأمم الغرب ، وبعض أمم الشرق فليس معنى هذا ان اللَّه لم يرسل إليهم أحدا منهم . .
وأيضا ليس من الضروري لإلقاء الحجة على أهل الغرب أن يكون الرسول منهم وفيهم ، بل قد يكون شرقيا ، ومع ذلك تعم رسالته الشرق والغرب ، ويكون التبليغ بواسطة خلفائه والمندوبين عنه أو عنهم ، كما هو الشأن في محمد ( صلى الله عليه وآله ) الذي خاطبه اللَّه بقوله : { وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً ونَذِيراً ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ - 28 ] . وبقوله : { وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} [الأنبياء - 107 ] وقد أشارت بعض الكتب الدينية الموغلة في القدم إلى ان رسالة محمد ( صلى الله عليه وآله ) عامة وانها رحمة للعالمين ، وفوق ذلك ذكرت اسم أبي لهب بالحرف ونصبه العداء لرسول اللَّه ( صلى الله عليه وآله ) ، قال عبد الحق فديارتي في كتاب محمد في الأسفار الدينية العالمية :
« ان اسم الرسول العربي مكتوب بلفظه العربي احمد في « السامافيدا » من كتب البراهمة . وقد ورد في الفقرة السادسة والفقرة الثامنة من الجزء الثاني ، ونصها ان أحمد تلقى الشريعة من ربه ، وهي مملوءة بالحكمة . . وان وصف الكعبة ثابت في كتاب « الآثار فافيدا » وانه قد جاء في كتاب « زندافستا » الذي اشتهر باسم الكتاب المقدس في المجوسية ، جاء الإخبار عن نبي يوصف بأنه رحمة للعالمين يدعو إلى إله واحد لم يكن له كفؤا أحد ، ويتصدى له عدو يسمى أبو لهب » (2) .
ومحال أن يصدر هذا الإخبار من غير الخالق . . انه وحي من اللَّه إلى نبي من أنبيائه ، ما في ذلك ريب . . وإلا فمن الذي يتنبأ ويصدق في نبوته انه بعد آلاف السنين أو مئاتها يوجد رجل يسمى أحمد ، ويدعو إلى عبادة الواحد الأحد ، ويتصدى له عدو ، اسمه أبو لهب ؟ . . . ان في هذا الأخبار دلالة واضحة صادقة على أمرين : الأول صدق محمد في نبوته ، وعموم رسالته . الثاني ان اللَّه سبحانه قد أرسل في القديم البعيد أنبياء لم نسمع بهم ولا بقصصهم . ثم ما يدرينا ان الذين نقرأ أو نسمع عنهم باسم الحكماء كانوا من الأنبياء ، وان تعاليمهم كلها أو جلها قد درست أو حرفت ؟ .
وبعد ، فان بعثة الأنبياء للشرق والغرب موضوع هام ، ويتسع لكتاب مستقل ، أما هذه المناسبة ، وهي تفسير قوله تعالى : { ورُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } فإنها لا تتسع لأكثر مما ذكرنا ، وربما تجاوزنا ، ونرجو اللَّه سبحانه أن يتيح لهذا الموضوع العلمي النافع من يتمتع بالعلم والصبر على البحث والتنقيب .
{ وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً } . لم يذكر اللَّه سبحانه موسى مع من ذكر من الأنبياء في الآية ، وأفرد له هذه الجملة ، لأنه تعالى قد خصه بالتكليم من دونهم ، مع العلم ان الجميع قد تلقوا كلامه جل وعلا ، ولكن لتلقي لهذا الكلام صورا ذكرها جلت كلمته في الآية 51 من الشورى : {وما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} . . إذن تكلم موسى كان من وراء حجاب . . ولكن لا يعلم أحد طبيعة هذا الحجاب ، وكيف تم ، وقد سكت اللَّه عن ذلك ، فنسكت نحن عما سكت اللَّه عنه ، وعلى أية حال فان تخصيص موسى بالتكليم لا ينقص من مكانة سائر الأنبياء ، ولا يدل على انه أفضل وأكمل ، كلا ، فان إرسال الروح الأمين إلى خاتم النبيين هو أعلى المراتب وأكملها .
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .
ان قاعدة لا عقاب بلا بيان كما يعبر الفقهاء ، أو لا عقوبة بلا نص كما يقول أهل الشرائع الوضعية ، ان هذه واضحة بذاتها لا تحتاج إلى دليل ، بل هي دليل على غيرها . . وحيث ان اللَّه سبحانه لم يترك الإنسان سدى ، بل أمره ونهاه ، ولا بد من إبلاغه الأمر والنهي ، حتى تقوم عليه الحجة لو خالف ، والا كانت الحجة له فيما لا يعرف إلا بالوحي ، وحيث ان الرسل وسطاء بين اللَّه وخلقه في تبليغ أحكامه ووعده ووعيده ، لذلك أرسل اللَّه مبشرين ومنذرين لئلا يدع مجالا لاعتذارات وتعللات : { ولَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ - أي من قبل البيان - لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ ونَخْزى} [طه - 134 ] . وتكلمنا عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان في ج 1 ص 247 .
{ لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ والْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً } . الشهادة تكون بالأقوال ، وتكون بالأفعال ، كشهادة الكون بوجود المكون وقدرته ، وشهادة البذل بكرم الباذل وجوده ، وشهادة الأقدام بشجاعة المقدم وبأسه ، وهذه الشهادة أدل وأقوى من شهادة الأقوال التي يتطرق إليها الشك والريب .
ومن الشهادة بالأفعال شهادة اللَّه لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) ، حيث زوده بالدلائل والمعجزات على صدقه ، ومنها القرآن الكريم الذي أنزله اللَّه عليه بعلمه ، ومعنى ( بعلمه ) ان القرآن من علم اللَّه ، لا من علم المخلوقين الذي هو عرضة للأخطاء والأهواء ، أما شهادة الملائكة فإنها تبع لشهادة اللَّه التي تغني عن كل شهادة ، ولذا قال تعالى : { وكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً } .
وبعد ، فما من أحد إلا ويود لو صدّقه الناس فيما يقول ، ولكن العاقل لا يهتم إطلاقا ان كذّب وردّت عليه أقواله ، ما دام على يقين من صدقه . .
وهذا ما تهدف إليه الآية ، فكأن اللَّه سبحانه يقول لنبيه : لا يهمك تكذيب من كذّب بنبوتك ، وأعراض من أعرض عن دعوتك ، ما دمت عندي صادقا مصدقا . . فهذه الآية تهدف إلى ما تهدف إليه الآية 8 من فاطر : { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهً عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ } .
_________________________
1. تفسير الكاشف ، ج2 ، ص491-496 .
2. كتاب محمد في الأسفار العالمية مطبوع باللغة الإنكليزية ، ونقل عنه العقاد في كتاب العبقريات الإسلامية تحت عنوان الطوالع والنبوات ، ونقلنا نحن عن العقاد .
قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } في مقام التعليل لقوله { يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ } كما عرفت آنفا . ومحصل المعنى ـ والله أعلم ـ أنهم آمنوا بما أنزل إليك لأنا لم نؤتك أمرا مبتدعا يختص من الدعاوي والجهات بما لا يوجد عند غيرك من الأنبياء السابقين ، بل الأمر على نهج واحد لا اختلاف فيه ، فإنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ، ونوح أول نبي جاء بكتاب وشريعة ، وكما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده من آله ، وهم يعرفونهم ويعرفون كيفية بعثتهم ودعوتهم ، فمنهم من أوتي بكتاب كداود أوتي زبورا وهو وحي نبوي ، وموسى أوتي التكليم وهو وحي نبوي ، وغيرهما كإسماعيل وإسحاق ويعقوب أرسلوا بغير كتاب ، وذلك أيضا عن وحي نبوي .
ويجمع الجميع أنهم رسل مبشرون بثواب الله منذرون بعذابه ، أرسلهم الله لإتمام الحجة على الناس ببيان ما ينفعهم وما يضرهم في أخراهم ودنياهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .
قوله تعالى : { وَالْأَسْباطِ } تقدم في قوله تعالى : { وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ } : ( آل عمران : 84 ) أنهم أنبياء من ذرية يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل .
قوله تعالى : { وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً } قيل إنه بمعنى المكتوب من قولهم : زبره أي كتبه فالزبور بمعنى المزبور .
قوله تعالى : { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } أحوال ثلاثة أو الأول حال والأخيران وصفان له . وقد تقدم استيفاء البحث عن معنى إرسال الرسل وتمام الحجة من الله على الناس ، وأن العقل لا يغني وحده عن بعثة الأنبياء بالشرائع الإلهية في الكلام على قوله تعالى : { كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً } : ( سورة البقرة : 213 ) في الجزء الثاني من هذا الكتاب .
قوله تعالى : { وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً } وإذا كانت له العزة المطلقة والحكمة المطلقة استحال أن يغلبه أحد بحجة بل له الحجة البالغة ، قال تعالى : { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ } : ( الأنعام : 149 ) .
قوله تعالى : { لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ } ، استدراك آخر في معنى الاستثناء المنقطع من الرد المتعلق بسؤالهم النبي صلى الله عليه وآله تنزيل كتاب إليهم من السماء ، فإن الذي ذكر الله تعالى في رد سؤالهم بقوله { فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ } ( إلى آخر الآيات ) لازم معناه أن سؤالهم مردود إليهم ، لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله بوحي من ربه لا يغاير نوعا ما جاء به سائر النبيين من الوحي ، فمن ادعى أنه مؤمن بما جاءوا به فعليه أن يؤمن بما جاء به من غير فرق .
ثم استدرك عنه بأن الله مع ذلك يشهد بما أنزل على نبيه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا .
ومتن شهادته قوله { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } فإن مجرد النزول لا يكفي في المدعى ، لأن من أقسام النزول النزول بوحي من الشياطين ، بأن يفسد الشيطان أمر الهداية الإلهية فيضع سبيلا باطلا مكان سبيل الله الحق ، أو يخلط فيدخل شيئا من الباطل في الوحي الإلهي الحق فيختلط الأمر ، كما يشير إلى نفيه بقوله : { عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } : ( الجن : 28 ) وقال تعالى : { وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ } : ( الأنعام . 121 ) .
وبالجملة فالشهادة على مجرد النزول أو الإنزال لا يخرج الدعوى عن حال الإبهام لكن تقييده بقوله { بِعِلْمِهِ } يوضح المراد كل الوضوح ، ويفيد أن الله سبحانه أنزله إلى رسوله وهو يعلم ما ذا ينزل ، ويحيط به ويحفظه من كيد الشياطين .
وإذا كانت الشهادة على الإنزال والإنزال إنما هو بواسطة الملائكة كما يدل عليه قوله تعالى : { مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ } : ( البقرة : 97 ) وقال تعالى في وصف هذا الملك المكرم : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } : ( التكوير : 21 ) فدل على أن تحت أمره ملائكة أخرى وهم الذين ذكرهم إذ قال : { كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ } : ( عبس : 16 ) .
وبالجملة لكون الملائكة وسائط في الإنزال فهم أيضا شهداء كما أنه تعالى شهيد وكفى بالله شهيدا .
والدليل على شهادته تعالى ما أنزله في كتابه من آيات التحدي كقوله تعالى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } : ( إسراء : 88 ) وقوله { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } : ( النساء : 82 ) ، وقوله { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ } : ( يونس . 38 ) .
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج5 ، ص 120-122 .
لقد تناولت الآيات السابقة مسألة التمييز الذي مارسه اليهود بشأن الأنبياء ، حيث كانوا يؤمنون ويصدقون ببعض أنبياء الله تعالى ويكفرون بالبعض الآخر منهم .
أمّا الآيات أعلاه فهي ترد على اليهود ، وتؤكّد أنّ الله أوحى إلى نبيّه محمّدا صلى الله عليه وآله وسلم كما أنزل الوحي على أنبيائه نوح والنّبيين الذين جاؤوا من بعد نوح ، وكما أوحى إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام وأنزل الوحي على الأنبياء من أبناء يعقوب ، وعلى عيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان عليهم السلام ، وكما أنزل الله على داود عليه السلام كتاب الزّبور ، حيث تقول الآية : {إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} .
وهذه الآية تردّ على اليهود مؤكّدة على أنّ شرائع الأنبياء العظام مستقاة كلها من ينبوع الوحي الإلهي ، وإنّهم جميعا يسيرون في طريق واحد ، ولذلك لا تجوز التفرقة بينهم.
وقد تكون هذه الآية خطابا للمشركين والكفار من عرب الجاهلية ، الذين كانوا يظهرون الدهشة والعجب من نزول الوحي على نبي الإسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، فهي تردّ على هؤلاء مؤكّدة أن لا عجب في نزول الوحي على محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وقد نزل قبل ذلك على الأنبياء السابقين .
ثمّ تبيّن الآية أنّ الوحي لم يقتصر نزوله على هؤلاء الأنبياء ، بل نزل على أنبياء آخرين حكى الله قصصهم للنّبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل ، وأنبياء لم يحك الله قصصهم ، وكل هؤلاء الأنبياء أرسلهم الله إلى خلقه ، وأنزل عليهم الوحي من عنده ، تقول الآية : {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ...}.
وتبيّن هذه الآية في آخرها قضية مهمّة جدّا ، وهي أنّ الله قد كلم موسى بدل أن ينزل عليه الوحي ، فتقول : {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً ...}.
وعلى هذا الأساس فإنّ صلة الوحي ظلت باقية بين البشر ، ولم يكن من عدل الله أن يترك البشر دون مرشد أو قائد ، أو أن يتركهم دون أن يعين لهم واجباتهم وتكاليفهم ، وهو الذي بعث الأنبياء والرسل للبشر مبشرين ومنذرين ، لكي يبشروا الناس برحمته وثوابه ، وينذرونهم من عذابه وعقابه لكي يتمّ الحجة عليهم فلا يبقى لهم عذر أو حجّة ، تقول الآية : {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.
فقد أحكم الله العزيز القدير خطّة إرسال الأنبياء ونفذها بكل دقة ، وبهذا تؤكد الآية {وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً} فحكمته توجب تحقيق هذا العمل ، وقدرته تمهد السبيل إلى تنفيذه ، وعلى عكس ذلك فإن إهمال هذا الأمر المهم ، إمّا أن يدل على الافتقار إلى الحكمة والمعرفة ، أو أنّه دلالة على العجز ، والله منزّه عن كل هذه العيوب.
أمّا الآية الأخرى فهي تطمئن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوضح له أن المهم هو أنّ الله قد شهد بما أنزل عليه من كتاب ، وليس المهم أن يؤمن نفر من هؤلاء بهذا الكتاب أو يكفروا به ـ فتؤكد الآية في هذا المجال ـ {لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ}.
ولم يكن اختيار الله لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم لمنصب النّبوة أمرا عبثا ـ والعياذ بالله ـ بل كان هذا الإختيار نابعا من علم الله بما كان يتمتع به النّبي من لياقة وكفاءة لهذا المنصب العظيم ، ولنزول آيات الله عليه ـ حيث تقول الآية : {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} .
ويمكن ـ أيضا ـ أن تشمل هذه الآية معنى آخر ، وهو أن ما نزل على النّبي صلى الله عليه وآله وسلم من آيات إنّما ينبع من بحر علم الله اللامتناهي ، وإن محتوى هذه الآيات يعتبر دليلا واضحا على أنّها نابعة من علم الله ـ وعلى هذا الأساس فإن الشاهد على صدق ادعاء النّبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الآيات القرآنية ، ولا يحتاج إلى دليل آخر لإثبات دعوته ، فلو لم يكن محمّد صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى الوحي من قبل الله سبحانه وتعالى لما أمكنه أبدا ـ وهو المعروف بالأمي ـ أن يأتي بكتاب كالقرآن يشتمل على أرفع وأسمى التعاليم والفلسفات والقوانين والمبادئ الأخلاقية والبرامج الاجتماعية .
والقرآن الكريم يؤكّد أن ليس الله وحده الذي يشهد بأن دعوة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم هي الحق، بل يشهد معه ملائكته بأحقّية هذه الدعوة ، مع أن شهادة الله كافية وحدها في هذا المجال تقول الآية الكريمة : {وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً} .
__________________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 373-375 .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
العتبة الحسينية تطلق فعاليات المخيم القرآني الثالث في جامعة البصرة
|
|
|