أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-8-2016
3526
التاريخ: 29-8-2016
1710
التاريخ: 7-7-2020
2280
التاريخ: 30-8-2016
1751
|
...عرّف الواجب المنجّز في كلام صاحب الفصول المبتكر لهذا التقسيم بما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة، وعرّف الواجب المعلّق بما يتعلّق وجوبه به ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور كالحجّ (بالنسبة إلى حلول زمانه) فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة، ويتوقّف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور له(1).
نعم أنّه عمّم المعلّق في ذيل كلامه إلى ما يتوقّف على أمر مقدور أيضاً، وقال: «واعلم أنّه كما يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر غير مقدور وقد عرفت بيانه، كذلك يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر مقدور فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله، وعلى تقدير حصوله يكون واجباً قبل حصوله، وذلك كما لو توقّف الحجّ المنذور على ركوب الدابة المغصوبة»(2).
ولكن يمكن النقاش في تمثيله للمقدور بالحجّ المنذور المتوقّف على ركوب الدابّة المغصوبة لأنّ ركوب الدابّة المغصوبة غير مقدور شرعاً والمنع الشرعي كالمنع العقلي، وكان يمكن له التمثيل بأمر مقدور مباح لا يترشّح إليه الوجوب وهو ما إذا أخذه المولى قيداً للواجب بنحو لا يجب تحصيله كما إذا قال المولى: «حجّ عند إستطاعة». أو «صلّ عند ما تتطهّر» فإنّ ظاهرهما وجوب الحجّ والصّلاة فعلا مع أنّ وجود الحجّ متوقّف على حصول الاستطاعة إتّفاقاً مع كونها أمراً مقدوراً للمكلّف، كما أنّ وجود الصّلاة متوقّف على حصول الطهارة إتّفاقاً مع كونها أمراً مقدوراً للمكلّف.
نعم قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يرد عليه ما أورده المحقّق الخراساني(رحمه الله) عليه بقوله: «لا وجه لتخصيص المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخّر» فكأنّه (رحمه الله) لم يلاحظ ذيل كلامه.
كما ظهر أنّه لا فرق بين الواجب المشروط على مبنى الشّيخ الأعظم (رحمه الله)والواجب المعلّق على التعريف المزبور حيث إنّه أخذ في الواجب المعلّق جميع ما أخذه الشّيخ في الواجب المشروط من كون القيد فيه راجعاً إلى المادّة لا الهيئة وكونه ممّا لا يترشّح عليه الوجوب، مع أنّه شرط للوجود لا الوجوب إلاّ إذا أخذنا بصدر كلامه الذي حصر الواجب المعلّق فيه بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور، حيث إنّ كلام الشّيخ (رحمه الله) في الواجب المشروط يكون أعمّ منه وممّا يتوقّف حصوله على أمر مقدور.
نعم الفرق بين الواجب المعلّق والواجب المشروط على مبنى المشهور واضح فإنّ القيد عندهم في الواجب المشروط راجع إلى الهيئة والوجوب لا الواجب والوجود كما مرّ.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه ذهب جماعة من الأعلام إلى إمكان الواجب المعلّق وجماعة آخرون إلى استحالته، واستدلّ القائلون بالاستحالة باُمور:
الأمر الأوّل: ما أفاده الشّيخ الأعظم الأنصاري(رحمه الله) من أنّه لا يمكن تصوّر شيء ثالث في الواجب غير المطلق والمشروط.
ولا يخفى أنّ كلامه في محلّه ولكن بناءً على مختاره في الواجب المشروط، حيث إنّه حينئذ يرجع أحدهما إلى الآخر كما مرّ آنفاً وليس الواجب المعلّق قسماً ثالثاً للواجب، وأمّا بناءً على مبنى المشهور، فالفرق بين الواجب المعلّق والمطلق والمشروط واضح فإنّه إن لم يكن الواجب مقيّداً بقيد سمّي بالواجب المطلق وإن كان مقيّداً ورجع القيد إلى الهيئة سمّي بالواجب المشروط وإن كان مقيّداً ولكن رجع القيد إلى المادّة كان على قسمين: فإمّا أن يترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إلى المقدّمة فيسمّى منجزاً، وهو في الواقع قسم من الواجب المطلق، وإمّا أن لا يترشّح منه إليه فيسمّى معلّقاً.
الأمر الثاني: لزوم انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب وهو محال ببيانين:
أحدهما: مقايسة التشريع بالتكوين، فإنّ الطلب الإنشائي في التشريعيات إنّما هو بإزاء الإرادة المحرّكة للعضلات في التكوينيات، فكما أنّ الإرادة في التكوينيات لا تنفكّ عن المراد (وهو حركة العضلات) وإن كان المراد متأخّراً رتبة فليكن الطلب الإنشائي في التشريعيات أيضاً غير منفكّ عن المطلوب وإن كان المطلوب متأخّراً رتبة، وعليه فلا يمكن أن يكون الطلب في الواجب المعلّق حالياً والمطلوب استقبالياً متأخّراً عن الطلب زماناً.
ثانيهما: الرجوع إلى حقيقة بعث المولى، فإنّها عبارة عن إيجاد ما يكون داعياً إلى العمل، فلو بعث المولى إلى الحجّ، أي أوجد الداعي إليه في نفس العبد، فيستحيل أن لا ينبعث إليه العبد.
ويمكن الجواب عنه أيضاً نقضاً وحلا، أمّا النقض فلانّه ينتقض بالواجبات المطلقة فيما إذا كانت لحصولها في الخارج مقدّمات عديدة لا بدّ في تحصيلها من زمان طويل.
وأمّا الحلّ فلأنّ الإرادة ليست بمعنى الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات من دون تخلّل شيء بين الشوق وحركة العضلات لأنّ لازمه الجبر كما لا يخفى، بل يتخلّل بينهما شيء آخر يسمّى بالاختيار، فللمكلّف المنع عن حركة العضلات، ولا إشكال في أنّ لازمه إمكان الانفكاك بين البعث والانبعاث وبين الطلب والمطلوب.
وإن شئت قلت: يمكن المناقشة في المقيس عليه وهو الإرادة التكوينيّة بأنّها كما تتعلّق بأمر حالي فلا تنفكّ عن المراد زماناً كذلك تتعلّق بأمر استقبالي متأخّر فتنفكّ عنه زماناً، كما إذا تعلّقت الإرادة بالسفر إلى بلاد بعيدة بعد أشهر، فيكون فعلا بصدد مقدّمات السفر وتحصيل معدّاتها، فتعلّقت الإرادة من الآن بالسفر بعداً (وإلاّ لم يكن المريد فعلا بصدد تحصيل المقدّمات) ولازمه انفكاك الإرادة عن المراد زماناً.
الأمر الثالث: عدم قدرة المكلّف على المكلّف به في حال البعث على المفروض في المقام مع أنّها من الشرائط العامّة.
ويمكن الجواب عنه أيضاً نقضاً: بأنّه ينتقض بالواجب المطلق إذا كان له مقدّمات تحتاج إلى الزمان وبوجوب أجزاء الواجب جميعاً حين الشروع في العمل مع أنّ المكلّف ليس قادراً مثلا على التشهّد والتسليم حين تكبيرة الإحرام فإنّ قدرته على الأجزاء تحصل شيئاً فشيئاً، وما لم يأت بالتكبير لا يكون قادراً على القراءة في محلّها المفروض وهكذا.
وحلا: بأنّه لا دليل على اعتبار القدرة على المكلّف به قبل مجيء زمان العمل بل القدرة المعتبرة في التكليف عقلا هي القدرة على المكلّف به في زمان المكلّف به فإنّه كثيراً ما يتّفق أنّ العبد لا يكون قادراً على الإتيان بالمأمور به حين البعث ولكنّه يصير قادراً عليه بنفس البعث والتحريك، فلا إشكال حينئذ في أنّ العقل لا يمنع عن بعثه بمجرّد عدم قدرته على العمل فعلا.
الأمر الرابع: ما أفاده المحقّق النائيني (رحمه الله) وحاصله: أنّ امتناع الواجب المعلّق في الأحكام الشرعيّة التي تكون على نهج القضايا الحقيقيّة بمكان من الوضوح بحيث لا مجال للتوهّم فيه، لأنّ معنى كون القضيّة حقيقيّة هو أخذ العنوان الملحوظ مرآة لمصاديقه المفروض وجودها موضوعاً للحكم فيكون كلّ حكم مشروطاً بوجود الموضوع بما له من القيود، ولا فرق بين أن يكون القيد هو الوقت أو أمر آخر، وحينئذ ينبغي أن يسأل ممّن قال بالواجب المعلّق أنّه أي خصوصيّة للوقت حيث قلت بتقدّم الوجوب عليه ولم تقل بذلك في سائر القيود من البلوغ والاستطاعة مع اشتراك الكلّ في أخذه قيداً للموضوع(3).
أقول: لا يخفى أنّ هذا الوجه مبتن على مبنى المحقّق النائيني(رحمه الله) في أنّ جميع القيود المأخوذة في الأحكام ترجع حقيقة إمّا إلى الموضوع أو إلى المأمور به، مع أنّه قد مرّ عدم تماميّة المبنى وأنّ الاشتراط في الواجب المشروط يكون من قبيل التعليق والتقدير لا التقييد، أي أنّ المولى إذا لم تكن شرائط مطلوبه حاصلة في الحال فأوّلا يفرض تلك الشرائط، ثمّ يحكم في وعاء ذلك الفرض بمطلوبه، فيكون إيجابه وحكمه إيجاب وحكم على فرض، فيرجع شرطه وفرضه إلى الحكم، أي «يجب مثلا على المكلّف الحجّ إن استطاع» لا إلى الموضوع حتّى يكون مآل تعبيره «يجب على المستطيع الحجّ»، فعلى المبنى المختار في حقيقة الواجب المشروط الحقيق بالتصديق لا يتمّ ما ذكره.
الأمر الخامس: ما هو المختار في مقام الإشكال على الواجب المعلّق وهو أنّ الواجب المعلّق مستبطن لنوع من التضادّ في إنشائه حيث إنّ المولى يقول يوم الاثنين: «يجب عليك غسل يوم الجمعة أو صيامه. فإمّا أن يكون هو كناية عن وجوب تهيئة المقدّمات، فلا بأس به كما سيأتي، ولكن حينئذ لا يكون الواجب معلّقاً بل أنّه من مصاديق الواجب المشروط، لأنّ المفروض عدم وجوب ذي المقدّمة، وإمّا يكون دالا على أنّ غسل يوم الجمعة أو صيامه واجب من يوم الاثنين مع أنّ ظرف امتثاله هو يوم الجمعة، فهو متضمّن لنحو من التضادّ، لأنّ كلّ بعث يطلب من العبد انبعاثاً وكلّ طلب يتعقّب امتثالا، فلو كان الوجوب فعليّاً يوم الاثنين كان معناه وجوب الامتثال في ذلك اليوم مع أنّ المفروض أنّ زمان الامتثال هو يوم الجمعة فلازم وجود الطلب يوم الاثنين هو فعلية الوجوب في ذلك اليوم، ولازم عدم وجوب امتثاله يوم الاثنين عدم فعليّة الوجوب في ذلك اليوم، وليس هذا إلاّ التضادّ.
والشاهد على ما ذكرناه ما تسالم عليه الفقهاء على أنّه لو مات المكلّف بعد استطاعته في الطريق فلا يجب قضاء الحجّ عنه مع تصريحهم بأنّ الوجه في ذلك أنّ الاستطاعة هي أعمّ من الاستطاعة الماليّة والبدنيّة والطريقية والزمانيّة، فإنّ هذا أقوى شاهد على أنّ ارتكازهم
الفقهي والمتشرّعي يكون على أنّ جميع هذه الأربعة شرط لوجوب الحجّ لا خصوص الاستطاعة الماليّة، ولذلك أوّلوا ما ورد في بعض الرّوايات ممّا ظاهره وجوب القضاء باُمور اُخرى، وذكروا في توجيهه وجهان: أحدهما: حمله على الاستحباب، والثاني: حمله على من استقرّ عليه الحجّ من قبل.
إن قلت: إنّ مثل هذا التعبير (أي يجب عليك من هذا اليوم إكرام زيد يوم الجمعة) شائع عند العرف.
قلنا: شيوع مثل هذا التعبير عند العرف يحتمل فيه وجوه اُخرى:
منها: أن يكون من قبيل الواجب المشروط، فترجع القضيّة المزبورة إلى قولك: إذا كان يوم الجمعة كان عليك إكرام زيد) ويرجع مثل قولك «أكرم ضيوفي يوم الجمعة» إلى قولك: «إذا كان يوم الجمعة وقدم ضيوفي فأكرمهم» خصوصاً بملاحظة ما مرّ من أنّ الأحكام القانونيّة ترجع إلى قضايا حقيقيّة، والقضايا الحقيقية أيضاً ترجع إلى قضايا شرطيّة.
ومنها: أن يكون مجازاً بعلاقة الأوّل والمشارفة كما إذا قلت «جاء زيد» مع أنّه لم يجيء بعدُ، بل سيأتي عن قريب.
ومنها: أن يكون كناية عن إيجاب تهيئة المقدّمات، بأن يكون مراد المولى من تصريحه بوجوب إكرام ضيوفه يوم الجمعة من هذا اليوم وجوب تهيئة مقدّمات الإكرام من هذا اليوم، وأمّا الاحتمال الآخر الذي يكون احتمالا رابعاً في المسألة وهو أن يتعلّق الوجوب من الآن بذي المقدّمة (لا المقدّمة) الذي يأتي فيما بعد فمردود لاشتماله على التناقض كما مرّ، وليت شعري كيف يرضى القائل بالواجب المعلّق بمثل هذا التناقض الواضح بأن يقول المولى للعبد: «أيّها العبد اُريد منك الآن إكرام زيد في يوم الجمعة» فله أن يقول في جوابه: «إن كنت تريد الآن فلماذا تقول يوم الجمعة؟ وإن كنت تريد يوم الجمعة فلماذا تقول الآن؟» إلاّ أن يكون مرادك تهيئة المقدّمات من الآن.
ثمرة المسألة:
والثمرة التي تتصوّر في المسألة وهي التي دعت صاحب الفصول إلى القول بالواجب المعلّق إنّما هي حلّ فتاوى في الفقه لم يكن لها توجيه عنده إلاّ كونها من قبيل الواجب المعلّق.
منها: فتواهم بوجوب تهيئة مقدّمات الحجّ قبل الموسم وبعد الاستطاعة.
ومنها: فتواهم بوجوب الأغسال في الليل للجنب والحائض والمستحاضة في شهر رمضان قبل طلوع الفجر.
ومنها: فتواهم بوجوب تعلّم أحكام الصّلاة قبل مجيء وقتها إذا علم بعدم القدرة على التعلّم بعده، فكأنّ صاحب الفصول لم ير طريقاً للتخلّص عن هذه الفتاوي إلاّ القول بتصوّر قسم للواجب سمّاه بالواجب المعلّق.
ولكن الإنصاف أنّ الطريق ليس منحصراً في ذلك بل هناك طرق اُخرى لتوجيهها يمكن قبول بعضها:
منها: طريق الواجب المشروط على نحو ما نسب إلى الشّيخ الأعظم(رحمه الله)، ولكن قد مرّ أنّه نفس الواجب المعلّق وليس أمراً آخر.
ومنها: أنّ الإجماع قام على وجوب هذه الاُمور وجوباً نفسياً تهيّئياً، أمّا كونه نفسياً فلعدم إمكان ترشّحه من وجوب ذي المقدّمة بناءً على أنّ المفروض عدم كون ذي المقدّمة واجباً فعلا، وأمّا كونه تهيئياً فلأنّه وإن لم يترشّح من وجوب ذي المقدّمة ولكن الحكمة فيه هي التهيّؤ لإتيان ذي المقدّمة في زمانه، فلا يتصوّر لتركه عقاب مستقلّ بل حيث إنّ تركه يؤدّي إلى ترك ذي المقدّمة في ظرفه فيكون العقاب مترتّباً على خصوص ترك ذي المقدّمة فحسب.
ومنها: أن يكون من قبيل الواجب المشروط بالشرط المتأخّر، أي يكون إدراك ذي المقدّمة في ظرفه شرطاً متأخّراً لوجوب هذه المقدّمات من الآن، فمثلا إدراك الحجّ في الموسم شرط متأخّر لوجوب مقدّماته قبل الموسم.
ولكن هذا خلاف ظاهر الأدلّة، لأنّ ظاهرها أنّ الشرط المذكور فيها من قبيل الشرط المقارن.
ومنها: أنّ حفظ أغراض المولى يقتضي عقلا وجوب إتيان المقدّمات المزبورة قبل حلول زمان الواجب عند الشارع، أي العقل يكشف عن وجوبها شرعاً، فإذا علمنا أنّ غرض الشارع تعلّق بالحجّ مثلا على أيّ حال: وأنّه لا يرضى بتركه (كما أنّه كذلك بالنسبة إلى مثل الحجّ) فلا مانع من إيجاب الشارع تحصيل المقدّمات قبل الموسم من باب أنّ انتظاره إلى أيّام الحجّ يساوق تعطيل الحجّ غالباً، بل هو نقض للغرض، وهو قبيح على المولى الحكيم.
وبالجملة هناك قرينة عقليّة على وجوب المقدّمات التي يوجب تركها تفويت غرض المولى ومصلحة الواجب.
وهنا طريق آخر لحلّ الإشكال، وهو أنّ الملازمة بين وجوب المقدّمة وذيها وإن كانت ثابتة ولكنّهما ليسا من قبيل العلّة والمعلول بل كلاهما من قبيل الحكم والإرادة الصادرة من نفس المولى، والملازمة من قبيل الداعي، والعلّة في الواقع نفس المولى بالنسبة إلى الجميع.
وكما أنّ وجود شيء في الحال يمكن أن يكون داعياً إلى أمر ـ كذلك وجوده في المستقبل.
إن قلت: فعلى هذا لا بدّ من وجوب جميع المقدّمات قبل مجيء زمان الواجب كالوضوء ومعرفة القبلة بالنسبة إلى الصّلاة.
قلنا: إنّه كذلك في خصوص المقدّمات التي يوجب تركها تفويت الغرض في زمانه حتماً لا مثل الوضوء الذي يحتمل إمكان تحصيله في الوقت.
بقي هنا شيء:
إذا شككنا في أنّ القيد يرجع إلى الوجوب أو إلى الوجود، وبتعبير آخر: يرجع إلى الهيئة أو إلى المادّة، فما هو مقتضى الأصل اللّفظي والعملي؟
أمّا الأصل العملي فنقول: لا بدّ فيه من التفصيل بين الشرط المشكوك رجوعه إلى المادّة أو الهيئة وبين مشروطه.
أمّا الشرط كالإستطاعة بالنسبة إلى الحجّ، فلا إشكال في أنّ مردّ الشكّ فيه إلى الشكّ في وجوب تحصيله وعدمه، والأصل حينئذ هو البراءة كما لا يخفى، وقد أفتى به بعض الفقهاء في باب صلاة الجمعة بإنّ إقامة صلاة الجمعة من شرائط الوجوب لا الواجب لظاهر قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ...} حيث إنّ ظاهرها أنّ السعي إلى ذكر الله وحضور الجمعة متوقّف على إقامتها من قبل جماعة والنداء إليها، وبدون ذلك لا يجب الحضور، ولو فرض الشكّ في ذلك فالأصل هو البراءة عن وجوب الإقامة.
وأمّا بالنسبة إلى المشروط كالحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة، فيتصوّر فيه حالات ثلاثة:
فتارةً: لا يحصل الشرط فلا تتحقّق الاستطاعة فلا إشكال أيضاً في أنّ الأصل هو البراءة عن وجوب الحجّ، لأنّ الشكّ في كون الاستطاعة شرطاً للوجوب أو للواجب يسري إلى المشروط، ونتيجته الشكّ في أصل وجوب الحجّ والأصل فيه البراءة.
واُخرى: يتحقق الشرط فتتحقق الاستطاعة مثلا، فلا كلام في وجوب الحجّ وهو واضح.
وثالثة: فيما لو تحقق الشرط ثمّ زال، فيتصوّر له أيضاً ثلاث حالات:
الاُولى: ما إذا علمنا أنّ الشرط قد شُرط حدوثاً وبقاءً فلا إشكال في عدم وجوب الحجّ من دون حاجة إلى جريان البراءة، للعلم بعدم وجوبه حينئذ، وذلك نظير صحّة البدن بالنسبة إلى الصّيام فإنّه شرط له حدوثاً وبقاءً.
الثانيّة: ما إذا علمنا أنّ الشرط هو شرط حدوث فحسب فلا كلام أيضاً في وجوب المشروط لحصول شرطه.
الثالثة: ما إذا شككنا في أنّه شرط حدوث وبقاء معاً أو حدوث فقط، فالأصل هو الاستصحاب لثبوت وجوب المشروط بحدوث الشرط، فإذا شككنا في بقائه من جهة الشكّ في شرطيّة بقاء الشرط كان الأصل هو استصحاب بقاء الوجوب.
إن قلت: لا بدّ في الاستصحاب من وحدة الموضوع (أي موضوع القضيّة المتيقّنة والمشكوكة) وهي مفقودة في المقام لأنّ الموضوع في القضيّة المتيقّنة إنّما هو عنوان المستطيع،
والمفروض زواله بقاءً.
قلنا: الموضوع للقضيّة المتيقّنة إنّما هو عنوان المكلّف، وأمّا الاستطاعة فهي تعدّ من حالات الموضوع لا مقوّماته، وعنوان المكلّف باق على الفرض، وسيأتي في مباحث الاستصحاب تعيين الملاك في كون شيء من حالات الموضوع أو مقوّماته.
هذا كلّه بالنسبة إلى الأصل العملي، وهو البراءة في موردين والاستصحاب في مورد واحد.
أمّا الأصل اللّفظي: فيدور الأمر فيه في الواقع مدار إطلاق المادّة وإطلاق الهيئة وأنّه هل يقدّم إطلاق الهيئة على إطلاق المادّة حتّى تكون نتيجته رجوع القيد إلى المادّة وكون الشرط شرطاً للواجب، أو يكون المقدّم إطلاق المادّة فيرجع القيد إلى الهيئة ونتيجته كون الشرط شرطاً للوجوب؟
ذهب الشّيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله) إلى تقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادّة، ويمكن الاستدلال له بوجهين:
الوجه الأوّل: أنّ إطلاق الهيئة شمولي وإطلاق المادّة بدلي، ومن المعلوم أنّ الإطلاق الشمولي ممّا يقدّم على البدلي، فإذا شككنا مثلا في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] أنّ قيد الاستطاعة يرجع إلى هيئة «لله على الناس» التي مفادها وجوب الحجّ، أو يرجع إلى المادّة (وهي الحجّ) قدّمنا إطلاق الهيئة، وصارت النتيجة وجوب الحجّ مطلقاً مع اشتراط صحّته بالاستطاعة، يعني يجب تحصيل الاستطاعة له.
الوجه الثاني: أنّ تقييد الهيئة ممّا يوجب بطلان محلّ الإطلاق في المادّة بخلاف العكس، أي لا يبقى مع تقييد الهيئة محلّ لإطلاق المادّة فإذا فرض تقييد مفاد الهيئة وهو الوجوب بالاستطاعة مثلا فلا يبقى محلّ لإطلاق الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة، إذ الحجّ لا ينفكّ عن الاستطاعة فيقيّد بتقييد الوجوب قهراً، بخلاف ما إذا فرض تقييد الحجّ بالاستطاعة، فيبقى معه مجال لإطلاق الوجوب، وذلك لجواز تقييده حينئذ بالاستطاعة، ومن المعلوم أنّه كلّما دار الأمر بين تقييدين أحدهما يبطل محلّ الإطلاق في الآخر دون العكس كان العكس أولى، لأنّ التقييد وإن لم يكن مجازاً ولكنّه خلاف الأصل، ورجوع القيد إلى المادّة لازمه ارتكاب خلاف واحد للأصل لأنّه تقييد واحد، ورجوع القيد إلى الهيئة لازمه ارتكاب خلافين للأصل لأنّه يرجع إلى تقييدين.
إن قلت: كيف يستدلّ الشّيخ الأعظم (رحمه الله) بهذا الوجه مع أنّه قائل برجوع القيد إلى المادّة؟ على أيّ حال: فلا يتصوّر عنده تقييد الهيئة عقلا حتّى يدور الأمر بينه وبين تقييد المادّة.
قلنا: إنّه كذلك ولكنّه كان يحتمل رجوع القيد إلى الهيئة في ظاهر اللفظ ومقام الإثبات، وأنّه وإن كان يرجع إلى المادّة لبّاً ولكن لهذا الظهور أثر عملي، وهو عدم ترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إلى مثل هذا القيد، فقد مرّ منه أنّ القيود الراجعة إلى المادّة على قسمين: قسم يكون راجعاً إلى المادّة في ظاهر اللفظ أيضاً فيترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إليه فيجب تحصيله، وقسم لا يكون راجعاً إليها في ظاهر اللفظ، فهو وإن كان راجعاً إليها لبّاً ولكن نستكشف من عدم أخذه قيداً للمادّة في ظاهر اللّفظ ومقام الإثبات عدم ترشّح الوجوب إليه، أي عدم وجوب تحصيله.
فظهر أنّ لرجوع القيد إلى الهيئة وعدم رجوعه إليها ثمرة حتّى على مبنى الشّيخ الأعظم(رحمه الله)، فالوجه الثاني المذكور لمقالته في مقام الشكّ أيضاً لا غبار عليه من هذه الناحية.
ولكن يمكن الجواب عن كلا الوجهين.
أمّا الوجه الأوّل: فيجاب عنه أوّلا: بأنّ «تقسيم الإطلاق إلى الشمولي والبدلي غير صحيح لأنّ الذي يستفاد من الإطلاق ليس إلاّ كون ما وقع موضوعاً للحكم تمام العلّة لثبوته، وأمّا الشمول والبدليّة بمعنى كون الحكم شاملا لجميع الأفراد أو فرد منها، أو بمعنى أنّ الطلب هل يسقط بإيجاد فرد منها أو بإيجاد كلّها فغير مربوط بالإطلاق بل لا بدّ في استفادة أيّ واحد من الشمول والبدل من إلتماس دليل آخر غير الإطلاق»(4)، وهذا الجواب تامّ لا غبار عليه.
وثانياً: بأنّ المناط في تقدّم أحد الإطلاقين على الآخر ليس هو كونه شمولياً فإنّ الشمولي ليس بأقوى من البدلي، بل هو الاستناد إلى الوضع وعدمه، فإذا كان العموم الشمولي مستنداً إلى الوضع كما في صيغة كلّ ونحوها، والإطلاق البدلي مستنداً إلى مقدّمات الحكمة كالإطلاقات المنعقدة لأسامي الأجناس نوعاً قدم العموم الشمولي الوضعي على الإطلاق البدلي المستفاد من مقدّمات الحكمة لكن لا بملاك كونه شموليّاً بل بملاك كونه وضعيّاً وأنّه أظهر من البدلي حينئذ، وإذا انعكس الأمر فكان العموم الشمولي مستنداً إلى مقدّمات الحكمة كما في «أحلّ الله البيع» والإطلاق البدلي مستنداً إلى الوضع كما في كلمة «أيّ»، قدّم الإطلاق البدلي الوضعي على العموم الشمولي المستفاد من مقدّمات الحكمة، وعليه ففي المقام حيث إنّ كلا من إطلاق الهيئة وإطلاق المادّة مستند إلى مقدّمات الحكمة فلا ترجيح لأحدهما على الآخر.
وثالثاً: لو سلّمنا أقوائيّة الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي لكن لا نسلّم إنّها توجب تقديم الشمولي على البدلي ما لم يصل إلى حدّ الظهور العرفي للفظ في الشمول بحيث تعدّ البدليّة مخالفة للظهور.
وأمّا الوجه الثاني: فالجواب عنه واضح، لأنّ الأمر في ما نحن فيه دائر بين تقييد وتقييد، لا بين تقييد وتقييدين: لأنّ تقييد الهيئة يوجب ارتفاع موضوع التقييد في المادّة على نحو السالبة بانتفاع الموضوع لا إنّه يلازم تقييدها مع بقاء موضوعه، فإن قيّدنا الهيئة لزم تقييد واحد، وإن قيّدنا المادّة لزم تقييد واحد أيضاً فالأمر دائر بين تقييد وتقييد.
__________________
1. الفصول: ص79.
2. المصدر السابق: ص 80 ـ 81.
3. فوائد الاُصول: ج1، ص186.
4. راجع تهذيب الاُصول: ج1، ص187، طبع مهر.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|