أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-7-2020
1109
التاريخ: 1-9-2016
803
التاريخ: 1-9-2016
1051
التاريخ: 9-8-2016
719
|
الروايات الخاصة الواردة في علاج التعارض على قسمين :
أحدهما : ما يتصل بحالات التعارض بين الدليل القطعي السند والدليل الظني السند ، إذ قد يقال: بوجود ما يدل على الغاء حجية الدليل الظني السند في هذه الحالة على نحو نرفع اليد بذلك عما قد يكون هو مقتضى القاعدة من تعارض دليل التعبد بالسند فى أحدهما مع دليل التعبد بالظهور في الاخر وتساقطهما. ونسمى روايات هذا القسم بروايات العرض على الكتاب لأنها تقتضى عرض الاخبار على الكتاب.
والقسم الاخر : ما يتصل بحالات التعارض بين الدليلين الظنيين سندا ، إذ قد يقال : بوجود ما يدل على عدم التساقط وثبوت الحجية لاحد المتعارضين تعيينا أو تخييرا على نحو نرفع اليد به عما تقتضيه القاعدة من التساقط ، ونسمى روايات هذا القسم بروايات العلاج.
وسنتكلم عن هذين القسمين تباعا :
1 ـ روايات العرض على الكتاب:
ويمكن تصنيف هذه الروايات إلى ثلاث مجاميع:
المجموعة الاولى: - ما ورد بلسان الاستنكار والتحاشي عن صدور ما يخالف الكتاب من المعصومين، من قبيل رواية ايوب بن راشد عن ابي عبدالله (عليه السلام) قال: (ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف)(1) فان التعبير بزخرف يدل على نفي الصدور مع الاستنكار والتحاشي وهذه الروايات تدل على سقوط كل خبر مخالف للكتاب عن الحجية وبهذا تقيد دليل حجية السند على تقدير ثبوت الاطلاق فيه.
وقد يستشكل في ذلك تارة بان الروايات المذكورة لا تنفي الحجية وليست ناظرة اليها وانما تنفي صدور الكلام المخالف فلا تعارض دليل حجية السند لتقيده وانما تعارض نفس الروايات الدالة على صدور الكلام المخالف. واخرى بان موضوع هذه الرواية غير الموافق لا المخالف ولازم ذلك عدم العمل بالروايات التي لا تعرض في القرآن الكريم لمضمونها. وثالثة: بان صدور الكلام المخالف من الائمة معلوم وجدانا كما في موارد التخصيص والتقييد وهذا يكشف عن لزوم تأويل تلك الروايات ولو بحملها على المخالفة في اصول الدين.
والجواب اما على الاول: فبان نفي الصدور بروح الاستنكار يدل بالالتزام العرفي على نفي الحجية. واما على الثاني فبان ظاهر عدم الموافقة عدمها بنحو السالبة بانتفاء المحمول لا السالبة بانتفاء الموضوع التي تحصل بعدم تطرق القرآن للمضمون رأسا. واما على الثالث فبان نفس الاستنكار والتحاشي قرينة عرفية على تقييد المخالف بما كان يقتضي طرح الدليل القرآني والغائه رأسا فلا يشمل المخالف بالتخصيص والتقييد ونحوهما مما لا استنكار فيه بعد وضوح بناء البيانات الشرعية على ذلك.
المجموعة الثانية: - ما دل على إناطة العمل بالرواية بان يكون موافقا مع الكتاب وعليه شاهد منه من قبيل رواية ابن ابي يعفور قال (سألت ابا عبدالله (عليه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به قال إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله او من قول رسول الله صلى الله عليه وآله، وإلا فالذي جاء به اولى به)(2).
وهذه الرواية ونظائرها تساوق في الحقيقة الغاء حجية خبر الواحد لانها تنهى عن العمل به في حالة عدم تطابقه مع القرآن الكريم ولا محصل عرفا لجعل الحجية له في خصوص حالة التطابق لكفاية الدلالة القرآنية حينئذ وعليه فيرد على الاستدلال بها إنها بنفسها اخبار آحاد ولا يمكن الاستدلال بأخبار الآحاد على نفي حجية خبر الواحد. هذا إضافة إلى اننا لو سلمنا انها لا تلغي حجية خبر الواحد على الاطلاق فلا شك في انها تسلب الحجية عن الخبر الذي ليس له موافق من الكتاب الكريم ومضمونها نفسه الا يوافق الكتاب الكريم بل يخالفه بناء على دلالة الكتاب وغيره من الادلة القطعية على حجية خبر الثقة فيلزم من حجيتها عدم حجيتها.
المجموعة الثالثة: - ما دل على نفي الحجية عما يخالف الكتاب الكريم من قبيل رواية جميل بن دراج عن ابي عبدالله (عليه السلام) انه قال (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه)(3).
وتعتبر هذه المجموعة مخصصة لدليل حجية الخبر لا ملغية للحجية رأسا ونتيجة ذلك عدم شمول الحجية لخبر المعارض للكتاب الكريم وبعد اخذ الكتاب بوصفه مصداقا لمطلق الدليل القطعي على ضوء مناسبات الحكم والموضوع يثبت ان كل دليل ظني يخالف دليلا قطعي السند يسقط عن الحجية والمخالفة هنا حيث لم ترد في سياق الاستنكار بل في سياق الوقوف عند الشبهة فلا تختص بالمخالفة التي تقتضي طرح الدليل القرآني رأسا كما في المجموعة الاولى بل تشمل كل حالات التعارض المستقر بما في ذلك التباين والعموم من وجه.
وقد يعترض على ذلك باعتراضين: الاول: ان هذه المجموعة لا تختص بأخبار الآحاد بل تشمل كل إمارة تؤدي إلى مخالفة الكتاب فلا تكون اخص مطلقا من دليل حجية الخبر بل قد تكون النسبة هي العموم من وجه.
والجواب: - ان الصحيح تقديم اطلاق هذه المجموعة - عند التعارض - على دليل حجية الخبر باعتبار حكومتها عليه إذ هي كأدلة المانعية والشرطية فرض فيها الفراغ عن اصل حجية بعض الامارات ليصح استثناء بعض الحالات من ذلك وهذا معنى النظر المستوجب للحكومة اضف إلى ذلك ان خبر الثقة هو القدر المتيقن منها باعتباره الفرد البارز من الامارات والمتعارف والداخل في محل الابتلاء وقتئذ الذي كان يترقب مخالفته للكتاب تارة وموافقته اخرى.
الثاني: - ان هذه المجموعة تدل على اسقاط ما يخالف الكتاب عن الحجية والمخالفة كما تشمل التنافي بنحو التباين او العموم من وجه كذلك تشمل التنافي بنحو التخصيص او التقييد او الحكومة لان ذلك كله يصدق عليه المخالفة فيكون مقتضى اطلاقها طرح ما يعارض الكتاب الكريم مطلقا سواء كان تعارضا مستقرا او غير مستقر.
وقد اجيب على هذا الاعتراض بوجهين: احدهما: - ان المعارضة بنحو التخصيص او التقييد ونحوهما ليست بمخالفة لان الخاص والمقيد والحاكم قرينة على المراد من العام والمطلق والمحكوم.
والآخر: - اننا نعلم اجمالا بصدور كثير من المخصصات والمقيدات للكتاب عن الائمة وهذا إن لم يشكل قرينة متصلة تصرف عنوان المخالفة في هذه الروايات إلى انحاء الاخرى من المخالفة اي التعارض المستقر فلا اقل من سقوط الاطلاقات القرآنية عن الحجية بالتعارض فيما بينها على اساس العلم الاجمالي فتبقى الاخبار المخصصة على حجيتها.
ونلاحظ على هذين الوجهين ان المخالفة للقرآن المسقطة للخبر عن الحجية ان اريد بها المخالفة لدلالة قرآنية ولو لم تكن حجة فكلا الجوابين غير صحيح لان القرينة المنفصلة والتعارض على اساس العلم الاجمالي لا يرفع اصل الدلالة القرآنية ولا يخرج الخبر عن كونه مخالفا لها. وان اريد بها المخالفة لدلالة قرآنية حجة في نفسها وبقطع النظر عن الخبر المخالف لها فالجواب الثاني صحيح لان الدلالة القرآنية ساقطة عن الحجية بسبب العلم الاجمالي ما لم يدع انحلاله واما الجواب الاول فهو غير صحيح لان الخاص مخالف لدلالة العام التي هي حجة في نفسها وبقطع النظر عن ورود الخاص. وان اريد بها المخالفة لدلالة قرآنية واجدة لمقتضى الحجية حتى بعد ورود الخبر المخالف صح كلا الجوابين لان مقتضى الحجية في العام غير محفوظ بعد ورود القرينة المنفصلة واختصت المخالفة المسقطة للخبر عن الحجية بالمخالفة على وجه لا يصلح للقرينية واوجه هذه الاحتمالات اوسطها. ويمكن ان يجاب ايضا بعد الاعتراف بتمامية الاطلاق في روايات هذه المجموعة للمعارضة غير المستقرة ان هناك مخصصا لهذا الاطلاق وهو ما ورد في بعض الاخبار العلاجية مما يستفاد منه الفراغ عن حجية الخبر المخالف مع الكتاب في نفسه ففي رواية عبدالرحمن بن ابي عبدالله قال (قال الصادق (عليه السلام): إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه فان لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على اخبار العامة..)(4) فان الظاهر من قوله إذا ورد عليكم حديثان مختلفان ان الامام (عليه السلام) بصدد علاج مشكلة التعارض بين حديثين معتبرين في نفسيهما لولا التعارض فيكون دليلا على عدم قدح المخالفة مع الكتاب في الحجية الاقتضائية نعم لا يوجد فيه اطلاق يشمل جميع اقسام الخبر المخالف مع الكتاب لانه ليس في مقام بيان هذه الحيثية ليتم فيه الاطلاق فلا بد من الاقتصار على المتيقن من مفاده وهو مورد القرينية.
2- روايات العلاج:
ويمكن تصنيف روايات العلاج إلى عدة مجاميع اهمها مجموعة التخيير ومجموعة الترجيح.
روايات التخيير:
المجموعة الاولى ما استدل به من الروايات على التخيير بمعنى جعل كل منهما حجة على سبيل التخيير والحديث عن ذلك يقع تارة في مقام الثبوت وتصوير امكان جعل الحجية التخييرية واخرى في مقام الاثبات ومدي دلالة الروايات على ذلك. اما البحث الثبوتي فقد يقال فيه ان الحجية التخييرية غير معقولة لأنه اما ان يراد بها جعل حجية واحدة او جعل حجيتين مشروطتين.
اما الاول: - فهو ممتنع لان هذه الحجية الواحدة ان كانت ثابتة لاحد الخبرين بالخصوص فهو خلف تخييريتها وان كانت ثابتة للجامع بين الخبرين بنحو مطلق الوجود - اي الجامع اينما وجد - لزم سريان الحجية إلى كلا الفردين مع تعارضهما وان كانت ثابتة للجامع بنحو صرف الوجود لم تسر إلى كل من الخبرين لان ما يتعلق بصرف الوجود لا يسري إلى الفرد ومن الواضح ان صرف وجود الجامع بين الخبرين ليس له مدلول ليكون حجة في اثباته.
واما الثاني: - فهو ممتنع ايضا لان حجية كل من المتعارضين ان كانت مشروطة بالالتزام به لزم عدم حجيتهما معا في حالة ترك الالتزام بشيء منهما، وان كانت مشروطة بترك الالتزام بالأخر لزمت حجيتهما معا في الحالة المذكورة. والجواب: ان بالإمكان تصوير التخيير بالالتزام بحجية كل منهما بشرط ترك الالتزام بالآخر مع افتراض وجوب طريقي للالتزام بأحدهما.
واما البحث الاثباتي فهناك روايات عديدة استدل بها على التخيير.
منها: - رواية علي بن مهزيار قال (قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى ابي الحسن (عليه السلام) : اختلف اصحابنا في رواياتهم عن ابي عبدالله (عليه السلام) في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم ان صلهما في المحمل وروى بعضهم لا تصلهما الا على الارض فاعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك فوقع (عليه السلام): موسع عليك بأية عملت)(5).
وفقرة الاستدلال منها قوله (عليه السلام) (موسع عليك بأية عملت) الواضح في الدلالة على التخيير وامكان العمل بكل من الحديثين المتعارضين. ولكن نلاحظ على ذلك: اولا: ان الظاهر منها ارادة التوسعة والتخيير الواقعي لا التخيير الظاهري بين الحجيتين لظهور كل من سؤال الراوي وجواب الامام في ذلك اما ظهور السؤال فلانه مقتضى التنصيص من قبله على الحكم الذي تعارض فيه الخبران الظاهر في استعلامه عن الحكم الواقعي على ان قوله (فاعلمني كيف تصنع انت لأقتدي بك) كالصريح في ان السؤال عن الحكم الواقعي للمسألة فيكون مقتضى التطابق بينه وبين الجواب كون النظر في كلام الامام (عليه السلام) إلى ذلك ايضا إذ لا وجه لصرف النظر مع تعيين الواقعة عن حكمها الواقعي إلى الحكم الظاهري العام. واما ظهور الجواب في التخيير الواقعي فباعتبار انه المناسب مع حال الامام (عليه السلام) العارف بالأحكام الواقعية والمتصدي فيما اذا كان السؤال عن واقعة معينة بالذات.
وثانيا: - لو تنزلنا وافترضنا ان النظر إلى مرحلة الحكم الظاهري والحجية فلا يمكن ان يستفاد من الرواية التخيير في حالات التعارض المستقر لان موردها التعارض بين مضمونين بينهما جمع عرفي بحمل النهي على الكراهة بقرينة الترخيص فقد يراد بالتخيير حينئذ التوسعة في مقام العمل بالأخذ بمفاد دليل الترخيص او دليل النهي لعدم التنافي بينهما لكون النهي غير الزامي، لا جعل الحجية التخييرية بالمعنى المدعى.
ومنها: - مكاتبة الحميري عن الحجة عليه السلام إذ جاء فيها (يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الاول إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه ان يكبر فان بعض اصحابنا قال لا يجب عليه التكبير ويجزيه ان يقول: بحول الله وقوته اقوم واقعد فكتب (عليه السلام) في الجواب: ان فيه حديثين، اما احدهما فانه إذا انتقل من حالة إلى حالة اخرى فعليه التكبير، واما الاخر فانه روي: إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهد الاول يجري هذا المجرى وبأيهما اخذت من جهة التسليم كان صوابا)(6).
وفقرة الاستدلال منها قوله عليه السلام (وبأيهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا) والاستدلال بها لعله اوضح من الاستدلال بالرواية السابقة باعتبار كلمة (أخذت من جهة التسليم) التي قد يستشعر منها النظر إلى الحجية والتعبد بأحد الخبرين. والصحيح ان الاستدلال بالرواية غير وجيه لان السائل في هذه الرواية لم يفرض خبرين متعارضين وانما سأل عن مسألة اختلف الفقهاء في حكمها الواقعي وانما يراد الاستدلال بها على التخيير باعتبار ما في جواب الامام عليه السلام من نقل حديثين متخالفين وترخيصه في التسليم بأيهما شاء إلا ان هذا الجواب غير دال على التخيير المدعي وذلك لعدة امور: الاول: - ظهور كلام الامام عليه السلام في الرخصة الواقعية لا التخيير الظاهري بين الحجتين كما تقدم في الرواية السابقة.
الثاني: - ان جملة (وكذلك التشهد الاول يجري هذا المجرى) تارة تفترض جزء من الحديث الثاني واخرى تفترض كلاما مستقلا يضيفه الامام إلى الحديثين. فاذا كانت جزء ا من الحديث - ولو بقرينة انه مورد لسؤال الراوي الذي قال عنه الامام ان فيه حديثين - كان الحديثان متعارضين إلا انهما من التعارض غير المستقر الذي فيه جمع عرفي واضح لا باعتبار اخصيه الحديث الثاني فحسب بل باعتبار كونه ناظرا إلى مدلول الحديث الاول وحاكما عليه وعدم استحكام التعارض بين الحاكم والمحكوم امر واضح عرفا ومقطوع به فقهيا بحيث لا يحتمل ان يكون للشارع حكم على خلاف الجمع العرفي فيه فيكون هذا بنفسه قرينة على ان المقصود من التخيير الترخيص الواقعي. واذا كانت جملة مستقلة وكان الحديث الثاني متكفلا لحكم القيام من الجلوس بعد السجدة الثانية وانه ليس على المصلي تكبير فيه فلا تعارض بين الحديثين في مورد سؤال الراوي وهو الانتقال من التشهد إلى القيام فيكون هذا بنفسه قرينة على ان المراد هو الترخيص الواقعي.
الثالث: - انه لو تمت دلالة الرواية على التخيير الظاهري في الحجية فموردها الحديثان القطعيان اللذان نقلهما الامام بنفسه كما يناسبه التعبير عنهما بالحديثين الظاهر في كونهما سنة ثابتة عن آبائه المعصومين فلا يمكن التعدي منه إلى التعارض بين خبرين ظنيين سندا لاحتمال ان يكون مزيد اهتمام الشارع بالقطعيين موجبا لجعل الحجية التخييرية في موردهما خاصة.
ومنها: - مرسلة الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام في حديث قال (قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم ايهما الحق فقال اذا لم تعلم فموسع عليك بايهما اخذت)(7).
وهذه اوضح الروايات في الدلالة على التخيير في الحجية بالنحو المدعى الا انها ساقطة سندا بالأرسال.
وقد تقدمت بعض الروايات المستدل بها على التخيير في الحلقة السابقة مع مناقشة دلالتها.
المجموعة الثانية: - ما استدل به من الروايات على ترجيح احدى الروايتين على الاخرى لمرجح يعود إلى صفات الراوي كالأوثقية او صفات الرواية كالشهرة او صفات المضمون كالمطابقة للكتاب الكريم او المخالفة للعامة وهي روايات عديدة: فمنها: - رواية عبدالرحمن بن ابي عبدالله التي دلت على الترجيح اولا بموافقة الكتاب وثانيا بمخالفة العامة وقد تقدمت الرواية مع الحديث عنها في الحلقة السابقة واتضح من خلال ذلك انها تامة في دلالتها على المرجحين المذكورين.
ومنها: - مقبولة عمر بن حنظلة قال: سألت ابا عبدالله (عليه السلام) عن رجلين من اصحابنا بينهما منازعة في دين او ميراث فتحاكما إلى السلطان او إلى القضاة أيحل ذلك قال عليه السلام (من تحاكم اليهم في حق او باطل فانما تحاكم إلى الطاغوت..) قلت فكيف يصنعان قال (ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرضوا به حكما فاني قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانما بحكم الله استخف وعلينا رد..) قلت فان كان كل واحد اختار رجلا من اصحابنا فرضيا ان يكونا الناظرين في حقهما واختلف فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم قال (الحكم ما حكم به اعدلهما وافقههما واصدقهما في الحديث واورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر) قال فقلت فانهما عدلان مرضيان عند اصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه قال فقال (ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند اصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند اصحابك فان المجمع عليه لا ريب فيه وانما الامور ثلاثة امر بين رشده فيتبع وامر بين غيه فيجتنب وامر مشكل يرد حكمه إلى الله.) قال الراوي: (قلت، فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم قال ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة..) إلى ان قال الراوي قلت فان وافق حكامهم (اي العامة) الخبرين جميعا قال اذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى امامك فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (8).
وهذه الرواية تشتمل على المرجحين السابقين غير انها تذكر قبل ذلك ترجيحين آخرين، احدهما الترجيح بصفات الراوي، والآخر الترجيح بالشهرة فان تمت دلالتها على ذلك كانت مقيدة لأطلاق الرواية السابقة ودالة على ان الانتهاء إلى المرجحين السابقين متوقف على عدم وجود هذين الترجيحين.
وقد يعترض على استفادة هذين الترجيحين - بالصفات وبالشهرة - من المقبولة بوجوه:
الاول: - ان المقبولة مختصة موردا بعصر الحضور والتمكن من لقاء الامام (عليه السلام) بقرينة قوله فيها (ارجئه حتى تلقى إمامك) فلا تدل على ثبوت الترجيحين في عصر الغيبة. ونلاحظ على هذا الوجه ان اختصاص الفقرة الاخيرة التي تأمر بالإرجاء بعصر الحضور لا يوجب تقييد الاطلاق في الفقرات السابقة خصوصا مع ملاحظة ان التمكن من لقاء الامام ليس من الخصوصيات التي يحتمل العرف دخلها في مرجحية الصفات إذا لا يختلف حال الأوثقية في كاشفيتها وتأكيد موردها بين عصري الحضور والغيبة وكذلك الامر في الشهرة.
الثاني: - ان الترجيح بالصفات وبالشهرة في المقبولة ترجيح لاحد الحكمين على الآخر لا لإحدى الروايتين على الاخرى في مقام التعارض. وهذا الاعتراض وجيه بالنسبة إلى الترجيح بالصفات وليس صحيحا بالنسبة إلى غيره مما ورد في المقبولة كالترجيح بالشهرة.
اما وجاهته بالنسبة إلى الترجيح بالصفات فلاننا نلاحظ اضافة الصفات في المقبولة إلى الحاكمين حيث قال (عليه السلام) (الحكم ما حكم به اعدلهما وافقههما في الحديث واورعهما) هذا مضافا إلى ان الامام قد طبق الترجيح بالصفات على اول سلسلة السندين المتعارضين وهما الحاكمان من دون ان يفرض انهما راويان مباشران للحديث بينما لو كان الترجيح بهما ترجيحا لإحدى الروايتين على الاخرى كان ينبغي تطبيقه على مجموع سلسلة الرواة او على الراوي المباشر كما هو عمل المشهور ومقتضى الصناعة ايضا لان الراويين المباشرين إذا كان احدهما اعدل وثبت الترجيح بالصفات فهذا يعني ان رواية المفضول عدالة منهما انما تكون حجة في حالة عدم معارضتها برواية الأعدل وعليه فالناقل لرواية الراوي المباشر الأعدل يكون مخبرا عن اختلاف شرط الحجية لرواية الراوي المباشر المفضول التي ينقلها الناقل الآخر وبهذا يكون حاكما على نقل الناقل الآخر اذ يخرج منقوله عن كونه موضوعا للحجية، وهكذا نعرف ان تطبيق الامام للترجيح بالصفات على الحاكمين اللذين يمثلان اول سلسلة السند لا ينسجم الا مع افتراض كون الترجيح لاحد الحكمين بلحاظ صفات الحاكم.
واما عدم صحة الاعتراض بالنسبة إلى الشهرة وغيرها فلان سياق الحديث ينتقل من ملاحظة الحاكمين إلى ملاحظة الرواية التي يستند اليها كل منهما حيث قال (ينظر ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند اصحابك.) فأضيفت المميزات إلى الرواية لا إلى الحكم. ولكن الشهرة في المقبولة التي ورد الترجيح بها في الدرجة الثانية ظاهرة في الاشتهار والشيوع المساوق لاستفاضة الرواية وقطعيتها وليست بمعنى اشتهار الفتوى على طبقها لان ظاهر الحديث اضافة الشهرة إلى نفس الرواية لا إلى مضمونها وذلك يناسب ما ذكرناه ويعني الترجيح بالشهرة على هذا الضوء تقديم الرواية القطعية سندا على الظنية وهذا مما لا اشكال فيه كما تقدم وليس ذلك ترجيحا لإحدى الحجتين على الاخرى لما عرفت سابقا من ان حجية الخبر الظني السند مشروطة في نفسها بعدم المعارضة لقطعي السند.
فان قيل إذا كان الامر كذلك وجب تقديم الترجيح بالشهرة على الترجيح بالصفات لان الترجيح بالصفات يفترض حجية كل من الخبرين ويرجح احدى الحجتين على الاخرى. كان الجواب ان الترجيح بالصفات ناظر إلى الحاكمين لا إلى الراويين كما تقدم فلا اشكال من هذه الناحية.
وهكذا يتضح ان المقبولة لا يمكن ان يستفاد منها في مجال الترجيح بين الحجتين من الروايات اكثر مما ثبت بالرواية السابقة.
ومنها: المرفوعة عن زرارة قال: سألت الباقر (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران او الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ. قال (عليه السلام) : يا زرارة خذ بما اشتهر بين اصحابك ودع الشاذ النادر. فقلت: يا سيدي انهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم. فقال (عليه السلام) : خذ بقول أعدلهما عندك واوثقهما في نفسك. فقلت: انهما معا عدلان مرضيان موثقان. فقال (عليه السلام) : انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه وخذ بما خالفهم قلت: ربما كانا معا موافقين لهم او مخالفين فكيف اصنع؟. فقال (عليه السلام) : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط. فقلت انهما معا موافقان للاحتياط او مخالفان له فكيف اصنع؟. فقال (عليه السلام) : إذن فتخير احدهما فتأخذ به وتدع الآخر(9).
وفي هذه المرفوعة ذكرت مرجحات وهي على الترتيب الشهرة ثم صفات الراوي ثم المخالفة للعامة ثم الموافقة للاحتياط ومع التكافؤ في كل ذلك حكمت بالتخيير. وقد يعترض على الترجيح بالشهرة هنا بنفس ما تقدم في المقبولة من كونها بمعنى استفاضة الرواية وتواترها ولكن هذا الاعتراض غير وجيه هنا لان المرفوعة بعد افتراض شهرة الروايتين معا تنتقل إلى الترجيح بالأوثقية ونحوها من صفات الراوي وذلك لا يناسب الروايتين القطعيتين. ولكن المرفوعة ساقطة سندا بالأرسال فلا يمكن التعويل عليها.
وهكذا نعرف ان المستخلص مما تقدم ثبوت المرجحين المذكورين في الرواية الاولى من روايات الترجيح وفي حالة عدم توفرهما نرجع إلى مقتضى القاعدة. بقي علينا ان نشير في ختام روايات العلاج إلى عدة نقاط:
الاولى: - ان العاملين بالمجموعة الاولى المستدل بها على التخيير اختلفوا فيما بينهم في ان التخيير هل هو تخيير في المسألة الاصولية اي في الحجية او في المسألة الفقهية اي في الجري عملا على وفق احدهما ومعنى الاول ان الانسان لا بد له ان يلتزم بمضمون احد الخبرين فيكون حجة عليه ويسند مؤداه إلى الشارع ومعنى الثاني ان الانسان لا بد له ان يطبق عمله على مؤدي احد الخبرين ومن نتائج الفرق ان الفقيه على الاول يفتي بمضمون ما التزم به واختاره وعلى الثاني يفتي بالتخيير ابتداء وهذا الخلاف لا موضوع له بعد انكار اصل التخيير.
الثانية: - ان هؤلاء اختلفوا ايضا في ان التخيير ابتدائي او استمراري بمعنى ان المكلف بعد اختيار احد الخبرين التزاما او عملا هل يجوز له ان يعدل إلى اختيار الآخر أولا؟ وقد ذهب البعض إلى كونه استمراريا وتمسك بالاستصحاب الا ان هذا الاستصحاب يبدو انه من استصحاب الحكم المعلق إذا كان التخيير في الحجية لان مرجعه إلى ان هذا كان حجة لو اخذنا به سابقا وهو الآن كما كان استصحابا وعلى اي حال فلا موضوع لهذا الخلاف بعد انكار التخيير.
الثالثة: - إذا تمت روايات التخيير وروايات الترجيح المتقدمة فكيف يمكن التوفيق بينهما؟ فقد يقال بحمل روايات الترجيح على الاستحباب ونلاحظ على ذلك ان الامر في روايات الترجيح ارشاد إلى الحجية فلا معنى لحمله على الاستحباب بل المتعين الالتزام بتقيد روايات التخيير بحالة عدم وجود المرجح.
الرابعة: - ان اخبار العلاج هل تشمل موارد الجمع العرفي؟ قد يقال بأطلاق لسان الروايات المذكورة لتلك الموارد فتكون رادعة بالإطلاق عما تقتضيه القاعدة العقلائية.
وقد يجاب بان الظاهر من اسئلة الرواة لأخبار العلاج كونهم واقعين في الحيرة بسبب التنافي الذي يجدونه بين الحديثين ومن البعيد ان يقع الراوي بما هو انسان عرفي في التحير مع وجود جمع عرفي بنى المتعارضين فهذه قرينة معنوية تصرف ظواهر هذه الاخبار إلى موارد التعارض المستقر خاصة.
والصحيح ان يقال ان روايات العلاج بنفسها تتضمن قرينة تدل على عدم شمولها لحالات الجمع العرفي فان الرواية الاولى من روايات الترجيح قد افترضت فيها حجية الخبر المخالف للكتاب في نفسه وبقطع النظر عن معارضته بحديث آخر ولذلك صار الامام بصدد علاج التعارض بين خبرين متعارضين احدهما مخالف مع الكتاب والآخر موافق معه فتدل على ان الخبر المخالف للكتاب الكريم لو لم يكن له معارض لكان حجة في نفسه وهذا يعني ان المعارضة الملحوظة بين الخبرين غير المخالفة المفترضة بين الخبر والآية وليس ذلك الا لان تلك المعارضة، من التعارض المستقر وتلك المخالفة من التعارض غير المستقر.
الخامسة: - ان اخبار العلاج هل تشمل موارد التعارض المستقر غير المستوعب كحالات التعارض بين العامين من وجه او لا؟ وقد نقل عن المحقق النائيني (قدس الله روحه) الجواب على ذلك بالتفصيل بين المرجحات التي ترجع إلى الترجيح بلحاظ السند - وتسمى بالمرجحات السندية - كالترجيح بالأوثقية والمرجحات المضمونية التي ترجع إلى الترجيح بلحاظ المضمون كالترجيح بموافقة الكتاب فاختار رحمه الله ان المرجحات السندية لا تشمل الفرض المذكور لان تطبيقها ان كان على نحو يؤدي إلى اسقاط احد العامين من وجه رأسا فهو بلا موجب لأنه لا مسوغ لإسقاطه في مادة الافتراق مع عدم التعارض وان كان على نحو يحافظ فيه على مادتي الافتراق للعامين فهو مستحيل لأنه يستلزم التبعيض في السند الواحد بقبول العام في مادة الافتراق ورفضه في مادة الاجتماع مع ان سنده واحد واما المرجحات المضمونية فبالإمكان اعمالها في مادة الاجتماع فقط ولا يلزم محذور.
_____________
(1) وسائل الشيعة: ج 18 / ابواب صفات القاضي / الباب 9 / حديث 12.
(2) وسائل الشيعة: ج 18 / ابواب صفات القاضي / الباب 9 / حديث 11.
(3) وسائل الشيعة / ج 18 / ابواب صفات القاضي / الباب 9 / حديث 35.
(4) وسائل الشيعة: ج 18 / ابواب صفات القاضي / الباب 9 / حديث 29.
(5) وسائل الشيعة: ج 3 / ابواب القبلة / الباب 15 / حديث / 8
(6) وسائل الشيعة: ج 4 / ابواب السجود / الباب 13 / حديث 8.
(7) وسائل الشيعة / ج 18 / ابواب صفات القاضي / الباب 9 / حديث 40.
(8) جامع احاديث الشيعة / الباب 7 من ابواب المقدمات / حديث 124.
(9) جامع احاديث الشيعة / المجلد الاول / ابواب المقدمات / ص 62.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|