أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-9-2016
247
التاريخ: 18-9-2016
290
|
ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ».
فنقول : روى الصدوق عن الصفّار أنّه كتب إلى أبي محمّد الحسن بن علي عليه السلام في الوقف وما روى فيه عن آبائه : ، فوقّع عليه السلام : « الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاء الله » (1).
وروى الكليني عن محمّد بن يحيى ، قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمّد عليه السلام في الوقوف وما روى فيها ، فوقّع عليه السلام : « الوقوف على حسب ما يقفها أهلها إن شاء الله » (2).
والظاهر أنّها رواية واحدة ، ومراد الكليني من بعض أصحابنا هو محمّد بن الحسن الصفّار أيضا ، إلاّ أنّ في الأولى بزيادة لفظة « تكون » قبل كلمة « على حسب » ، وكلمة « يوقفها » بصيغة باب الإفعال ، وفي الثانية « يقفها » بصيغة الثلاثي ، ولعلّ الثانية أصحّ ، لما ذكره في نهاية ابن أثير : من أنّه يقال وقفت الشيء اقفه وقفا ، ولا يقال :
أوقفت ، إلاّ على لغة رديئة (3) ، وإن كان بصورة باب الإفعال في الروايات كثيرة. ولا حجّية لما في النهاية.
وروى الشيخ بإسناده عن محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه السلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روى أنّ الوقف إذا كان غير موقّت فهو باطل مردود على الورثة ، وإذا كان موقّتا فهو صحيح ممضى ، قال قوم : إنّ الموقّت الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه ، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، والذي هو غير موقّت أن يقول : هذا وقف ولم يذكر أحدا ، فما الذي يصحّ من ذلك ، وما الذي يبطل؟ فوقّع عليه السلام : « الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها إن شاء الله » (4).
بعد ثبوتها بهذه الروايات المعتبرة التي يثق الإنسان بصدورها وإن كانت مكاتيب ، لما ذكره المشايخ الثلاث في جوامعهم ، وصحّة سندها ، واعتماد جلّ الأصحاب في فتاواهم عليها واستنادهم إليها.
فنقول : الظاهر أنّه عليه السلام بعد السؤال عن الوقف وأحكامه وكيفيّته وما روي عنهم : فيه ، يجيب بصورة كبرى كلّية لهذه الأسئلة ، فيكون مفادها أنّ كلّ وقف ـ لعموم جمع المعروف بالألف واللام ـ يجب أن يعامل معه بحسب ما وقفه الواقف ، من الشروط ، والخصوصيّات ، والكيفيّات ، وما عيّنه من التصرّفات فيه ، ومن عيّنه لأن يكون ناظرا عليه.
ومعلوم أنّ مراده عليه السلام عن لزوم العمل مع الوقف على طبق جعل الواقف ـ ممّا ذكرناه ـ فيما إذا كان أصل الوقف وجميع خصوصيّاته وكيفيّته وشرائطه المجهولة مشروعة ، ولم تكن ممّا منع عنه الشارع ، مثلا : الشرط الذي شرطه الواقف في ضمن عقد الوقف يكون واجدا لشرائط صحّة الشروط.
وهكذا تدلّ هذه الجملة على أنّه لا يجوز أن يعامل مع الوقف ما ينافي حقيقته وإن لم يشترط فيه شرط أصلا.
وتوضيح هذا المعنى ـ الذي ذكرنا في المراد من هذه القاعدة ـ ببيان أمور :
الأوّل : في بيان حقيقة الوقف وشرح ماهيته؟
فنقول : عرّفه الفقهاء بأنّه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة. والظاهر أنّ هذا التعريف مأخوذ من الأحاديث والروايات المرويّة عن النبي صلى الله عليه واله وعن الأئمّة المعصومين :.
منها : ما رواه ابن أبي جمهور عن النبي صلى الله عليه واله أنّه قال : « حبس الأصل وسبل الثمرة » (5).
ومنها : ما رواه عبد الله بن عمر أنّه صلى الله عليه واله قال : « إن شئت حبست أصلها وتصدّقت بها » (6).
والمراد بكلمة « تصدّقت بها » هو التصدّق بثمرتها ، وهو عبارة أخرى عن تسبيل ثمرتها ، لأن الصدقة هو الإعطاء مجّانا بقصد القربة.
ومنها : ما تكرّر ذكره في روايات الباب عن الأئمّة المعصومين : ، وهو قولهم وتعبيرهم عن الوقف بـ « صدقة لا تباع ولا تورث » (7) تارة ، وتعبيرهم بـ « صدقة مبتولة » (8) أخرى و« بتا بتلا » (9). ثالثة ، وكلّ هذه الجمل يرجع مفادها إلى تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة.
وبعض الفقهاء بدّلوا كلمة « التسبيل » بالإطلاق ، والمراد واحد في الجميع كما هو ظاهر ، وإن كان الأقرب هو الأوّل ، بناء على أنّه من العبادات ويحتاج في وقوعه وصحّته إلى قصد القربة ، كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
وبعضهم بدّل لفظة « الثمرة » إلى المنفعة ، ولا فرق بينهما ، وقد عبّر عنه في الروايات بالصدقة ، ولكن بوصف لا تباع ولا توهب ولا تورث.
ومعلوم أنّ الصدقة المتّصفة بهذه الصفات معناها أن يكون الشيء موقوفا محبوسا عن النقل والانتقال ، وأن تكون ثمرته ومنفعته في سبيل الله ، ولفظ الوقف أيضا يفيد معنى التحبيس أو الحبس عن النقل والانتقال ، ولكن حيث أنّه ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ يعتبر في صحّة الوقف قصد القربة ، وأيضا صرف حبس المال من دون تسبيل الثمرة أو المنفعة لغو ، فلذا يكون أخصّ من مطلق الحبس ، وإلاّ فلا فرق بين أن يقال وقفته وأوقفته ووقّفته ـ بالتضعيف ـ وبين أن يقال : حبّسته وأحبسته وحبّسته بالتضعيف.
فالوقف المصطلح عند الفقهاء وعند الشرع ـ وإن كان استعماله في لسان الشرع قليلا ، ويعبّر عنه في لسان الشرع غالبا بالصدقة ، غاية الأمر مقيّدة بالعناوين التي ذكرناها ـ هو حبس الأصل وتسبيل الثمرة ، كما عرّفه الفقهاء بهذا. والمراد من التسبيل هو جعلها في سبيل الله.
وما ذكرنا كان لشرح حقيقة الوقف وماهيّته ، وإلاّ فتعاريف الفقهاء لموضوعات الأحكام غالبا تكون تعاريف لفظيّة ، تكون بالأعم تارة ، وبالأخصّ أخرى ، لا طرد ولا عكس لها.
ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ هذا المعنى الذي ذكرنا للوقف ليس أمرا تكوينيا ، كحبس إنسان ، أو حيوان في الخارج ، فإنّه لا يحصل إلاّ بأسباب خارجيّة ، بل هو اعتبار عرفي أو تشريعي لا يوجد إلاّ بالإنشاء ممّن له أهليّة هذا الإنشاء.
وإذا كان الأمر كذلك فربما يعتبر الشارع أو العرف ـ بناء على كون هذا المعنى عندهم قبل شرعنا ـ أمورا في جانب العقد والوقف والواقف والموقوف والموقوف عليه ، كما أنّه ظاهرهم الاتّفاق على لزوم كون الإنشاء بالصيغة.
ثمَّ يقع الكلام في أنّه عقد يحتاج إلى القبول ، أو لا يحتاج مع أنّه عقد ، أو لأنّه إيقاع ، وكما أنّه شرط الشارع في طرف المنشئ أن يكون عاقلا بالغا مالكا غير ممنوع التصرّف بحجر من فلس أو سفه وأمثال ذلك ، وكما أنّه شرط في جانب المنشأ أيضا أمورا نذكرها إن شاء الله تعالى.
ونبيّن هذه الأمور في ضمن مطالب :
المطلب الأوّل
في أنّ الوقف عقد يحتاج إلى القبول ، أو إيقاع :
أو عقد ولكن لا يحتاج إلى القبول القولي ، بل يكون نفس تصرّف الموقوف عليهم في العين الموقوفة وقبضهم لها قبولا فعليّا ، كما يكون الأمر كذلك في باب الجعالة بناء على أنّه عقد لا إيقاع ، بل في باب الوصيّة بناء على أنّها عقد ولا يعتبر القبول ، وإن رجّحنا نحن اعتبار القبول فيها ، وظاهر الأصحاب أنّه عقد وإن اختلفوا في اعتبار القبول فيه؟
والظاهر أنّه عقد كما هو ظاهر الأصحاب ، بل صريح جماعة ، بل جماعة منهم كالمحقّق 4 وغيره يعرفون الوقف بأنّه عقد ثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة (10).
ويحكي تعريفه بما ذكر عن القواعد (11) والتنقيح (12) وإيضاح النافع والكفاية (13).
وذلك من جهة أنّه لا ريب في أنّ الوقف حقيقة واحدة ، بمعنى أنّه ليس الوقف على الجهات كالمسجد والرباط والقنطرة حقيقة، وعلى العناوين العامّة كالفقراء والعلماء والسادات وغير ذلك من العناوين وعلى الذريّة مثلا حقيقة أخرى ، بل الوقوف في الجميع بمعنى واحد كما هو الظاهر المتبادر من استعمالاتهم.
وأيضا الظاهر بل المعلوم أنّ الوقف على العناوين العامّة أو الخاصّة تمليك لهم كما سيأتي ، وظاهر التمليك والتملّك الاختياري هو أنّه معاهدة من الطرفين ، فيكون عقدا حتّى إذا كان على الجهات العامّة كالمدارس والمساجد والقناطر والخانات والرباطات.
وأيضا صرّح جماعة ببطلانه بالردّ ، ولو كان إيقاعا لم يبطل ، وإذا كان عقدا فمقتضى الأصل هو احتياجه إلى القبول ، وهو أصالة عدم ترتّب الأثر إلاّ مع القبول.
اللهمّ إلاّ أن لا يكون القبول دخيلا في تحقّق عنوان الوقف عرفا ، فإذا تحقّق عنوانه فإطلاقه ينفي شرطيّة القبول في صحّته.
وعمدة استدلال القائلين بعدم لزوم القبول خلوّ الأخبار المشتملة على أوقاف الأئمّة المعصومين : وسيّدة نساء العالمين : عن ذكر القبول.
وفيه : أنّه يمكن أن يكون خلوّ الأخبار المشتملة على أوقافهم من ذكر القبول من جهة أنّها في مقام بيان صدور كيفيّة الوقف عنهم : لا في مقام بيان تمام سبب حصول الوقف ، فلا إطلاق لها كي يتمسّك بها ، وأيضا يمكن أن يقال باكتفاء القبول من قيّم الوقف وإن كان هو نفسه ، كما في الجواهر (14).
وأمّا التفصيل بين الوقف الخاصّ والوقف العامّ ـ كما صدر عن بعض ـ فلا وجه وجيه له أصلا، لأنّ اعتمادهم في هذا التفصيل على عدم من هو يقبل ، وجوابه إمكان قبول الحاكم أو من بحكمه.
وأمّا جريان الفضولي فيه أوّلا فمبنيّ على أنّه عقد أو إيقاع ، وأنّ الفضولي في البيع هل على القاعدة أو لأدلّة خاصّة؟ فإن قلنا إنّه إيقاع ، فالظاهر الإجماع على عدم جريان الفضولي في الإيقاعات ، وقد تقدّم أنّه ليس بإيقاع ، وقد تقرّر في محلّه أنّ صحّة معاملة الفضولي على القاعدة ، فمقتضى القاعدة جريانه فيه.
ولكن يمكن أن يقال بأنّه وإن لم يكن مانع عن جريانه فيه بمقتضى القاعدة ، إلاّ أنّه بناء على اعتبار قصد القربة فيه حال العقد وإنشائه ، فلا يحصل هذا الشرط وإن قصد الفضول القربة حال العقد ، لأنّ قصد القربة عن غير الواقف لا أثر له وإن كان بعنوان النيابة عن المالك ، خصوصا من غير استنابة المالك.
وأمّا قصد المالك حال الإجازة فغير مفيد ، لأنّ الشيء بعد وقوعه لا ينقلب عمّا وقع عليه.
نعم بناء على عدم اعتبار قصد القربة فيه ، وبناء على كونه عقدا لا إيقاعا ، وبناء على أنّ جريان الفضولي في المعاملات على القاعدة لا أنّه فقط في البيع وبالأدلّة الخاصّة ، فلا إشكال في جريان الفضولي ، فإذا وقف شخص فضولة ملك شخص وأجازه المالك الواجد لشرائط الإجازة ولكونه واقفا يصحّ ذلك الوقف ، ويكون كما صدر عن نفس المالك.
وأمّا اعتبار كونه بقصد القربة في وقوعه وتحقّقه شرعا أو لا؟
فقد اختلف الفقهاء في ذلك ، واختار العلاّمة في قواعده الاعتبار (15) ، وحكى ذلك أيضا عن الشهيد في الدروس (16) ، ويظهر من السرائر (17) والغنية (18) دعوى الإجماع على الاعتبار ، وحكى عن بعض دعوى الاشتهار بين القدماء.
ثمَّ إنّه لو لم يوجد دليل لا على اعتبار قصد القربة في تحقّقه ووقوعه ولا عدم الاعتبار ، فهل مقتضى الأصل أيّ واحد منهما؟
أقول : أمّا أصالة عدم الاعتبار الذي ذكرها في الجواهر (19) فليس لها حالة سابقة على تقدير كون العدم نعتيّا. ومثبت إن كان محموليّا.
فتكون أصالة الفساد في المعاملات والعقود محكما ، لاحتمال دخله في تحقق ماهيّة الوقف شرعا ، ومع هذا الشكّ والاحتمال لا يبقى مجال للتمسّك بإطلاقات أدلّة الوقف ، فإنّ قوله عليه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » حكم على الوقوف بعد الفراغ عن تحقّق أصل حقيقة الوقف وماهيّته بجميع ما له دخل في تلك الماهيّة عرفا أو شرعا.
نعم لو كان الوقف معنى عرفيّا كالبيع ، ويكون في نظر العرف موجودا بدون قصد القربة ، وتكون المطلقات باعتبار ما هو المفهوم منها عرفا ، فإذا احتملنا دخل شيء فيه شرعا ، ولم يدلّ دليل على اعتباره فيمكن التمسّك بالمطلق لرفع الشكّ وعدم اعتبار ما شكّ في اعتباره شرعا في تلك الماهيّة.
وعلى هذا المبنى سلك شيخنا الأعظم في التمسّك بالمطلقات في باب البيع في مكاسبه (20) ، ولكن فيما نحن فيه لا نعلم بتحقّق حقيقة الوقف ، لأنّ الوقف ليس من العناوين العرفيّة المحضة ، بل تصرّف فيها الشارع بضمّ بعض الخصوصيّات وحذف أخرى ، فليس المطلق ملقى إلى العرف بما يفهمه العرف ويكون عندهم هو الوقف.
ويكون من هذه الجهة شبيها بمفاهيم عناوين العبادات ، فإنّه هناك يصحّ التمسّك بالمطلقات بعد إحراز عنوان المطلق شرعا ، وإن احتمل دخل خصوصيّة أخرى زائدة على المسمّى ، وإلاّ لا بدّ من القول بعدم جواز التمسّك بالإطلاقات في أبواب العبادات بناء على الصحيحي ، والاكتفاء بالإطلاق المقامي في رفع الشكّ.
وأمّا الدليل على اعتبار قصد القربة في الوقف :
فمنها : الإجماع المدّعى من السرائر والغنية.
ويجيب عنه صاحب الجواهر بأنّه لم نتحقّقه ، لخلوّ كثير من عبارات الأصحاب المشتملة على بيان شرائطه عنه (21)
أقول : قد تكرّر منّا عدم صحّة التمسّك بأمثال هذه الإجماعات ـ على فرض تحقّقه ـ في إثبات الاعتبار ، وذلك من جهة معلوميّة مدرك إجماعهم واتّفاقهم ، ولا أقلّ من احتمال كون مدركهم هذه الأدلّة التي سنذكرها ، ومع وجود هذا الاحتمال فلا يبقى مجال استكشاف رأي المعصوم عليه السلام بالحدس القطعي من هذا الإجماع والاتّفاق.
ومنها : قوله عليه السلام : « لا صدقة ولا عتق إلاّ ما أريد به وجه الله عزّ وجلّ » (22).
بناء على أنّ ماهيّة الوقف من أنواع الصدقة ، فهو صدقة خاصّة ، ولذا وصفوها : في الروايات العديدة بـ « لا تباع ولا توهب ولا تورث » فيكون مفهوم الوقف أخصّ من مفهوم الصدقة ، ولذلك عبّر عنه بالصدقة في جميع أصناف الوقف.
فالصدقات على أقسام : منها : الوقف ، ومنها : الزكاة ، ومنها : غيرهما من الصدقات الواجبة والمندوبة.
وقد عبّر عن الوقف على الولد بالصدقة في بعض الروايات ، كرواية عليّ بن يقطين قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يتصدّق على بعض ولده بطرف من ماله ، ثمَّ يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده؟ قال عليه السلام : « لا بأس بذلك » (23).
واحتمال إرادة غير الوقف من الصدقة بعيد.
وخلاصة الكلام : أنّ تعبيرهم : عن الوقف بالصدقة كثير في الروايات في الأقسام المختلفة من الوقف ، في الوقف على الجهات ، وعلى العناوين ، وعلى الذريّة والأولاد ، فادّعاء أنّ النسبة بينهما عموم من وجه لا يخلو عن مجازفة.
ومنها : قوله صلى الله عليه واله في بيان الوقف على ما رواه ابن أبي جمهور في عوالي اللئالي عن النبي صلى الله عليه واله: « حبس الأصل وسبل الثمرة » حتّى أنّ أكثر الفقهاء عرّفوا الوقف بأنّه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة ، ويقول في القاموس : وسبله تسبيلا : جعله في سبيل الله تعالى (24).
فبناء على هذا المعنى يكون حقيقة الوقف عبارة عن حبس الأصل وتوقيفه عن التقلّبات في عالم الاعتبار التشريعي ، وجعل ثمرته ومنفعته في سبيل الله ، وهل مع هذا يبقى شكّ في أنّ قصد القربة داخل في حقيقة الوقف؟!.
وقال الشيخ في النهاية : وعلى كلّ حال ، فالوقف والصدقة شيء واحد ، ولا يصحّ شيء منهما إلاّ ما يتقرّب به إلى الله تعالى، فإن لم يقصد بذلك وجه الله لم يصحّ الوقف (25) ، انتهى.
وممّا ذكرنا يظهر ما في كلام صاحب الجواهر (26) من حصول القطع للفقيه بعدم اعتباره بأدنى ملاحظة فيما ذكره من الوجوه لعدم الاعتبار ، فإنّا لاحظنا في جميع ما ذكره ولم يحصل لنا الظنّ ، فضلا عن القطع.
وأمّا ما ذكره من عدم كون الوقف صدقة لعدم اعتبار الفقر فيه مع اعتباره فيها ، فلا يدلّ على عدم كونه صدقة ، لأنّه من الممكن أن تكون أصناف الصدقة مختلفة في الأحكام والآثار.
وأمّا صحّة الوقف على الكافر أو من الكافر ، فلا ينافي اعتبار القربة. أمّا على الكافر الذمّي إذا كان أحد أبويه ، لأنّه يمكن أن يتقرّب به إلى الله في إحسانه إليهم الذي أمر به الله ، بل وفي غير الأبوين من الكفّار غير الحربيّين لا ريب في حسن الإحسان إليهم ، خصوصا إذا كانوا عجزة فقراء فأيضا ممكن التقرّب إلى الله بهذا الإحسان إليهم.
وأمّا من الكافر الذمّي ، فلأنّه من الممكن أن يقصد القربة وإن لم يحصل له التقرّب.
نعم بناء على اشتراط الإيمان في صحّة العبادة يدلّ على عدم كونه عبادة منه ، لا على عدم اعتبار قصد القربة.
وأمّا ما قيل : من أنّ قوله عليه السلام : « لا صدقة ولا عتق إلاّ ما أريد به وجه الله » أنّ نفي الحقيقة مبالغة في نفي الكمال ، فنفي الحقيقة ادّعائيّ لا حقيقيّ.
فهذا الادّعاء خلاف ظاهر الكلام وما يفهمه العرف من هذه الجملة ، فظاهر « لا » النافية للجنس نفي الحقيقة حقيقة ، لا ادّعاء.
وأمّا الإشكال على الاعتبار بأنّ الوقف على الأولاد والذرّيّة بل سائر الأقارب ليس المحرّك والداعي إلى الوقف هو التقرب إلى الله ، بل الداعي إلى ذلك هو حبّه لهم والعطف عليهم. وأن لا يبقوا محتاجين وفقراء معرزين.
ففيه : أنّ حبّه لهم ليس مانعا عن قصد القربة ، لأنّ الله تبارك وتعالى أيضا يحبّ التودّد إليهم والعطف عليهم ، فالعاقل إذا علم أنّ نفي قصد التقرب بهذا الفعل يحصل كلا الأمرين : حسن حال أقربائه بنفس هذا الفعل ، وثواب الآخرة والدرجات الرفيعة بقصده القربة فيه ، فلا محالة يقصد القربة بفعله هذا.
وأمّا صدوره في بعض الأحيان عن بعض الأشخاص بدون قصد القربة ـ وصرف العطف على أقربائه من قلّة مبالاته بأمور الآخرة وثوابها وعقابها ـ فهذا ليس دليلا على عدم الاعتبار ، كما أنّ الذين لا يبالون بمخالفة أحكام الدين يراءون في عباداتهم لأغراض دنيويّة ، ولا مانع من الالتزام ببطلان وقفهم في هذه الصورة.
كما أنّه في العتق أيضا لو أعتق أحد أقربائه غير الذين ينعتقون عليه قهرا لحبّه إيّاهم لا بقصد القربة ، خصوصا إذا كان في كفّارة ، لا مانع من القول بعدم وقوع الكفّارة ، بل عدم صحّة العتق بناء على اعتبار قصد القربة ، كما هو كان ظاهر قوله عليه السلام : « لا صدقة ولا عتق إلاّ ما أريد به وجه الله تعالى ».
فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ القول بعدم اعتبار قصد القربة في الوقف لا يخلو من نظر وتأمّل ، بل الأحوط وجوبا مراعاته.
ومن جملة ما يعتبر في الوقف ـ في صحّته أو في لزومه ـ هو الإقباض ، وسنتكلّم عنه في شرائط الوقف ، وأنّه هل من شرائط صحّة الوقف أو من شرائط لزومه إن شاء الله تعالى.
ثمَّ إنّه بعد وقوع عقد الوقف مع القبول وقصد القربة من الأصيل أو الفضولي ، وأجاز المالك بناء على جريان الفضولي فيه واجدا لجميع شرائط الوقف والواقف والموقوف والموقوف عليه يكون من المنجزات ، فيكون حاله حال سائر المنجّزات في دخوله في مفاد المسألة المعروفة ، وهي أنّ منجّزات المريض الذي يموت في ذلك المرض هل مثل الوصية ، ويكون نفوذها في الزائد على الثلث منوطا بإجازة الورثة أم لا ، بل يكون من أصل التركة وليس معلّقا على إجازتهم؟
وتحقيق الحقّ والمختار في تلك المسألة موكول إلى محلّه ، والغرض ها هنا بيان أنّ الوقف بعد وقوعه وتماميّته بشرائطه يكون مثل البيع والصلح وسائر العقود المنجّزة.
وهي أمور أربعة :
[ الشرط ] الأوّل : القبض. ولا خلاف في أصل شرطيّته واعتباره في الوقف عندنا ، وإنّما الخلاف في أنّه هو شرط الصحّة أو شرط اللزوم. وتظهر ثمرة القولين في النماء.
والدليل على اعتباره في لزومه الروايات الواردة الدالة عليه :
منها : صحيح صفوان بن يحيي ، عن أبي الحسن عليه السلام قال : سألته عن الرجل يقف الضيعة ثمَّ يبدو له أن يحدث في ذلك شيئا ، فقال : « إن كان وقفها لولده ولغيرهم ثمَّ جعل لها قيّما لم يكن له أن يرجع فيها ، وإن كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها ، وإن كانوا كبارا ولم يسلمها إليهم ولم يخاصموا حتّى يحوزوها عنه فله أن يرجع فيها ، لأنّهم لا يحوزونها عنه وقد بلغوا » (27).
ومنها : ما روى عن محمّد بن جعفر الأسدي فيما ورد عليه من جواب مسائله عن محمّد بن عثمان العمري ، عن صاحب الزمان عليه السلام : « وأمّا ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا وما يجعل لنا ثمَّ يحتاج إليه صاحبه ، فكلّ ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار ، وكلّما سلم فلا خيار فيه لصاحبه ، احتاج أو لم يحتج ، افتقر إليه أو استغنى عنه. وأمّا ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلمها من قيّم يقوم فيها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومئونتها ، ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا ، فإنّ ذلك جائز لناحيتنا ، فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّما عليها ، إنّما لا يجوز ذلك لغيره » (28).
فقوله عليه السلام في رواية صفوان « لأنّهم لا يحوزونها عنه وقد بلغوا » يدلّ على أنّ علّة جواز الرجوع هو عدم حيازتهم وقبضهم للضيعة ، وهذه العلّة بمفهومها تدلّ على أنّ الحيازة والقبض موجب لعدم جواز الرجوع الذي هو من لوازم اللزوم.
وظهور هذا التعليل في هذا المفهوم عرفي ، وإنكاره مكابرة ، والفقرة السابقة على هذه الفقرة وهو قوله عليه السلام : « وإن كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع » فعلّق عليه السلام عدم جواز رجوعه الذي هو كناية عن اللزوم على الحيازة لهم ، لأنّ حيازته حيازة لهم ، لأنّه وليّ عليهم ، فيكون القبض والحيازة علّة للزوم الوقف ، وهذا منطوق الرواية.
وأمّا رواية الأسدي ، الفقرة الأولى من تلك الرواية وهي قوله عليه السلام « فكلّ ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار ، وكلما سلم فلا خيار فيه لصاحبه » إلى آخر الرواية ، فصريحة في أنّه شرط اللزوم.
بيان ذلك : أنّه حكم بالخيار في صورة عدم التسليم الذي هو بمعنى عدم الإقباض ، وحكم بعدم الخيار في صورة التسليم ـ أي الإقباض ـ ولا شكّ في أنّ عدم الخيار كناية عن اللزوم ، فعلّق اللزوم على التسليم الذي هو بمعنى الإقباض الملازم للقبض. والإنصاف أنّ ظهور هاتين الروايتين في أنّ القبض موجب للزوم لا يمكن إنكاره.
وأمّا ما ربما يقال ، بل قال بعض الأعاظم من أنّ بطلان الوقف بموت الواقف قبل إقباضه دليل على أنّ القبض شرط الصحّة لا شرط اللزوم.
ففيه : أنّه من الممكن أن يكون نفس الموت موجبا لبطلانه إن كان قبله صحيحا غير لازم. وتظهر ثمرة القولين في النماءات، فبناء على أنّه شرط اللزوم تكون النماءات من زمان وقوع العقد للموقوف عليهم ، وبناء على أنّه شرط الصحّة تكون للواقف.
وها هنا فروع لا بأس بذكرها :
الأوّل : لو مات الواقف قبل القبض بطل الوقف ، لخبر عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل تصدّق على ولد له قد أدركوا ، قال عليه السلام : « إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث ، فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ، لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره » وقال عليه السلام : « لا يرجع في الصدقة إذا تصدّق بها ابتغاء وجه الله » (29).
ودلالة الخبر على بطلان الوقف بموت الواقف واضح لا يحتاج إلى البيان ، لأنّ قوله « تصدّق على ولد له قد أدركوا » إمّا صريح في الوقف بالخصوص ، أو يشمله بالإطلاق.
واحتمال المدارك اختصاصه بالصدقة بالمعنى الأخصّ فلا يشمل الوقف ممّا لا شاهد له ، لعدم دليل على انصراف المطلق إلى أحد فرديه مع كثرة الاستعمال في الفرد الآخر أيضا.
وأمّا تأييده هذا الاحتمال بذيل الخبر « لا يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه الله » فلا وجه له أصلا ، لأنّه من المحتمل القريب أن تكون هذه الجملة بمنزلة التعليل لقوله عليه السلام : « فهو جائز » فيكون مفاده لا يرجع في الوقف إذا كان ابتغاء لوجه الله ، أو مطلق الصدقة ، وقفا كانت أو الصدقة الخاصّة ، حيث تصدّق بها ابتغاء وجه الله لا يجوز أن يرجع فيها.
هذا فيما إذا مات الواقف ، وأمّا إن مات الموقوف عليه قبل أن يقبض ، فبناء على ما اخترناه من أنّ القبض شرط اللزوم لا الصحّة ، فالوقف وقع صحيحا ولا وجه لخروجه عن ذلك. نعم للواقف أن يرجع قبل قبض الطبقة اللاحقة أو الشخص اللاحق، ولا إشكال في البين.
وأمّا بناء على أنّه شرط الصحّة ، فالصحّة التأهليّة باقية ، فإذا قبض البطن اللاحق مثلا تصير فعليّة ، وإن شكّ في بقائها فيمكن إحرازها بالاستصحاب.
وأمّا الإشكال عليه بأنّه نظير قبول غير من خوطب به ، لأنّ ظاهر الاشتراط بالقبض هو القبض ممّن كان الطرف في إجراء الصيغة.
لا وجه له ، لأنّ المفروض أنّ العقد تمَّ من الإيجاب والقبول ممّن لهما أهليّة ذلك ، وإنّما الذي بقي حسب اشتراط الشارع صحّة الوقف هو قبض طبيعة الموقوف عليه ، وقبل موت الطبقة الأولى كان مصداق الطبيعة هو ذلك الشخص في الوقف الترتيبي ، وبعد موته صارت الطبقة المتأخّرة مصداقا.
ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الوقف على عنوان عامّ ، كأولادي ـ مثلا ـ نسلا بعد نسل ، أو كان على أشخاص معيّنين ، أو على شخص معيّن ثمَّ على أشخاص معيّنين أخر ، أو ثمَّ على شخص معيّن آخر.
الثاني : في أنّه هل يشترط في تحقّق القبض الذي هو شرط صحّة الوقف أو شرط لزومه أن يكون بإذن الواقف ، أم لا؟
أقول : مقتضى القاعدة عدم الاشتراط ، خصوصا بناء على أنّه شرط اللزوم لا الصحّة ، لأنّ العقد تمَّ من الطرفين بشرائطه ، غاية الأمر اشتراط الشارع شرطا للصحّة أو اللزوم ، وشرطيّة أصل القبض معلوم.
وأمّا كونه بإذن الواقف غير معلوم ، فيكون مجرى أصالة عدم الاشتراط ، وأصالة عدم تأثير العقد بدونه ـ المعبّر عنها بأصالة الفساد في أبواب المعاملات ـ محكوم بإطلاقات أدلّة الوقف ، لأنّ الوقف تحقّق عند العرف. وهذا اعتبار آخر زائد على تحقّق حقيقة الوقف عرفا ، وإثباته يحتاج إلى دليل معتبر ، وليس في البين شيء يكون مانعا من جريان الإطلاقات.
فهذا من قبيل الشكّ في اعتبار بعض الخصوصيّات في عقد البيع شرعا بعد تحقّق ماهيّته عرفا ، كالعربيّة والماضويّة مثلا الذي قلنا بجريان إطلاقات أدلّة البيع ورفع الشكّ بها.
وأمّا الاستدلال لاعتبار اذن الواقف بقوله عليه السلام : « فكلّ ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار » بأنّه عليه السلام علّق الخيار على عدم التسليم لا عدم القبض ، فيستفاد منه اشتراط الصحّة أو اللزوم بالتسليم وإقباض الواقف ، فلا أثر لصرف قبض الموقوف عليه بدون إقباض الواقف وتسليمه.
ففيه : أنّ المراد من هذه الجملة هو وصول المال الموقوف إلى الموقوف عليه وصيرورته تحت يده ، ولذلك عبّر عنه عليه السلام في صحيح محمّد بن مسلم بقوله عليه السلام : « إذا لم يقبضوا فهو ميراث » (30).
ولا شكّ في إطلاق جملة « فإذا لم يقبضوا » وشمولها لكلتا حالتي الإذن وعدمه ، وأزيد من هذا قوله عليه السلام في صحيحة صفوان : « ولم يخاصموا حتّى يحوزوها » فإنّه يدلّ على أنّ أخذهم بالقوّة ورغما لأنف الواقف كاف في الصحّة أو اللزوم.
الثالث : هل يشترط في القبض أن يكون فورا أم لا؟
الظاهر عدم اشتراطه ، للأصل المتقدّم في الفرع السابق ، ويمكن أن يستظهر أيضا من قوله عليه السلام في صحيحة محمّد بن مسلم : « إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث ».
وإطلاقه يشمل حتّى فيما إذا كان بين العقد مدّة طويلة ، فإذا حصل القبض بعد العقد بمدّة ولكن قبل الموت بساعة مثلا فيؤثّر أثره.
الرابع : في أنّ الوقف يتمّ صحيحا ويصير لازما بقبض الطبقة الأولى ، ولا يحتاج صحّته أو لزومه بقبض الطبقة الثانية والثالثة ، وهذا لأنّه بعد ما تمَّ وصار لازما لا يخرج عن الصحّة أو اللزوم الاّ بدليل على ذلك.
نعم يبقى كلام في أنّ قبض بعض الموقوف عليهم يكفي عن قبض الآخرين ، أم لا بل يقسط ، ويكون صحيحا أو لازما بالنسبة إلى حصّة ذلك البعض فقط؟
الظاهر أنّه يحتاج إلى قبض جميع الطبقة الأولى ، ولا يكفي قبض بعضهم عن الآخرين ، أمّا أوّلا : فلأنّ ظاهر قوله عليه السلام : « إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث » أنّ اللزوم أو الصحّة متوقّف على قبض الجميع ، وكذلك قوله عليه السلام في صحيحة صفوان : « ولم يخاصموا حتّى يحوزوها ».
وثانيا : أنّ الموقوف عليه جميعهم ، فإذا كان قبض الموقوف عليه شرطا في صحّة الوقف أو في لزومه ، فيجب قبض الجميع.
إن قلت : إنّ الطبقات المتأخّرة أيضا هم الموقوف عليهم ، فبناء على هذا يجب أيضا قبضهم.
أقول : إنّ الطبقة الأولى إذا قبضوا كلّهم إمّا أن يتمّ الوقف ، فلا مجال لاشتراط قبض الباقين لحصول الصحّة أو اللزوم ، لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل المحال. وإمّا أن لا يتمّ ، فلا يتمّ إلى الأبد فيما إذا كان وراء كلّ طبقة طبقة ، وهذا شيء مستنكر ومخالف للضرورة الفقهيّة ، فلا بدّ من القول بأنّه يتمّ بقبض الطبقة الأولى ، فلا يحتاج إلى قبض سائر الطبقات.
نعم لو وقف على أولاد زيد نسلا بعد نسل ـ مثلا ـ وكان لزيد أولاد موجودين حال الوقف ، وقبضوا ، فتجدّد له أولاد أو ولد واحد مثلا ، لا يبعد أن يكون قبض الولد المتجدّد أيضا معتبرا في صحّة الوقف أو لزومه ، لأنّهم أيضا من الطبقة الأولى ، وإن كان القول بتماميّة الوقف بقبض الموجودين حال الوقف أيضا له وجه.
وأمّا الموجودين حال الوقف من الطبقة الأولى إن قبض بعضهم دون بعض ، فهل يصحّ الوقف أو يلزم في التمام ، أو لا يصحّ في التمام ، أو يصحّ بالنسبة إلى حصّة القابضين دون الباقين؟ وجوه ، والأظهر هو الوجه الأخير.
الخامس : لو وقف على أولاده نسلا بعد نسل ، وكان الموجودون كلّهم صغارا ، فلا يحتاج إلى الإقباض ، لأنّ يد الأب والجدّ الأبي يدهم ، وقبضهما قبضهم ، وهذا الحكم جار في كلّ من هو وليّ شرعا بالنسبة إلى المولى عليه بلا كلام.
نعم الذي ينبغي أن يتكلّم فيه ، هو أنّه هل يحتاج إلى القصد عن قبلهم أم لا يحتاج؟ بل حكى عن كاشف الغطاء أنّ قبض الوليّ هو قبض المولى عليه وان نوى الخلاف (31) ، مثلا لو اشترى شيئا للمولى عليه وقبضه وقصد أن لا يكون للمولى عليه ، بل لنفسه فتلف ، فليس هذا التلف من مصاديق تلف قبل القبض ، وليس ضمانه على البائع لحصول القبض بفعله له قهرا ، وإن قصد خلافه.
والظاهر : هو الأوّل ، لأنّ وقوع فعل شخص عن شخص آخر بحيث يصحّ استناده إلى ذلك الآخر ، لا بدّ وأن يكون بقصد أنّه عن قبله ، وإلاّ لا مصحّح للاستناد إليه ، بحيث أنّ يقال : إن قبض هذا الوليّ أو هذا الوكيل قبضه ، خصوصا مع قصد الخلاف.
وأمّا قوله عليه السلام في خبر عبيد بن زرارة : « فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ، لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره ».
فلا إطلاق فيه يشمل صورة عدم القصد ، لأنّ الظاهر منه أنّه لا يحتاج إلى قبض نفس المولى عليه ، إذ الوالد يلي أمره.
وأمّا كيفيّة ولايته لأمره ـ وأنّه هل مع القصد عن قبله أو بدون القصد ـ فليس في مقام بيان هذا ، فلا إطلاق لها. ومعلوم أنّ ما قلنا من كفاية قبض الولي فيما إذا كان في يده ، وأمّا إذا كان في يد غيره من غاصب ، أو آخذ بالعقد الفاسد أو غيرهما ، فيحتاج إلى قبض الولي وأخذه من يد غيره بعنوان الولاية على الموقوف عليهم.
والمراد من كونه في يد غير الوليّ خروجه عن تحت سيطرته ، فلا يضرّ كونه في يد وكيله أو من استأجر أو استودع عنه ، بحيث لا ينافي كونه عند غيره مع سيطرته عليه وكونه في يد نفسه ، كما أنّه لو كان الوقف بيد الموقوف عليهم فلا يحتاج بعد الوقف إلى قبض جديد ، بأن يستردّه الواقف ويعطيهم ويقبضهم ثانيا ، لأنّ الشرط حاصل ، فتحصيله ثانيا من قبيل تحصيل الحاصل.
نعم لو قلنا باعتبار إذن الواقف في القبض ، فيحتاج إلى الاذن في البقاء. ولا فرق في ما قلنا من كفاية كونه في يدهم وأنّه لا يحتاج إلى قبض جديد بين أن يكون يدهم يد عادية ، أو يد أمانة شرعيّة ، أو مالكيّة. ويكفي في قبض المسجد والمقبرة لكافّة المسلمين أو لطائفة خاصّة صلاة شخص واحد في الأوّل ، ودفن ميّت واحد في الثاني ، بقصد أنّه وقف المسجد في الأوّل ، وأنّه مقبرة وقف على كافّة المسلمين ، أو خصوص طائفة في الثانية.
وذلك بناء على اشتراط القبض في صحّة الوقف أو لزومه ، وقد تقدّم اعتباره ، وبناء على أنّ القبض لا بدّ وأن يكون بإذن الواقف ، فلا بدّ في تحقّق قبض المسجد بصلاة واحدة ، وقبض المقبرة بدفن رجل واحد أن تكون تلك الصلاة وذلك الدفن بإذن الواقف.
السادس : في أنّه هل يحتاج صحّة الوقف أو لزومه على القبض في الأوقاف العامّة ـ كالوقف على الجهات العامّة ، كالمساجد والقناطر والرباطات والآبار في الطرق العامّة وأمثالها ، وهكذا الوقف على العناوين العامّة ، كالعلماء والسادات والفقراء وأمثالهم ـ أم لا؟
والمشهور هو الأوّل. ويمكن أن يستدلّ له بقوله عليه السلام في صحيح صفوان : « فله أن يرجع فيها ، لأنهم لا يحوزونها » فعلّل عليه السلام جواز الرجوع بعدم حيازتهم لها ، فيستكشف من هذا التعليل أنّ حقيقة الوقف وطبيعته لا يصحّ ـ أو لا يلزم ـ إلاّ بحيازة الموقوف عليهم له.
وأمّا القول بأنّه ليس هناك في الوقف على الجهات العامّة من يقبضه. وقد تقدّم نظير هذا الكلام في اشتراط الوقف بالقبول ، وقد أجبنا عنه بأنّه إمّا أن يقبل الحاكم أو أحد مصاديق تلك العناوين.
ونقول ها هنا أيضا نظير ما تقدّم ، مضافا إلى أنّ مقتضى الأصل أيضا هو اعتبار القبض فيه ، إذ ليس عموم يتمسّك به لعدم الاعتبار.
أمّا قوله عليه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » فلما ذكرنا من أنّ هذه الجملة ناظرة إلى أحكام الوقف بعد الفراغ عن تحقّق ماهيّته ، وفيما نحن فيه من المحتمل أن يكون القبض دخيلا في تحقّق ماهيّته بناء على أنّه شرط صحّته لا لزومه.
وأمّا قوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فلاحتمال عدم كونه عقدا ، بل يكون إيقاعا ، فيكون خارجا عن موضوع عموم الآية. ولكن تقدّم أنّه عقد ، فالتمسّك لاحتياج كلّ وقف إلى القبض لصحّته أو للزومه بالروايات أولى.
وعلى تقدير لزوم القبض حتّى في الوقف على الجهات ، يكفي قبض المتولّي ، أو الحاكم ، أو أحد المسلمين ممّن كان مصداقا لتلك الجهة إن كان قبضه بعنوان أنّه مصداق لتلك الجهة ، فلو عبّر أحد المسلمين من القنطرة التي وقفها لأجل عبور المسلمين بعنوان أنّه من مصاديق هذه الجهة ، فهذا يعتبر قبضا منه لتلك القنطرة.
الشرط الثاني من شرائط الوقف الدوام. فلو قال : وقفت هذا الخان ـ مثلا ـ على الزوّار مدّة عشر سنين ، فلا يصحّ ولا يقع وقفا.
وقد ادّعى الإجماع على اعتبار هذا الشرط ، وتمسّكوا أيضا بوجوه أخر :
منها : الروايات الواردة في كيفيّة وقف الأئمّة : ومن تعبيرهم : في تلك الروايات عن أوقافهم بالصدقة التي لا تباع ولا توهب ولا تورث .
ولا شكّ أنّ نفي هذه الأمور الثلاثة معا ملازم للدوام ، بل نفي خصوص الإرث يكفي في إثبات شرطيّة الدوام لتحقّق حقيقة الوقف. مضافا إلى أنّ في بعضها : « حتّى يرثها وارث السماوات والأرض ». وفي وقف أمير المؤمنين عليه السلام داره التي كانت في بني زريق هذه العبارة مرويّة « صدقة لا تباع ولا توهب حتّى يرثها الله الذي يرث السماوات والأرض » (32).
وتقريب الاستدلال بهذه الروايات هو أنّ الصدقة أنواع ، والوقف نوع من تلك الأنواع ، فهم : لتعيين هذا النوع من بين سائر الأنواع وصفوها بهذه الأوصاف ، وقيّدوها بهذه القيود ، وليست هذه الأوصاف من الشروط الضمنيّة الخارجة عن ماهيّة الوقف ، لأنّ ظاهر هذه الروايات حسب القواعد العربيّة أنّ الصدقة هو مفعول مطلق نوعيّ ويكون قوله عليه السلام : « لا تباع ولا توهب ولا تورث » صفة معيّنة لذلك النوع.
فيكون حاصل المعنى أنّه عليه السلام يتصدّق بهذه الدار ـ مثلا ـ صدقة كذائيّة التي متّصفة بكذا وكذا ، أي : هذا النوع من الصدقة التي من آثارها وأحكامها عدم جواز بيعها ولا هبتها ولا إرثها حتّى قيام القيامة ، فعيّن الوقف وعرّفه بهذه الأوصاف.
وأمّا القول بأنّ الصدقة مصدر ، فلا يتّصف بصفات العين.
ففيه : أنّها تتّصف بها باعتبار ما يتصدّق به ، فتدلّ هذه الروايات على أنّ الدوام والتأبيد داخلان في حقيقة الوقف وماهيّته.
ومنها : أنّ الوقف من العقود المملّكة ، ومفادها تمليك الموقوف للموقوف عليه ، والتمليك لا يمكن بدون التأبيد ، فإنّ الملكيّة الموقّتة غير معهود في الشرع.
وفيه : أنّه ممنوع بكلتا مقدّمتيه : أمّا كون حقيقة الوقف تمليكا ، فمنقوض بالوقف على المساجد ، ووقف نفس المساجد ، حيث أنّ المشهور قالوا بأنّه فكّ ملك ، لا أنّه تمليك للمسلمين ، بل منقوض بجميع الأوقاف التي تقفها الملاّك على الجهات العامّة ، بل حقيقته ـ كما عرّفه أكثر القدماء ـ مأخوذ من النبوي المشهور بأنّه « تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة » .
وليس في هذه العبارة ما يفيد أنّه تمليك. وأمّا الملك الموقّت فلا مانع منه إذا دلّ الدليل عليه ، لأنّه أمر اعتباري قابل للتوقيت وللتأبيد ، فتابع للدليل واعتبار الشارع ، أو لاعتبار العقلاء.
وقد تقدّم الكلام فيه في بدل الحيلولة في قاعدة « وعلى اليد ما أخذت » من إمكان ردّه كون بدل الحيلولة ملكا موقّتا إلى زمان حصول المغصوب ، أو إمكان ، أو إلى زمان نفس الردّ. وأيضا لو وقف على زيد عشر سنين ثمَّ على الفقراء ، فملكيّة زيد عشرة سنين تكون موقّتا.
فظهر بطلان كلتا المقدّمتين ، أي : لا يكون حقيقة الوقف هو التمليك ، ولا يمتنع أيضا الملكيّة الموقّتة ، بل هو معهود من الشارع أيضا.
وقد حكى هذا الوجه لاعتبار التأبيد عن تقرير بحث شيخنا الأعظم وهو من مثله لا يخلو عن غرابة.
ومنها : أنّ الوقف عبارة عن توقيف العين الموقوفة ، وحبسه عن التقلّبات والنقل والانتقال في عالم الاعتبار التشريعي ، ومثل هذا المعنى يلائم مع التأبيد بل ينافي التوقيت.
وفيه : أنّ الحبس في عالم الاعتبار عن التقلبّات ، مثل الحبس الخارجي عن الانتقال من مكان إلى مكان ، يمكن أن يكون مؤبّدا ، ويمكن أن يكون موقّتا ، فالعمدة في دليله هو الإجماع.
ولكن فيه أنّ الإجماع أيضا يمكن أن يكون اتّكاء المجمعين على بعض هذه الوجوه المذكورة أو على جميعها ، فليس من الإجماع المصطلح الذي قلنا في الأصول بحجّيته ، ولكن مع ذلك كلّه الاتّفاق التامّ بحيث لم يوجد مخالف واحد في جميع الأعصار ممّا يوجب الاطمئنان باعتبار هذا الشرط في صحّة الوقف.
ثمَّ إنّه لو وقّت الوقف بسنة أو أكثر أو أقلّ مثلا ، فلا يقع الوقف بناء على اعتبار الدوام ، ولكن هل يكون هذا الإنشاء باطلا وبلا أثر ـ وكأنّه لم يكن ـ أو يكون حبسا يترتّب عليه آثار الحبس وأحكامه؟
وتحقيق الحقّ في هذا المقام هو أنّ الوقف والحبس إن قلنا بأنّهما مختلفتان بحسب الماهيّة والحقيقة ، فلو قصد الوقف بذلك الإنشاء فلا يقع شيء منهما ، ويكون ذلك الإنشاء لغوا وبلا أثر ، أما عدم وقوع الوقف ، لانتفاء شرط الصحّة ، وأمّا عدم وقوع الحبس ، لعدم قصده ، والعقود تابعة للقصود.
وأمّا لو قصد الحبس فعدم وقوعه وقفا واضح ، لعدم قصده ، مضافا إلى انتفاء شرطه. وأمّا وقوعه حبسا فمبنيّ على أنّ إنشاء الحبس هل يلزم أن يكون بصيغة خاصّة ، أو يصحّ وإن كان بصيغة وقفت مثلا؟
وأمّا لو يعلم أنّه قصد أيّ واحد منهما ، بعد الفراغ عن أنّه ليس في مقام أداء هذا الكلام بلا قصد ، وأيضا لم يقصد المعنى الجنسي المشترك بينهما ـ وإلاّ فمن المعلوم أنّه لو كان أحد هذين الأمرين فلا يقع شيء منهما ـ فهل التوقيت بمدّة معيّنة يكون قرينة على إرادة خصوص الحبس فتدخل المسألة حينئذ في ما ذكرنا من أنّ الحبس هل يصحّ بلفظ الوقف ، أم لا؟
الظاهر : أنّه تكون قرينة على إرادة الحبس فيما إذا يعلم باشتراط التأبيد في الوقف ، وأمّا تعين المراد ـ وأنّه قصد الحبس ولم يقصد الوقف ـ بأصالة الصحّة ، فممّا لا ينبغي احتماله.
وأمّا إذا قلنا بأنّهما حقيقة واحدة ، وكلاهما عبارة عن حبس الأصل وتسبيل الثمرة ، غاية الأمر أنّ الواقف مشروط صحّته بأن يكون حبس الأصل دائميّا حتّى يرث الله السماوات والأرض ، فيكون حبسا بلا كلام ، لأنّ المفروض أنّه لا امتياز بينهما إلاّ بالتوقيت وعدمه ، فإنّ الوقف غير موقّت والحبس موقّت ، فإذا وقّته يكون حبسا ، ويكون حال هذه المسألة حال عقد الدوام والانقطاع وعدم ذكر الأجل.
فكما أنّه هناك بناء على أنّ الزوجيّة في الدائمة والمنقطعة حقيقة واحدة ، والفارق بينهما ليس إلاّ بذكر الأجل في المنقطعة دون الدائمة ، فإذا لم يذكر الأجل وإن كان نسيانا تقع دائمة وإن قصد الانقطاع ، لأنّهما حقيقة واحدة. فكذلك ها هنا إذا لم يذكر التأبيد بل وقّته بوقت معيّن قليلا كان أو كثيرا ، فلا محالة يكون حبسا.
ويمكن أن يستدلّ لكونه حبسا أيضا بصحيحة عليّ بن مهزيار ، قلت له عليه السلام :
روى بعض مواليك عن آبائك : أنّ كلّ وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة ، وكل وقف إلى غير وقت جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة ، وأنت أعلم بقول آبائك :؟ فكتب عليه السلام : « هكذا هو عندي » (33).
وصحيح محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه السلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روي أنّ الوقف إذا كان غير موقّت فهو باطل مردود على الورثة ، وإذا كان موقّتا فهو صحيح ممضى ، قال قوم : إنّ الموقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه ، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وقال آخرون : هذا موقّت إذا ذكر أنّه لفلان وعقبه ما بقوا ، ولم يذكر في آخره للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، والذي هو غير موقّت أن يقول : هذا وقف ولم يذكر أحدا ، فما الذي يصحّ من ذلك؟ وما الذي يبطل؟ فوقّع عليه السلام: « الوقوف بحسب ما يوقفها إن شاء الله » .
أقول : ظاهر الصحيحة الأولى أنّ الوقف الموقّت بوقت معلوم صحيح ، والموقّت بوقت مجهول باطل ، فالظاهر أنّه يقع في الشقّ الأوّل وقفا صحيحا ، لا حبسا صحيحا ، ولذا استدلّ بعض بها على وقوع الموقّت المعلوم وقفا صحيحا.
اللهمّ إلاّ أن يقال بأنّ الفرق بين الوقف والحبس بصرف التأبيد والتوقيت ، فالصحيحة تدلّ على صحّته حبسا ، وإن عبّر في السؤال بلفظ الوقف.
وظاهر الصحيحة الثانية هو أنّ الواقف بأيّ كيفيّة من الكيفيّات المذكورة وقف يكون صحيحا ، لأنّ الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها ، فعلى أيّ حال كلتا الصحيحتين تدلاّن على أنّ الوقف الموقّت يقع صحيحا ، غاية الأمر إمّا وقفا وإمّا حبسا. نعم تدلّ الأولى على أنّه إذا كان جهلا مجهولا فهو باطل ، ولذلك ترى أنّ الذي يقول بأنّ الموقّت حبس صحيح والذي يقول بأنّه وقف صحيح ، كلاهما استدلاّ بهاتين الصحيحتين.
الشرط الثالث : التنجيز ، بمعنى أنّه يلزم أن ينشأ الوقف منجّزا غير معلّق على شيء ، وهذا الشرط لا اختصاص له بالوقف ، بل اعتبروه في جميع العقود ، وأنّ التعليق فيها مبطل لها.
وعمدة دليلهم على اعتبار التنجيز في العقود هو الإجماع المدعى في المقام ، وإلاّ ليس دليل عقليّ على تنافي التعليق مع العقد والعهد إذا كان التعليق في المنشأ.
وأمّا الإنشاء فلا يمكن التعليق فيه ، سواء أكان الإنشاء والإيجاد متعلقه أمرا تكوينيّا وموجودا خارجيّا أو أمرا اعتباريّا ، وذلك من جهة أنّ الإنشاء والإيجاد أمره دائر بين الوجود والعدم منجّزا ، لأنّه إن أوجد ذلك الشيء الخارجي ، والموجود التكويني في عالم الخارج ، أو الموجود الذهني في الذهن ، أو الأمر الاعتباري كالملكيّة في عالم الاعتبار فقد تحقّق الإنشاء جزما بدون أيّ تعليق في البين ، وإن لم يوجد ذلك الشيء فلم يتحقّق الإيجاد قطعا وجزما ، وعلى كلّ حال ليس تعليق في البين.
وأمّا تعليق المنشأ فلا مانع منه عقلا ، بل واقع في الشرعيّات كثيرا ، ففي الجعالة ـ مثلا ـ ينشأ الجاعل ملكيّة الجعل لكلّ من ردّ عليه ضالّته ، فالملكيّة المعلّقة على ردّ الضالّة هي التي تعلّق بها الإنشاء ، كما في قوله تعالى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72] وهكذا الحال في الوصيّة ، فهو ينشأ الملكيّة المعلّقة على موته وفي التدبير ينشأ حرّية عبده معلّقا على موته.
وكذلك في النذر ينشأ ملكيّة المنذور للمنذور له معلّقا على برء مرضه مثلا ، أو قدوم ابنه عن سفره ، وأمثال ذلك ممّا يتداول بين الناس النذر لأجله.
وهذا معنى قولهم أنّ التعليق في الإنشاء محال ، وأمّا في المنشأ فلا مانع منه عقلا ، إلاّ أنّ الإجماع قام على بطلان العقود بالتعليق في منشآتها إلاّ ما خرج بالدليل ، فيكون ذلك الدليل مخصّصا للإجماع ، كما ورد في الوصيّة والجعالة والتدبير كما عرفت (34).
وأمّا استدلال صاحب الجواهر على بطلان التعليق في العقود ، لأنّه مناف مع ظاهر أدلّة تسبيب الأسباب لترتّب آثارها عليها، (35) وذلك لأنّ ظاهرها حسب المتفاهم العرفي آثارها عليها حال وقوعها ، فإنّ ظاهر قوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ترتيب آثار العقد على كلّ واحد من العقود حال وقوع ذلك العقد ، لا أنّه يرتّب آثار البيع ـ مثلا ـ أو النكاح أو الصلح أو غيرها على تلك العقود بعد مضيّ زمان من وقوعها.
ففيه : أنّ ظواهر تلك الأدلّة هو العمل على طبق العقد أو الشرط الواقع ، ووجوب الوفاء بمضمونهما ، فإن كانا مطلقين فمطلقا ، وإن كانا معلّقين على أمر فعند حصول ذلك الأمر ، سواء أكان معلوم الحصول أو مشكوكه ، بل إن كان العقد أو الشرط معلّقا وعمل بهما قبل حصول المعلّق عليه لم يف بعقده أو بشرطه ، وعمل بخلاف ظاهر دليل ذلك العقد أو ذلك الشرط.
مضافا إلى أنّ هذا الكلام لا يأتي فيما إذا كان المعلّق عليه حاصلا حال العقد أو الشرط ، فإنّه لا يتأخّر ترتيب الأثر عنهما في تلك الصورة.
فليس في البين إلاّ الإجماع وقد عرفت في هذا الكتاب مرارا حال هذه الإجماعات وأنّ أغلبها مستند إلى أصل أو رواية ضعيفة بحسب المسند ، أو الدلالة ، أو كلاهما ، أو اعتمد المجمعون على وجوه استحسانيّة التي أشبه بالقياس من الدليل الشرعي ، مع أنّ في بعض صور التعليق اختلاف كثير بينهم.
كما إذا كان التعليق على أمر محقّق الوقوع ، أو كان معلوم الحصول حال العقد ، فالأوّل كما إذا قال : وقفت هذه الدار على الفقراء ـ مثلا ـ إن طلعت الشمس غدا. والثاني كما إذا قال : وقفت هذه الدار على زيد ـ مثلا ـ إن كان عادلا ثمَّ على الفقراء ، وعدالة زيد معلوم عنده.
الشرط الرابع : إخراجه عن نفسه ، بمعنى أن لا يكون هو الموقوف عليه ولا داخلا فيه أو شريكا معه ، فبناء على هذا لا يصحّ الوقف على نفسه.
وقد ادّعى الإجماع على اعتبار هذا الشرط تارة ، وعدم إمكان الوقف على النفس أخرى ، لأنّ حقيقة الوقف هو إمّا تمليك المنافع للموقوف عليه وحده ، وإمّا مع العين ، ولا يمكن أن يملك الإنسان نفسه ، لأنّه تحصيل الحاصل ، وهو محال.
وأجيب عن هذا الدليل بأنّ حقيقة الوقف ليس هو التمليك ، لا تمليك العين ولا تمليك المنفعة ، بل حقيقته تحبيس الأصل عن التقلّبات الاعتباريّة الواردة على المال ـ كبيعه وهبته وعتقه والصلح عليه وغيرهما ـ وتسبيل ثمرته ، وأيضا ليس التسبيل أيضا تمليك الثمرة والمنفعة ، بل إباحتها طلبا لمرضاة الله وفي سبيله ، فلا مانع عقلا من جعل نفسه موقوفا عليه أو شريكا معه.
وثالثة دلالة الروايات على عدم جواز الوقف على نفسه ، ولزوم إخراج الواقف الوقف عن نفسه :
منها : مكاتبة علي بن سليمان بن رشيد قال : كتبت إليه ـ يعني أبا الحسن عليه السلام ـ جعلت فداك ليس لي ولد ولي ضياع ورثتها عن أبي وبعضها استفدتها ولا آمن الحدثان ، فإن لم يكن لي ولد وحدث بي حدث فما ترى جعلت فداك لي أن أقف بعضها على فقراء إخواني والمستضعفين ، أو أبيعها وأتصدّق بثمنها عليهم في حياتي؟ فإني أتخوّف أن لا ينفذ الوقف بعد موتي ، فإن وقفتها في حياتي فلي أن آكل منها أيّام حياتي أم لا؟ فكتب عليه السلام : « فهمت كتابك في أمر ضياعك ، فليس لك أن تأكل منها من الصدقة ، فإن أنت أكلت منها لم تنفذ إن كان لك ورثة ، وبع وتصدّق ببعض ثمنها في حياتك ، وإن تصدّقت أمسك لنفسك ما يقوتك مثل ما صنع أمير المؤمنين عليه السلام » (36).
ومنها : خبر طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه السلام ، عن أبيه عليه السلام أنّ رجلا تصدّق بدار له وهو ساكن فيها ، فقال عليه السلام : « الحين أخرج منها » (37).
وفيه : أنّ هاتين الروايتين أجنبيّتان عمّا هو محلّ الكلام.
أما الأولى منهما : فالسؤال فيه عن جواز أكله عنها بعد وقفه على الفقراء المفروض في الرواية ، فأجاب عليه السلام بالعدم ، لأنّه صدقة ووقف على الفقراء ، وهو ليس من الموقوف عليهم ، فلا يجوز له أن يأكل منها ، وهذا المعنى غير مربوط بجواز الوقف على نفسه وعدمه.
وأمّا الثانية : فالأمر فيه أوضح ، لأنّ السؤال عن أنّ الرجل تصدّق بداره التي يسكن فيها ، وظاهر هذه العبارة أنّه تصدّق بها على غيره ، فهو ليس من الموقوف عليه ، فيجب خروجه عنها فورا ، ولذلك أمر عليه السلام به.
فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا دليل في المسألة يدلّ على عدم جواز الوقف على النفس استقلالا أو تشريكا إلاّ الإجماع ، وما ذكرنا من عدم صحّة الوقف على نفسه مستقلا أو تشريكا على فرض تسليمه فيما إذا كان الواقف بنفسه موقوفا عليه مستقلا أو تشريكا معهم.
وأمّا لو وقف على عنوان ينطبق عليه أيضا ، كعنوان الفقراء والفقهاء ، فالظاهر صحّة مثل هذا الوقف ودخوله فيهم ، وجواز أخذه من ثمرة المال الموقوف وانتفاعه بها ، وليس من قبيل الوقف على النفس ، لأنّ الموقوف عليه هي الطبيعة الكلّية ، لا الأشخاص.
ولذلك لا يملكون الثمرة إلاّ بعد الأخذ وتطبيق الطبيعة ، وذلك من جهة أنّ أخذ العنوان متعلّقا وموضوعا للوقف من قبيل القضايا الحقيقيّة ، لا من قبيل القضايا الخارجيّة.
نعم لو كان أخذ العنوان موضوعا للوقف من قبيل القضايا الخارجيّة ، بأن تكون مشيرة إلى أشخاص معيّنين وموجودين في الخارج ، والواقف أحدهم ، كما إذا قال :
وقفت داري على الجالسين تحت هذه الخيمة ، أو الساكنين في هذه الدار الساعة وهو أحدهم ، فلا يجوز ، لأنّه وقف على النفس.
ثمَّ اعلم : أنّه بعد ما تمَّ الوقف واجدا لهذه الشروط الأربعة وسائر الشروط التي نذكرها إن شاء الله تعالى يكون لازما ، ليس للواقف الرجوع إليه.
والدليل على ذلك مضافا إلى قوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقوله عليه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » الروايات الواردة في القبض ، وأنّه بعده يلزم ولا يجوز الرجوع إليه.
منها : ما تقدّم من ذيل خبر عبيد بن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه السلام : « لا يرجع في الصدقة إذا تصدّق بها ابتغاء وجه الله » .
والظاهر أنّ المراد من الصدقة في هذه الرواية هو الوقف ، ولا أقلّ من شمولها له بالإطلاق.
ومنها : غيرها ممّا تقدّم في مسألة اشتراط القبض في صحّة الوقف أو لزومه ، كصحيح صفوان ورواية العمري وعلى كلّ تقدير لا شكّ في أنّ الوقف من العقود اللازمة عندنا ، خلافا لأبي حنيفة (38).
ثمَّ إنّه بعد ما عرفت أنّ من شروط صحّة الوقف الدوام والتأبيد ، فلو وقف على من ينقرض غالبا ، كما إذا وقف على أولاده بلا فصل ، أي البطن الأوّل مثلا ، أو ولو قال بطنا بعد بطن إلى عشرة أبطن ، أو مطلقا ولكن لم يذكر عنوانا آخر كالفقراء أو الفقهاء بعدهم ، فهل يبطل فلا يقع وقفا ولا حبسا ، أو يقع حبسا فيرجع بعد انقراضهم إلى الواقف أو ورثته؟
فيه أقوال :
الأوّل : وقوعه وقفا.
الثاني : وقوعه حبسا.
والثالث : بطلانه وعدم وقوعه لا وقفا ولا حبسا.
أمّا الثالث ـ أي البطلان وعدم وقوعه لا وقفا ولا حبسا ـ فنسبه في الشرائع إلى القيل (39) ، وقال في الجواهر في شرح العبارة : كما عن المبسوط إرساله أيضا ولكن لم أتحقّق قائله (40).
أمّا الأوّل ـ أي وقوعه وقفا ـ فنسب إلى الشيخين (41) والمختلف (42) والتذكرة (43) ، وقال في الجواهر : وأكثر الأصحاب (44).
وأمّا الثاني فنسب إلى جماعة منهم جامع المقاصد (45) وثاني الشهيدين في كتبه الثلاثة المسالك (46) والروض (47) والروضة (48) والإرشاد (49) والمختلف (50) والتنقيح (51) وإيضاح النافع وغيرهم.
والظاهر أنّ القول بالبطلان في غاية الشذوذ ، وأمّا القولان الآخران فكلّ واحد منهما له شهرة ، وعلى كلّ حال فمقتضى ما ذكرنا أنّ الفرق بين الوقف والحبس ليس إلاّ بالتأبيد والتوقيت ، فيقع حبسا لا محالة ، لأنّه بناء على هذا يكون حبسا للعين وتسبيلا للثمرة مدّة عدم انقراضهم ، وهذا هو الحبس.
غاية الأمر يبقى الكلام في أنّه يجوز إنشاء الحبس بصيغة « وقفت » أم لا؟
وهذا ليس فيه كثير إشكال بناء على أنّ حقيقة الوقف والحبس واحدة ، وهو إيقاف العين عن التقلّبات في عالم الاعتبار التشريعي ، غاية الأمر في الوقف دائما ، وفي الحبس موقّتا.
ولكن يرد عليه أنّ الحبس بعد انقضاء المدّة يرجع فيه المال المحبوس إلى المالك ، وفي الوقف خرج عن ملكه فلا يرجع إليه أو إلى ورثته ، بل الصحيح أنّ في الحبس لم يخرج المال عن ملك المالك ، بل هو تسبيل المنفعة موقّتا فهذا الاختلاف وغيره من الآثار والأحكام يدلّ على أنّهما ليسا حقيقة واحدة ، فإذا قصد الوقف وأنشأ بصيغة الوقف لا بدّ وأن يكون إمّا وقفا إن كان صحيحا ، وإمّا أن يكون باطلا.
وأمّا ما يقال : من أنّهما حقيقة واحدة ، والاختلاف في الأحكام والآثار من ناحية اختلافهما في المرتبة ، كالوجوب والاستحباب عند هذا القائل ، فالوقف هو الحبس المطلق غير المحدود ، والحبس هو الحبس المحدود المعيّن مدّته.
فعلى فرض صحّة هذا الكلام ، فإذا قصد مرتبة من تلك الحقيقة لا تقع مرتبة أخرى ، لأنّ العقود تابعة للقصود ، والمفروض أنّه فيما نحن فيه قصد الوقف ، فوقوع مرتبة أخرى لا وجه له ، فبناء على هذا لا بدّ من القول بوقوعه وقفا إن لم نقل بالبطلان.
ولكن يرد على هذا أيضا أنّ من شرائط صحّة الوقف الدوام والتأبيد ، بل احتملنا أن يكون داخلا ومأخوذا في حقيقة الوقف.
ويمكن أن يجاب عنه أوّلا : بأنّ الدوام ليس مأخوذا في حقيقة الوقف ، وليس دليل يدلّ على هذا ، وإنّما قلنا باعتباره فيه للإجماع ، وادّعاء الإجماع مع شهرة المخالف في هذه المسألة ـ حيث أنّهم يقولون بصحّته وقفا ـ لا يخلو عن غرابة.
وثانيا : المراد من الدوام المعتبر في الوقف هو أن لا يحدّد الوقف ومدّة حبسه ، وأمّا انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه فعقليّ وليس من قبيل تحديد الحكم ، فلو قال لزيد :
بعتك هذه الدار بكذا ، فلم يحدّد تمليكه لزيد ولكن ملكيّة زيد ينعدم بموته عقلا ، إذ لا يمكن بقاء الحكم بدون الموضوع. وفيما نحن فيه إذا قال : وقفت على أولادي النسل الأوّل منهم ، لم يحدّد وقفه وحبسه ، وإنّما ينتفي الحبس بانقراضهم عقلا ، لا بتوقيت وتحديد من قبل المالك.
ولذلك لو قال : وقفت على أولادي نسلا بعد نسل وبطنا بعد بطن ، واتّفق أنّهم لم ينقرضوا ، فالوقف صحيح ، مع أنّ بقاءهم من باب الاتّفاق لا ربط له بإنشاء الواقف.
ثمَّ إنّه بناء على القول بأنّه حبس صحيح ، فلا شكّ في أنّه بعد انقراضهم يرجع إلى المالك أو إلى ورثته.
وأمّا بناء على ما رجحناه من أنّه وقف صحيح ، فهل يرجع إلى المالك أو إلى ورثته إذا لم يكن المالك باقيا ، أو يرجع إلى ورثة الموقوف عليه ، أو يصرف في وجوه البرّ؟ وجوه بل أقوال :
وبيان الرجوع إلى المالك أو ورثته هو أنّه لو قلنا بأنّ حقيقة الوقف صرف حبس ماله وإيقافه عن ورود التقلّبات الاعتبارية عليه ، وتسبيل ثمرته على عنوان خاصّ أو أشخاص مخصوصين من دون إخراجه عن ملكه ، فالأمر في غاية الوضوح ، لأنّه ملكه ، وبعد موته ملك وارثه.
وأمّا إن قلنا بأنّه تمليك للموقوف عليهم فيما عدا وقف المسجد ، بل وفيما عدا الوقف على الجهات ، كالقناطر والخانات والرباطات ، فمقتضى القاعدة عدم رجوعه إليه أو إلى وارثه ، لأنّ رجوعه إليه بعد خروجه عنه يحتاج إلى دليل وهو مفقود. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ خروجه عن ملك الواقف ليس مطلقا ودائميّا بل مقيّد ببقاء الموقوف عليهم ، فإذا انقرضوا يرجع إلى حالته الأولى ، بل ينبغي أن يقال يبقى على حالته الأولى ، لا أنّه يرجع إليها.
وأمّا إن قلنا بخروجه عن ملك الواقف ، وصيرورته ملكا مطلقا للموقوف عليهم غير مقيّد ببقائهم ، فإذا انقرضوا يكون لورثة البطن أو الشخص الأخير ، بمفاد قوله عليه السلام : « ما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه » (52).
وليس التمسّك به من قبيل التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقية ، لأنّه بناء على عدم تقييد ملكيّته ببقائه يصدق عليه عنوان « ما تركه الميت » يقينا.
وأمّا القول بصرفه في وجوه البرّ فليس له وجه ، إلاّ أن يقال بأنّ المال خرج عن ملك الواقف مطلقا ودخل في ملك الموقوف عليهم مقيّدا ببقائهم ، فلا يرث وارثهم ولا الواقف ، لأنّ دخوله في ملكه ثانيا يحتاج إلى دليل وليس ، ومع ذلك كلّه الوقف باق على وقفيّته ، فيكون مثل الوقف المجهول المصرف يصرف في وجوه البرّ.
ولكن أنت خبير بعدم تماميّة هذه المقدّمات ، خصوصا المقدّمة الأخيرة والأولى ، بل الأقوى من الوجوه المذكورة هو الرجوع إلى الواقف ، وذلك لأنّ المال إمّا لم يخرج عن ملكه بالمرّة ، أو يكون خروجه ما دام بقاء الموقوف عليهم لا مطلقا.
بقي الكلام في أنّه بناء على المختار من أنّه يرجع إلى الواقف أو ورثته ، فهل المراد هو الوارث حين موت الواقف ، أو حين انقراض الموقوف عليهم؟
وتظهر الثمرة فيما إذا كان للواقف ولدان ـ مثلا ـ أحدهما مات بعد موت المالك الواقف ، ولكن قبل انقراض الموقوف عليهم. والثاني باق إلى زمان انقراضهم ، فلو كان المراد الوارث حين موت الواقف فيرث ذلك الولد الذي مات قبل انقراض الموقوف عليهم ، ويكون شريكا مع أخيه الباقي إلى زمان الانقراض ، ويرث منه ورثته الباقون.
وأمّا لو كان المراد الوارث حال الانقراض ، فيكون جميع المال لذلك الولد الباقي إلى زمان الانقراض.
والظاهر أنّ المراد من الوارث هو الوارث حال موت الواقف ، لا الوارث حال الانقراض ، وذلك من جهة أنّ المناط في رجوع المال إليه كونه وارثا لمن يرجع إليه ـ أي الواقف ـ وهذا المعنى يثبت له حال موت الواقف المورث ، ولا ربط لانقراض الموقوف عليهم بكونه وارثا ، كما هو واضح.
إن قلت : إنّ حال موت الواقف ليس شيء في البين كي يرثه هذا الوارث ، لأنّ الرجوع بعد الانقراض ، ولا بدّ في كونه وارثا من صدق « ما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه » والمفروض أنّه في حال موته لم يترك شيئا كي يرثه هذا الوارث.
قلت : بيّنّا أنّ الرجوع إلى المالك أو وارثه يكون إمّا بناء على عدم خروج المال الموقوف عن ملك الواقف أصلا ، وفي هذه الصورة واضح أنّه لا إشكال في البين. وإمّا بناء على أنّ تمليك الموقوف عليهم ليس تمليكا مطلقا ، بل يكون مقيّدا ببقائهم ، فمن زمان انقراضهم لم يخرج عن ملك المالك من أوّل الأمر.
وبعبارة أخرى : صار تقطيعا في ملكيّة المالك مثل الحبس ، حيث أنّه يصير ملكا موقّتا له ، فخروجه عن ملك الواقف بمقدار زمان الحبس ، وفي باقي الأزمنة باق على ملكه ، وفيما نحن فيه أيضا بناء على هذا المبنى كذلك ، أي خارج عن ملك الواقف بمقدار بقاء الموقوف عليهم ، وفي باقي الأزمنة باق على ملكه ، فلا يبقى إشكال في أنّه ينتقل حين موته إلى ورثته.
ثمَّ إنّه بعد ما عرفت أنّ أحد شروط صحّة الوقف إخراج الواقف نفسه عن الموقوف عليهم كي لا يكون من قبيل الوقف على النفس ، لأنّه باطل إجماعا ـ كما تقدّم مفصّلا ـ فلو وقف على أحد العناوين كالفقهاء أو السادات أو غيرهما من العناوين ، وشرط عليهم أداء ديونه أو إدرار مئونته أو عياله أو غير ذلك ممّا يرجع إلى نفسه ، فهل هذا من قبيل الوقف على النفس كي يكون باطلا ، أو ليس كذلك فيكون صحيحا؟
أقول : إن كان شرط عليهم إدرار مئونته أو أداء ديونه من غير منافع الوقف ومن ماله الآخر ، فلا إشكال في أنّه ليس من قبيل الوقف على النفس. وإن شرط أن يكون من منافع الوقف ، فيكون وقفا على النفس ، من جهة أنّ المراد من الوقف على النفس هو أن يرجع تمام الثمرة والمنفعة أو بعضها إلى الواقف ، وما نحن فيه كذلك ، فيكون هذا الشرط فاسدا. وحيث أنّ الشرط الفاسد ليس بمفسد ، وهو إحدى القواعد التي رتّبناها في الجزء الرابع من هذا الكتاب ، فيكون الوقف صحيحا ويصرف في نفس العنوان الموقوف عليهم ، ولو شرط صرف بعض منافعه وثمرته على أهله أو أضيافه أو على أولاده وإن كانوا ممّن هم نفقتهم واجبة عليه ، لأنّ هذا ليس من قبيل الوقف على نفسه.
وأمّا إذا شرط أداء زكاته الواجبة ، أو الخمس الواجب في ماله ، فهذا الشرط فاسد ، لأنّه من قبيل الوقف على نفسه. ولو شرط عليهم الحجّ له به بعد موته من منافع هذا الوقف ، فالظاهر عدم صحّة هذا الشرط.
فرع :
إذا استثنى مقدارا من منافع العين الموقوفة ، أو من نفس العين لنفسه ، فالظاهر أنّه ليس من الوقف على النفس ، بل هو إخراج عن أصل الوقف ، فيرجع إلى أنّه لم يقف تمام هذه العين ، أو لم يسبل تمام منافعه ، فلا إشكال فيه أصلا.
فرع آخر :
لو جعل نفسه متوليّا وناظرا على الوقف ، وجعل مقدارا من منافع ذلك الوقف قليلا أو كثيرا للمتولّي ، فهل هذا من قبيل الوقف على النفس وباطل ، أم لا؟.
أقول : إذا كان بمقدار المتعارف ، كالعشر من منافع الوقف ، فالظاهر أنّه لا إشكال فيه ، لأنّه في الواقع من قبيل الأجرة مقابل عمله وتعبه في إدارة الوقف من عمارته وإجارته وإصلاح شؤونه وسائر تصرّفاته.
ولا شكّ في أنّ حال الوقف حال الأملاك الشخصيّة ، كما أنّهم يجعلون أجرا للذي يدير ذلك الملك ، وقد يكون الأجر حصّة من منافع ذلك الملك ، وليس معنى ذلك أن يكون شريكا فيه ، بل يكون كسائر مؤن ذلك الملك ، فيكون حال المتولي والناظر في الوقف حال ذلك الرجل الذي يدير أمر ملك غيره ويديره.
وأمّا إذا كان كثيرا كتسعة أعشار منافعه مثلا لو جعلها للمتولّي الذي هو نفس الواقف ما دام حيّا وفي الطبقة الأولى ، وعيّن غيره بعد مماته ، وجعل له مقدارا متعارفا ، فالإنصاف أنّه لا يخلو عن إشكال ، لأنّه بنظر العرف وقف على نفسه ، فكأنّه جعل نفسه موقوفا عليه ، وإن كان بحسب الظاهر يقال : إنّه حقّ التولية ، ولكن في مقام اللبّ ليس بإزاء إتعابه في إصلاح شؤون الوقف وإدارة أموره.
اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ عمدة دليل بطلان الوقف على النفس هو الإجماع كما تقدّم ، ولا شكّ في أنّه ليس إجماع في مثل المقام ، بل القائلين بصحّة مثل هذا المقدار للمتولّي كثير ، إن لم يكن من القائلين بالبطلان أكثر.
أو يقال : بأنّه من باب استثناء هذا المقدار من المنافع مدّة حياة المتولي عن الوقف ، فلا إشكال من ناحية الوقف على النفس أصلا.
وأمّا من ناحية الاستثناء ، فالظاهر أنّه أيضا لا إشكال فيه ، لأنّ مرجع استثناء هذا المقدار في تلك المدّة عدم تعلّق الوقف بهذا المقدار من ثمرة الوقف في مدّة حياة ذلك المتولّي. ولا مانع من هذا لا عقلا ولا شرعا ، بل لو استثنى في ضمن إجراء الصيغة مقدار مئونته ما دام حيّا من منافع الوقف ، لا إشكال فيه ، لأنّ الوقف تعلّق بما عدا هذا المقدار.
ولذلك يجوز وقف العين باعتبار بعض منافعها ، ويبقى الباقي في ملك الواقف ، مثلا يجوز وقف الشاة لأن يعطي لبنها للأطفال الرضع ، ويبقى سائر منافعها للواقف ، وكذلك البستان باعتبار ثمرة نخيلها ، فتبقى منافعها الأخر للواقف.
وصحّة هذا القسم من الوقف ـ بناء على كونه عبارة عن صرف حبس الأصل عن التقلّبات في عالم التشريع ، وجعل ثمرته للموقوف عليهم ـ لا إشكال فيه ، لأنّ هذه الاستثناءات تدلّ على أنّ الثمرة المجعولة للموقوف عليهم ما عدا هذا المقدار ، كما هو شأن كلّ استثناء في كلّ مقام ، وهو أنّ حكم المستثنى منه يشمل ما عدا مقدار المستثنى.
وأمّا بناء على أنّه عبارة عن تمليك الموقوف عليهم للعين الموقوفة ، ربما يتوهّم : أنّه كيف يمكن أن تكون عين واحدة ملكا لشخصين باعتبارين ، فباعتبار بعض المنافع تكون ملكا للموقوف عليهم ، وباعتبار بعض آخر تكون ملكا للواقف.
ولكن جوابه : أنّه يمكن أن يكون الأصل بتمامه ملكا للموقوف عليهم فاعتبار ذلك البعض من المنافع ، ويكون من قبيل ما لو آجر الملك قبل الوقف باعتبار بعض الثمرة ، كما لو آجر البستان باعتبار بعض ثمرته ، فأوقفه باعتبار بعض الآخر ، فيصير البستان ملكا للموقوف عليهم ، ولكن مجرّدا عن بعض المنافع. وأمّا لو كان مجرّدا عن جميع المنافع دائما أبدا فاعتبار التمليك لغو.
وأمّا ما ذهب بعض الأساطين من مقاربي عصرنا إلى صحّة كون عين واحدة ملكا لشخصين باعتبارين ـ بأنّ تمام العين من دون شركة الآخر ملكا لهذا ، وكذلك تمام العين يكون ملكا للآخر ، غاية الأمر ملكيّة كلّ واحد منهما لتمام العين باعتبار بعض منافعها غير بعض الآخر ـ فلا يخلو عن غرابة.
وأمّا لو وقف على العناوين العامّة ، كالمساجد على المصلّين ، والقناطر لكافة المسلمين بل لكافّة العابرين ، والخانات لكافّة المسافرين ، أو المدارس الدينيّة لكافّة طلاّب العلوم الدينيّة الإسلامية ، وكان مصداقا لأحد هذه العناوين ، فلا إشكال في أنّ هذا ليس من الوقف على النفس لو انتفع بها ، لأنّه كسائر مصاديق هذه العناوين ، فحاله حالهم.
وذلك من جهة أنّ الوقف على الجهة ليس من قبيل الوقف على الطبيعة السارية كي يكون كلّ فرد منها موقوفا عليه ، فيكون بالنسبة إلى حصّة الواقف من قبيل الوقف على النفس ، وذلك لو وقف على السادات أو الفقهاء أو الفقراء وكان هو منهم ، فشموله لنفسه ربما يقال إنّه من قبيل الوقف على النفس ، والوقف على إمام مسجد يكون هو إمامه حين الوقف أو إذا صار بعد الوقف يكون من هذا القبيل ، لأنّ إمام المسجد عنوان عامّ هو أحد مصاديقه ، غاية الأمر في كلّ زمان فرده منحصر بواحد غالبا.
وكذلك الوقف على أفقه البلد ، أو الأفقه بقول مطلق ، وكان هو مصداقه حين الوقف ، أو صار بعد ذلك من هذا القبيل.
وأمّا الفرق بين كونه كذلك حين الوقف في الفرعين ـ أي : مسألة الوقف على إمام المسجد ، ومسألة الوقف على الأفقه وأنّه صار مصداقا لذلك العنوان بعد الوقف ـ بالصحّة في الثاني دون الأوّل ، فلا وجه له أصلا ، والمسألة خلافيّة ، ولكن الأظهر عندي هو صحّة هذا الوقف وفاقا للمشهور.
أمّا أوّلا : فلأنّ الموقوف عليه هو العنوان ، وصرف قابليّته للتطبيق على نفسه لا يوجب صيرورته موقوفا عليه. وذلك كما أنّه لو باع صاعا من هذه الصبرة ـ مثلا ـ فالمبيع قابل للانطباق على كلّ واحد من صيعان الموجودة فيها ، ومع ذلك ليس شيء من الصيعان ـ بعد تفرّقها في الخارج وانقسامها إلى صيعان منفصلة ـ مبيعا إلاّ بعد التطبيق وإقباضه للمشتري ، وإلاّ قبل القبض تعيّن أحدها لمعيّن ترجيح بلا مرجّح.
وأحدها غير المعيّن غير معقول ، لأنّ الصيعان الموجودة كلّ واحد معيّن وجميعها يكون مبيعا ، لأنّ قابليّة الانطباق في الجميع خلاف الفرض ، إذ المفروض أنّ المبيع صاع واحد ، فلا مناص إلاّ القول بأنّ قبل القبض كلّ واحد منها ليس مبيعا ، وبالقبض يتحقّق صفة المبيعيّة.
ففيما نحن فيه تمليك الثمرة للعنوان ، ولا يصير ملكا لنفس الواقف الذي مصداق إلاّ بعد ، فهو ليس بنفسه موقوفا عليه.
وثانيا : قلنا إنّ بطلان الوقف على نفسه لا دليل عليه إلاّ الإجماع ، والإجماع مع ذهاب المشهور إلى جواز انتفاعه من الوقف إذا وقف على عنوان الفقهاء الفقراء أو ما يشابههما إذا كان هو من مصاديق تلك العناوين.
مسألة :
إذا وقف وشرط عوده إليه إذا احتاج ، فيه أقوال :
قول بصحّة الوقف والشرط جميعا ، فيرتّب عليه آثار الوقف ما دام لا يحتاج إليه ، وعند الاحتياج يعود إلى ملكه. وحكى عن المرتضى (53) دعوى الإجماع على هذا القول ، وادّعى بعضهم أنّ هذا هو قول الأكثر ، وعن جماعة بطلان الوقف والشرط ، وحكى عن ابن إدريس (54) دعوى الإجماع على ذلك.
وقول بصحّته حبسا لا وقفا ، وصحّة الشرط أيضا. وبه قال في الشرائع (55).
والأقوى هو القول الأوّل بناء على عدم كون التأبيد داخلا في ماهيّة الوقف ، وهو واضح ، وإلاّ فالقول الثالث الذي قال به في الشرائع ، وذلك من جهة أنّ التأبيد لو كان شرطا في تحقّق ماهية الوقف ، فحيث أنّ مرجع هذا الشرط إلى عدم التأبيد ، فلا يقع الوقف قطعا ، فيدور أمره بين البطلان بالمرّة ، أو وقوعه حبسا.
فإن قلنا : بأنّ الوقف والحبس حقيقتان مختلفتان ، فيكون باطلا بالمرّة ، لأنّ الذي قصده الواقف ـ وهو الوقف ـ لم يقع ، لعدم التأبيد ، والحبس أيضا لا يقع ، لأنّ العقود تابعة للقصود ولكن حيث قلنا بأنّهما حقيقة واحدة ـ غاية الأمر الفرق بينهما بخصوصيّة زائدة على الماهيّة والحقيقة ، بل تكون تلك الخصوصيّة من العوارض المصنّفة وهي التأبيد ـ فيقع حبسا ويصحّ الشرط أيضا ، لعدم كونه مخالفا لمقتضى العقد ولا للكتاب والسنّة ، لأنّ عود الملك إلى الحابس ليس مخالفا للكتاب ، ولا الحبس يقتضي عدمه.
فالعمدة في المقام هو أنّ التأبيد داخلا في حقيقة الوقف وتحقّق ماهيّته ، أم لا؟
فإن لم يكن داخلا في حقيقة الوقف فيصحّ الوقف والشرط ، كما ذهب إليه المشهور ، لأنّه قصد الوقف ، وشرط رجوعه إليه عند الحاجة مناف لإطلاق عقد الوقف لا له مطلقا ، فلا مانع من صحّة الوقف والشرط جميعا.
وأمّا إن كان داخلا في حقيقة الوقف ، وكان الوقف والحبس حقيقتين مختلفتين ، فلا يقع شيء منهما. وهو القول الثاني الذي ذهب إليه ابن إدريس وادّعى عليه الإجماع.
وأمّا إن كانا حقيقة واحدة مع اعتبار التأبيد في الوقف شرعا في تحقّق الوقف ، فيقع حبسا ويصحّ الشرط أيضا ، وهو قول صاحب الشرائع.
ثمَّ إنّه لمّا رجّحنا فيما تقدّم في شروط صحّة الوقف اعتبار التأبيد ، فلا يمكن الموافقة مع قول المشهور. ولمّا رجّحنا أنّ الوقف والحبس حقيقة واحدة ، فلا بدّ ـ بناء على ما رجّحنا ـ من الذهاب إلى ما قاله في الشرائع من صحّة الشرط ووقوعه حبسا. هذا بحسب القواعد.
وهناك روايتان تمسّك كلّ واحد من الطرفين من القائلين بالصحّة والبطلان بهما :
أحدهما : خبر إسماعيل بن الفضل قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يتصدّق ببعض ماله في حياته في كلّ وجه من وجوه الخير قال : إن احتجت إلى شيء من المال فأنا أحقّ به ، ترى ذلك له وقد جعله لله يكون له في حياته ، فإذا هلك الرجل يرجع ميراثا أو يمضي صدقة؟ قال عليه السلام : « يرجع ميراثا على أهله » (56).
الثاني : قوله عليه السلام : « من أوقف أرضا ثمَّ قال : إن احتجت إليها فأنا أحقّ بها ثمَّ مات الرجل ، فإنّها ترجع إلى الميراث» (57).
ويروي هذا الخبر في المستدرك عن دعائم الإسلام بدل « أرضا » « وقفا » ، وبدل « ترجع إلى الميراث » « رجع ميراثا » (58) والمعنى واحد.
والظاهر أنّ الثلاثة خبر واحد ، فتارة نقل مسندا ، وأخرى نقل مرسلا.
وعلى كلّ حال الذي يستدلّ بها على بطلان الوقف يقول قوله عليه السلام : « ترجع إلى الميراث » أو « رجع ميراثا » أو « يرجع ميراثا على أهله » كلّها تدلّ على عدم صحّة هذا الوقف وبطلانه ، لأنّ الوقف لا يرجع ميراثا إلى أهله ، وباق إلى أن يرث الله السماوات والأرضين وما فيهما.
والذي يستدلّ بها على صحّة الوقف والشرط جميعا يقول : إنّ ظاهر « يرجع » أو « رجع » هو الدخول ثانيا بعد خروجها.
فظاهر هذه الروايات هو خروج ما وقف بالوقف ثمَّ رجوعه إليه بالشرط لاحتياجه إليه في حياته ، فتدلّ على صحّة الشرط أيضا ، فإذا رجع إليه ومات عنه فطبعا يكون ميراثا إلى أهله بقواعد الإرث وأدلّته ، وإسناد الرجوع إلى الميراث من باب أنّ الميراث معلول لرجوعه إليه بالشرط ، فأسند الرجوع إلى المعلول باعتبار رجوع علّته ، فيكون من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم.
والإنصاف : هو أنّ الثاني أصح ، لأنّه عليه السلام بعد قول السائل : « يكون له في حياته ، فإذا هلك الرجل يرجع ميراثا » ، فكأنّه فرّع كونه ميراثا بعد هلاك الرجل على كونه له في حياته ، فجوابه عليه السلام بأنّه يرجع ميراثا ظاهر في تصديقه عليه السلام له في هذا التفريع ، وأنّه يكون له في حياته.
ومعلوم أنّ كونه له في حياته لازم صحّة الشرط ، وصحّة الشرط ملازم مع صحّة الوقف.
إن قلت : كونه له في حياته يمكن أن يكون من جهة بطلان الوقف ، لا من جهة صحّة الشرط.
قلت : إن لفظ « الرجوع » ظاهر في العود إليه بعد الخروج عن ملكه ، فلا يمكن أن يكون له لبطلان الوقف ، لأنّه مع بطلان الوقف يكون له من أول الأمر ، ويكون ميراثا من أول الأمر بعد هلاكه ، لا أنّه يرجع ميراثا.
وأمّا ما قيل : من أنّ ظهور الخبرين وإن كان في البطلان وعدم صحّة مثل هذا الوقف مع مثل هذا الشرط ثابتا ، إلاّ أنّه عليه السلام حكم بالفساد والبطلان من جهة قصة الواقف أن يكون هو الموقوف عليه إنّ احتاج ، ومعلوم أنّ مثل هذا الوقف وقف على النفس وباطل ، لكنّه لا ربط له بمحلّ كلامنا ، مضافا إلى أنّه خلاف ظاهر هذه الروايات.
ينفيه : قوله عليه السلام : « يرجع ميراثا » لما بيّنّا من أنّ الرجوع هو العود بعد الخروج ، وهذا لا يلائم مع ما قال.
وأمّا اعتذاره عن هذا : أنّه بملاحظة قصده الوقف وعقده عليه ـ وان الوقف ممّا يخرج ـ فعجيب.
وأمّا ما أوردوا على صحّته وقفا :
منها : أنّه خلاف مقتضى عقد الوقف.
وأجبنا عنه : أنّه خلاف اقتضاء إطلاق العقد ، لا أنّه خلاف مقتضى العقد مطلقا.
ومنها : أنّه خلاف اشتراط الدوام في الوقف.
وأجبنا عنه : أنّ اشتراط الدوام على فرض تماميّته هو الدوام في مقابل التوقيت ، كأن يقول : وقفت هذا سنة ، أو أزيد ، أو أقلّ.
ومنها : أنّه يرجع إلى الوقف على النفس.
وفيه : أنّه في الحقيقة شرط زوال الوقف ، لا أن يكون الوقف باقيا ، ويكون هو الموقوف عليه.
ومنها : التعليق وأنّ التعليق في العقد موجب لبطلانه إجماعا.
وفيه : أنّ دعوى الإجماع في مورد الخلاف لا ينبغي أن يصدر من الفقيه ، مضافا إلى أنّ العقد لا تعليق فيه ، وإيقاع الوقف منجّز لا تعليق فيه ، وإنّما الشرط أثره رفع الوقف لا تعليقه ، فلا تعليق ، لا في الإنشاء ولا في المنشأ.
وهي أن يكون عينا مملوكا يمكن الانتفاع بها مع بقائه ، وأن يكون لها البقاء مدّة معتدّة بها ، وأن يكون نفعه محلّلا ، وأن لا يكون متعلّقا لحقّ الغير ، بحيث يكون ذلك الحقّ مانعا عن التصرّف فيها ، وأن تكون ممّا يمكن إقباضها.
أمّا الشرط الأوّل : فلأنّه لو كان منفعة ، فلا يمكن تحقّق حقيقة الوقف الذي هو عبارة عن حبس الأصل وتسبيل ثمرته ، لأنّ تسبيل الثمرة ينطبق على نفس أصل الموقوف الذي هي المنفعة ، فلا يبقى له أصل حتّى يحبس.
فبناء على هذا الشرط لا يصحّ وقف المنافع ، كمنفعة الدار أو الدكان أو الخان التي ملكها بالإجارة ، وإن كانت لمدّة طويلة.
وأيضا لا يصحّ أن يكون دينا في ذمّة غيره ، كما لو كان له شيئا في ذمّة غيره.
وأيضا لا يصحّ أن يكون كلّيا في ذمّة نفسه.
والوجه فيهما أيضا عدم صحّة اعتبار الحبس ولو في عالم الاعتبار ، لأنّ الكلّي في ذمّة غيره أو في ذمّة نفسه ، حيث أنّه غير معيّن ، فلا معنى لحبسه وتسبيل ثمرته.
وقياسه على صحّة وقوع البيع والصلح عليه لا وجه له ، وذلك من جهة أنّ تلك النواقل الشرعيّة مفادها نقل ما في ذمّته إلى الغير ، فيملك ذلك الغير في ذمته ذلك الكلّي ، أو نقل ما يملكه في ذمّة الغير إلى غيره ، ولا يتصور مانع في كلا الفرضين ، بخلاف الوقف ، فإنّ تحقّقه موقوف على حبس شيء تكون له ثمرة وتسبيل ثمرته ، ومثل ذلك في الكلّي الذي في ذمّته أو يملكه في ذمّة غيره ليس له اعتبار عقلائي.
وإن شئت قلت : كما أنّه لا يحبس الكلّي وطبيعة صرف وجود الإنسان مثلا في الحبس التكويني ، كذلك يكون الأمر في الحبس التشريعي. وإن أبيت إلاّ عن إمكانه وعدم وجود مانع في البين ، ففي الإجماع غنى وكفاية ، حيث أنّ عدم صحّة الوقف الكلّي بقسميه ـ أي سواء أكان في ذمّته ، أو في ذمّة غيره ـ إجماعيّ لا خلاف فيه.
وأمّا الشرط الثاني : أي كونه مملوكا ، لأنّ غير المملوك إمّا لأنّه ليس ممّا يملك ، كالخنزير وكلب الهراش ، لأنّه ليس له منفعة يسبله. وإمّا من جهة أنّه ملك غيره ، فتصرّفاته فيه غير نافذة.
وأمّا مسألة الفضولي فقد تقدّم الكلام فيه.
وأمّا الشرط الثالث : أي يمكن الانتفاع بها مع بقائها ، فلو كان من المأكولات والمشروبات حيث أنّ الانتفاع بها بإتلافها أكلا أو شربا ، فلا يصحّ وقفها ، لعدم تصوير حبس العين فيها مع تسبيل ثمرتها ، وهذا واضح جدّا.
وأمّا الشرط الرابع : وهي أن يكون له البقاء مدّة معتدّة بها ، من جهة عدم صدق تحبيس الأصل وتسبيل ثمرته مع عدم بقاء مدّة معتدّة بها ، فلا يصدق هذا المعنى على وقف الورد للشمّ ، لعدم بقائه مدّة يصدق عليه حبس الأصل وتسبيل ثمرته عرفا.
وأمّا الشرط الخامس : أي كانت للعين الموقوفة منفعة محلّلة ، كي يصدق عليه التسبيل ، خصوصا إذا كان صحّة الوقف مشروطا بقصد القربة ، فإذا كانت المنفعة التي يقفها لأجل تسبيل تلك المنفعة محرّمة ، فيكف يتقرّب بمثل هذا الوقف إلى الله ، وكيف يقال : إنّ الواقف سبلها في سبيل الله تعالى؟ وهذا الأخير بناء على ما استظهرنا من التسبيل أنّ المراد من هذه الكلمة جعلها في سبيل الله تعالى.
وأمّا الشرط السادس : وهو أن لا يكون متعلّقا لحقّ الغير المانع عن التصرّف. ووجه هذا الاشتراط واضح ، لأنّه إذا كانت العين لا يجوز التصرّف فيها ببيع أو هبة أو صلح أو غير ذلك بواسطة كونها متعلّقا لحقّ الغير ، كالعين المرهونة ، أو الأعيان التي تركها الميّت مع كون دينه مستوعبا لتمام التركة ، فبناء على الانتقال إلى الورثة ولكن متعلّقة لحقّ الديّان ، وكالأموال غير المخمّسة أو غير المزكّاة بناء على كونها متعلّقة لحقّ السادات أو لحقّ الفقراء وأمثال المذكورات.
فكما أنّ سائر النقل والانتقالات والتقلّبات الشرعيّة لا يجوز ـ وعلى فرض إيجاد المالك لها تكون غير ممضاة من قبل الشارع، فيكون باطلا ـ فكذلك الوقف ، مضافا إلى أنّ الوقف ـ بناء على ما ذكرنا ـ يحتاج إلى قصد القربة ، وكيف يتقرّب بما هو ممنوع شرعا؟ نعم بعد ارتفاع المنع من التصرّف كما إذا فكّ الرهن ـ مثلا ـ أو أجاز المرتهن فلا مانع من وقفه ، وهذا واضح.
وأمّا الشرط السابع : أي كونه ممّا يمكن إقباضه ، لأنّه بناء على أن يكون القبض من شرائط صحّة الوقف فواضح ، فإنّ المشروط لا يتحقّق بدون شرطه. وأمّا بناء على أنّه شرط اللزوم ـ كما رجّحناه ـ فلأنّه لو لم يمكن إقباضه ـ كالطير في الهواء الشارد من عنده ولا يمكن إعادته ، أو الحيوان الآخر النافر الذي لا يمكن قبضه عادة ، أو العبد الآبق الذي حصل اليأس من عوده أو وجدانه أو التغلب عليه وأمثال ذلك ـ يكون تسبيل ثمرته لغوا بل لا ثمرة له كي يسبل.
تنبيه :
ما ذكرنا في الشرط الخامس أنّه لا بدّ وأن يكون للعين الموقوفة منفعة محللة كي يكون التسبيل بلحاظها ، لا يلزم أن تكون تلك المنفعة لها فعلا ، بل يكفي في صحّته كونها لها ولو بعد مدّة. فلو وقف بستانا غرس فيه النخيل ، وهي صغار لا تحمل إلاّ بعد سنين ، فهذا الوقف صحيح باعتبار تلك المنافع التي لها قوّة الوجود ، وإن كان وجودها بعد عشر سنين مثلا ، وهكذا الحال في سائر الموارد.
قال في الشرائع : ويشترط فيه البلوغ ، وكمال العقل ، وجواز التصرّف (59).
ولكنّ الأولى أن يقال : ويشترط في الواقف أن يكون جائز التصرّف ، وأن يكون مختارا غير مكره عليه ، لأنّ البلوغ وكمال العقل مندرج في جواز التصرّف ، فيتفرّع على جواز التصرّف أن يكون بالغا ، لأنّه لا يجوز أمر الصبيّ حتّى يحتلم ، وأن لا يكون مجنونا ، لأنّه لا يجوز أمره حتّى يفيق ، وأن لا يكون محجورا عليه بفلس أو سفه ، وأن لا يكون عبدا بدون إذن مولاه، لعدم نفوذ أمر العبد بدون إذن مولاه ، وهو بنفسه ( لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ) و ( كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ).
ويتفرّع على اشتراط الاختيار أن لا يكون في وقفه مكرها مع عدم لحوق الرضا أوّلا : للإجماع ، وثانيا : لحديث الرفع (60) ، كما أنّ الإكراه مع عدم لحوق الرضا موجب لبطلان سائر عقوده وإيقاعاته كبيعه وهبته وصلحه وطلاقه وعتقه ، وذلك كلّه للإجماع المحصّل الذي لم يخالف أحد ولحديث الرفع ، ولأنّه « لا يحلّ مال امرء مسلم إلاّ بطيب نفسه » (61).
ولا شكّ في أنّ صدور الوقف عن المالك مع الإكراه وعدم لحوق الرضا به مرجعه إلى أنّ أكل الموقوف عليه لماله يكون من غير طيب نفسه. وأمّا بناء على ما قاله الشهيدان بل العلاّمة (62) من عدم قصد المكره إلى وقوع مضمون العقد في الخارج فالأمر أوضح.
هذا فيما إذا لم يلحقه الرضا ، وأمّا فيما لحقه الرضا ، فإن كان وجه فساد عقد المكره وإيقاعه عدم القصد إلى وقوع مضمونه في الخارج ـ وأنّ العقود تابعة للقصود ، ففيه : أنّ القصد المعتبر في العقود هو أن يكون قصدا لإنشاء المعنى باللفظ ، فإن كان المراد من نفي القصد هذا المعنى في عقد المكره فهو.
وإن كان لحوق الرضا فيما بعد لا يجعل العقد الواقع بدون قصد إنشاء المعنى عقدا مقصودا ، فيكون العقد باطلا ، لما ذكرنا من أنّ العقود تابعة للقصود.
ولكن هذه الدعوى باطلة ليس لها أصل ، لأنّ المكره أيضا مثل المختار يقصد إنشاء المعنى باللفظ ، غاية الأمر أنّه ليس له طيب النفس بوقوع مضمون العقد في عالم التشريع ، وإن كان مراده هذا المعنى الذي ذكرناه من عدم قصده ، فهذا لا يضرّ بصحّة العقد بعد حصول الرضا وطيب النفس.
وأمّا احتمال اعتبار مقارنة الرضا وطيب النفس لحال الإنشاء لا دليل عليه ، بل الإطلاقات كقوله تعالى {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] و« لا يحلّ مال امرء مسلم » تدلّ على خلافه ، فأيّ وقت لحق بالمعاملة الرضا يصدق عليها أنّها تجارة عن تراض ، وأنّها عن طيب النفس ، فلا وجه لبطلان وقف المكره إذا لحقه الرضا كسائر معاملاته.
ثمَّ إنّ ها هنا وردت روايات على صحّة وقف الصبيّ الذي بلغ عشرا ، وكذلك وصيّته وعتقه ، وهي :
الأوّل : خبر زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال : « إذا أتى على الغلام عشر سنين ، فإنّه يجوز في ماله ما أعتق ، أو تصدّق ، أو أوصى على حدّ معروف وحقّ فهو جائز » (63).
الثاني : خبر جميل بن درّاج ، عن أحدهما عليهما السلام قال : « يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل ، وصدقته ، ووصيّته وإن لم يحتلم » (64).
الثالث : رواية الحلبي ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال : سأل عن صدقة الغلام ما لم يحتلم؟ قال : « نعم إذا وضعها في موضع الصدقة » (65).
ودلالة هذه الروايات على صحّة وقف الصبيّ إذا بلغ عشر سنين متوقّف على أن يكون المراد من التصدّق والصدقة خصوص الوقف ، أو المعنى الأعمّ من الوقف والصدقة بالمعنى الأخصّ ، وإلاّ لو كان المراد خصوص الأخير فلا دلالة فيها على المدّعى في هذا المقام ، وهو صحّة وقف الصبي الذي لم يبلغ مطلقا ، أو خصوص البالغ عشرا منهم.
وظهور لفظ الصدقة في خصوص الوقف أو في الأعمّ لا دليل عليه ، بل ظاهره بواسطة القرائن المذكورة فيها ـ من قوله عليه السلام : « على حدّ معروف وحقّ » في الأوّل ، ومن قوله عليه السلام : « قد عقل » في الثاني ، ومن قوله عليه السلام : « إذا وضعها في موضع الصدقة » في الثالث هو خصوص الصدقة بالمعنى الأخصّ ، الذي هو إعطاء مال لمؤمن بقصد القربة ، فلا مخصّص لعمومات عدم جواز أمر الصبي حتّى يحتلم بالنسبة إلى الوقف ، لأنّه من قبيل الشكّ في التخصيص ، فيتمسّك بأصالة العموم.
نعم لمّا وردت أخبار معمولة بها في نفوذ وصيّته ، فلو أوصى بالوقف ينفذ.
ثمَّ إنّه ليس من شرائط الواقف أن يكون مسلما ، بل يجوز وقف الكافر وإن قلنا باشتراط قصد القربة فيه ، لتمشية منه. نعم الذي لا يعتقد ـ العياذ بالله ـ بوجود إله العالم ، خالق السماوات والأرضين ، وينكر وجود صانع حكيم ، فقصد القربة لا يتمشّى منه ، لأنّ مثل هذا الرجل لا يعتقد بوجود شخص يتقرّب إليه بوقفه.
نعم يمكن أن يكون وقفه لعطفه ورأفته على الفقراء والضعفاء ، وهذا غير قصد القربة.
ثمَّ إنّه تقدم أنّه للواقف جعل المتولّي والناظر للوقف نفسه أو غيره ، وفي كليهما يجوز استقلالا واشتراكا ، وذلك لقوله عليه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ».
وحاصل الكلام : أنّه ليس من شرائط الواقف أن يكون مسلما ، فيصحّ وقف الكافر إذا كان واجدا لشرائط صحّة الوقف والموقوف والموقوف عليه والواقف إذا كان الموقوف من المسلمين.
وأمّا إذا لم يكن من المسلمين فلا يشترط في صحّة وقفه بعض ما كان شرطا للموقوف فيما إذا كان الواقف مسلما ، كأن يكون للموقوف منفعة محلّلة ، فيجوز أن يقف الخنزير مثلا على أهل ملّته.
وهكذا لا يشترط في وقفه بعض ما يشترط في الموقوف عليه إذا كان الواقف مسلما ، كأن لا يكون الوقف عليه محرّما ، مثل الوقف على بيوت النيران ، ويجوز إذا كان الواقف مجوسيّا ، وكذلك يجوز على البيع والكنائس إذا كان نصرانيا.
والمشهور أنّها أربعة :
الأوّل : أن يكون موجودا.
الثاني : أن يكون معيّنا.
الثالث : أن يكون ممّن تصحّ تملّكه.
الرابع : أن لا يكون الوقف عليه محرّما.
أمّا [ الشرط ] الأوّل : وهو أن يكون موجودا ، فلأنّ الشيخ ادّعى الإجماع عليه في المبسوط. (66) وقال في الجواهر : ولأنّ الوقف يقتضي تمليك الموقوف عليه للمنفعة وحدها ، أو هي مع العين ، والمعدوم ليس قابلا للتمليك (67).
أقول : إنّ ما ادّعاه في الجواهر ـ من اقتضاء عقد الوقف تمليك الموقوف عليه للعين الموقوفة مع منفعتها ، أو خصوص منفعتها ، وأنّ المعدوم ليس قابلا للتمليك ـ فممنوع صغرى وكبرى.
أمّا الصغرى : فهو كوقف المسجد وأنّه ليس تمليكا لأحد ، بل هو فكّ ملك كالعتق ، وعلى كلّ حال يأتي الكلام فيه مفصّلا إن شاء الله تعالى.
وأمّا الكبرى : وهو أنّ المعدوم ليس قابلا للتمليك ، ففيه : أنّ الملكيّة من الأمور الاعتباريّة ، وليست من الأعراض الخارجيّة كي لا يمكن أن توجد قبل وجود موضوعه ولو كان آنا من الآنات ، وذلك لأنّ العرض ليس لوجوده استقلال ولو كان آنا واحدا ، لأنّ وجوده في نفسه عين وجوده في موضوعه.
وإن شئت قلت : إنّ العرض في جوهر ذاته بحسب الوجود أمر ناعتي ، ففرض الاستقلال لوجوده ولو كان بآن خلف. وأمّا الملكيّة أمر اعتباري عرفا أو شرعا ، لا وجود لها في الخارج أصلا ، وكما يمكن اعتبارها لشخص موجود ، كذلك يمكن اعتبارها لشخص معدوم فعلا ولكن سيوجد.
نعم لو فرضنا أنّه لا يوجد أصلا فالاعتبار له لغو ، ولا يساعد على اعتبارها في هذه الصورة لا الشرع ولا العقلاء والعرف، وخصوصا في المعدوم بالمعنى الذي يشمل الحمل ، فإنّه واقعا بل في بعض الصور تامّ الخلقة سوى فيه الروح وتمام الأعضاء.
وحاصل الكلام : أنّ الأمر الاعتباري تحقّقه في عالم الاعتبار تابع لاعتبار من بيده الاعتبار ، ولا دخل في الوجود الفعلي لمن يعتبر له فيه.
هذا ، مضافا إلى ورود نقوض كثيرة على من ينكر إمكان تمليك المعدوم والذي سيوجد :
منها : مسألة الوقف على البطون المتتالية ، بناء على تمليك كلّهم حال إجراء العقد الصحيح ، فإنّ الواقف ينشأ ملكيّة الجميع في ذلك الحال ، غاية الأمر أنّ فعليّة الملكيّة لكلّ بطن في ظرف وجود ذلك البطن ، كما هو شأن جعل الأحكام الشرعيّة بطور القضايا الحقيقيّة في جميع الموارد ، وضعيّة كانت أم تكليفيّة.
ومنها : أنّهم جوّزوا الوقف على أولاده الموجودين ومن يوجد بعد ذلك ، والكلام في تصحيحه كما ذكرنا في تصحيح الوقف على البطون ، وموارد أخر ، فلا نطول الكلام.
فالإنصاف : أنّ عمدة مدرك هذا الاشتراط هو الإجماع المدّعى في المبسوط (68) ، فإن تمَّ فهو ، وإلاّ فلا موجب لهذا الشرط.
وما ذكروه في هذا المقام من عدم قابليّة المعدوم للتمليك ، أو عدم الدليل على صحّة مثل هذا الوقف ، أو فساده ، كلّها لا يرجع إلى محصّل.
أمّا الأوّل : فقد عرفت إمكانه بل وقوعه. وأمّا الثاني : فلإطلاقات أدلّة الوقف.
وأمّا الثالث : فلحكومة الإطلاقات عليها.
وأمّا الشرط الثاني : وهو أن يكون الموقوف عليه معيّنا لا ترديد فيه ، كأن يقول : وقفت هذه الدار على أخي أو ابني ، أو يقول : على أحد أولادي ، ولكنّه يمكن أن يكون بين المثلين فرق بأنّه في الأوّل الموقوف عليه بحسب الواقع مردّد بين الأخ والابن ، ولكن في الثاني مفهوم أحد أولادي قابل للانطباق على كلّ واحد منهم ، فكلّ واحد يجوز أن يتصرّف فيه بنحو الاستقلال لا بنحو التشريك ، فإذا سبق أحدهم فقد تصرّف فيما هو له وليس ضامنا للآخرين ، وإذا صار بينهم تشاحّ فالمرجع هي القرعة.
وعلى كلّ الدليل على اعتباره هو الإجماع ، فإن ثبت فهو ، والاّ فالدليل العقلي الذي تمسّكوا به فغير تامّ ، وهو عدم إمكان تمليك المبهم المردّد ، لما عرفت أنّ الملكيّة أمر اعتباريّ ، وليس من العوارض الخارجيّة التي تستدعي في الخارج موضوعا معيّن غير مبهم ، فهي قابلة لأن تتعلّق بأحد الشخصين أو إحدى الطائفتين.
وليس أمر هذا الأمر الاعتباري أعظم من العلم الإجمالي الذي هو صفة خارجيّة وموجود واقعي محمول بالضميمة ، ومع ذلك يتعلّق بالمردّد ، وكما أنّه بناء على صحّة تزويج إحدى بناته ، أو طلاق إحدى زوجاته ، أو عتق أحد عبيده يستخرج ذلك الأمر المبهم المردّد بالقرعة ، فكذلك يتعيّن الموقوف عليه بالقرعة.
وأمّا الشرط الثالث : وهو أن يكون الموقوف عليه ممّن يصحّ تمليكه ، فلو لم يكن قابلا للتملك فلا يصحّ تمليكه ، لأنّ صحّة التمليك متوقّف على قابليّة الطرف للتملّك ، وإلاّ فالتمليك بدونها غير ممكن ، فالكافر الحربي حيث أنّ الشارع لم يمض كونه مالكا فالوقف عليه باطل ، بناء على أنّ الوقف تمليك وإن كان من جهات أخر لا يجوز الوقف عليه.
وعلى كلّ حال ، فالبحث ها هنا عن أنّ الوقف هل هو مشروط بكون الموقوف عليه قابلا لتمليكه العين الموقوفة أم لا؟ بعد الفراغ عن أنّه قابل أو ليس بقابل.
وأمّا البحث عن أنّ العبد أو المرتدّ الفطري قابل أو ليس بقابل ، فهو خارج عن محلّ كلامنا.
إذا عرفت هذا ، فنقول : لو كان حقيقة الوقف هو التمليك ، أو كان التمليك من لوازم طبيعة الوقف شرعا ، فاعتبار هذا الشرط في محلّه ، إذ التمليك بدون التملّك لا يعقل. وأمّا إذا لم يكن التمليك من لوازم الوقف ـ بل كان التمليك في بعض أقسام الوقف من أحكام ذلك القسم شرعا ـ فلا وجه لاعتبار هذا الشرط ، إلاّ ادّعاء الإجماع ، فإن ثبت فهو وإلاّ فلا. وسنتكلم في هذه المسألة وأنّ الوقف حقيقته التمليك ، أو ملازم معه ، أو ليس شيء منها فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأمّا الشرط الرابع : وهو أن لا يكون الوقف عليه محرّما ، وذلك كالوقف على الملاهي ، وأن يصرف في المعاصي ، وطبع كتب الضلال واستنساخها ، وأن يعطى لمن يرد على المذهب ويوقع الشبهات في قلوب المؤمنين ، وكالوقف على مبلّغي الأديان الباطلة ومروّجي العقائد الفاسدة.
واعتبار هذا الشرط بناء على اشتراط قصد القربة في تحقّق الوقف واضح ، إذ لا يمكن قصد القربة بما هو محرّم ومبغوض ، وبناء على عدم الاشتراط أيضا لا يصحّ الوقف على من يكون الوقف عليه محرّما ، لأنّ مثل هذا الوقف مبغوض عند الشارع، وما هو مبغوض عنده لا يمضيه قطعا ، والمعاملات صحّتها تحتاج إلى الإمضاء ، وإلاّ فمقتضى الأصل في جميع المعاملات هو الفساد.
ولذلك قلنا في دلالة النهي في المعاملات على الفساد أنّه ذلك فيما إذا كان متعلّقا بالمعنى الاسم المصدري ، لأنّه حينئذ تكون المعاملة بالمعنى الاسم المصدري أي أثر العقد مبغوضا ، فلا يقع الإمضاء عليه ، فيكون باطلا.
إذا ظهر لك ما ذكرنا ، تعرف أنّ أغلب الفروع التي ذكرها الفقهاء في هذا المقام يرجع البحث فيها إلى صغريات هذا الشرط:
منها : عدم جواز الوقف على الكفّار ، أو جوازه مطلقا ، أو التفصيل بين الحربي والذمّي ، بعدم الجواز في الأوّل ، والجواز في الثاني.
ومنها : جوازه على الكنائس والبيع وعدم جوازه.
ومنها : جواز الوقف على استنساخ وطبع الكتب السماويّة المحرّفة ، أي التوراة والأناجيل ، فلا وجه لتطويل الكلام فيها.
ثمَّ إنّ الموقوف عليه تارة يكون معيّنا لا إهمال ولا إجمال فيه ، سواء أكان شخصا كزيد مثلا ، أو كلّيا كعنوان طلبة مدرسة فلان ، فلا كلام فيه.
وأخرى : يشكّ في شمول ذلك العنوان الذي جعله موقوفا عليه في العقد لبعض الأشخاص أو الأصناف ، فإن ثبت انصراف ذلك العنوان إلى بعض مصاديقه ، أو إلى بعض الأصناف التي تحت ذلك العنوان فيؤخذ به ، وإن لم يثبت فيجب الأخذ بإطلاقه إن كان في مقام البيان من تلك الجهة ولم يقيّد ، وإلاّ يرجع إلى الأصول العمليّة.
ومعلوم أنّ مقتضى الأصل عدم ثبوت الوقف لذلك المشكوك ، كلّ ذلك فيما إذا كان مراد الواقف من ذلك مشكوكا.
وأمّا إن كان معلوما فيؤخذ به ، إلاّ أن يكون فيه الإشكال من جهة صحّة الإنشاء بذلك اللفظ ، وذلك من جهة أنّ المدار في العقود ليس على القصد فقط ، ولا على الإنشاء فقط ، بل لا بدّ وأن تكون المعاملة مقصودة له ومنشأه بالإنشاء الصحيح.
ولذلك وقع البحث في أنّه لو وقف على الفقراء ، فالمشهور ادّعوا انصرافه إلى فقراء نحلة الواقف ، لأنّ المسلم ـ مثلا ـ لا يقصد غالبا من الفقراء في وقفه ـ بل وفي سائر عطاياه ـ إذا كانت لوجه الله فقراء غير المسلمين ، وما ذهب إليه المشهور هو الصحيح. وقد ذكر بعضهم عناوين كثيرة وألفاظ متعدّدة وباحث عنها ، وكلّها يرجع إلى ما ذكرنا وأبحاث صغرويّة ، وقس الحال على هذا المنوال في سائر الموارد والمقامات ، فلا نطول المقام بذكر الأمثلة.
فرع :
لو وقف على مصلحة معيّنة ، كما إذا وقف على طلاّب مدرسة دينيّة ، فانهدمت وصارت جزء للشارع العامّ ، بحيث لا أمل بحسب العادة في رجوعها مدرسة ، أو وقف على مسجد صار كذلك منهدما وصار جزء للشارع العامّ ، أو على قنطرة على نهر تغيّر مجرى ذلك النهر ، وصارت تلك القنطرة متروكة وبلا فائدة ، فهل يجب صرفه في وجوه البرّ ، أو يرجع إلى المالك ، أو يصير مباحا لكل أحد كالمباحات الأصليّة؟ وجوه.
فالذي يقول برجوعه إلى المالك إن كان وإلاّ إلى ورثته ، فبنى كلامه على أنّه من قبيل وقف منقطع الآخر ، فأمّا أن لا يخرج من ملك المالك أبدا ، لأنّه مثل الحبس عبارة عن تسبيل ثمرته مدّة بقاء الموقوف عليه ، فإذا وقع التلف على الموقوف ، فلا يبقى موضوع للتسبيل ، فقهرا ترجع المنفعة إلى مالك العين الذي هو الواقف ، ومنه إلى ورثته.
وأمّا القولان الآخران فمبناهما أنّ بالوقف يخرج عن ملك المالك ، فالذي يقول بأنّه يصرف في وجوه البرّ يقول وإن كان الموقوف يخرج عن ملك الواقف ، ولكن غرضه من هذا الإخراج صرف منافعه في ما هو البرّ عند الله تعالى ، ويكون موجبا للأجر والثواب ، ولكن عيّن ما هو البرّ في نظره بموضوع خاصّ ، فإذا ارتفع ذلك الموضوع الخاصّ الذي رجّحه على سائر مصاديق البرّ فيفقد تلك الخصوصيّة المرجّحة ، ولكن صرفه في أصل البرّ ممكن فيجب ، لأنّه بعض مطلوبه بل أصل مطلوبه ، ولم يفقد ممّا أراد إلاّ تلك الخصوصيّة المرجّحة.
بل يمكن أن يقال : إنّ المنشأ ينحلّ إلى طبيعة البرّ وتلك الخصوصيّة المرجّحة ، وليس من قبيل صرف الغرض كي تقول في باب العقود لا أثر للغرض ما لم يقع المراد والمقصود تحت الإنشاء ، ففي الحقيقة أنشأ تسبيل منفعة هذه العين الموقوفة على البرّ الذي هو المسجد أو المدرسة مثلا ، فإذا تعذّرت الخصوصيّة وأمكن صرفه في الجامع بين هذا المصداق وسائر المصاديق يجب العمل به ، لمكان {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] بمقدار ما أمكن.
وليس الجامع بين هذا المصداق وسائر المصاديق معنى جنسيّا حتّى تقول ينعدم الجنس بانعدام الفصل ، بل هو معنى متحصّل نوعيّ كسائر الطبائع والمهيّات النوعيّة ، والذي يقول بأنّه مباح لكلّ أحد كالمباحات الأصليّة ، يقول بأنّه بعد خروجه عن ملك الواقف وعدم دخوله في ملك الموقوف عليه على الفرض لعدم قابليّة الموقوف عليه الذي هو جهة من الجهات ـ وإلاّ لو كان ملكا للموقوف عليه لكان ينتقل إلى ورثته ، لا إلى ورثة الواقف ـ فقهرا بعد تعذّر الموقوف عليه يبقى ملكا بلا مالك ، فيكون كالمباحات الأصليّة.
والصحيح عندي بناء على خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف ـ وسيأتي تحقيقه وما هو المختار عمّا قريب إن شاء الله تعالى ـ هو الوجه الأوّل ، أي صرفه في وجوه البرّ. وبناء على عدم خروجه هو الوجه الثاني ، أي رجوعه إلى الواقف ، أو إلى ورثته إن لم يكن الواقف باقيا.
ووجه المختار في كلا الشقّين واضح.
أما الأوّل : فلأنّه بعد الخروج عن ملكه والقول بالانحلال لا مناص إلاّ من القول به. وأمّا الثاني : بعد القول ببقاء العين الموقوفة على ملك الواقف ، فلا بدّ من القول برجوعه إلى الواقف أو إلى ورثته ، بل في القول بالرجوع مسامحة ، لأنّه لم يخرج كي يرجع.
وأمّا الوجه الثالث فلا أساس له أصلا ، بل الأولى أن يعبّر عنه بصرف الاحتمال ، ولم أجد قولا به في الأقوال المنقولة ، بل سمعته عن بعض أساتيذي قبل ستّين سنة.
ونذكر فيه أمور :
الأمر الأوّل : في أنّه هل بالوقف بعد إن تمَّ بشرائطه يخرج الموقوف عن ملك الواقف ويزول ملكه عنه ، أم لا؟
ظاهر المشهور هو الأوّل ، بل ربما يظهر من كلام الغنية (69) والسرائر (70) الإجماع عليه ، والظاهر عدم الدليل على ما ذهب إليه المشهور ، لأنّ الشهرة والإجماع المنقول لا اعتبار بهما ، كما أثبتناه في محلّه ، والإجماع المحصّل أوّلا : ثبوته وتحقّقه غير معلوم.
وثانيا : على فرض ثبوته لا اعتبار به ، لما ذكرنا في هذا الكتاب مرارا أنّ الإجماعات التي من المحتمل القريب أن يكون اعتماد المتّفقين على مدرك أو مدارك ذكروها كما في المقام ، ليس من الإجماع المصطلح الذي أثبتنا حجّيته في الأصول.
وأمّا كون تشريع الوقف لأجل إخراج عين الموقوفة عن ملكه ـ وجعله في سبيل الله ـ فهذه دعوى بلا بيّنة ولا برهان ، بل ظاهر أدلّة تشريع الوقف هو أن يجعل الواقف ماله الموقوف محبوسا في عالم التشريع والاعتبار عن وقوع التقلّبات الاعتبارية عليه ، ليبقى صدقة جارية على مرور الدهور ، ويجعل ثمرته في سبيل الله تعالى للموقوف عليه الذي عيّنه ، ومن الواضح المعلوم أنّ مثل هذا المعنى لا يستلزم الخروج عن ملكه لا شرعا ولا عرفا.
وأمّا ما قيل : من أنّ فائدة الملك هو الانتفاع بثمرته ، أو وقوع التقلّبات الاعتبارية عليه ، فإذا لم يكن لا هذا ولا ذاك فاعتبار الملكيّة لغو ، لأنّ مورد الكلام هو الوقف المؤبّد ، وفي غيره لم ينكر المشهور عدم خروجه عن ملك الواقف ، بل إمّا لم يخرج أصلا ، أو خرج موقّتا ثمَّ يعود كما في الحبس ، بل وفي الوقف المنقطع الآخر.
وهذا الدليل وإن كان لا يخلو عن قوّة ، ولكنّه مع ذلك يمكن أن يقال : إنّ الملكيّة حيث أنّها من الأمور الاعتبارية يمكن اعتبارها ولو كان لأثر اعتباري.
وأمّا ما قيل : من أنّها صدقة ، ومن لوازم كون المال صدقة خروجه عن ملك المتصدّق ، كما ربما يدلّ عليه قوله عليه السلام في رواية طلحة ابن زيد : « إنّما هو بمنزلة العتاقة لا يصلح ردّها بعد ما يعتق » (71).
ففيه : أنّ هذا بالنسبة إلى الصدقة بالمعنى الأخصّ ، وهو غير الوقف.
وإن شئت قلت : إنّ هذا المعنى من لوازم بعض أقسام الصدقة ، لا الطبيعة المطلقة.
وأمّا ما قيل من القول بعدم خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف ، يلزم تخصيص قوله تعالى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [المؤمنون: 6] والأصل عدم التخصيص ، وذلك لأنّ وطي أمته التي وقفها لا يجوز قطعا ، فلو لم تكن خارجة عن ملكه ومع ذلك لا يجوز ، يلزم تخصيص هذه الآية ، لأنّ مفادها جواز وطي كلّ من كانت ملك يمينه.
وهذا استدلال عجيب ، لأنّ مورد أصالة العموم ـ أو بتعبير آخر أصالة عدم التخصيص ـ فيما إذا كان الشكّ في الخروج عن تحت العموم ، لا ما هو مقطوع الخروج عن الحكم ـ كما في هذه الآية الشريفة ـ والشكّ في كونه مصداقا ، فإذا لم يكن دليل على زوال ملكيّة المال الموقوف عن ملك الواقف ، ووصلت النوبة إلى حكم الشكّ ، فالأصل يقتضي بقاء الملكيّة.
هذا كلّه في الوقف المؤبّد ، ولكن مع ذلك كلّه القول ببقاء ملكيّة الواقف ـ مع ما عرفت من الإجماع على العدم الذي يظهر من كلام السرائر والغنية ، ومع ما عرفت من لغويّة اعتبارها مع عدم وجود أثر لها ، ومع الأخبار الظاهرة في انقطاع الواقف عن العين الموقوفة ، كقول أمير المؤمنين عليه السلام في وقف عين التي كانت في ينبع « هي صدقة بتّا بتلا » والبت والبتل بمعنى القطع والانقطاع ، وظاهره أنّه عليه السلام قطع نفسه عنها ولم يبق له علاقة معها ـ مشكل جدّا.
ثمَّ إنّه بناء على الخروج عن ملك الواقف ، فهل يدخل في ملك الموقوف عليه ، أو في ملك الله تعالى ، أو يبقى بلا مالك ، أو يفصّل بين الوقف الخاصّ والعامّ؟
فالأوّل عبارة عن الوقف على الأشخاص ، والثاني على العناوين.
ففي الأوّل ينتقل إلى الموقوف عليهم ، وفي العامّ ينتقل إلى الله تعالى أو يفصّل بين الوقف الخاصّ وبين الوقف على الجهات ، كالمساجد والقناطر ولخانات التي في الطريق لعموم المسافرين ، ففي الأوّل ينتقل إلى الموقوف عليهم ، وفي الثاني إلى الله. وتفاصيل أخر. وجوه بل أقوال.
أقول : لو لم يوجد دليل على الانتقال إلى الموقوف عليه ، ووصلت النوبة إلى حكم الشكّ ، فلا شكّ في أنّ مقتضى الأصل عدم الانتقال.
وأمّا الدليل على الانتقال ، فعمدته عند القائلين به أمران :
أحدهما : بقاء الملك بدون مالك ، وهو غير معقول.
والثاني : أنّ الملكيّة اعتبار عقلائيّ أمضاها الشارع لترتّب آثار عليها ، فإذا رأينا أنّ الشارع يرتّب آثار الملكيّة لشخص أو عنوان بالنسبة إلى مال ، نستكشف ملكيّة ذلك المال لذلك الشخص ، أو لذلك العنوان عند وجودهما ، وهذا من الحكم بوجود اللزوم لوجود لازمه ، ولا شكّ في أنّ ملكيّة نماء مال وثمراته من الآثار ولوازم ملكيّة نفس ذلك المال ، وأيضا لا شكّ في أنّ نماءات مال الموقوف وثمراته تكون للموقوف عليهم.
أقول أمّا الأوّل : ففيه : أنّ كون المال بلا مالك لا مانع منه ، فإنّ المباحات الأصليّة التي يدفع بإزائها المال مال وليس لها مالك ، وكذلك الأموال التي يعرض عنها أصحابها بناء على القول بخروج تلك الأموال عن ملك أصحابها بالإعراض عنها ، فأموال وليس لها مالك قبل وضع آخر يده عليها.
وأمّا الملك بدون المالك وإن كان لا يمكن وغير معقول إلاّ أنّ كون المال الموقوف ملكا بعد زوال ملك الواقف عنه أوّل الكلام، ويكون ادّعاؤه شبه مصادرة.
وأمّا الثاني : فإنّ ملكيّة النماءات والثمرات من قبيل لازم الأعمّ بالنسبة إلى ملكيّة العين ، فإنّ المستأجر يملك منافع العين بعقد الإجارة مع عدم كونه مالكا للعين ، وهكذا في العارية بناء على أنّها تمليك منفعة لا تمليك صرف الانتفاع بها. ومعلوم أنّه لا يمكن استكشاف الملزوم الخاصّ من اللازم الأعمّ.
هذا ، مضافا إلى أنّ بعض أقسام الوقف ، كالوقف على الجهات العامّة ـ كالمساجد والقناطر والجسور والخانات الموقوفة في الطرق لنزول عامة المسافرين ـ ليس الموقوف عليه فيها قابلا لأن يتملك.
والقول بأنّ الملكيّة أمر اعتباري وليس عرضا خارجيّا فتابع لاعتبار المعتبرين ، فإذا اعتبروه لهذه الجهات فيتحقّق في عالم الاعتبار.
وفيه : أنّها وإن كان كذلك ، ولكن العقلاء أو الشارع لا يعتبرون ذلك الأمر الاعتباري إلاّ في مورد يكون مصحّحا لاعتبارهم، فلا يعتبرون الولاية أو القيمومة على الصغير ـ مثلا ـ لسفيه أو مجنون ، ونرى بالوجدان أنّهم يستنكرون اعتبار الملكيّة لجماد أو نبات ، بل ولحيوان غير الإنسان.
ومضافا إلى أنّ هذه الدعوى معارض بمثلها ، وهو أنّه كما يستكشف من وجود الأثر واللازم وجود الملزوم ، كذلك يستكشف من نفي الأثر واللازم نفي الملزوم ، ولا شكّ أنّ من لوازم الملكيّة جواز التصرّف في الملك ببيع أو هبة أو صلح وسائر التقلّبات المشروعة في عالم الاعتبار التشريعي ، ولا شكّ في أنّ الموقوف عليه ليس له هذه التصرّفات حقيقة ، إذ هي ضدّ حقيقة الوقف الذي هو الحبس والإيقاف في عالم الاعتبار التشريعي.
فيمكن أن يقال بعدم الملكيّة لعدم جواز هذه التصرّفات.
ولكن الجواب في كلا المقامين واحد ، وهو أنّه لا وجود اللازم الأعمّ يدلّ على وجود الملزوم الخاصّ ، ولا نفي الأثر الذي ليس لازما لنفس الطبيعة ، بل قد يكون وقد لا يكون لنفي تلك الطبيعة.
وبعبارة أخرى : الأثر فيما نحن فيه ـ أي : التصرّفات في العين وجواز ورود التقلّبات عليه ـ ليس أثرا لطبيعة الملك مطلقا ، سواء أكان طلقا أو غير طلق ، بل أثر للملك الطلق ، والوقف على تقدير كونه ملكا ليس بطلق ، فنفي اللازم وإن كان يدلّ على نفي الملزوم ، لكن فيما إذا كان من لوازم الشيء مطلقا ، لا من لوازم بعض أقسامه ، كما فيما نحن فيه ، نعم يدلّ على نفي ذلك القسم الذي هو لازمه.
وممّا ذكرنا ظهر : أنّ ما أفاده صاحب الكفاية ـ من التفصيل بين الوقف على الجهات ، فقال بعدم انتقال الملك إلى تلك الجهة ، لعدم قابليّتها للتملّك ، ونفي البعد عن الانتقال إلى الموقوف عليهم في الأوقاف الخاصّة ، والعناوين العامّة القابلة للتملّك (عليه السلام 2) ـ قول وتفصيل بلا دليل ، ولم يقم هو دليل على هذه الدعوى ، وما ذكروه عرفت حاله.
الأمر الثاني : في الوقف على أولاده.
وللوقف على الأولاد في مقام الإنشاء صور :
فتارة : يقف على أولاده بدون قيد الصلبي ، وأخرى : معه.
فإذا كان أولاده بدون قيد الصلبي ، فهل يشمل أولاد أولاده ، أو يختص بالصلبي؟
أي بدون واسطة ، كما أنّه لو كان مقيّدا بالصلبي لا يشملهم يقينا إلاّ مع قرينة.
وظاهر المشهور اختصاصه بالصلبي ، وعدم شموله لأولاد الأولاد.
ولكن هذه الكلمة بحسب الوضع اللغوي تكون موضوعه لمطلق الولد ، سواء أكان بلا واسطة أو معها ، فيشمل الجميع ، إلاّ أن يدّعي الانصراف وهو غير بعيد ، لأنّ مشهور الفقهاء الكبار إذا فهموا منه كون الولد بلا واسطة مع أنّ الأساطين منهم عربيّون وهم أعرف بظواهر لغتهم ، والمناط في باب الألفاظ هو ظهورها في معنى ، فإنّه حجّة ، لا أنّه موضوع لكذا أو كذا.
وأمّا لو قال : على أولادي وأولاد أولادي ، فهل يشمل خصوص البطن الأوّل والثاني فقط ، أو يعمّ جميع البطون؟
فذهب المشهور إلى أنّ كلمة « أولادي » ينصرف إلى بلا واسطة ، أي البطن الأوّل ، وكلمه « أولاد أولادي » إلى البطن الثاني فقط ، فلا يعمّ جميع البطون. وهو الصحيح ، لأنّ ذكر أولاد أولادي قرينة على عدم عموم كلمة أولادي الأوّل ، وإلاّ لما كان يحتاج إلى الثاني.
كما أنّه أيضا قرينة على اختصاصه بالبطن الثاني فقط ، ولا يشمل سائر البطون لعين تلك الجهة ، إذ لو يؤخذ بعموم لفظ « الأولاد » فلم يكن ذكره محتاج إليه بل كان لغوا ، فيكون ذكره قرينة على عدم العموم في المضاف وفي المضاف إليه.
وأمّا شمولها للذكر والأنثى بل الخنثى ، وإن كان الولد بحسب الوضع اللغوي عامّا يشمل الذكر والأنثى والخنثى ، ولكن حيث قلنا إنّ المناط هو الظهور لا المعنى الحقيقي ، فلا بدّ من مراعاة الظهورات ، وهي تختلف بحسب الأعصار والأمصار ، ففي هذا الزمان ـ مثلا في العراق ـ ينصرف لفظ الولد إلى الذكر ، ولا يشمل الأنثى ولا الخنثى.
فلو كان الواقف من أهل هذه البلاد وفي هذا الزمان ، يجب الأخذ بظاهرهما وما هو المتفاهم العرفي بينهم ، وإن كان بحسب الوضع اللغوي له معنى عامّ.
وأمّا لو قال : وقفت على أولادي نسلا بعد نسل وبطنا بعد بطن ، فهل يشمل البطون على الترتيب أو على التشريك؟ بمعنى أنّ الابن يشارك أباه ، وكذا ابن الابن يشارك أباه وجدّه وهكذا ، أو لا يصل إلى الطبقة الثانية إلاّ بعد موت الطبقة الأولى ، فلو كان للواقف ابن واحد حيّ وابن مات أبوه فهل يشارك عمّه ، أو لا؟
فبناء على القول بالترتيب لا يشارك ، وعلى التشريك يشارك.
وقد تقدّم أنّه يجب الأخذ بظاهر كلامه عند الإنشاء إن لم يعلم بمراده. والظاهر حسب المتفاهم العرفي من هذه العبارة هو الترتيب لا التشريك ، بمعنى أنّه لا تصل النوبة إلى الطبقة الثانية ما دام من الطبقة الأولى يكون موجودا ولو كان واحدا ، فلا تصل إلى أحفاده ما دام أولاده الصلبي موجودا. وهذا الترتيب بين الطبقات يستفاد من ظاهر لفظ « بعد » ، وهو واضح. والاحتمالات الأخر ملقى بنظر العرف.
الأمر الثالث : في أنّ الوقف لا يبطل بخرابه وانهدامه ، لا بجواز بيعه.
أمّا الأوّل : فلأنّ وقف دكّان أو دار أو بستان ـ مثلا ـ مثل بيعه أو هبته أو سائر الاعتبارات الواردة عليها ، فكما أنّه لا تبطل تلك العناوين بخرابه وانهدامه ، فكذلك في الوقف ، لأنّه أيضا أحد الاعتبارات الواردة عليه وليس الموقوف عنوان الدار أو الدكّان مثلا ، بل تلك القطعة من الأرض المعنونة بهذا العنوان.
فلو ارتفع العنوان فلا ينعدم موضوع الوقف بالمرّة ، بل الموقوف باق ، غاية الأمر وقع تغيّر فيه ، وهذا التغيير لا يضرّ ببقاء الوقف ولا ببقاء الموقوف عليه ، فلا وجه لبطلان الوقف.
نعم لو جاء دليل على أنّه خرج عن كونه وقفا بإتيان دليل على جواز بيعه ، فهو المتّبع ، وإلاّ فمقتضى الأصل بقاء وقفيّته حتّى مع جواز بيعه ، لبقاء الموضوع عرفا ، وهو تلك القطعة من الأرض التي كانت معنونة بعنوان الحمّام أو الدار أو الدكّان أو غير ذلك.
وأمّا الثاني : أي : عدم بطلان الوقف بجواز بيعه : فلأنّ بطلان الشيء إمّا بانعدام علل قوامه ـ وذلك لأنّه بعد انتفاء علل قوامه جميعا لو بعضها أو بقي يلزم الخلف ، أي يلزم أن يكون ما فرضه داخلا في قوامه لا يكون داخلا في قوامه ، وهو محال ـ وإمّا بإتيان دليل تعبّدي على بطلانه.
أمّا الدليل التعبّدي من إجماع أو آية أو رواية معتبرة ، فليس شيء من هذه في المقام ، فالعمدة هو الوجه الأوّل ، أي انتفاء شيء ممّا هو داخل في قوامه ، فلا بدّ وأن ينظر ويلاحظ هل عدم جواز البيع من مقوّمات حقيقة الوقف وماهيّته كي يبطل بجواز البيع ، أو من بعض آثاره وأحكامه كي لا يكون ارتفاعه وجوازه موجبا لبطلانه إذا جاء دليل من نصّ أو إجماع على جواز بيعه عند عروض بعض العوارض؟
إذا عرفت هذا ، فنقول : قد تقدّم أنّ الوقف عبارة عن الإيقاف وحبسه عن التقلّبات الاعتباريّة ، كبيعه وهبته والصلح عليه وغير ذلك ، ومقتضى هذا التعريف أنّ عدم جواز البيع كسائر التبدّلات الاعتباريّة داخل في حقيقة البيع وفي قوام ذاته ، أو لا أقلّ من مقتضيات ذاته ، فلا بدّ من القول ببطلانه عند جوازه.
اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حقيقة الوقف وإن كان هو الحبس عن التقلّبات في عالم الاعتبار التشريعي ، ولكن لا مطلقا ، بل ما لم يعرض عليه أحد موجبات جواز بيعه ، وإلاّ ففي صورة حدوث أحد تلك الموجبات لجواز بيعه يجوز بيعه ، مع أنّه وقف. نعم بوقوع البيع خارجا لا يبقى موضوع للوقف ، فيرتفع قهرا.
وهذا أيضا يظهر من ظاهر عبارتهم أنّه يجوز بيع الوقف في مورد كذا وكذا ، فإنّ ظاهرها أنّ البيع يرد على الوقف.
وعلى كلّ حال قالوا بجواز بيع الوقف في موارد وصور :
الأوّل : أن يخرب الوقف بحيث يسقط عن المنفعة بالمرّة ، بمعنى أنّه لا يمكن انتفاع الموقوف عليهم به مع بقاء عينه.
ووجه جواز البيع في هذه الصورة هو أنّ حبس العين عن البيع وعن سائر التقلّبات كان لأجل أن ينتفع الموقوف عليهم به ، وهذه الغاية هو المراد والمقصود الأصلي من إنشاء الوقف ، فإن لم يمكن الانتفاع به أصلا فيكون الإيقاف لغوا.
ولذلك قلنا من شرائط صحّة الوقف أن يكون الموقوف ذا منفعة محلّلة قابلة للتسبيل ، فالمنع عن البيع يكون لأجل هذه الجهة ، فإذا لم تكن منفعة في البين فلا مانع عن البيع ، لأنّ إبقاءه لغو ولا فائدة فيه.
وأمّا أدلّة المنع ، فادّعاء الإجماع على عدم جواز البيع ، مع ذهاب الأكثر إلى الجواز في هذه الصورة فممّا لا ينبغي أن يتفوّه به.
وأمّا قول أبي الحسن عليه السلام في رواية عليّ بن راشد : « لا يجوز شراء الوقف ، ولا تدخل الغلة في ملكك » (73) لا إطلاق لها يشمل هذه الصورة ، لورود هذه الرواية في مورد وجود منفعة العين الموقوفة كاملة ، وإنّما كان سؤال الراوي عن اشتراء الوقف من جهة مجهوليّة الموقوف عليه ، ولذلك قال عليه السلام : « ادفعها إلى من أوقفت عليه » قال :
لا أعرف لها ربّا ، قال عليه السلام : « تصدّق بغلتها ». فليس عليه السلام في مقام بيان أنّ الوقف بأيّ حال من الأحوال لا يجوز شراؤها.
وإن شئت قلت : إنّها منصرفة عن هذه الصورة التي ترجع إلى إبقائها بلا فائدة حتّى تتلف.
وبعبارة أخرى : المراد منها أنّ الوقف ليس على حدّ سائر الأملاك المطلقة ، بحيث يجوز بيعه وشراؤه مطلقا.
وأمّا قوله عليه السلام « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » فأجنبيّ عن هذا المقام ، لأنّ ظاهره لزوم العمل على طبق ما قرّره الواقف من القيود والشروط حين إنشاء الوقف.
ومعلوم أنّ إبقاؤها وعدم بيعها بعد ما لم تكن لها منفعة أصلا ـ وكان إبقاؤها لغوا وبلا فائدة ـ ليس من الكيفيّة التي أنشأ الواقف الوقف بتلك الكيفيّة ، ولا من الشروط أو القيود التي قرّر الوقف عليها حال الإنشاء.
وأمّا قوله عليه السلام : « صدقة لا تباع » في طائفة من الأخبار المتقدّمة ، فالظاهر أنّ المراد منه أنّ الوقف ليس على حدّ سائر الأملاك المطلقة ، بل لا يجوز بيعه وشراؤه إلاّ بعد دليل على الجواز في بعض الحالات الطارئة عليه ، فيكون مخصّصا لأدلّة عدم جواز بيعه إن كان لها عموم ، ومقيّدا إن كان لها إطلاق.
ويكون ذلك الدليل الدالّ على الجواز حاكما على أصالة عدم جواز البيع ، أو استصحاب المنع الذي كان قبل طروّ تلك الحالة، على تقدير جريانه وتماميّة أركانه ، فيدور الأمر بين أحد هذه الأمور الثلاثة :
أحدها : إبقاؤها حتّى تتلف. وهذا ممّا يأباه الذوق الفقهي والفهم السليم.
والثاني : بيعه وإعطاء ثمنه للموجودين. وهذا تضييع لحقّ البطون اللاحقة.
الثالث : تبديله بعين أخرى تكون ذات منفعة جارية كالمبدّل ، فتكون صدقة جارية كالأصل ، وربما يكون في البدل نفعا أكثر من الأصل.
ويمكن أن يوجّه التبديل ، مضافا إلى ما ذكرنا أنّ الواقف أنشأ حبس العين بجهاتها الثلاث لجريان منافعها على الموقوف عليهم ، والمراد من الجهات الثلاث : الخصوصيّات ، والنوعيّة ، والماليّة للعين الموقوفة. وبعد تعذّر إبقاؤها شرعا بجهاتها الثلاث لكونها لغوا لا فائدة فيه ، ولا يترتّب عليه الأثر المقصود من وقفها ، وإمكان إبقائها بجهتين ، أي : الماليّة ، والجهات النوعيّة ، كما إذا كان الموقوف دارا فخربت ، وهي في مكان لا ينتفع بها أصلا ، ولكن أرضها واقعة بجنب دار أو دكّان أو خان يشتريها ربّ تلك الدار أو ذلك الدكّان أو الخان بأعلى القيم ، فيشتري دارا أخرى بثمن تلك الخربة دارا أوسع وأحسن منه بعشر مرّات ، فيمكن إبقاء حبس ماليّة تلك الدار الموقوفة مع جهاتها النوعيّة ، فلا وجه لعدم الالتزام بالإبقاء والقول بذهابه من البين.
ثمَّ إنّهم ذكروا ها هنا احتمالات وأقوال لا يهمّنا ذكرها بعد ما عرفت ممّا هو الصواب ، فذكرها والنقض على بعضها وإبرام بعضها الآخر لا فائدة فيها إلاّ تطويل المقام.
الصورة الثانية : أن يكون خرابه سببا لقلّة الانتفاع به ، كما إذا خرب دكّان أو خان ، وكان نفعهما حين ما كانا دكّانا وخانا كثيرا ، لأنّهم كانوا يستأجرونهما لمحلّ كسبهم وتجارتهم ، ولكن بعد خرابها وصيرورتها عرصتين وإن كانوا يستأجرونهما بمقدار قليل لبعض الحوائج ، ولكن بالنسبة إلى النفع الأوّل في حكم العدم ، فالمشهور ذهبوا إلى عدم جواز بيعه ، لأنّ إبقاءه ليس بلا فائدة ، غاية الأمر قليلة ولو كان قلّة المنفعة كانت سببا لجواز البيع ، فإذا كان الدكّان أو الخان في سوق كثير المارّة مزدحمة بالناس ، ثمَّ اتّفق أن صار ذلك السوق قليل المارّة بواسطة وجود الشوارع والأسواق المعمورة في ذلك البلد وإقبال الناس عليها ، فيقلّ طلاّب ذلك الدكّان أو ذلك الخان ، وربما يبلغ في القلّة ونزول غلّته إلى عشر ما كان في الأوّل ، فهل ترضى من نفسك أن تقول بجواز بيع مثل ذلك الدكّان والخان؟!
فالإنصاف : أنّ ما ذهب المشهور إليه من عدم جواز بيعه في هذه الصورة جيّد ولا بأس به. نعم لو قلّت منفعته بمقدار لا يعدّه العرف ذا منفعة ، بل يرونه عادم المنفعة ، فالظاهر إلحاقه بالصورة الأولى ، لأنّ الوقفيّة أيضا اعتبار من اعتبارات الشرع ، بل هو أيضا مثل الملكيّة من الاعتبارات العرفيّة التي أمضاها الشارع ، وليس من مخترعاته ، فإذا كان نفعه قليلا بحيث يرى العرف حبسه وتسبيل منفعته لغوا ، فلا تشمله أدلّة المنع عن بيع الوقف.
اللهمّ إلاّ أن يقال بجريان استصحاب عدم جواز البيع قبل أن تقلّ منفعته إلى ذلك الحدّ ، وذلك أيضا فيما إذا حصل الشك.
وأمّا إذا كان اعتبار الوقف لغوا في مثل هذا المال الذي بنظرهم يكون مسلوب المنفعة ـ وإن كان له منفعة قليلة ـ فلا يأتي شكّ كي يستصحب المنع.
الصورة الثالثة : لو زال العنوان الذي وقفه الواقف بذلك العنوان ، كالحمّام والبستان ، فوقف الأوّل لأن يغتسل فيه الزوّار أو الطلاّب مثلا ، والثاني لأن ينتفع بثمرته الفقراء ، فخربا وصارا عرصتين ، ولكن يمكن أن ينتفع الموقوف عليهم بهما بعد خرابهما وزوال عنوانهما بمنافع أخر أكثر من الأوّل أو ما يساويه.
فقال جماعة بجواز بيعهما بعد زوال عنوانهما ، لأنّ الواقف وقف الحمّام أو البستان ، والمفروض أنّ ما هو الموجود ليس بحمّام ولا ببستان ، فلم يبق ما هو الموقوف كي يقال بوقفيّته.
وأشكل عليه : بأنّ تعلّق الوقف بهذه العناوين مثل تعلّق البيع والهبة بها ، فكما أنّه لو باع الحمّام أو البستان ، أو وهبهما لا يخرجان عن ملك المشتري أو الموهوب له بزوال عنوانيهما وصيرورتهما عرصتين ، فكذلك لا يخرجان عن الوقفيّة بزوال العنوانين.
وما قيل في الفرق : بأنّ الحمّام أو البستان في البيع والهبة مورد ، وفي الوقف عنوان ، لا يخلو عن مجازفة.
اللهمّ إلاّ أن يكون مراد هذا القائل أنّ في باب البيع والهبة يملك الأرض مع بنائها للمشتري والموهوب له ، ولذلك لو خربا وانهدما لا تخرج أرضهما عن ملكه ، بخلاف الواقف فإنّه يحبس هذا العنوان لتسبيل منفعته.
فعمدة نظره إلى تسبيل منفعة هذا العنوان ، فإذا زال فلا يبقى موضوع للحبس ولا لتسبيل منفعته ، لأنّه بناء على ما ذكرنا يكون مراد الواقف ـ وما أنشأه ـ هو تسبيل منفعة هذا العنوان ، لا منفعة هذه الأرض التي بنى عليها هذا العنوان ، فإذا وقف دارا على أن يسكن فيه إمام المسجد الفلاني مثلا ، فانهدمت وصارت عرصة لا بناء عليها ، فإنّه وإن كان من الممكن أن تكون لتلك الأرض منافع كثيرة ، يجعلها مخزن للبعض الأجناس ، أو محلاّ للسيّارات ، ولكن هذه المنافع لم ينشأ نسبتها من طرف الواقف.
نعم لو قلنا بأنّ حقيقة الوقف تمليك للموقوف عليهم لكان حال الوقف حال البيع والهبة ، وقياسه في محلّه. ولكنّك عرفت أنّ حقيقة الوقف هو إيقاف العين لتسبيل ثمرتها ، أو هو مركّب من الأمرين.
نعم لو كان إعادة العنوان ممكنا بمقدار من غلّته ، كما إذا كانت إعادة البستان أو كونه حمّاما أو دكّانا أو خانا ، وهكذا بغرس الأشجار في الأوّل ، وبناء مثل ما انهدم في البقية بأن يواجره لمدّة ، خصوصا إذا كانت المدّة قليلة ، فلا يبعد عدم جواز بيعه ولزوم إعادة عنوانه ، مثلا الدكّان الذي وقع في محلّ مرغوب من البلد ـ ويستأجرونه بمقدار كثير من المال ـ لو انهدم ويمكن إعادة عنوانه بنصف إجارته السنويّة لا يصحّ بيعه وإبطال الوقف مع إمكان إبقائه عرفا ، وإن كان بتجديد بنائه. وهكذا الأمر والحال في سائر العناوين.
وقد تقدّم عدم بطلان وقفيّته بخرابه وانهدامه ، وكلامنا الآن في عدم جواز بيعه بعد الفراغ عن عدم بطلان وقفيّته.
وحاصل الكلام : أنّ ما ذكرنا في وجه جواز بيعه هو الذي أثبتنا فساده وبطلانه في مقام بيان عدم زوال وقفيّته بالخراب والانهدام ، فالحقّ أنّه لا يجوز بيعه بصرف زوال عنوانه مع بقاء منفعته بمقدار يعتنى به ، وخصوصا إذا كان إعادة عنوانه ممكنا بمقدار من غلّته.
الصورة الرابعة : أن يكون بيعها أنفع وأعود للموقوف عليهم ، بأن يبيعوها ويشترون بثمنها شيئا من أمثالها ، أو من غير أمثالها ، ويقفونه على من كان موقوفا عليه على النهج الوقف الأوّل ، وتكون غلّة الثاني أكثر بمقدار معتدّ به ، بل اتّفق في زماننا أنّه لو كان بيعها صحيحا في هذه الصورة يكون أعود عليهم بآلاف مرّة ، بل ليس قابلا للقياس عرفا ، مثلا : كانت مزرعة وقفا على مدرسة دينيّة تزرع فيها الخضروات ، فصارت متّصلة بمكان مرغوب من بلد كبير مزدحمة بالسكّان ، يشترون كلّ متر من أرض تلك القرية بمقدار كثير من المال ، بحيث يمكن أن تكون منفعة ثمن هذا المتر الواحد لو يشترون به شيئا آخر مساويا لمنفعة تمام تلك القرية التي هي مئات ألوف من الأمتار ، فهذا شيء غير قابل للقياس عرفا.
فهل يجوز بيعها في هذه الصورة ، أم لا؟
حكى عن المفيد ـ رضوان الله عليه ـ جواز بيعه ، (74) ولكن أنكر بعض صحّة هذه الحكاية ، والذي رأيته في المقنعة عبارته هكذا : « أو يكون تغيير الشرط في الوقف إلى غيره أعود عليهم وأنفع لهم » (75).
وأنت خبير بأنّ هذه العبارة لا تدلّ على جواز بيع الوقف إن كان البيع أعود لهم ، بل راجع إلى تغيير الشرط إذا كان ذلك التغيير أنفع لهم ، كما إذا شرط أن يكون زرعه شعيرا ، وكانت الحنطة أعود وأنفع لهم ، أو شرط أن يشغل فيه خباز ، وكانت الصيدلة أنفع لهم ، وهكذا.
وعلى كلّ حال مقتضى أدلّة المنع التي تقدّم ذكرها عدم جواز بيعها ، وليس مخرج عنها إلاّ ما يتوهّم من دلالة بعض الروايات على الجواز.
منها : رواية جعفر بن حنّان قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام إلى أن يقول : قلت : فللورثة من قرابة الميّت أن يبيعوا الأرض إن احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج من الغلّة؟ قال : « نعم إذا رضوا كلّهم وكان البيع خيرا لهم باعوا » (76).
ومنها : خبر الحميري ، كتب إلى صاحب الزمان عجّل الله فرجه : روى عن الصادق عليه السلام غير مأثور : إذا كان الوقف على قوم بأعيانهم وأعقابهم فاجتمع أهل الوقف على بيعه ، وكان ذلك أصلح ، لهم أن يبيعوه ، فهل يجوز أن يشتري من بعضهم ان لم يجتمعوا كلّهم على البيع ، أم لا يجوز إلاّ أن يجتمعوا كلّهم على ذلك؟ وعن الوقف الذي لا يجوز بيعه؟ فأجاب عليه السلام : « إذا كان الوقف على إمام المسلمين فلا يجوز بيعه ، وإذا كان على قوم من المسلمين فليبع كلّ قوم ما يقدرون على بيعه مجتمعين ومتفرّقين إن شاء الله تعالى » (77).
أمّا الرواية الأولى : فظاهر السؤال أنّه يجوز بيع الوقف عند احتياج الموقوف عليهم ، وعدم كفاية غلّته لهم ، فأجاب عليه السلام بالجواز مع رضائه كلّهم ، وكان البيع خيرا لهم ، وهذه الصورة غير التي الآن محلّ كلامنا ، وسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
وأمّا رواية الحميري : فظاهرها جواز البيع مطلقا ، سواء أكان أعود أو لم يكن كذلك ، ولم يقل به أحد. وعلى كلّ حال خارج عمّا هو محلّ كلامنا.
الصورة الخامسة : أن يلحق الموقوف عليهم ضرورة شديدة وحاجة ولا يكفيهم غلّته.
فذهب جماعة إلى صحّة البيع وجوازه في هذه الصورة ، وحكى عن السيّدين المرتضى (78) وابن زهرة (79) الإجماع على الجواز.
وعمدة الاستدلال على الجواز هو قوله عليه السلام في خبر جعفر بن حنّان قال : « نعم إذا رضوا كلّهم » في جواب السائل ، حيث يسأل عن جواز البيع إن احتاجوا ولم يكفهم غلّته.
ولكن يمكن أن يقال : إنّ ظاهر الجواب هو جواز البيع مطلقا ، لأنّ العبرة بعموم الجواب لا بخصوصيّة المورد ، ولا بالخصوصيّة التي تذكر في السؤال. مضافا إلى ضعف هاتين الروايتين وإعراض الأصحاب عنهما وعدم العمل بمضمونهما.
فالإنصاف عدم جواز البيع في هذه الصورة أيضا ، بملاحظة أدلّة المنع.
الصورة السادسة : أن يقع بين أرباب الوقف اختلاف ربما ينجرّ إلى تلف الأموال والنفوس.
فذهب جماعة إلى جواز بيعه في هذه الصورة ، وعمدة الدليل على هذا القول هو مكاتبة عليّ بن مهزيار قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام : أنّ فلانا ابتاع ضيعة ، فأوقفها وجعل لك في الوقف الخمس ، ويسأل عن رأيك في بيع حصّتك من الأرض ، أو تقويمها على نفسه بما أشتريها ، أو يدعها موقوفة؟ فكتب إليّ : « أعلم فلانا أنّي آمره ببيع حقّي من الضيعة ، وإيصال ثمن ذلك إليّ ، وإنّ ذلك رأيي إن شاء الله ، أو يقوّمها على نفسه إن كان ذلك أوفق له » (80).
وكتبت إليه : أنّ رجلا ذكر أنّ بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافا شديدا ، وأنّه ليس يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم بعده ، فإن كان ترى أن يبيع هذا الوقف ، ويدفع إلى كلّ إنسان منهم ما وقف له من ذلك أمرته؟ فكتب إليّ بخطّه : « وأعلمه أنّ رأيي له إن كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف أن يبيع الوقف أمثل ، فإنّه ربما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس » (81).
ودلالة هذه الرواية على جواز البيع ـ إذا كان بين الموقوف عليهم اختلافا يظنّ أنّه يوجب تلف الأموال أو النفوس ـ واضح لا ريب فيه.
ولكن من المحتمل القريب أن يكون تجويزه عليه السلام ذلك في الوقف المنقطع لا الدائم والمؤيّد الذي هو محلّ الكلام ، لأنّ الوقف المنقطع الآخر مثل الحبس إمّا لا يخرج عن ملك الواقف أصلا ، أو على فرض خروجه يكون خروجه موقّتا وما دام بقاء الموقوف عليهم ، فيجوز للواقف المالك أن يبيع ماله.
ويؤيّد هذا الاحتمال ظهور الرواية في كون الثمن للموجودين ، ولو كان مؤبّدا لكان منافيا مع حقّ البطون اللاحقة ، فلا بدّ من الحمل على الوقف المنقطع.
وأيضا من المحتمل أن يكون مورد السؤال هو الوقف بعد إجراء الصيغة وقبل القبض ، فيجوز رجوع الواقف وأن يبيعه.
ويؤيّد هذا الاحتمال أنّ حصّة الإمام عليه السلام كانت قبل القبض يقينا ، لأنّه يخبره بأنّه جعل لك في الوقف الخمس ، والقبض فضولة لا معنى له ، وصاحب الوسائل أيضا يدّعي ظهور الرواية في عدم القبض (82).
ويؤيّد كونه ، أي تجويزه عليه السلام للبيع في الوقف المنقطع ما عن دعائم الإسلام أنّه ذكر جواب الإمام هكذا : فكتب عليه السلام : « إنّ رأيي له إن لم يكن جعل آخر الوقف لله أن يبيع حقّي من الضيعة ويوصل ثمن ذلك إليّ ، وأن يبيع القوم إذا تشاجروا ، فإنّه ربما جاء في الاختلاف إتلاف الأموال والأنفس » (83).
فبناء على صحّة هذا النقل جعل عليه السلام جواز البيع مشروطا بأن لم يجعل آخر الوقف لله تعالى ، وهذا عبارة عن الوقف المنقطع ، ولكن الظاهر أنّه نقل بالمعنى ، فيكون هذا الشرط حسب فهمه واجتهاده في استظهار المراد من الرواية ، فلا اعتبار به ، وعلى فرض عدم كونه اجتهادا منه في فهم المراد ، بل كان نقلا للرواية ، فأيضا لا اعتبار به ، لأنّه ليس قابلا للمعارضة مع ما رواه في الكافي (84) والتهذيب (85).
مضافا إلى أنّ في أصل حجّية كتابه كلام بل إشكال ، فالأحسن حمل الرواية على عدم حصول القبض ، كما حمله في الوسائل.
وعلى كلّ حال مع وجود هذه الاحتمالات لا يبقى مجال لرفع اليد عن الأدلّة المانعة بهذه الرواية.
الصورة السابعة : فيما إذا اشترط الواقف بيعه لو خرب أو قلّ نفعه ، أو إذا كان بيعه أعود عليهم ، أو إذا وقع بينهم الاختلاف، أو عند حدوث أمر آخر غير المذكورات ، فهل يجوز البيع ويكون الشرط نافذا ، أو يكون الشرط فاسدا ، أو يكون الشرط والوقف كلاهما باطلان بناء على أنّ الشرط الفاسد إذا وقع في ضمن عقد يكون مفسدا لذلك العقد؟
والظاهر صحّة الشرط والوقف جميعا ، وذلك لأنّه لا وجه لبطلانهما أو بطلان خصوص الشرط ، إلاّ ما يتوهّم من أنّ هذا الشرط خلاف مقتضي العقد ، أو خلاف الكتاب والسنّة وكلاهما ليس في محلّه.
أمّا توهّم الأوّل : فلأنّ مقتضى عقد الوقف لو كان عدم جواز البيع مطلقا ، لكان لهذا التوهّم وجه ، ولكنّ الظاهر أنّ عدم جواز البيع مقتضى إطلاق عقدة ، لا مقتضى عقده مطلقا ، ولذلك يصحّ وقف المنقطع الآخر.
وأيضا لذلك قلنا بعدم بطلان الوقف بجواز البيع ، وإنّما يذهب موضوعه بنفس البيع خارجا ، لأنّه بعد البيع خارجا لا يبقى شيء في عالم الاعتبار كي يقال بأنّه موقوف ، والمناط في كون الشرط مخالفا لمقتضى ذات العقد لا لإطلاقه هو أن يكون بين الشرط وبين ما أنشأه مضادّة في عالم الاعتبار التشريعي.
كما إذا اشترط في عقد الإجارة عدم تصرّف المستأجر في الدار المستأجرة أصلا ، أو عدم استمتاع الزوج من الزوجة أصلا في عقد النكاح ولو بالنظر أو التقبيل ، فتجويز الشارع بيع الوقف في بعض الأحيان ـ كالصور المتقدّمة ـ دليل على عدم المضادّة بينهما.
وأما توهّم الثاني ـ أي : كونه خلاف الكتاب والسنّة لكونه مخالفا للأدلّة الشرعيّة المانعة عن بيع الوقف ـ ففيه أنّ مفاد تلك الأدلّة ليس عدم جواز بيع الوقف مطلقا ، بل عدم جوازه ما لم يكن دليل على الجواز ، ولذلك لا معارضة بين أدلّة الجواز وبين الأدلّة المانعة.
وإن شئت قلت : إنّ الأدلّة المانعة تدلّ على عدم الجواز بعنوانه الأوّلي ، وأدلّة الجواز عند طروّ حالة أو فيما إذا شرط الواقف، فيكون قوله عليه السلام « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » وقوله عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » يدلّ على نفوذ الشرط بلا معارض.
هذا ، مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال : إنّه بناء على أنّه يجب أن يشتري بثمنه بعد بيعه بدله وجعله وقفا فلا إشكال قطعا ، وليس خلاف مقتضى العقد يقينا ، وذلك لأنّ كون البيع خلاف الكتاب والسنّة على فرض صحّته يكون فيما لو أتلف ثمنه ، وكذلك كونه خلاف مقتضى العقد ، أمّا لو اشترى بدله فالوقف باق ببقاء الجامع بينهما ، لأنّ عقد الوقف لم يتعلّق بالخصوصيّة العينيّة. هذا ما أفاده شيخنا الأستاذ (86) تبعا لشيخنا الأعظم (87) .
ولكن أنت خبير بأنّ قوله : « وقفت هذا » يكون مثل قوله : « بعت هذا » وفي كليهما المشار إليهما هو هذا الشخص الخارجي ، فيتعلّق الوقف بخصوصيّتها العينيّة الشخصيّة ، فالجواب الصحيح هو الذي قلنا.
وربما يقال : بأنّ قضيّة وقف مولانا أمير المؤمنين عليه السلام عين ينبع (88) يدلّ على جواز اشتراط بيع الوقف مطلقا ، حتّى مع وجود البطن الأوّل وبصرف إرادة الحسن عليه السلام ومع عدم اشتراء بدله بثمنه.
ولذلك يقول شيخنا الأعظم أنّ السند صحيح وتأويله مشكل والعمل به أشكل (89).
وأفاد شيخنا الأستاذ في توجيه الصحيحة بأنّه منزل علي أنّ مرجع الشرط إلى أنّ له أن يجعله وقف المنقطع ، وأن يبقيه على حاله (90).
وفيه : أنّه عليه السلام أوقف تلك العين ، ولا يمكن أن يكون وقفه مردّدا بين المؤبّد والمنقطع وأن يكون المنشأ هو الجامع ، ويجعل اختيار أحدهما بيد الحسن عليه السلام بعد مدّة إذا أراد ، بل الظاهر ـ من الصحيحة ومن روايات أخر في قضيّة وقف عين ينبع ـ هو أنّه عليه السلام جعله وقفا مؤبّدا ، لقوله عليه السلام حين ما أوقفه « بتّا بتلا ».
ولا شكّ في ظهور هذه العبارة في الوقف المؤبّد ، فتجويز بيعه للحسن عليه السلام يدلّ على جواز اشتراط بيع الوقف مطلقا ، حتّى في الوقف المؤبّد.
وأمّا ما أفاده شيخنا الأعظم أنّ العمل به أشكل (91).
ففيه : أنّه لا إشكال فيه أصلا ، بعد ما عرفت أنّ هذا الشرط مناف لمقتضى إطلاق العقد ، لا لمقتضى ذاته.
الصورة الثامنة : فيما لو ظنّ أنّ بقاءه يؤدّي إلى خرابه ، فيجوز أن يبيعه ويشتري بثمنه بديله ويقفه. وذلك كما إذا كان وقف دارا قريبا من الشط ، فبواسطة تبدّل مجرى الشط لبعض العوارض والطواري صارت على حافة الشط ، فيظنّ أنّها تخرب في أيّام فيضان ماء الشط ، وذلك لأنّ إبقاءها لا طريق له إلاّ بهذا الشكل ، فيدور الأمر بين ذهابه عن البين بالمرّة ، أو بقائه بهذا الشكل ، ولا شكّ في أنّ الثاني أولى وأوفق بغرض الواقف.
ولكن هذا الكلام لا يستقيم إلاّ بناء على لزوم إبقاء عين الموقوفة ، ولو كان بماليّتها وخصوصيّاتها الصنفيّة ، وهو مشكل جدّا.
في المتولّي والناظر للعين الموقوفة :
وهما بمعنى واحد ، والمراد بهما من ينظر في شؤون المال الموقوف ويدبّر أمره.
وربما يطلق المتولّي على المتصرّف والمباشر لتدبير أمور الوقف استقلالا ، أو مع شراكة الغير ، والناظر على من يلزم أن يكون تصرّفات المتولّي باطّلاعه ، أو باستصوابه وتصويبه.
وممّا ذكرنا ظهر أنّ الناظر على قسمين :
أحدهما : أن يكون إعمال المتولّي باطّلاعه.
والثاني : أن يكون بنظره وتصويبه.
ووجه التسمية في كلتا الصورتين معلوم ، وقد عبّر عنهما في بعض الأخبار بالوالي ، وهي رواية عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبي الحسن موسى عليه السلام (92).
وعلى كل حال ففيه أمور :
[ الأمر ] الأوّل : لا شكّ في جواز جعل الواقف نفسه استقلالا أو مع شركة الغير ، وكذلك غيره ناظرا ومتولّيا على الوقف في ضمن العقد الذي يقف مالا ، وذلك للإجماع ، ولم ينقل خلاف إلاّ من ابن إدريس وعبارته ليس صريحة في الخلاف ، كما ذكره صاحب الجواهر ونقل عين عبارته (93) وأنا شاهدتها في كتابه السرائر (94) ، وعلى كلّ حال مقتضى قوله عليه السلام « الوقف على حسب ما يوقفها أهلها » وسائر المطلقات صحّة هذا الجعل بجميع شقوقه التي ذكرناها.
نعم إذا جعل التولية لنفسه ، وجعل حقّ التولية من منافع العين الموقوفة أكثر من أجرة مثل عمله ، ربما يتوهّم أنّه يكون من قبيل الوقف على النفس الذي قلنا إنّه باطل إجماعا ، مضافا إلى عدم كونه تسبيلا للمنفعة الذي يعرف الوقف به ، وقد تقدّم تفصيل ذلك فلا نعيد ، ويجوز أن يجعل في ضمن عقد الوقف أمر جعل التولية بيده ، بأن يعيّن المتولّي والناظر متى شاء ، وكذلك له أن يجعل أمر عزل المتولّي بيده ، بأن يعزله متى شاء وأن ينصب غيره متى شاء ، ويجوز أن يجعل أمر جعل التولية بيد غيره ، بأن يجعل من يريد متوليّا متى شاء ، ويعزل هذا وينصب غيره متى شاء. ودليل جميع هذه الشقوق هو قوله عليه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » ويجوز أيضا أن يجعل لكلّ متولّ أن ينصب متوليّا بعده.
الأمر الثاني : لو لم يعيّن المتولّي في ضمن نفس العقد ، ومعلوم أنّه لا بدّ في الوقف من متولّ يلي أمره ويدبّر شؤونه ، فهل له أن يعيّن متوليّا على الوقف ، أو للموقوف عليهم ، أو للحاكم ، أو يفصّل بين الوقف العامّ فللحاكم ، وبين الوقف الخاصّ فللموقوف عليهم؟ وجوه وأقوال :
أقول : أمّا الواقف بعد أن تمَّ الوقف يكون كسائر الأجانب ، بناء على ما تقدّم من زوال ملكه بالوقف ، فلو لم يعيّن في متن العقد فليس له أيّ مداخلة في شؤون الوقف. وأمّا ما يقال : من أنّه كان له النظر في شؤون هذه العين التي وقفها ، وأيضا كان له أن يعيّن غيره للنظر فيها ، والذي معلوم زواله بالوقف هو الملك لا كون النظر فيها وتدبير شؤونها بنفسه أو بتعيين الغير له ، فيستصحب.
ففيه : أنّ كون النظر له من شؤون الملكيّة ، فإذا زالت فيزول قطعا ، فلا يبقى مجال للاستصحاب.
فيدور الأمر بين أن يكون أمر التولية وتعيين الناظر بيد الحاكم أو الموقوف عليه ، وقد تقدّم الوقف على الجهات العامّة ـ كالمساجد والقناطر والخانات الموقوفة للمسافرين وأمثال ذلك ـ لا يملكه أحد ، ففي مثل هذه الأوقاف لا شبهة في أنّ أمر توليتها بيد الحاكم ، بأن يباشر تدبير شؤونها إمّا بنفسه ، وإمّا بأن يعيّن غيره.
وأمّا بالنسبة إلى الأوقاف الخاصّة ـ كالوقف على أولاده وذراريه مثلا ـ والأوقاف على العناوين العامّة التي قابلة لأن تتملّك ، فبناء على كونهم مالكين للوقف وإن كان في بادئ النظر تأتي إلى الذهن قوّة احتمال أن يكون أمر النظر مباشرة أو تعيينا إليهم ، لكونهم ملاّك ولهم السلطنة على أموالهم بمباشرتهم بأنفسهم ، أو بتعيينهم شخصا آخر ، ولكن عند التأمّل حيث أنّ هذه الملكيّة ليست كسائر الأملاك المطلقة ليكون المالك مطلق العنان ـ بل لا بدّ من مراعاة حقوق البطون اللاحقة أيضا في جميع التصرّفات على أنحائها في هذا الملك ، وليست البطون اللاحقة بالنسبة إلى البطن السابق كالوارث ، لأنّ المورث مطلق العنان ، وملكه طلق ، بخلاف البطن السابق بالنسبة إلى اللاحق ـ فليس له ولاية التصرّف في هذا الملك الذي لا بدّ من ملاحظة حقوق آخرين ، فتكون الولاية في أمرهم للحاكم ، لأنّهم بمنزلة الغيّب والقصر ، بل أنزل منهم ، فالمتعيّن أن يكون المرجع في تعيين الناظر والمتولّي هو الحاكم حتّى في الأوقاف الخاصّة ، كالوقف على الذراري.
نعم بعض التصرّفات من طرف الموقوف عليهم التي لا يضرّ بحقوق البطون يجوز لهم ولا مانع عنه ، لأنّهم مالكون.
الأمر الثالث : هل تعتبر العدالة في الناظر ، أم لا؟ أو يفصّل بين من يجعله الواقف فلا تعتبر فيه ، ومن يجعله الحاكم فتعتبر فيه؟
ومقتضى الإطلاقات ـ مثل الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ـ عدم اعتبارها فيمن يعيّنه نفس الواقف من ضمن عقد الوقف.
وأمّا ما قيّده في وقف مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في قضيّة وقف عين ينبع من قوله عليه السلام : « فإن وجد فيهم من يرضى بهداه وإسلامه وأمانته ، فإنّه يجعله إليه إن شاء » أي : يجعله ناظرا ، فلا يدلّ على اعتبار العدالة ، لأنّ الهدى والإسلام والأمانة غير العدالة. نعم جعل فاسق يفسد الوقف ويفنيه ربما يكون منافيا لجعله صدقة جارية ، فالإنصاف : أنّه لا تعتبر العدالة ، بل ولا الأمانة فيمن يجعله الواقف.
نعم لو عيّن الفاسق الذي لم يعمل بالوقف طبق ما جعله الواقف ، ويهمل شؤونه حتّى يحتمل فناؤه وخرابه ، فلا يبعد وجوب ضمّ الأمين إليه من طرف الحاكم ، وإن كان المتولّي والناظر المنصوص هو نفس الواقف ، فضلا عن أن يكون غيره.
وذلك من جهة أنّ حفظ الوقف مطلوب من قبل الشارع ، ولا يرضى بتركه ، فيكون أمره بيد الحاكم ، لأنّه من الحسبيّات ، وحيث أنّ عزله لا يجوز ـ لأنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ـ فلا بدّ من ضمّ أمين إليه بمنعه عن التعدّي وعن الإهمال جميعا.
وأمّا من يعيّنه الحاكم فلا بدّ وأن يكون ثقة وأمينا ، لأنّه لا بدّ في جعله من مراعاة مصلحة الوقف ، فليس له أن يأتمن الخائن.
وأمّا الفاسق الذي يرتكب الذنب ـ وإن كان صغيرة ، فإن كان أمينا موثوقا في أعماله ، بحيث يطمئنّ بعدم إهماله شؤون الوقف وتدبير أمره ، ويعمل على طبق الوقف ولا يتعدّى عن مضمون الوقف ، فالقول بعدم جواز تعيينه متوليّا وناظرا مشكل ، لعدم دليل على اعتبار عدالة الناظر ، إلاّ كونها موجبة للاطمئنان بحفظ شؤون الوقف ، فإذا حصل من دونها فلا وجه لاعتبارها.
وأمّا ادّعاء الإجماع ـ من الكفاية (95) والرياض (96) والحدائق (97) فغير مسموع ، مع ذهاب جمع كثير إلى عدم الاعتبار.
الأمر الرابع : في أنّ الواقف لو جعل شخصا ناظرا على المتولّي في ضمن عقد الوقف ، فلا ريب في جواز ذلك له ، لأنّ هذا ليس مخالفا للكتاب ، فبمقتضى « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » يكون جعله نافذا.
وحيث أنّ الناظر ـ على ما تقدّم ذكره ـ قسمان : اطّلاعيّ واستصوابيّ. والأوّل عبارة عن أنّ كلّ فعل يصدر من المتولّي يلزم أن يكون باطّلاعه. والثاني عبارة عن أن يكون بتصويبه ، لا صرف اطّلاعه عمّا فعل ، ففي القسم الأوّل للمتولّي أن يفعل بدون لزوم أخذ الإذن منه ، بل صرف اطّلاعه كاف.
وأمّا في القسم الثاني فيحتاج نفوذ تصرّفاته إلى أخذ الإذن منه وتصويبه لذلك الفعل.
هذا في مقام الثبوت ، وأمّا في مقام الإثبات فلا بدّ من مراجعة كلامه ، وأنّه ظاهر في أيّ واحد من القسمين فيؤخذ به ، وإن يستظهر منه شيء من القسمين ، فلا بدّ للمتولّي في مقام العمل من الجمع بين الأمرين ، أي أخذ الإذن منه واطّلاعه على العمل أيضا ، وذلك من جهة أصالة عدم جواز عمله ونفوذ تصرّفاته إلاّ بالأمرين.
الأمر الخامس : لو جعل التولية لأكثر من واحد ، فتارة على وجه الشركة ، وأخرى على وجه الاستقلال.
فإن كان من القسم الأوّل فلا يجوز تصرّف كلّ واحد منهما على الانفراد بدون مداخلة الآخر ، لأنّ معنى الشركة أنّ كلاهما بمنزلة شخص واحد ، كما أنّ الشركة في المال أيضا ذلك ، ولذلك هناك أيضا ليس كلّ واحد منهما مستقلاّ في التصرّف ، فيجب اجتماعهما على تصرّف كي ينفذ ، وإن امتنعا أجبرهما الحاكم مع الإمكان ، وإن لم يمكن فالمرجع هو الحاكم.
وأمّا إن كان من القسم الثاني ، فإذا اجتمعا فلا إشكال ، وأيّ واحد منهما تصرّف بدون رضا الآخر نافذ. ولو تصرّف كلاهما، مثلا آجر أحدهما من زيد ، والآخر من عمرو ، قدّم المقدّم ، ولو كانا في زمان واحد بطلا. والسرّ واضح.
الأمر السادس : في أنّ الواقف إذا عيّن وظيفة المتولّي في ضمن عقد الوقف ، فيعمل بما عيّن له من الوظيفة ، وإذا لم يعيّن وظيفة وجعله متوليّا من دون بيان عمل له ، فالظاهر من هذه العبارة والمتفاهم العرفي منه أنّه عليه تدبير شؤون الوقف ، من حفظه عن الخراب ، وإجارته ، وتحصيل مال الإجارة نقدا وجنسا ، وتقسيمه على الموقوف عليهم ، وإيصال حصّة كلّ واحد منهم إليهم ، وغير ذلك ممّا هو وظيفة المتولّي عند العرف.
وذلك من جهة أنّه بعد البناء على لزوم العمل بما أراده الواقف من لفظ المتولّي حال الجعل ، فطريق تشخيص مراده هو ظهور كلامه ، ففي أيّ معنى كان ظاهرا فيه فيحكم بأنّه مراده. وهذا معنى أصالة الظهور وحجّية الظواهر ، ومعنى الظهور هو ما يفهم العرف من الكلام عند إلقائه إليه ، ففيما نحن فيه إذا قال الواقف : وقف المال الفلاني وجعلت فلانا ناظرا ومتوليّا عليه ، فما يفهمه العرف من لفظ « المتولّي » يحكم بأنّه مراده.
ولا ريب في أنّ العرف يفهم الذي يكون عليه ما ذكرنا من إدارة شؤون الوقف من عمارة ما انهدم منه ، أو ما يوجب حفظه عن الانهدام ، وجمع غلّته وتقسيمه على الموقوف عليهم. لا كلام في هذا.
إنّما الكلام في أنّه هل لغير المتولّي المنصوص ـ وإن كان موقوفا عليه ، أو وإن كان هو الحاكم ـ هذه التصرّفات ، أم لا؟
والظاهر أنّه مع وجود المتولّي المنصوص من طرف الواقف في ضمن عقد الوقف ليس لغيره هذه التصرّفات ، لأنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ، ولما في التوقيع عن محمّد بن عثمان العمري ، عن صاحب الزمان عليه السلام وفيه : « وأمّا ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلمها من قيّم يقوم فيها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومئونتها ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا ، فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّما عليها ، إنّما لا يجوز ذلك لغيره » .
فإنّ ظاهر التوقيع المبارك عدم جواز هذه التصرّفات لغير من جعله متوليّا وقيّما ، وعدم مزاحمة غيره له.
من جهات البحث في هذه القاعدة هي جهة
وقد عرفت أنّ موارد تطبيقها بعد ما صدق عليه الوقف عرفا وتحقّق مفهومه ، فعند ذلك كلّ شرط أو قيد اعتبر الواقف وجوده أو عدمه فهو نافذ وماض ، لقوله عليه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » وقد طبّقناها على مواردها في تضاعيف ما تقدّم ، فلا يحتاج إلى الإعادة.
وفي الحقيقة هذه القاعدة كسلاح للفقيه لدفع ما يتوهّم من عدم صحّة بعض الشروط ، أو القيود التي قيّد الواقف بها الموقف ، أو الوقوف عليه ، أو المتولّي ، أو الناظر وقد تقدّم موارد كلّ ذلك ، فعليك بالتتبّع التمام.
والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.
_________________
(*) « القواعد » ص 319.
(1) « الفقيه » ج 4 ، ص 237 ، ح 5567 ، باب الوقف والصدقة والنّحل ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 295 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 2 ، ح 1.
(2) « الكافي » ج 7 ، ص 37 ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة والنّحل. ، ح 34 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 295 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 2 ، ح 2.
(3) « النهاية » ج 5 ، ص 216 ، مادة « وقف ».
(4) « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 132 ، ح 562 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 9 ، « الإستبصار » ج 4 ، ص 100 ، ح 384 ، باب من وقف وقفا ولم يذكر الموقوف عليه ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 307 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 7 ، ح 2.
(5) « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 260 ، باب الديون ، ح 14.
(6) « صحيح البخاري » ج 3 ، ص 209 ، باب الشروط في الوقف ، « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 116 ، ح 2878 ، باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف ، « سنن الترمذي » ج 3 ، ص 659 ، ح 1375 ، باب في الوقف.
(7) « الكافي » ج 7 ، ص 54 ، باب صدقات النبي 6 وفاطمة والأئمة : ووصاياهم ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 148 ، ح 609 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 56 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 98 ، ح 380 ، باب أنّه لا يجوز بيع الوقف ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 303 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 2.
(8) « الكافي » ج 7 ، ص 56 ، باب ما يلحق الميت بعد موته ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 292 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 1 ، ح 2.
(9) « الكافي » ج 7 ، ص 54 ، باب صدقات النبي 6 وفاطمة والأئمة : ووصاياهم ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 148 ، ح 609 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 56 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 303 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 2.
(10) « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 211.
(11) « قواعد الأحكام » ، ج 1 ، ص 266.
(12) « التنقيح الرائع » ج 2 ، ص 300.
(13) « كفاية الأحكام » ص 139.
(14) « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 7.
(15) « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 267.
(16) « الدروس الشرعية » ج 2 ، ص 264.
(17) « السرائر » ج 3 ، ص 157.
(18) « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 540.
(19) « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 8.
(20) « كتاب المكاسب » ص 80 و 96.
(21) « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 8 ، الوقوف والصدقات.
(22) « الكافي » ج 7 ، ص 30 ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 151 ، ح 619 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 66 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 319 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 13 ، ح 2 و 3.
(23) « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 137 ، ح 575 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 22 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 101 ، ح 389 ، باب من تصدّق على ولده الصغار. ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 300 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 5 ، ح 1.
(24) « القاموس المحيط » ج 3 ، ص 393 ، « السبيل ».
(25) « النهاية » ص 596.
(26) « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 9.
(27) « الكافي » ج 7 ، ص 37 ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 36 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 239 ، ح 5573 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 134 ، ح 566 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 13 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 102 ، ح 392 ، باب من تصدّق على ولده الصغار. ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 298 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 4 ، ح 4.
(28) الصدوق في « كمال الدين » ج 2 ، ص 520 ـ 521 ، ذكر التوقيعات ، ح 49 ، « الطبرسي في « الاحتجاج » ج 2 ، ص 558 ـ 560 ، في التوقيعات ، ح 351 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 300 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 4 ، ح 8.
(29) « الفقيه » ج 4 ، ص 247 ، ح 5585 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 19 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 137 ، ح 577 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 24 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 102 ، ح 390 ، باب من تصدّق على ولده الصغار. ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 299 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 4 ، ح 5.
(30) « الكافي » ج 7 ، ص 31 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 135 ، ح 569 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 16 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 101 ، ح 387 ، باب : من تصدّق على ولده الصغار. ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 297 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 4 ، ح 1.
(31) الشيخ جعفر في « كشف الغطاء » ص 372 ، كتاب الوقف.
(32) « الفقيه » ج 4 ، ص 248 ، ح 5588 ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح 22 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 131 ، ح 560 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 98 ، ح 380 ، باب : أنّه لا يجوز بيع الوقف ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 304 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 4.
(33) « الكافي » ج 7 ، ص 36 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 31 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 237 ، ح 5569 ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 132 ، ح 561 ، باب : الوقوف والصدقات ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 307 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 7 ، ح 1.
(34) « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 191 ، ح 766 ، باب : الرجوع في الوصيّة ، ح 19 ، وكذلك ، ج 8 ، ص 264 ، ح 965 ، باب : التدبير ، ح 28 ، وكذلك ، ج 7 ، ص 344 ، ح 1407 ، باب : العقود على الإماء. ، ح 38 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 387 ، في أحكام الوصايا ، باب 18 ، ح 8 ، وكذلك ، ج 16 ، ص 96 ، من أبواب التدبير ، باب 11 ، ح 1 و 2.
(35) « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 63.
(36) « الكافي » ج 7 ، ص 37 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة والنحل. ، ح 33 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 238 ، ح 5570 ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 129 ، ح 554 ، باب : الوقوف والصدقات ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 296 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 3 ، ح 1.
(37) « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 138 ، ح 582 ، باب : الوقوف والصدقات ، ح 29 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 103 ، ح 394 ، باب : من تصدّق بمسكن على غيره. ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 297 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 3 ، ح 4.
(38) السرخسي في « المبسوط » ج 12 ، ص 27 ، كتاب الوقف ، الميداني في « اللباب في شرح الكتاب » ج 2 ، ص 180 ، كتاب الوقف ، الكاساني في « بدائع الصّنائع » ج 6 ، ص 218 ، كتاب الوقف والصدقة.
(39) « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 216.
(40) « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 55.
(41) الشيخ المفيد في « المقنعة » ص 655 ، الشيخ الطوسي في « النهاية » ص 599.
(42) « مختلف الشيعة » ج 6 ، ص 265 ، كتاب الوقف ، مسألة : 37.
(43) « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 433.
(44) « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 56.
(45) « جامع المقاصد » ج 9 ، ص 16.
(46) « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 278.
(47) « مفتاح الكرامة » ج 9 ، ص 17.
(48) « اللمعة ـ الروضة البهية » ج 3 ، ص 169.
(49) « إرشاد الأذهان » ج 1 ، ص 452.
(50) « مختلف الشيعة » ج 6 ، ص 267.
(51) « التنقيح الرائع » ج 2 ، ص 303.
(52) النراقي في « مستند الشيعة » ج 14 ، ص 412 ، « مسند احمد » ج 2 ، ص 453 ، نحوه ، « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 914 ، ح 2738 ، باب ذوي الأرحام ، نحوه.
(53) « الانتصار » ص 226.
(54) « السرائر » ج 3 ، ص 156 و 157.
(55) « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 217.
(56) « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 146 ، ح 607 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 54 ، وكذلك ، ج 9 ، ص 135 ، ح 568 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 15 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 297 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 3 ، ح 3.
(57) « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 344 ، ح 1288 ، ذكر ما يجوز من الصدقة وما لا يجوز.
(58) « مستدرك الوسائل » ج 14 ، ص 47 ، أبواب كتاب الوقوف والصدقات ، باب 2 ، ح 3.
(59) « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 213.
(60) « الكافي » ج 2 ، ص 335 ، باب ما رفع عن الأمة ، ح 2 ، « الفقيه » ج 1 ، ص 59 ، ح 132 ، باب : فيمن ترك الوضوء أو بعضه أو شكّ فيه ، ح 4 ، « الخصال » ص 417 ، ح 9 ، رفع عن هذه الأمّة تسعة أشياء ، « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 1284 ، أبواب قواطع الصلاة ، باب 37 ، ح 2.
(61) الطوسي في « الخلاف » ج 3 ، ص 410 ، مسألة : 23 ، « سنن الدار قطني » ج 3 ، ص 26 ، ح 91 ، « مسند أحمد » ج 5 ، ص 72 ، « سنن البيهقي » ج 6 ، ص 100 ، باب : من غصب لوحا فأدخله في سفينة أو بنى عليه جدارا.
(62) « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 428 ، فيما يشترط في الواقف.
(63) « الكافي » ج 7 ، ص 28 ، باب : وصية الغلام والجارية التي لم تدرك وما يجوز منها وما لا يجوز ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 197 ، ح 5451 ، باب : الحد الذي إذا بلغه الصبي جازت وصيته ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 181 ، ح 729 ، باب : وصية الصبي والمحجور عليه ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 321 ، من أحكام الوقوف والصدقات ، باب 15 ، ح 1.
(64) « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 182 ، ح 733 ، باب : وصية الصبي والمحجور عليه ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 321 ، من أحكام الوقوف والصدقات ، باب 15 ، ح 2.
(65) « تهذب الأحكام » ج 9 ، ص 182 ، ح 734 ، باب : وصية الصبي والمحجور عليه ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 321 ، من أحكام الوقوف والصدقات ، باب 15 ، ح 13.
(66) « المبسوط » ج 3 ، ص 292 و 293.
(67) « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 27.
(68) « المبسوط » ج 3 ، ص 292.
(69) « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 541.
(70) « السرائر » ج 3 ، ص 153 و 155.
(71) « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 152 ، ح 622 ، باب : الوقوف والصدقات ، ح 69 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 316 ، ح 24430 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 11 ، ح 3.
(72) السبزواري في « كفاية الأحكام » ص 142.
(73) « الكافي » ج 7 ، ص 37 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 35 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 242 ، ح 5576 ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 303 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 1.
(74) الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص 170 ، حكى عن المفيد.
(75) « المقنعة » ص 652 ، باب الوقوف والصدقات.
(76) « الكافي » ج 7 ، ص 35 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 29 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 133 ، ح 565 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 12 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 99 ، ح 382 ، باب : لا يجوز بيع الوقف ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 306 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 8.
(77) « الاحتجاج » ص 490 ، في توقيعات الناحية المقدسة ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 306 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 9.
(78) « الانتصار » ص 226.
(79) « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 541.
(80) « الكافي » ج 7 ، ص 36 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 30 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 240 ، ح 5575 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 304 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 5.
(81) « الفقيه » ج 4 ، ص 240 ، ح 5575 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 130 ، ح 557 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 306 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 6.
(82) « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 306 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 5 و 6.
(83) « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 344 ، ح 1290 ، ذكر ما يجوز من الصدقة وما لا يجوز.
(84) « الكافي » ج 7 ، ص 36 ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 30.
(85) « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 130 ، ح 557 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 4.
(86) النائيني في « المكاسب والبيع » ج 2 ، ص 383.
(87) « كتاب المكاسب » ص 168.
(88) « الكافي » ج 7 ، ص 49 ، باب : صدقات النبي 6 وفاطمة والأئمة : ووصاياهم ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 146 ، ح 608 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 55 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 312 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 10 ، ح 4.
(89) « كتاب المكاسب » ص 172.
(90) النائيني في « المكاسب والبيع » ج 2 ، ص 400 ، في بيع الوقف.
(91) « كتاب المكاسب » ص 172.
(92) « الفقيه » ج 4 ، ص 249 ، ح 5593 ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح 27 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 149 ، ح 610 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 57 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 314 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 10 ، ح 5.
(93) « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 22.
(94) « السرائر » ج 3 ، ص 156 ، شروط صحة الوقف.
(95) « كفاية الأحكام » ص 141.
(96) « رياض المسائل » ج 2 ، ص 23.
(97) « الحدائق الناضرة » ج 22 ، ص 184.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
ندوات وأنشطة قرآنية مختلفة يقيمها المجمَع العلمي في محافظتي النجف وكربلاء
|
|
|