أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-11-2016
900
التاريخ: 14-11-2016
1117
التاريخ: 14-11-2016
1051
التاريخ: 2023-12-13
1779
|
بدأت عهود الملكية في سبأ باتخاذ كرب إيل وتر الثاني لقب الملك عوضًا عن لقب المكرب، أو إلى جانبه، في حوالي عام 410 ق. م. كما يعتقد أصحاب التاريخ المختصر (ومنهم ألبرايت وفون فيسمان) بعد أن أحرز لدولته توسعًا كبيرًا على حساب جيرانها. ويبدو أن الرجل قد انصرف بعد انتصاراته إلى توطيد الأمن في أرجاء دولته الجديدة الواسعة عن طريق إعادة تعمير المدن المعينية والأوسانية الخاضعة له وإسكان جماعات من السبأيين فيها، وإعادة تحصينها بعد أن اطمأن إلى موالاتها له. ثم عن طريق مواصلة سياسية أسلافه العمرانية والاقتصادية في الاهتمام بمشروعات الري وما إليها.
ولما كان الرجل قد ادعى أو اقتنع بأن معبود دولته الأكبر إلمقه هو الذي أيده في مشروعاته وتخيره ملكًا أو صيره ملكًا كما أسلفنا من قبل، فقد ترتب على هذا أن ازداد شأن إلمقه بازدياد شأن ممثله على الأرض كرب إيل وتر، وزادت معابده في حواضر الدولة كما انتشرت عبادته في البلاد التابعة لها. وزادت الأوقاف المرصودة عليها من أهلها وأتباعها على حد سواء، ومعها ضمنيًا بقية معبودات سبأ الأخرى.
وتوسعت سبأ في عصرها الملكي فيما كانت قد بدأت به من نظم في عهود المكربيين كما تقبلت بعض عناصر الحضارة وبعض التسميات التي أخذت بها الدول الجنوبية الأخرى، الصديقة منها والمنافسة والخاضعة في آن واحد.
وهناك نظرية جديدة تفترض أن بعض النصوص السبأية أخذت تؤرخ أحداثها منذ عهود أواخر المكربين بنيابة عظيم ذي صفة دينية يتلقب بلقب رشو ويجمع إلى كهانته للمعبود عثتر شيئًا من الإشراف على شئون الري والزراعة. ويرى صاحب هذه النظرية أن النيابة قد انتظم أمرها في عهود الملكية وأصبحت تحتسب لكبار أفراد ثلاث أسر كبيرة وهي أسرة حزفر كبير خليل. وأسرة حذمة. وأسرة فضحم. وكان هؤلاء يتعاقبون ولدًا عن والد بعد كل دورة ثلاثية من الأسر الثلاث. وتستمر نيابة كل منهم ست سنوات أو سبعًا، باستثناء مرة واحدة استمرت لتسع سنوات.
وتلقب الولاة بلقب كبر (وهو لقب كان له ما يشبهه في معين وقتبان). وتسمى مجلسهم باسم مشد (وهو مسد أو مسود في معين وقتبان أيضًا). وتلقب ولاة سبئيون آخرون بلقب قين وإذا زادت منزلة أحدهم لقب بلقب أكبر أقيم أو أكبر أقين بمعنى أكبر الأقيان أو الأقيال. وإلى جانب لقب مود بمعنى صديق أو نديم (للملك في البلاط السبأي - ظهر أيضًا لقب حرج ويبدو أنه كان يخص المشرف على المنشآت الحكومية.
ويمكن أن يرد إلى العصر الملكي في سبأ إنشاء بعض العناصر المعمارية الراقية في معبد أوام إلى الجنوب الشرقي من مأرب والذي أشرنا من قبل إلى بداية إنشائه في عهود المكربين. وهو معبد ذو محيط بيضاوي امتد قطره الطويل نحو مائة متر وامتد قطره القصير ما بين 71 إلى 75متر. وبلغ الارتفاع الحالي. لبعض جدرانه الباقية نحو تسعة أمتار. وبلغ سمك بعض أجزاء جداره الخلفي نحو أربعة أمتار وإن امتلأ داخله بالرديم وكسر الأحجار.
ولم يتميز هذا البناء بضخامته فقط وإنما تميز كذلك بفخامته، ولهذا فما من بأس في استعراض بعض أجزائه كنموذج لفن العمارة السبأية في أيامه.
تقدمت هذا المعبد صفة أو سقيفة يحمل سقفها صف من ثمانية أعمدة حجرية، كل منها حجر واحد قائم يبلغ ارتفاعه نحو 7.65. ويتلوها مدخل ذو صرحين مرتفعين يؤدي إلى بهو ضخم حفت بصفاته الداخلية وحملت سقوفها أعمدة حجرية كبيرة بقيت بعض أجزائها، وكانت تبلغ 32 عمودًا. وشكلت في الجدران الداخلية لهذا البهو 64 نافذة حجرية وهمية متتابعة قلد بناؤها في أحجارها هيئة النوافذ الخشبية الشبكية في إتقان بارع.
ويفترض مكتشفوا المعبد أن واجهة المدخل المؤدي إلى هذا البهو وأخشاب بابه بل وأرضيته ودرجات سلمه الرئيسي كانت مكسوة في بعض مواضعها بصفائح عريضة من البرونز تعبيرًا عن الثراء. ويعتقد أحدهم (جام) أن الدرج المؤدي إليه كانت تتوسطه نافورة تصب ماءها في حوض برونزي كبير يواجه المدخل. بينما يفترض غيره (ألبرايت) وجود خزان ماء فوق صرحي المدخل كان يملأ من بئر في داخل المعبد، ثم تجري مياهه في مجار تمر خلال أرضية المعبد لتصب في الحوض البرونزي الكبير ثم يعاد توزيعها مرة أخرى في الأغراض التي خصصت من أجلها.
وعثر في المعبد وعلى جوانب مدخل البهو خاصة على عدد كبير من النصب الحجرية المنقوشة وعدد كبير آخر من التماثيل البرونزية الصغيرة والكبيرة مثلت أصحابها الأثرياء. ونقشت على هذه وتلك عبارات التعبد والإهداء إلى إلمقه صاحب معبد أوام. وقلدت بعض النماذج الطبية منها أساليب الفن الفينيقي والفن الهيلينستي.
وما من شك في أن الصورة الإجمالية التي صورها مكتشفو مدخل هذا المعبد. والتي قدمنا جزءًا منها. تدل على ما كانت عليه بقيته التي لم تكتشف حتى الآن من روعة وفخامة. وتدل بالتالي على ثراء العهود التي بني فيها وهي عهود أسلفنا أن أقدمها يرجع إلى عهود المكربين وأن أوسطها يرجع إلى العصر الملكي السبأي منذ بداية القرن الرابع ق. م. بينما يرجع أحدثها إلى القرن الأول الميلادي. وتخرب المعبد في أواخر العصور السبأية وقام مصنع في صفته الغربية. كما استخدم سورًا لمنطقته حين قل سكانها بعد أن تخرب سد مأرب. وتناثرت حوله المقابر والمساكن، ثم تحول إلى حصن في العصور الإسلامية.
وتوفر لبقية معابد سبأ ما توفر في غيرها من طقوس وثروات وممتلكات بما يتناسب مع قدرات منشئها ومدى أهمية المناطق التي نشأت فيها. وانتفع أغلبها باعتقاد أتباعها في التنبؤات (وهي رجم بالغيب) عن طريق وسطاء من الكهنة. وهو ما كانوا يسمونه باسم مسأل وإلى جانب ما تتلقاه هذه المعابد من النذور والقرابين والأضاحي من الدولة. كان بعض أثرياء مريديها يسجلون على أنفسهم حججًا أو أوقافًا مع الكهنة يلتزمون فيها بأداء قرابين معينة ويتوقعون. أو يتوقع لهم الكهنة بمعنى أصح، سوء المصير أن هم تخلفوا عن أدائها.
وتقبلت سبأ من عقائد جيرانها في عصرها الملكي تسمية ذسموي أو ذوسماوي بمعنى سيد السماء. وقد ورد اسمه أصلًا ضمن نصوص عشيرة معينية قديمة خضعت للسبأيين وهي عشيرة الحنكانيين الذين نسبت إليهم مدينة حنان. وعلى الرغم من أنهم أدخلوا ذسموي هذا ضمن عقائد التعدد الفاشية بينهم إلا أن من الباحثين من يرى فيه تطورًا في تفكيرهم. وذلك على اعتبار أنه إلى جانب اعتقادهم بوجود معبود لكل كوكب كبير في السماء. جعلوا من ذسموي هذا معبودًا للسماء كلها كوحدة واحدة.
وإذا كانت هذه بعض نواحي الازدهار العمراني والإداري في سبأ في عصرها الملكي. فقد مرت في أواخر هذا العصر بمشكلات خارجية وداخلية عدة كان عليها أن تواجهها بما يناسبها.
وترتبت أهم المشكلات الخارجية على رغبة قادة الإغريق وتجارهم في مشاركة العرب في الانتفاع بتجارة البخور والتوابل عن طريق البحر الأحمر وما يتصل به من تجارة المحيط الهندي أو احتكارها وحرمانهم منها. وأطلت هذه الرغبة برأسها منذ عهد الاسكندر الأكبر المقدوني الذى تطلع بعد أن دانت له دولة بابل حتى الخليج العربي. إلى السيطرة على تجارة تجار العرب واحتكار تجارة الهند. فأرسل في عامه الأخير ثلاثة بعثات بحرية كبيرة تجوب البحار وتتعرف على مواطن الضعف ومواطن الاستغلال في السواحل التى تحيط بشبه الجزيرة العربية. وبدأت هذه البعثات الملاحية رحلتها من الخليج العربي, ولكنها لم تتقدم كثيرًا إذ بلغت أكثرها نجاحًا (بقيادة Hieron) رأس الخيمة Maket. وقيل: إن الإسكندر أمر كذلك بخروج بعثة بحرية من مصر عن طريق البحر الأحمر. ولكنها تعثرت هي الأخرى وربما بلغت باب المندب أو لم تبلغه.
وعندما تقاسم قادة الاسكندر المقدوني حكم أقطار الشرق القديم بعد وفاته، وحينما استقر البطالمة في مصر في أواخر القرن الرابع ق. م. كان من سياستهم أن يستغلوا السواحل الطويلة المطلة على البحر الأحمر إلى أقصى الحدود. وأن يحققوا آمال الاسكندر لمصلحتهم بخطوات متئدة عملية لم يكن تأثر عرب الجنوب بنتائجها محسوسًا على درجة واحدة دائمًا. ويمكن إيجاز مراحلها الأولى فيما يلي:
أ) أرسل أحد البطالمة الأوائل ولعله بطلميوس الأول أو الثاني قائدًا من قادة البحر يدعى Ariston في بعثة بحرية استطلاعية ليتعرف على سواحل بلاد العرب وطبيعة الملاحة في بحارها. فطاف بجزء كبير منها. ولما عاد إلى الأسكندرية قدم إلى دولته تقريرًا مفصلًا عما شاهده ولاحظه في رحلته من الموانئ الشمالية والجنوبية.
ب) جددت في عصر البطالمة بعض الموانئ المصرية المطلة على البحر الأحمر وأنشئ بعض آخر. حتى تستعد لاستقبال المزيد من متاجر هذا البحر وتصديرها. (ومنها ميناء أرسينوى في نهاية خليج السويس، وميناء ميوس هرميس قرب ميناء القصير الحالية، وميناء برينيكي إلى الشرق من أسوان).
ج) العمل على تأمين السيطرة على خليج العقبة باعتباره مخرج تجارة البحر الأحمر المتجهة (برًا) إلى جنوب بلاد الشام.
د) زيادة الأساطيل البطلمية المقاتلة في البحر الأحمر لتأمين السفن والمصالح التجارية فيه. وتشجيع الوسطاء على التعامل معها. وصرفهم عن الاعتماد على نقل المتاجر بالطرق البرية التي أشرف عليها العرب الشماليون والجنوبيون في شبه الجزيرة.
هـ) تشجيع الجاليات الإغريقية التجارية على استيطان موانئ البحر الأحمر وجزره .. وقد تحدث عنها وعن بعض المواطن التي نزلت بها على الشاطئ العربي الرحالة Agatharchides في منتصف القرن الثاني ق. م. ووصلت بعض هذه الجاليات حتى جزيرة سوقطرى في البحر العربي، وشاركوا العرب والهنود في سكناها. كما شاركوهم في نقل تجارة الهند وسواحل شرق أفريقيا.
وأدت هذه الخطوات المتتابعة إلى نتيجتين مختلفتين على المدى البعيد بالنسبة لدول شبه الجزيرة العربية. فانتفع بها أهل السواحل وازدهرت تجارة موانيهم الجنوبية والجنوبية الغربية. مثل ميناء قنأ في حضر موت. وميناء عدن.
وميناء موزا، في المنطقة التي تقاسمتها كل من قتبان وأوسان وحمير (ثم ورثتها سبأ). بينما تأثرت بعض الشيء اقتصاديات الدول العربية الداخلية التى اعتمدت على استغلال قوافل الطرق البرية ولاسيما الطريق الرئيسي الممتد من جنوب شبه الجزيرة عبر الحجاز حتى العقبة وما ورائها في سيناء أو في جنوب الشام. وإن ظل تأثرها حتى المرحلة التي وقفنا عندها. محدودًا.
وكان من أكثر المستغلين لنتائج هذه التطورات قبائل حمير التي أطلت على سواحل البحر الأحمر الجنوبية الغربية. واستفادت من نشاط التجارة البحرية في موانيها لاسيما عدن وموزا (موشج) وميناء أخرى ذكرها رحالة الإغريق باسم أوكيليس.
ويبدو أن حمير كانت تمثل الفئة الحاكمة لحلف قبلي تداخل مع بعضه بدوافع المصلحة المشتركة ورابطة الدم والموقع. وقد صورتها المصادر العربية تنقسم إلى قبائل صغيرة تعيش حول لحج بناحية ظفار ورداع (أي تجاور أوسان) وتمتد شرقًا في سرو ونجد حمير. قد أسلفنا أن هذه القبائل اعترفت بسيادة دولة قتبان منذ القران الرابع ق. م بحيث أطلقت بعض النصوص على أهلها لقب "ولد عم" مثل القتبانيين، وبحيث أصبح حصنهم الرئيسي يسمى "ريدان" تقليدًا لاسم حصن ريدان القتباني. ولكن الأمور تطورت إلى مصلحة حمير بعد ازدياد النشاط البحري على سواحلها، فأخذت تعمل لصالحها.
ونشأت ظاهرة جديرة بالاعتبار ربط بعض الباحثين بينها وبين نهضة حمير. وهي أن المصادر العربية القديمة لم تنسب أحداثها إلى تاريخ ثابت (كالتاريخ الميلادي أو التاريخ الهجري الحاليين) إلا في نحو سبعة نصوص متباعدة عرفت حتى الآن. وأدت الدراسات المقارنة إلى تعيين عام البداية للتاريخ الثابت الذي ردت هذه النصوص السبعة أحداثها إليه بعام 115 ق. م (أو عام 109 ق. م). ولكن تعددت النظريات في تعيين المناسبة الهامة التي ارتبطت بها هذه البداية، ومالت أحدث هذه النظريات إلى ربطها باتحاد حمير في كيان واحد، وحلت بذلك محل نظرية أخرى سبقتها كانت تربط بينها وبين نشأة مملكة سبأ وذوريدان، الأمر الذي دعا إلى إعادة ترتيب أحداث الجنوب على أساس جديد.
وقد اتجهت حمير بقبائلها المتحدة إلى الانقلاب على دولة قتبان واستقلت عنها في القرن الأول ق. م وكانت سببًا في إضعافها، وكيف دخلت في بعض الحروب ضد دولة حضر موت، ثم أخذت تتحين الفرص لإثبات كيانها إزاء جارتها العجوز مملكة سبأ.
وكانت سبأ تشق طريقها في جهد، وعانت بعض الوقت من تضييق جارتيها قتبان ومعين، ولكنها قاومت وبدأت بمعين فقضت على استقلالها كما أسلفنا، وأسكنت مجموعات من السبأيين في بعض مدنها، ولكنها لم تنتفع طويلًا بنصرها، إذ هددها خطر خارجي ربما لم تكن تحسب حسابه.
ونعود إلى العوامل الخارجية أو المنافسات الخارجية لنجد أن خطوتها الفاصلة بدأت منذ امتد اهتمام البطالمة الأواخر من رغبة الإشراف على البحر الأحمر وتجارته إلى رغبة الإشراف على تجارة المحيط الهندي الذي كانوا يعلمون أن كثيرًا مما يأتيهم به التجار العرب من متاجر إنما يأتي عن طريقهم من الهند، فودوا أن يوجهوا سفنهم إليها دون وساطة. وسجل المؤرخون خبر واحدة من أولى الرحلات التي نجحت في تحقيق هذه الرغبة، وقد ترأسها ملاح يدعى بودوكسوس الكيزيكي Eudoxus of Cyzicus وبلغ بها الهند حوالي عام 117ق. م. وتعددت بعدها رحلات بحارة الإغريق والبطالمة وساعد على نجاحها اهتداء اليوناني هيبالوس Hipalus إلى إمكان استخدام الرياح الموسمية الجنوبية الغربية خلال الصيف (من يونيو إلى أكتوبر) في تقصير أمد الرحلة من البحر الأحمر إلى سواحل الهند في عرض المحيط مباشرة دون ضرورة إلى التزام خطوط سواحله الطويلة.
وأعقب البطالمة منافس أشد خطرًا منهم وتمثل في النفوذ الروماني في عهد الإمبراطور أوجسطوس (أو كتافيوس) الذي أصبح يسيطر على أغلب مناطق العالم القديم دون منازع منذ أواخر القرن الأول ق. م ولم يكتف أوجسطوس بالنشاط العادي الذي يقوم به أعوانه من الإغريق والرومان في تجارة الهند والبحر الأحمر. وأراد أن يقصي العرب عن هذه التجارة جملة أو يجعلهم يعملون لصالحه فيها. أو يسيطر على أرضهم بجيوشه.
وكانت الصورة البراقة المسرفة التي أشاعها الرحالة والمؤرخون الإغريق والرومان في عالمهم الغربي عن ثراء بلاد العرب مما شجع على هذه الرغبة فقد كتب الرحالة الجغرافي استرابون ما يقول إن السبأيين والجرهائيين في عصره كانوا من أكثر القبائل ثراء نتيجة لتجارتهم في المواد العطرية، ولهذا توفرت لديهم كميات كبيرة من مصنوعات الذهب والفضة كالأسرة والموائد الصغيرة والأواني والكؤوس. فضلًا عن قصورهم الرائعة التي كانت أبوابها وجدرانها وسقوفها مختلفة الألوان. يرصعون بعضها بالعاج والفضة والأحجار الكريمة... إلخ.
وليس من ضرورة بطبيعة الحال إلى تصديق هذا التصوير بحذافيره، ولكنه كان كافيًا لإثارة أطماع ساسة الرومان الطموحين إلى السيطرة والاستغلال. ولم يعدم أولئك الساسة والتجار تقديم المبررات لأطماعهم، وصور استرابون بعضها فادعى أن أهل العربية السعيدة كانوا يحصلون على أرباح باهظة من تجارتهم مع الأعراب والرومان فلا يتركون لهم ولا للبلاد التي ينقلون تجارتهم إليها مجالًا للكسب أو الثراء.
وهكذا صدر أمر الإمبراطور أوجسطوس إلى نائبه الروماني على مصر آيليوس جاللوس (Aelrus Gallus) بمهمة إرهاب العرب أو احتلال أرضهم.
فترأس جيشًا كثيفًا وانضم إليه عدد كبير من اليهود ومن الأنباط حلفاء الرومان. وخرج الجيش في عام 24 ق. م على متن أسطول كبير (قيل إنه تألف من 130 سفينة) من خليج السويس واتجه في البحر الأحمر حتى Leuke Kome ولعلها هي ميناء الحوراء أو أملج الحالية التي استغلها قوم مدين في عصورهم القديمة ثم خضعت لنفوذ الأنباط. وسلكت جيوش جاللوس بعدها سبيل البر خلال ساحل الحجاز وتهامة اليمن وخربت في طريقها مدنًا كبيرة. وعندما وصلت إلى الجنوب بدأت بتخريب مدن دولة معين القديمة التي أصبحت سبأ مسئولة عنها، وروى استرابون أن ملك نجران فر حين اقتراب قوات الرومان، وفتحت يثل أبوابها ودمر الغزاة مدن نشق ونشان وكمنة ولية وحريب وحاصروا مأرب. ولكن حملتهم باءت في نهاية أمرها بالفشل ولم تتعد مأرب، وفقدت كثيرًا من سفنها ومن رجالها.
وكان قد صحبها رجلان اهتم التاريخ بهما، استرابون الجغرافي الرحالة الذي روى أحداثها (من وجهة نظره) وكان صديقًا شخصيًا للقائد جاللوس، ثم رجل آخر اختلف الحكم عليه، وهو رجل من الأنباط ترأس قومه الذين رافقوا الحملة واعتبره الرومان دليلًا لهم على أساس خبرته بالطرق البرية في شبه الجزيرة وخبرته بطرق العرب في القتال، وقد ذكره استرابون باسم سلياؤوس وهو اسم قد يكون محرفًا عن اسم صالح أو سلي أو سلاء (يراجع عنه بعده).
ورجعت أسباب فشل حملة جاللوس إلى عدة عوامل ذكر استرابون بعضها، ومنها عدم كفاية جاللوس في قيادة البحر وتنظيم الأسطول بحيث فقد كثيرًا من سفنه قبل أن يصل بها إلى ميناء الحوراء، وإنفاقه أغلب جهده في إعداد سفن مقاتلة لم تكن لها ضرورة ملحة في حملته لأنه لم يكن من المنتظر أن يقاتله العرب في البحر. ولعله عدل لهذا إلى طريق البر وسار بجيشه في طرق صحراوية وجبلية طويلة وعرة تمتد نحو 1200 ميل من الحوراء أو أملج إلى داخل اليمن، وكان يستطيع أن يتابع طريقه في البحر ما دام قد بدأه حتى ساحل اليمن، وقلة الماء خلال حصار مأرب، وتفشى الجوع والأوبئة حولها، فضلًا عن عدم إخلاص الدليل النبطي في النصيحة للرومان.
وإذا زدنا شيئًا على تحليل استرابون فهو وضع مقاومة العرب لجيوش الرومان موضع الاعتبار في عدة معارك كانت إحداها عند نهر ذكره استرابون وقد يكون هو غيل خارد، وشدة تحصن السبأيين في عاصمتهم مأرب ومقاومتهم للحصار الروماني. وأخيرًا تفسير عدم إخلاص الدليل النبطي للرومان برغبته في الوفاء لبني عمومته العرب مما خيب آمال السادة الرومان.
ويبدو أن تجار الرومان قد وجدوا سبيلهم بعد ذلك إلى موانئ بلاد العرب الجنوبية عن طرق أخرى غير طرق الحرب، فتحالفوا كما يفهم من بعض الروايات المتأخرة مع أمير ظفار الحميري على أن يقدم لهم بعض الامتيازات الإقليمية، وربما نجحوا في أن يتركوا بميناء عدن جالية أو حامية رومانية تساعد سفنهم ضد أخطار القرصنة في البحر وتشرف على مصالحهم التجارية.
واستردت دولة سبأ كيانها بعد فشل الحملة الرومانية، وانفسح السبيل أمامها في الداخل بعد أن انكمش نشاط دولة قتبان وخسرت كيانها السياسي شيئًا فشيئًا تحت تأثير ضربات السبأيين والحضرميين والحميريين خلال القرن الأول الميلادي وبعده بقليل، كما مر بنا من قبل.
ولكن سبأ لم تنتفع بهدوئها طويلًا، وأخذت المشكلات الحدودية والداخلية تعمل عملها السيئ فيها، الأمر الذي قلل من هيبتها أمام القوتين الباقيتين في ميدان المنافسة أمامها في جنوب شبه الجزيرة وهما قوة حمير وقوة حضر موت، ثم مهد لعصر جديد من عصورها المتميزة وهو عصر ملوك سبأ وذوريدان.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|