أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-05-13
879
التاريخ: 2024-05-08
654
التاريخ: 27-9-2016
1603
التاريخ: 2024-02-01
1104
|
عصور الأهرام في الدولة القديمة:
تعرف عصور الدولة القديمة أحيانًا بتعريفين اصطلاحيين وهما: "العصور المنفية" إشارة إلى استمرار استقرار فراعنتها وحكوماتهم المركزية في مدينة منف؛ ثم "عصور بناة الأهرام العظام" كناية عن فخامة ما شيد فيها من أهرام لا تزال مفخرة لعصورها وشاهدًا على كفاية من تكفلوا بإنشائها.
الرشاقة والابتكار في عصر الأسرة الثالثة 2780 - 2680ق. م.:
بدأت عصور الدولة القديمة بعصر الأسرة الثالثة، وبدأ الحكم فيها بولاية فرعون ذكرته نصوص عهده باسم "نثررخت" وهو اسم يقرأ بتمرادفات ومعانٍ كثيرة(1)، ثم اشتهر باسم جسر أو زوسر، ربما بمعنى المقدس، واعتادت الكتب التاريخية على ترديد هذا الاسم الأخير نظرًا لشيوعه وسهولة نطقه، وسوف نجري على طريقتها في ذلك. ويغلب على الظن أن زوسر كان ولدًا للفرعون خع سخموي آخر فراعنة الأسرة الثانية من زوجة تدعى "ني ماعت حاب" ولا بأس هنا من أن نبدأ بهذه البنوة، بنوة زوسر لآخر فراعنة الأسرة الثانية؛ لنعقب عليها بما يصور بعض الأسباب التي كانت تفرق بين كل أسرة وأخرى من الأسر الفرعونية المتعاقبة، ولنجيب على تساؤل يسهل تبادره إلى الذهن، وهو: إذا صح أن زوسر كان ولدًا للفرعون خع سخموي، فما الذي دعا إلى اعتبار عهده بداية لأسرة حاكمة جديدة ولِمَ لَمْ يسلك ضمن فرعنة الأسرة الثانية التي انتسب أبوه إليها؟
سجلت بردية تورين اسم زوسر بالمداد الأحمر بين أسماء ملوك الدولة القديمة؛ تأكيدًا لتميزه وأهمية عهده. وصوره كاتب مصري من القرن الثاني عشر ق. م، مع كل من مؤسس الأسرة الخامسة ومؤسس الأسرة السادسة، باعتباره رأس أسرة حاكمة جديدة مثلهما. ثم سجل المؤرخ المصري مانيتون رأيه في الملك نفسه فاعتبره بداية لملوك منف كلهم(2). ويبدو أن المصادر التي أخذ منها هؤلاء الثلاثة، تأثرت باحتمالات أربعة وهي:
أولًا- أنه تدخل بين عهد خع سخموى وبين عهد ولده زوسر بعض المغتصبين للعرش من أبنائه الآخرين أو من بقية فروع أسرته. فإذا استرد زوسر العرش منهم أصبح في نظر قومه بداية لفرع جديد تميز به عن فروع إخوته وعن فروع أقاربه. ويزكي هذا الاحتمال أن القوائم التاريخية للملوك أضافت أسماء ملوك يتراوح عددهم بين الاثنين وبين الأربعة، بين اسم خع سخموي واسم والده، على الرغم من أنه لم يعثر لهؤلاء الملوك على آثار تدل على أهمية عهودهم أو استقرارها أو طول أمدها.
ثانيًا- كان زوسر أكثر اهتمامًا بمدينة منف، وأكثر استقرارًا فيها من الملوك الذين سبقوه، وشيد هرمه المدرج في جبانتها ففسر خلفاؤه المصريون ذلك برغبته في اختيار أرضها مقرًا لدنياه وآخرته، واعتبروه رأسًا لملوكها، ثم عبر مانيتون عن رأيهم باحتسابه رأس الملوك المنفيين.
ثالثًا- أن نجاح زوسر في تشييد هرمه المدرج، وهو أول هرم في الوجود، أظهره بين مواطنيه بمظهر المبشر ببداية عصر حضاري جديد يتميز بمظاهره عن عصر الأسرة الثانية الذي عاش أبوه فيه.
رابعًا- تضمن اسم الملكة "ني ماعت حاب" أم زوسر، اسم "حاب" وهو معبود قديم من معبودات منف، وذلك مما يحتمل معه أنها كانت من مواليد مدينته التي يقدس فيها، وأن ابنها اهتم بمسقط رأسها، وتشيع له فنسبه مواطنوه هو وفرعه إليه.
ارتبطت بعهد زوسر معالم وذكريات حضارية كثيرة، نكتفي بأن نذكر منها فيما يلي مجموعته المعمارية بسقارة، وفكرة ابتداع التقويم السنوي المدني المرتبط بدورة الشعرى والتقويم الشمسي في عهده، ثم قصة المجاعة التي تنسب أحداثها إلى أيامه.
إيمحوتب وشواهد العمارة والفن:
كان لحسن الحظ أن احتفظت الأيام باسم مهندس مجموعة زوسر المعمارية في سقارة وصاحب الفضل في تصميمها وهو إيمحوتب الذي سجل من ألقابه في عهد ملكه ألقابًا تدل على أنه كان أمينًا لأختام الوجه البحري، وتاليًا للملك أو الأول لدى الملك، وناظرًا على القصر العالي، ومهندسًا، ومسجلًا للحوليات، وكبيرًا للرائين. وكان اللقب الأخير لقبًا مميزًا لكبار كهنة مدينة عين شمس ذات الشهرة الفكرية القديمة(3).
واحتفظت أجيال المصريين بذكرى إيمحوتب قرونًا طويلة، وجعله المتعلمون في الدولة الحديثة على رأس أهل الحكمة والتعاليم، واعتبروه من رعاة المثقفين، واستحبوا أن يسكبوا قطرات من الماء من الأواني الصغيرة المتصلة بمحابرهم مع التمتمة باسمه؛ تبركًا به كلما هموا بكتابة أمر خطير. ثم زادوا فقدسوه في عصورهم المتأخرة واعتبروه ولدًا للإله بتاح رب الفن والصناعة, وأخيرًا ذكره الإغريق المتمصرون باسم إيموتس واعتبروه ربًّا للشفاء. وشاد له مريدوه على هذا الاعتبار مقصورة فوق المسطح العلوي لمعبد حاتشبسوت في الدير البحري. وشبهوه كما روى مانيتون بالمعبود الإغريقي أسخليبيوس راعي الطب والحكمة عندهم. ومجدوه لمهارته الطبية، ولمهارته في الأدب والكتابة، ولأنه كان أول من استخدم الحجر المنحوت في البناء كما قالوا. وقدسوه على هذه الاعتبارات في "أسكلبيون المجاور لمنف" وهو معبد أقاموه فوق ما ظنوه قبره القديم جنوبي السيرابيوم(4). وفي كل هذا ما يعني أن مجد الشهرة في مصر القديمة لم يقتصر على الفراعنة وحدهم، وإنما كان لبعض الأفراد الأفذاذ نصيب منه قد يزيد عن نصيب الفراعنة أحيانًا.
أشرف إيمحوتب على بناء مقبرة ملكه زوسر وتوابعها في منطقة سقارة، وأجرى فيها ثلاث محاولات كبيرة، وهي: استخدام الحجر على نطاق واسع لأول مرة في بناء الجزء العلوي من المقبرة وتوابعها، والانتقال بهيئة جزئها العلوي من شكل المصطبة المستطيلة على هيئة الهرم المدرج. ثم تقليد وتخليد خصائص العمارة النباتية واللبنية التي عرفها أسلافه، في عمارته الحجرية الجديدة(5). وبدأ بمراحل البناء الثلاث التي انتهى إليها بعض أسلافه في بناء المقابر: مصطبة وإضافتين. ولكنه بناها جميعها بالحجر وليس من اللبن كما كانت تبنى قبل عهده، ولعله تبين حينذاك أنه يستطيع أن يستعين بالحجر الذي استخدمه على نطاق واسع لأول مرة، على تنفيذ مشروع كبير يتفق مع جلال فرعونه ورخاء عهده، فعمل على زيادة إضافات حجرية جديدة جانبية مائلة، تعتمد كل إضافة منها على الأخرى، وتعتمد كلها على المبنى الأصيل للمصطبة الذي كان يزيد ارتفاعه قبل كل إضافة. وأتم ذلك في ثلاث مراحل أخرى، حتى تحولت المصطبة المدرجة القديمة إلى شكل هرمي مدرج ظهر في هيئته الأخيرة كما لو كان ذا ست درجات، بلغ ارتفاعه معها نحو ستين مترًا، وبلغ طولها من أسفل نحو 130 مترًا، وعرضها نحو مائة متر وعشرة.
احتل هرم سقارة مركزًا متوسطًا في مجموعة معمارية كبيرة أحاطت به وشغلت معه مساحة تزيد على 251 ألف متر مربع. وأحاط به وبها سور ضخم كبير بلغ ارتفاعه نحو عشرة أمتار، وبلغ سمكه في بعض مواضعه نحو ستة أمتار، وكساه المعماريون بالحجر الجيري الأبيض الأملس، وشادوا فيه نفس الدخلات الرأسية المتعاقبة التي ظهرت قبل عهده في عمارة اللبن، بعد أن زادوها في العمق والسعة بما يتناسب مع ضخامة بنائها ومادة بنائها حتى حققت لعمارتها الجديدة طابع الزخرف والفخامة كاملًا، فقللت حدة الاستقامة المطلقة في الواجهة الضخمة للسور، وسمحت تضاعيفها الداخلية بتعاقب الأضواء والظلال فيها بين الجوانب والسطوح، وقللت شدة انعكاس أشعة الشمس على واجهة السور ذي الكساء الحجري الأبيض المصقول.
وتضمنت مجموعة زوسر ست عمائر دنيوية ودينية خلاف الهرم والسور. فأطلق إيمحوتب ورجاله أيديهم في هندسة هذه العمائر وقلدوا فيها ما أرادوا تقليده وتخليد هيئته من مظاهر العمارة النباتية واللبنية القديمة. فأقاموا فيها أساطين ذات أضلاع محدبة متجاورة تقلد هيئة سيقان الغاب المحزومة ذات العقل التي استخدمها أسلافهم لرفع سقوف المباني الخفيفة القديمة. وشكلوا أساطين ذات أضلاع مقعرة متجاورة تقلد أساطين شجرية تناولها إزميل النجار القديم بالتشذيب والتجويف الخفيف. كما نحتوا أساطين ثلاثية المقطع تقلد هيئة سيقان البردي بتيجانها وأوراقها. ونحتوا أساطين أخرى نصف دائرية المقطع تقلد نباتًا اتخذه أهل الصعيد رمزًا لأرضهم في فجر تاريخهم القديم. ثم امتد التقليد إلى الأبواب والسقوف، فنحت المعماريون بإرشاد إيمحوتب أبوابًا من الحجر على هيئة الدلف الخشبية المفتوحة. وشكلوا السطوح الداخلية لبعض السقوف على هيئة فلوق النخيل ذات المقطع نصف المستدير، وجعلوا هذه الفلوق الحجرية متعاقبة الواحد منها بجانب الآخر، حتى بدت كأنما حملت سقفًا من بوص وخشب وليس من حجر.
ولم يقتصر المجهود المعماري في الهرم المدرج على جزئه العلوي وحده، وإنما امتد إلى جزئه الأسفل. فشاد المعماريون حجرة دفنه من أحجار جرانيتية ضخمة على عمق ثمانية وعشرين مترًا. ولا شك في أن نقل هذه الأحجار الجرانيتية الضخمة من محاجر أسوان أو جبال البحر الأحمر يدل على مجهود كبير بالنسبة لعصره وقطع الصناع فيما يجاور سطح حجرة الدفن سراديب وغرفًا كثيرة، كسوا بعض جدرانها بقراميد صغيرة، محدبة من القاشاني الأزرق ثبتوا كلًّا منها في ملاط جدارها بثقبين صغيرين يمر فيهما خيط من الكتان أو الجلد، ورصوا كلًّا منها إلى جوار الأخرى؛ لكي يقلدوا بها هيئة الحصير الفاخر المجدول الذي كانوا يتخذونه في البيوت ستارًا وزينة. وتضمنت سراديب الهرم وحجراته ما يزيد عن 40 ألفًا من أواني الفخار والألباستر والشست والبرشيا، حقق صناعها في تشكيلها مهارتهم التي اكتسبوها وورثوها عن أسلافهم أهل عصر بداية الأسرات، ثم زادوها دقة حتى بلغوا بصناعة بعضها حدًّا من الرقة جعل سطوحها الخارجية تكاد تكشف عن سطوحها الداخلية كأنها البللور الشفاف. وكان بعضها متاعًا وميراثًا لصاحب الهرم وأسرته، وبعضها الآخر هدايا من أقاليم دولته تقرب إليه بها كبار موظفيها. وعثر في مقابر أسرة زوسر التي غطى هرمه عليها على بقايا توابيت فاخرة من الحجر الجيري والمرمر المصري، كانت تثبت فوق قواعد حجرية تناسبها، وتعلوها أغطية مقبية. ووجدت معها قطع خشبية صغيرة تخلفت عن تابوت طفل، صنعت من ست طبقات متلاصقة من الخشب المضغوط ولم يزد سمكها في مجملها عن ملليمترات قليل، ثم غشيت سطوحها برقائق ذهبية ثبتت فيها بوصلات ذهبية قامت مقام المسامير.
يبدأ المدخل الرئيسي في سور مجموعة زوسر بباب مفتوح على مصراعيه كأنما يرحب بالوافدين، لولا أنه باب من حجر قلد فيه بناؤه تفاصيل الأبواب الخشبية العادية. ويفضي الباب إلى البهو الكبير وهو بهو طويل تحف به الأساطين الحجرية التي تقلد حزم الغاب، وهي أساطين دقيقة في بنائها وفي مظهرها تستند على حواجز خلفية وتتخذ هيئة انسيابية يقل قطرها من أسفل إلى أعلى، وتزينها في أعلاها حليات شكلت على هيئة أوراق الشجر العريضة المقلوبة. ويعلوها السقف ذو الجذوع الحجرية. وكانت تحلي أبواب البهو زخارف هندسية على هيئة أقواس كبيرة رشيقة دلت على يد متمكنة في رسمها ونحتها، وعلى هيئة رموز دينية تُسمى رموز "جد" وتعني معنى الدوام والاستقرار وتعتبر من رموز المعبود أوزير. وينتهي البهو بقاعة تطل على فناء الهرم الكبير وترفع سقفها ثمانية أساطين يصل بين كل أسطونين منها جدار خفيض. وكان للفرعون وحاشيته سبيل آخر حين احتفاله بعيد السد بالقرب من هرمه، فكان يسلك طريقًا قصيرة جانبية تبدأ من أول البهو وتمتد حتى فناء العيد، وهو فناء رحب واسع حفت بجانبيه مقاصير فخمة، بنيت الغربية منها بأسماء أرباب الصعيد، وشيدت الشرقية منها بأسماء أرباب الوجه البحري، أولئك الأرباب الذين تخيل أتباعهم أنه لا بد لهم من أن يشاركوا الفرعون في عيده ويباركوه فيه ويتقبلوا صلواته. وتصدرت الفناء منصة حجرية متسعة ترتفع عن الأرض بنحو المتر، ويؤدي إلى سطحها درجان في واجهتها الشرقية. وكانت تعلوها مظلتان تضم إحداهما عرش الصعيد وتضم الأخرى عرش الدلتا. وكان الفرعون يتجه في بعض مراسيم الحفل من عرشه إلى المقاصير واحدة فوحدة ويقدم في كل منها دعاء أو قربانًا يناسب إلهها، وربما اصطحب معه في كل مرة شارة تتفق مع رموز بها. ولم يتبق من مقاصير العيد غير أطلال تنم على الرغم من قلتها عن مهارة صانعيها وعن فخامة مظهرها القديم. وكانت تتصدر واجهاتها أساطين محدبة المقطع تحليها في أعلاها دلايات مشكلة في الحجر على هيئة أوراق الشجر. وتبقت فيا ثقوب كانت تثبت فيها قوائم خشبية تحمل رموز أرباب مقاصيرها. ولما كان العيد عيد الفرعون قبل كل شيء، أقيم له تمثالان كبيران على منصتين مرتفعتين في مقدمة المقاصير، وربما أن له كذلك تمثال صغير في كل مقصورة مع تمثال ربها تدليلًا على اتصال الروابط بينهما. وتبقت أجزاء متناثرة من تماثيل أخرى كان بعضها يمثل الفرعون بحجم ضخم يفوق حجمه الطبيعي بكثير، واستند بعضها إلى صفات مبينة في فناء العيد وشارك في حمل سقفها، واستند بعض آخر إلى أساطينها واعتمد عليها. ثم مثل الفرعون مع زوجته وابنتيه في مجموعة أسرية مترابطة لم يتبق من تماثيلها غير أربعة أزواج من الأقدام في المقصورة الأخيرة الغربية لفناء العيد. وجاور مباني العيد بناء صغير رشيق ذهب الاحتمال على أنه كان مخصصًا للفرعون ليستبدل فيه ملابسه وشاراته خلال أداء الطقوس وكانت للعيد مرحلة أخيرة تجري في ساحة جنوبي الهرم حددت بنصب حجرية كبيرة، ولسنا ندري تفاصيل ما كان يتم فيها، ولكن ليس من المستبعد أنها ارتبطت بصورة ما بما سمي باسم عيد الطواف وجرى الفحل.
وتعامد معبد الشعائر على واجهة الهرم الشمالية، وكان ضخمًا كثير الحجرات قلد بناؤه به هيئة قصر الفرعون في دنياه. قامت لدى مدخله حجرة مغلقة سميت اصطلاحًا باسم السرداب، واتخذت جوانبها نفس الميل الانسيابي الذي اتخذته جوانب قاعدة الهرم لتنسجم خطوطها مع خطوطه. وتضمنت في داخلها التمثال الكامل الوحيد الباقي للفرعون زوسر، وتقدمها جناحان حجريان قلدا هيئة باب مفتوح بدلفتين يستقبل ناحية الشمال، وهي نفس الناحية التي استقبلها التمثال الموجود فيها بوجهه، ونفس الناحية التي قام فيها معبد الشعائر وانفتح عليها باب الهرم. وربط أحد الآراء بين هذه المظاهر كلها وبين عقيدة مصرية آمن أصحابها بأن أرواح ملوكهم وأرواح أبرارهم تستقر في الناحية الشمالية من السماء بين النجوم الخالدة، وخرج من هذا الربط بأن تمثال الملك في سردابه لم يكن أكثر من هادٍ لروح صاحبه عندما تهبط من شمال السماء فتستهدي به ثم تتجه على معبد الشعائر لتنعم بالقرابين والدعوات المقدمة فيه نعيمًا يناسبه ويناسب العالم غير المنظور الذي تعيش فيه، وتقصد بعد ذلك حجرة دفن صاحبها. ويختلف هذا الغرض الذي خدمه تمثال زوسر عن أغراض أخرى خدمتها التماثيل في عهود تالية لعهده، حين اعتبرها أصحابها مقرًا للروح تتلبسها إذا شاءت وحين تفنى الجثة، واعتادوا على تقديم القرابين أمامها باسم صاحبها، وليس من المستبعد أيضًا تفسير اتجاه المداخل ناحية الشمال بتقليد البنائين لما جروا عليه من تفضيل الواجهة الشمالية للبيوت الدنيوية.
هذه مجرد صورة عامة لمجموعة زوسر في سقارة، يفهم منها أنها لم تكن مجرد جبانة، وإنما كانت أشبه بمدينة عامرة يطرقها أهلها في مناسبات كثيرة تتعلق بدنياهم ودينهم وموتاهم. ويسكن فيها القائمون على شعائرهم وإدارتها والمتكفلون بحراستها، ويتردد عليها الزائرون المعجبون بفخامتها وفن بنائها.
وألحقت بها مخازن غلال كبيرة لعلها استخدمت في تموين العمال والصناع أثناء بناء الهرم وتوابعه، ثم استخدمت لتموين كهنة المنطقة وموظفيها بعد ذلك.
وإذا كنا قد قدمنا لمجموعة زوسر ببعض التجديدات الفنية في أسلوب بناء أساطينها وأبوابها وسقوفها فما من بأس في أن نعقب بخصائص أخرى مبسطة تعمدها المعماريون في بنائها ونترك بقيتها لكتاب آخر عن العمارة والفنون بمعناها الصريح. ومن هذه الخصائص استخدامهم أحجارًا صغيرة الحجم والاتساع. وتشييدهم مداميك الحجر في الهرم مقوسة إلى أسفل جريًا على عادة بنائي اللبن الذين يخشون انزلاق صفوفه وتشقق الجدران لو بنوا مداميك اللبن أفقية مسطحة. وعدم إقامتهم أسطونًا بقطره كاملًا. واكتفاؤهم بإقامة الأساطين نصف أسطوانية تعتمد على واجهات مبانيها أو تعتمد على جدران نصفية ساندة. وقد يرجع هذا وذاك على ذوق فني استحبوه أو يرجع إلى أنهم وهم لا يزالون في بداية عهدهم ببناء العمائر الحجرية لم يكونوا مطمئنين تمامًا إلى استخدام الأحجار الكبيرة أو ترك الأساطين منفردة بذاتها. ومن الخصائص كذلك استمرارهم على تقليد عمارة الخشب واللبن القديمة ولو لم تكن لها ضرورة إلا إظهار البراعية واستخدامها في الزينة. فقد زخرفوا الأجزاء العليا من واجهة السور الضخم بمربعات صغيرة محفورة قليلة العمق تصل بين كل حجر والحجر الذي يعلوه، ونحتوها لغرض الزخرف أولًا وليقلدوا بها وصلات وتعاشيق العمارة الخشبية القديمة ثانيًا. وبنوا سقوفًا حجرية مقبية قلدت أقبية اللبن والنبات القديمة. وجعلوا الأطراف العليا لواجهات بعض المقاصير مائلة في جانبيها لكي يقلدوا بها هيئة أطراف أعواد الغاب وجريد النخيل التي كانت تتداخل في بناء أكواخ العبادة القديمة وأسوارها، وبدءوا بها عنصرًا معماريًّا مميزًا يطلق عليه اصطلاحًا اسم الكورنيش المصري. وزخرفوا واجهات أخرى بما يمثل عقودًا معمارية مقوسة مفتوحة. وأقاموا جدرانًا منخفضة تقلد ستائر البوص والحصير الفاخرة التي كانوا يقيمونها مقام الحواجز بين مقاصير العبادة الإقليمية ويعقدون أطرافها العليا في هيئات زخرفية لطيفة. واستعاضوا عن بعض الأركان الرأسية في واجهات مبانيهم بأركان ملفوفة تكفل التنوع المعماري وتقلل الاحتكاك والتآكل من ناحية، وتوفر المساحة إلى جانبها من ناحية أخرى، وتظهر براعة النحت من ناحية ثالثة. وشكلوا أركانًا أخرى على هيئة سيقان الغاب التي كان أجدادهم الأقدمون يدعمون بها جوانب أكواخهم النباتية ويشدون جدرانها إليها بالحبال.
وإلى هذا الحد يتضح كيف كان معماريو عصر الأسرة الثالثة فنانين ولم يكونوا مجرد بنائين، وكيف كانت مشاعرهم ذواقه وأذهانهم مشحونة بحب التنويع، ولم تكن مجرد أذهان ومشاعر آلية عملية تسير على وتيرة جامدة. وكيف كانت أيديهم تهتم بكل تفصيل كما لو كان وحدة قائمة بذاتها دون أن تكتفي بالمظهر العام بسيط التنفيذ.
لم يكن المجد الفني قاصرا على المعماريين وحدهم وإنما شاركهم فيه فنانو النقش والنحت أيضًا. ونقش الفنانون ست لوحات أسفل الهرم وأسفل مقبرة تجاوره تسمى المقبرة الجنوبية. صوروا فيها فرعونهم يؤدي طقوسًا أمام مقاصير أربابه، مشدود العضلات وافقًا متزنًا حينًا، ومسرعًا تكاد أطراف أصابعه لا تلمس الأرض حينًا آخر. وجعلوا لسطوح صوره تموجات خفيفة تعبر عن تكوين عظامه وشدة عضلاته ونحافة خصره وامتلاء شفتيه. وقد عبرت الصور عن كل ذلك بوضوح على الرغم من أنها لا تبرز عن مسطح لوحاتها بأكثر من ملليمترات قليلة. ونقشوا على قواعد بعض تماثيله عبارات وأشكالًا هيروغليفية بلغت حد الروعة في رقتها ونعومة مظهرها. وأظهر تمثال زوسر الكامل صاحبه في وقار وجدية، واكتفى المثال في نحته بالخطوط العامة، ولكنه تجاوز هذه الخطوط في تماثيله الأخرى التي أقامها في فناء العيد، فأظهر فيها إلى جانب البساطة في هيئتها العامة نصيبًا بارعًا من العناية بالتفاصيل في تمثيل جدائل العشر المستعار وتفاصيل نسيج الثياب وزخارف أهدابها، وتفاصيل الحلي ذات الوجوه الحتحورية التي تتوسطها، وتفاصيل الخرز المنظوم في شرائط الأحزمة التي كان الملك يتمنطق بها.
وسايرت فنون الأفراد في عصر الأسرة الثالثة آثار الملوك في حدود إمكانياتها. وأبرع ما بقي من نقوشها هي نقوش الكاتب العالم "حسي رع" وقد نفذها فنانوها على إحدى عشرة لوحة خشبية كست مشكاوات واجهة مقبرته. وأظهروا فيها صوره وعلامات الكتابة التي سجلوا بها ألقابه بنفس الرقة وقلة البروز وخاصية النحافة التي أظهروا بها صور الملك زوسر ونقوشه. واستعانوا بتموجات السطوح على إظهار رشاقة صاحبها وعظام خديه وترقوتيه بل أو شفافية جلد وجهه. وأنفقوا الجهد والصبر وأظهروا البراعة في تمثيل شعوره المستعارة بتفاصيل دقيقة تختلف من لوحة إلى أخرى. وشاركهم رسام بارع سجل رسومه على جدار دهليز داخلي بُني من اللبن بنفس المقبرة وكسيت واجهته بالملاط، واستخدم فيها ستة ألوان زاهية صور بها ستائر الحصير الفاخرة، ورسم أسرة ومقاعد بمساقط أفقية ورأسية وجانبية سليمة. وجمع في الشكل الواحد منها بين أكثر من مسقط واحد رغبة في إظهار خصائصها على أوضح ما تكون. وعلى أساس هذه الرغبة رسم أواني ومرايا ومغارف داخل صناديق. ولكنه رسمها بتفاصيلها واضحة ظاهرة كأنما صنعت صناديقها من مادة شفافة أو كأنما نزعت عنها جوانب صناديقها وأغطيتها(6).
وبقي من تماثيل كبار الأفراد في عصر الأسرة الثالثة نحو ثمانية تماثيل يرجع أغلبها إلى ما بعد عهد زوسر بقليل. ويمتاز الجالس منها بجلوس صاحبه على مقعد حجري بسيط يقلد مقعدًا خشبيًّا بمسند منخفض أو بغير مسند وله قوائم ملتوية من الخيزران قلدت في الحجر بالنقش البارز، وتفاوتت قيم هذه التماثيل من حيث إتقانها ونجاح النحت فيها. وأفضلها ثلاثة: اثنان لرجل يدعى سبا، والثالث لزوجته. وقد صنعها مثالها من الحجر الجيري وأظهر نسبها سليمة وأظهر تفاصيل شعورها وثيابها، ولون بعض أجزائها بألوان لا يزال باقيًا منها لون الكحل الأخضر حول العيون. ومثل عصا سبا في جسم تمثاله بما يشبه النقش البارز أو النقش المجسم(7).
__________
(1) راجع للمؤلف مناقشة أربعة منها في: حضارة مصر القديمة وآثارها - ج1 ص299.
(2) Turin Rap. III, 5; Cairo 33258 = Bifao, V, 41 F.
(3) Urk. I, 153; Firth -Quibell,, The Step Pyramis, I, Pl. 58. - وسجل له أحد أحفاده البعيدين ألقابًا أخرى نعته فيها بلقب الوزير واعتبره مدير المنشآت العامة في الصعيد والدلتا وكاهنًا مرتلًا عظيمًا، وذكر أباه باسم كانفرو وذكر أمه باسم عنخ خردو. " See, Sethe, Lmhotep 14". ولم يكن منصب الوزير قد ابتدع رسميًّا في أيام إيمحوتب.
(4) H. Schafer,Zaes, Xxxvi, 147; K. Sethe, Op. Cit. ;H. Kess, Op. Cit., 88.
(5)See, M. Firth -J. E. Quibell, the Step Pyramid, I-II, Cairo, 1935; J. P. Lader, La Pyramid A Degrees, I-III, Le Caire, 1936-39; I. E. Edwards, the Pyramid of Egypt, London, 1947, Ch. II.
(6) J. E. Quibell, Tomb of Hesy, Ciro, 1913.
(7) W. S. Smith, a History of Egyptian Sculpture and Painting, 17 F.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|