أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-8-2016
700
التاريخ: 24-8-2016
1036
التاريخ: 1-8-2016
793
التاريخ: 24-8-2016
673
|
ينبغي التنبيه على امور :
التنبيه الأوّل : اشتراط عدم وجود أصل موضوعي ( وهو من أهمّها ):
إنّ أصالة البراءة كسائر الاُصول الحكميّة يشترط في جريانها عدم وجود أصل موضوعي ينقّح حال الموضوع، وإلاّ فلو كان في المقام أصل جار من ناحية الموضوع لكان حاكماً على الأصل الحكمي سواء في الشبهة الموضوعيّة أم الحكميّة، فالأولى نظير استصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير العنبي فيما إذا شككنا في ذهاب الثلثين وعدمه، فهو حاكم على أصالة الإباحة ومانع عن جريانها، لأنّه بمنزلة الأصل السببي وأصالة الإباحة أصل مسبّبي، وسيأتي البحث عنهما ولزوم تقديم الأوّل على الثاني، والثانية نظير استصحاب جلل الحيوان فيما إذا شككنا في أنّ استبراء الجّلال يتحقّق عند الشارع بسبعة أيّام أو بعشرة أيّام، فهو حاكم على أصالة الحلّية لنفس العلّة، وهى أنّ الشكّ في الحلّية مسبّب عن الشكّ في بقاء الجلل وعدمه. فاستصحاب بقاء الجلل أصل سببي وأصالة الحلّية أصل مسبّبي.
ومن هنا يظهر أنّ المراد من الموضوع في قولك: «الأصل الموضوعي» في المقام ما هو في مقابل الحكم سواء كان موضوعاً جزئيّاً كما في المثال الأوّل في الشبهة الموضوعيّة، أو موضوعاً كلّياً كما في المثال الثاني في الشبهة الحكميّة، فليس المراد منه الموضوع الخارجي حتّى يكون جزئياً في جميع الموارد وتكون الشبهة موضوعيّة دائماً.
كما يظهر ضعف ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) في المقام حيث قال: إنّ المراد من الأصل الموضوعي في ما نحن فيه ليس خصوص الأصل الجاري في الموضوع مقابل الحكم الشرعي، بل كلّ أصل محرز متكفّل للتنزيل يكون حاكماً على أصالتي البراءة والاشتغال، وقال في صدر كلامه: «ونعني بـ (الأصل المتكفّل للتنزيل) أن يكون مفاد الأصل إثبات المؤدّى بتنزيله منزلة الواقع بحسب الجري العملي سواء كان المؤدّى موضوعاً خارجياً أو حكماً شرعيّاً»(1).
أقول: الظاهر إنحصار هذا الأصل (المتكفّل للتنزيل على مبناه) في الاستصحاب، وأمّا وجه ضعف كلامه هذا أنّه ينتقض بجميع الموارد التي يقدم فيه الاستصحاب على البراءة مع عدم كونه أصلا موضوعياً بالنسبة إليها ومن قبيل السبب بالنسبة إلى مسبّبه، بل الوجه في تقدّمه عليها إنّما هو أخصّية أدلّة الاستصحاب بالنسبة إلى أدلّة البراءة (كما سيأتي في محلّه) نظير ما إذا شككنا في حلّية شيء مع العلم بأنّ حالته السابقة هى الحرمة فاستصحاب الحرمة فيه مقدّم على أصالة الحلّية لا من باب أنّه من قبيل الأصل الموضوعي وما إذا كان الشكّ في حكم الحلّية ناشئاً من الشكّ في موضوعه، بل لما ذكرنا من أخصّية أدلّة الاستصحاب.
والظاهر أنّه وقع الخلط في كلام هذا المحقّق(رحمه الله) بين مسألة تقدّم الاستصحاب على البراءة ومسألة تقدّم الاُصول الموضوعيّة على الحكميّة.
وممّا يؤيّد ما ذكرنا أنّ الاُصول الموضوعيّة مقدّمة على الحكميّة من دون فرق بين الاستصحاب وسائر الاُصول الجارية في الموضوعات كأصالة الحلّية الجارية في الحيوان، فيجوز كون أجزاؤه في بدن المصلّى وهو مقدّم على أصالة الاشتغال بالصلاة.
الكلام في أصالة عدم التذكية:
ثمّ إنّه قد وقع بحث طويل بين الأعلام بمناسبة تمثيلهم للأصل الموضوعي بأصالة عدم التذكية في جريان أصالة عدم التذكية في حيوان شكّ في قابليته للتذكية، أو في وقوع التذكية الشرعيّة عليه للشكّ في اختلال بعض الاُمور الدخيلة في تحقّقها.
ولابدّ لتوضيح البحث من بيان حقيقة التذكية فنقول: يحتمل فيها ثلاث احتمالات:
1 ـ أن تكون أمراً بسيطاً مسبّباً عن شيئين: أحدهما: الذبح الشرعي، والثاني: قابلية الحيوان للتذكية، فتكون التذكية حينئذ أمراً مسببيّاً، وهو الطهارة الحاصلة في الحيوان تبيح أكله.
2 ـ أن تكون أمراً مركّباً من الجزئين المذكورين، فتكون حقيقتها نفس هذا السبب المركّب من جزئين.
3 ـ أن تكون عبارة عن نفس الذبح الشرعي فقط، وأمّا القابلية فهي شرط من شرائطها لا أن تكون جزء لماهيتها.
فعلى المعنى الأوّل: لا إشكال في جريان أصالة عدم التذكية في صورة الشكّ، لأنّ الشكّ في التذكية وعدمها يرجع إلى الشكّ في حصول ذلك الأمر البسيط وعدمه.
وعلى الثاني: لا إشكال في عدم جريانها إلاّ من باب أصل العدم الأزلي، لأنّ الجزء الأوّل وهو الذبح الشرعي حاصل بالوجدان، والجزء الثاني وهو القابلية ليس عدمه متيقّناً في السابق إلاّ من باب العدم الأزلي فتجري حينئذ أصالة الطهارة بلا مانع بناءً على ما هو المختار من عدم حجّية أصل العدم الأزلي.
وعلى الثالث: فلا إشكال أيضاً في عدم جريانها لأنّ التذكية وهى خصوص الذبح الشرعي حاصلة بالوجدان والشكّ إنّما هو في حصول بعض شرائطها.
والمحقّق النائيني(رحمه الله) اختار المعنى الثالث لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] إذ إنّ نسبة التذكية إلى الفاعلين تدلّ على أنّها من فعلهم(2).
ولكن يرد عليه: أنّ إسناد الفعل إلى الجزء الأخير من العلّة إسناد شائع، وهذا يناسب المعنى الثاني أيضاً، نعم إنّ أصل مدّعاه تامّ لعدم وجود حقيقة شرعيّة في معنى التذكية، فتحمل على معناها العرفي، ولا إشكال في أنّ مدلولها العرفي إنّما هو المعنى الثالث لأنّ أصلها الذكاء (بالذال) لا الزكاء (بالزاء) كما وقع الخلط بينهما في كلمات بعض الأعاظم، ففي مفردات الراغب: التذكية (بالذال) في الأصل بمعنى الإضاءة وذكّيت الشاة ذبحتها، وحقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزيّة، بينما التزكية (بالزاء) بمعنى النموّ والبركة والتطهير.
وبالجملة المرجع في المقام هو المعنى العرفي لعدم حقيقة شرعية لها (وما جاء في الشريعة من بعض الشروط فهو خارج عن حقيقتها) والمعنى العرفي إنّما هو المعنى الثالث، وعليه لا تجري أصالة عدم التذكية لأنّها حاصلة بالوجدان.
بقي هنا أمران:
الأوّل: أنّه قد ذكر في كلمات بعضهم أصل آخر يتوهّم حكومته على أصالة الحلّية، وهو استصحاب الحرمة في حال الحياة.
ولكن يمكن الجواب عنه بأمرين:
أحدهما: عدم اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع القضية المشكوكة في المقام، لأنّ الموضوع في الاُولى هو الحيوان الحيّ، وفي الثانية الحيوان الميّت، ولعلّ الحياة مقوّمة لحرمة الأكل.
ثانيهما: حرمة الأكل في حال الحياة أوّل الكلام لأنّ أكل الحيوان حيّاً غير ممكن إلاّ فيما هو صغير جدّاً كالسمكة الصغيرة التي يمكن بلعها لدفع بعض الأمراض على ما هو المعروف بين الناس، فلا موضوع للحلّية والحرمة حينئذ.
الثاني: في جريان أصالة عدم التذكية من ناحية الشبهة الموضوعيّة.
كان البحث إلى هنا في جريان أصالة عدم التذكية من ناحية الشبهة الحكميّة، وأمّا جريانها من ناحية الشبهة الموضوعيّة فيتصوّر له ثلاث صور:
الاُولى: في القطعة المطروحة في الطريق التي شكّ في أنّها من الحيوان المذكّى أو غير المذكّى، فلا إشكال في أنّها محكومة بالحرمة لجريان أصالة عدم التذكية فيها بمعانيها الثلاثة كما لا يخفى، وأمّا الرواية(3) الواردة في السفرة المطروحة في الطريق من أنّه يجوز أكل لحمها فالظاهر أنّه لمكان كون البلد بلداً مسلماً، وهو أمارة على الحلّية، ومقدّمة على أصالة عدم التذكية.
الثانية: في القطعة المبانة التي يدور أمرها بين حيوانين، أحدهما مذكّى، والثاني غير مذكّى، ففيها أيضاً تجري أصالة عدم التذكية، نعم أنّها لا تجري بالنسبة إلى نفس القطعة لأنّ التذكية صفة تعرض على كلّ الحيوان لا على بعضه بل لابدّ أن يكون المستصحب عنوان «ما أخذ منه اللحم» فيقال الحيوان الذي يكون منه هذا اللحم كان غير مذكّى، فيستصحب عدم تذكيته الذي من آثاره عدم حلّية هذه القطعة أيضاً.
الثالثة: ما إذا كانت هناك قطعات مختلفة مذكّاة وغير مذكّاة اختلط بعضها ببعض، فهل يجب الاجتناب عنها أو لا؟ فيتصوّر فيها صورتان: تارةً يكون كلا الحيوانين داخلين في محلّ الابتلاء، فلا إشكال في وجوب الإجتناب عن كلّ واحد من تلك القطعات لمكان العلم الإجمالي، واُخرى يكون أحدهما خارجاً عن محلّ الابتلاء ففيها وإن لم يكن العلم الإجمالي منجّزاً لكن تجري أصالة عدم التذكية بالنسبة إلى «ما أخذ منه هذا اللحم» ويحكم بحرمة كلّ قطعة بلا ريب.
فتحصّل من ذلك جريان أصالة عدم التذكية في الشبهة الموضوعيّة بجميع صورها.
ثمّ إنّ هيهنا إشكالا أورده بعض الأعلام على جريان أصالة عدم التذكية مطلقاً وفي جميع صورها، وهو «أنّ حقيقة التذكية التي هى فعل المذكّى عبارة عن إزهاق الروح بكيفية خاصّه وشرائط مقرّرة، وهى فري الأوداج الأربعة مع كون الذابح مسلماً، وكون الذبح عن تسمية وإلى القبلة مع آلة خاصّة، وكون المذبوح قابلا للتذكية، وعدم هذه الحقيقة بعدم الإزهاق بالكيفية الخاصّة والشرائط المقرّرة، ولا إشكال في أنّ هذا الأمر العدمي على نحو «ليس» التامّة ليس موضوعاً للحكم الشرعي، فإنّ هذا المعنى العدمي متحقّق قبل تحقّق الحيوان وفي زمان حياته، ولم يكون موضوعاً للحكم، وما هو الموضوع عبارة عن الميتة، وهى الحيوان الذي زهق روحه بغير الكيفية الخاصّة بنحو الإيجاب العدولي، أو زهوقاً لم يكن بكيفية خاصّة على نحو «ليس» الناقصة أو الموجبة السالبة المحمول وهما غير مسبوقين بالعدم فإنّ زهوق الروح لم يكن في زمان محقّقاً بلا كيفية خاصّة، أو مسلوباً عنه الكيفية الخاصّة فما هو موضوع غير مسبوق بالعدم، وما هو مسبوق به ليس موضوعاً له، واستصحاب النفي التامّ لا يثبت زهوق الروح بالكيفية الخاصّة إلاّ على الأصل المثبت»(4).
ويرد عليه: أنّ الواسطة في ما نحن فيه خفيّة وأنّ العرف يحكم باتّحاد مفاد ليس التامّة ومفاد ليس الناقصة، وإلاّ يلزم نفس الإشكال حتّى بالنسبة إلى مورد أخبار الاستصحاب و هو الوضوء، إذ إنّ الوضوء في حدّ ذاته لا يترتّب عليه أثر ولا يكون موضوعاً للحكم الشرعي، بل الموضوع عبارة عن الصّلاة المقيّدة بالطهارة، فيلزم أن تثبت الصّلاة مع الطهارة باستصحاب الطهارة بما هي هي، فيكون مثبتاً مع أنّه لا يلتزم به أحد.
وإن شئت قلت: موضوع الحكم هنا (مورد أخبار الاستصحاب) هو مفاد كان الناقصة أي كون الصّلاة متّصفة بالطهارة، مع أنّ الاستصحاب فيه هو مفاد كان التامّة أي بقاء الطهارة، فكما أنّ الاستصحاب بعنوان مفاد كان التامّة يكفي عمّا هو مفاد كان الناقصة، فكذلك الكلام بالنسبة إلى مفاد ليس التامّة وليس الناقصة.
التنبيه الثاني : في حسن الاحتياط ، وترتّب الثواب عليه ، وإمكان الاحتياط في العبادات:
فيقع البحث في ثلاث مقامات، وهو في الأوّلين كبروي وفي الثالث صغروي.
أمّا الأوّل: (وهو حسن الاحتياط) فلا إشكال ولا ريب في حسنه عقلا وشرعاً في الجملة ولم يخالف فيه أحد.
وأمّا الثاني: فالمسلّم عند المحقّق الخراساني(رحمه الله) وجماعة من الأعاظم ترتّب الثواب على الاحتياط، ولكنّه عندنا محلّ إشكال لأنّ الثواب يتصوّر في الأوامر المولويّة، وأمّا الأوامر الإرشادية التي منها الأمر بالاحتياط فما يترتّب عليها إنّما هو المصلحة المرشد إليها لا غير.
وبعبارة اُخرى: أنّ الاحتياط في الواقع نحو من الإنقياد الذي يقابل التجرّي، ولا إشكال في أنّ الإنقياد والتجرّي متساويان في ترتّب الثواب والعقاب وعدمه، فكما أنّ التجرّي لا يترتّب عليه العقاب بناءً على المختار في محلّه، كذلك الإنقياد فلا يترتّب عليه الثواب وإلاّ يلزم في صورة الإصابة ترتّب ثوابين وهو مقطوع العدم كما في باب التجرّي بالنسبة إلى ترتّب عقابين.
اللهمّ إلاّ أن يقال: إذا احتاط العبد احتراماً للمولى وتعظيماً لأوامره المحتملة فإنّه يستحقّ الثواب بعنوان آخر من باب التعظيم والاحترام كما أنّه في باب التجرّي لو قصد العبد بفعله هتك حرمة المولى ترتّب عليه العقاب بلا إشكال، ولكنّه أمر آخر غير ترتّب الثواب على الإنقياد بما هو الإنقياد وترتّب العقاب على التجرّي بما هو التجرّي الذي هو محلّ البحث.
وهنا كلام للمحقّق العراقي(رحمه الله) يدّعي فيه ظهور طائفة من الأخبار الواردة في المقام في المولويّة وترتّب الثواب على الاحتياط من هذه الناحية، نعم يعترف في الغاية بعدم استفادة الاستحباب المولوي النفسي منها نظراً إلى بعد الاستحباب النفسي عن مساق تلك الأخبار، بل المستفاد منها إنّما هو الاستحباب المولوي الطريقي، وإليك نصّ كلامه: «إنّ الأخبار الواردة في المقام على طوائف:
منها: ما يشتمل على عنوان الاحتياط كقوله(عليه السلام): أخوك دينك فاحتط لدينك، وقوله(عليه السلام): إذا أصبتم بمثل هذا فعليكم بالاحتياط.
ومنها: ما يشتمل على عنوان المشتبه، وهذه الطائفة على صنفين: أحدهما: ما يكون مذيّلا بالتعليل بأنّه خير من الإقتحام في الهلكة، وثانيهما: ما لا يكون له هذا الذيل، كقوله(عليه السلام): «من ترك الشبهات كان لما استبان له أترك».
أمّا الطائفة الاُولى: فلابدّ من حملها على الإرشاد كأوامر الإطاعة والإنقياد، وأمّا الطائفة الثانية: فهي أيضا بمقتضى التعليل الواقع في ذيلها ظاهرة في الإرشاد لكن لا إلى حكم العقل بحسن الإطاعة، بل إلى عدم الوقوع في مخالفة التكاليف الواقعيّة والمفاسد النفس الآمرية نظير أوامر الطبيب ونواهيه، وأمّا الطائفة الثالثة: فهي وإن كانت قابلة للإرشاد وللمولويّة إلاّ أنّ ظهورها في المولويّة ينفي الإرشادية، نعم يدور أمرها بين الاستحباب النفسي، أو الطريقي كسائر الأحكام الطريقيّة المجعولة لحفظ الواقعيات المجهولة كما في أوامر الطرق والأمارات على ما بيّناه، وحينئذ فظاهر تعلّق الأمر بعنوان المشتبه وإن كان يقتضي كونه مستحبّاً نفسيّاً حكمته إعتياد المكلّف على الترك بنحو يهون عليه الاجتناب عن المحرّمات المعلومة ولكن لا يبعد ترجيح الطريقيّة نظراً إلى بعد الاستحباب النفسي عن مساق تلك الأخبار ... إلى أن قال: فعلى هذا صحّ لنا دعوى عدم استفادة الاستحباب المولوي النفسي من الأخبار الواردة في المقام حتّى المشتمل منها على عنوان المشتبه»(5).
أقول: إنّ الطائفة الثالثة من الأخبار أيضاً ظاهرة في الإرشاد لا المولويّة، لأنّها ترشدنا إلى أنّ ترك المشتبهات يقوّينا على ترك المحرّمات المعلومة، فهى إرشاد إلى ما يوجب الإجتناب عن المحرّمات، وهو حصول القوّة والعادة على ترك القطعيّة منها.
وأمّا المقام الثالث: (وهو إمكان الاحتياط في العبادات) فاستشكل فيه بما يمكن أن يقرّر بثلاث تقريرات:
الأوّل: أنّه يعتبر في العبادة قصد القربة، وهو يحتاج إلى أمر قطعي، وهو مفقود في المقام.
الثاني: أنّ العبادة فرع الإطاعة، والإطاعة متفرّعة على وجود الأمر. (لكنّه يرجع إلى الأوّل وإن جاء في بعض الكلمات بعنوان بيان مستقلّ).
الثالث: لابدّ في العبادة من الجزم بكون العمل مأموراً به ولا جزم في موارد الاحتياط.
واُجيب عنها باُمور:
الأمر الأوّل: من طريق إثبات وجود أمر قطعي في الاحتياط، وذلك بثلاثة طرق:
1 ـ أن يقصد إمتثال أوامر الاحتياط.
وفيه: أنّه قد عرفت أنّ تلك الأوامر إرشاديّة، ولا يصحّ قصد التقرّب بالأوامر الإرشاديّة لعدم حسن ذاتي لمتعلّقاتها بل الحسن والمحبوبيّة إنّما هي في المرشد إليه على فرض وجوده.
2 ـ أن يقال: يترتّب على الاحتياط الثواب وهو يلازم المحبوبيّة الذاتية.
وفيه: منع ترتّب الثواب كما مرّ آنفاً.
هذا مضافاً إلى لزوم الدور، لأنّ لازم ذلك توقّف إمكان الاحتياط على ترتّب الثواب عليه، بينما ترتّب الثواب يتوقّف على إمكان الاحتياط.
3 ـ أن يقصد إطاعة إخبار «من بلغ ...».
ولكن سيأتي أنّ إخبار من بلغ لا تدلّ على المحبوبيّة الذاتيّة وأنّ الثواب الوارد فيها هو من باب التفضّل من الله تعالى لا من باب حصول الاستحقاق، والثواب التفضّلي ليس كاشفاً عن الأمر كما هو وضاح.
الأمر الثاني: ما هو أسوأ حالا من سابقه، وهو أن يقال: إنّ المراد بالاحتياط في العبادات هو نفس إتيان ظاهر العمل ولو بدون قصد القربة.
وإشكاله واضح، لأنّه لا محبوبيّة ولا حسن لما أتى به من دون قصد القربة، والإتيان بظاهر العبادة بدون القربة كالجسد بلا روح.
الأمر الثالث: (وهو العمدة) أن يقال بكفاية الاحتمال بل الرجاء في تحقّق قصد القربة، ولا حاجة إلى الأمر القطعي.
توضيح ذلك: قد مرّ في مبحث التعبّدي والتوصّلي أنّ أعمال الإنسان على قسمين: قسم منها من الاُمور التكوينيّة الحقيقيّة غير الاعتباريّة كالصناعات والتجارات والزراعات وغيرها من الأعمال الاعتياديّة للبشر التي لا دخل فيها ليد الجعل والاعتبار، وقسم آخر يكون من الاُمور الاعتباريّة المجعولة من قبل العقلاء كجعل رفع القلنسوة أو وضع العمامة مثلا للاحترام والتعظيم على اختلاف الآداب والعادات، ومن هذا القسم ما يدلّ على نوع خاصّ من الخضوع والتواضع الذي يسمّى بالعبادة وفي اللغة الفارسيّة بـ «پرستش»، نظير التواجد في عرفات أو الهرولة في مناسك الحجّ أو غسل الوجه واليدين في الوضوء أو الإمساك عن الأكل والشرب في الصيام، ومن هذا النوع ما تكون العبادة ذاتيّة له كالسجود الذي يكفي فيه مجرّد قصد العمل بعنوان السجدة بخلاف غيره من العبادات التي تتميّز عن سائر الأفعال بقصد القربة، ومن دونه لا تتحقّق بعنوان العبادة، كما أنّ عباديتها تحتاج إلى كون العمل حسناً ومحبوباً ذاتاً.
وبالجملة لابدّ في عبادية العمل من تحقّق أمرين: أحدهما: كون العمل محبوباً لله تعالى، والثاني: كون الباعث إليه التقرّب إليه سبحانه، فتكون العبادة مركّبة منهما، ولا إشكال في حصول هذين في العبادات الاحتياطيّة، معه لا حاجة إلى أمر وراء ذلك.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) أفاد في المقام بأنّه إذا احتاط المكلّف وأتى بالعمل بقصد الرجاء فإن أصاب الواقع فيقع العمل عبادة، وإن خالف الواقع فيترتّب عليه الثواب لأنّه إنقياد وإطاعة حكميّة.
وذكر المحقّق الأصفهاني(رحمه الله) في ذيل كلامه إشكالا، وهو أنّ المعلول الفعلي يتوقّف على علّة فعلية، ولا يكفيه العلّة التقديرية، فالحركة نحو الفعل لا يعقل استنادها إلى الأمر على تقدير ثبوته بل لابدّ من استنادها إلى شيء محقّق، وليس في البين إلاّ احتمال الأمر، فإنّه شيء فعلي، فلو صار الفعل قربيّاً فإنّما يصير به لا بالأمر على تقدير ثبوته، وهل هو إلاّ الإنقياد لا أنّه إطاعة تارةً وإنقياد اُخرى.
وأجاب عنه بنفسه بأنّ: «الأمر بوجوده الواقعي لا يكون محرّكاً أبداً ضرورة إنّ مبدأ الحركة الاختياريّة هو الشوق النفساني، فلابدّ له من علّة واقعة في النفس، فلابدّ من كون الأمر بوجوده الحاضر للنفس داعياً ومحرّكاً دائماً، وكما أنّ الأمر الحاضر للنفس المقترن بالتصديق الجزمي قابل للتأثير في حدوث الشوق، كذلك الأمر الحاضر المقترن بالتصديق الظنّي أو الاحتمالي، فإذا كان التصديق القطعي موافقاً للواقع كانت الصورة الحاضرة من الأمر صورة شخصية، فينسب الدعوة بالذات إلى الصورة وبالعرض إلى مطابقها الخارجي، وإذا لم يكن التصديق القطعي موافقاً للواقع كانت الصورة الحاضرة صورة مثله المفروض، فلا شيء في الخارج حتّى تنسب إليه الدعوة بالعرض، فيكون إنقياداً محضاً لا إمتثالا وإطاعة للأمر وانبعاثاً عنه، فكذا الأمر المظنون أو المحتمل، فالأمر المظنون أو المحتمل هو الداعي، وهذه
الصفة فعلية في هذه المرتبة فإن وافق الواقع نسب إليه الدعوة وكان إنبعاثاً عنه وإمتثالا له بالعرض وإلاّ فلا، بل كان محض الإنقياد كما في صورة القطع طابق النعل بالنعل»(6).
أقول: وما قد يقال في الفرق بين صورتي القطع والاحتمال من «أنّ القطع يكون طريقاً للواقع فإذا طابق الواقع كان الانبعاث من الواقع في الحقيقة ولكن الاحتمال لا طريقيّة له»(7)قابل للدفع، فإنّ الاحتمال وإن لم يكن طريقاً إلى الواقع بالمعنى المعروف في الاُصول في باب الطرق، ولكنّه ناظر إلى الواقع، فلو طابق الواقع كان الباعث في الحقيقة هو الواقع، وهذا أمر ظاهر بالوجدان، فمن احتمل قدوم بعض أخويه من السفر فاستقبله فأصاب احتماله الواقع كان المحرّك له إلى الإستقبال في الحقيقة قدوم أخيه لا غير، فكأنّه وقع الخلط بين الطريقيّة بمعنى الحجّية، والطريقيّة بمعنى النظر إلى الخارج.
الكلام في أخبار من بلغ (التسامح في أدلّة السنن):
لمّا كان الكلام في تصحيح العبادة الاحتياطيّه وتقدم أن أحد الطرق لذلك أخبار من بلغ، كان المناسب بسط الكلام في مفاد هذه الأخبار ومغزاها وما يترتّب عليها من الأحكام.
فنقول ومنه جلّ ثنائه التوفيق والهداية: يقع الكلام فيه في مقامين:
المقام الأوّل: في أنّ المسألة اُصوليّة أو لا؟
يمكن عنوان المسألة بصورتين:
الاُولى: عنوانها كمسألة اُصوليّة، بأن يقال: هل الأخبار الضعاف في المستحبّات في حكم الأخبار الصحاح في الواجبات أو لا؟ وهذا ما يعبّر عنه بالتسامح في أدلّة السنن، ولا يخفى أنّها حينئذ مسألة اُصوليّة لأنّه يبحث فيها عن الحجّية وعدمها.
والثانية: عنوانها كقاعدة فقهيّة بأن يقال: هل الخبر الدالّ على ترتّب ثواب على عمل يدلّ بالالتزام على استحباب ذلك العمل شرعاً أو لا؟ وهذا بحث فقهي حيث يبحث عن أحد الأحكام الخمسة، وهو الاستحباب، وقاعدة فقهيّة من باب أنّه كلّي ليست عهدتها على المقلّد.
ربّما يقال: بإمكان كون هذه المسألة مسألة كلاميّة لأنّها تبحث عن ترتّب الثواب على العبادات الاحتياطيّة وعدمه، والبحث عن الثواب والعقاب إنّما هو من شأن علم الكلام.
لكن قد مرّ في بعض الأبحاث السابقة أنّه لو كان الأمر كذلك للزم أن يكون قسم عظيم من الكتب الفقهيّة داخلا في علم الكلام، وهو كما ترى، بل معيار المسألة الكلاميّة إنّما هو البحث عن وجود أصل الثواب والعقاب في يوم القيامة على نحو الكلّي لا البحث عن مصاديقهما.
المقام الثاني: في أدلّة المسألة:
واستدلّ لها بأمرين:
الأوّل: دعوى الإجماع من ناحية الشهيد(رحمه الله) في الذكرى حيث قال: «أخبار الفضائل يتسامح فيها بما لا يتسامح في غيرها عند أهل العلم» والظاهر أنّه ذكر المسألة بعنوان مسألة اُصوليّة، كما أنّ ظاهر قوله: «عند أهل العلم» العامّة والخاصّة معاً.
الثاني: طائفة من الأخبار التي فيها صحيح السند (كروايتي هشام بن سالم الآتيتين) وفيها ضعاف أو مراسيل.
1 ـ ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «من بلغه عن النبي (صلى الله عليه وآله)شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يقله»(8).
2 ـ ما رواه هشام بن سالم أيضاً عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له، وإن لم يكن على ما بلغه»(9).
والظاهر عند النظر البدوي كونهما روايتين مستقلّتين ولكن عند الدقّة يحتمل قويّاً إتّحادهما كما لا يخفى.
3 ـ ما رواه محمّد بن مروان عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «من بلغه عن النبي(صلى الله عليه وآله)شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي(صلى الله عليه وآله) كان له ذلك الثواب وإن كان النبي(صلى الله عليه وآله) لم يقله»(10).
4 ـ ما رواه محمّد بن مروان أيضاً قال سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: «من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اُوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه»(11).
5 ـ ما رواه صفوان عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل (فعمله) به كان له أجر ذلك، وإن كان (وإن لم يكن على ما بلغه) رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يقله»(12).
6 ـ ما رواه علي بن موسى بن جعفر بن طاووس في كتاب الإقبال عن الصادق(عليه السلام) قال: «من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك وإن لم يكن الأمر كما بلغه»(13).
7 ـ ما رواه الصدوق عن محمّد بن يعقوب بطرقه إلى الأئمّة(عليهم السلام) إنّ: «من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه»(14).
والظاهر رجوع هذا الحديث إلى سابقه ولعلّه إلى الرواية الثانية التي نقلها الكليني أيضاً عن هشام بن سالم، كما أنّ المحتمل قويّاً كون رواية ابن طاووس أيضاً راجعة إلى إحدى الروايات السابقة فالروايات السبعة ترجع في الواقع إلى أربعة.
8 ـ ما ورد في كتاب عدّة الداعي من طريق العامّة: عن عبدالرحمن الحلواني مرفوعاً إلى جابر بن عبدالله الأنصاري قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «من بلغه من الله فضيلة فأخذ بها وعمل بما فيها إيماناً ورجاء ثوابه أعطاه الله تعالى ذلك وإن لم يكن كذلك».
ثمّ قال مؤلّف الكتاب (عدّة الداعي): فصار هذا المعنى مجمعاً عليه عند الفريقين(15).
أقول: أمّا الدليل الأوّل وهو الإجماع فيمكن النقاش فيه من جهتين:
فأوّلا: من ناحية وجود المخالف مثل صاحب المدارك والعلاّمة والصدوق وشيخه محمّد بن حسن بن الوليد.
فقد قال صاحب المدارك في كتابه في مبحث الوضوءات المستحبّة: وما يقال من أنّ أدلّة السنن يتسامح فيها بما لا يتسامح في غيرها فمنظور فيه لأنّ الاستحباب حكم شرعي يتوقّف على دليل شرعي.
وقال الصدوق(رحمه الله) في باب صلاة غدير خمّ: إنّ شيخنا لم يصحّح أخبار هذه الصّلاة فلا اعتبار بها (بصلاة غدير خمّ) عندنا.
فإنّه لو كان الإجماع قائماً على التسامح في أدلّة السنن لم يقل بهذا.
وثانياً: من ناحية إنّه محتمل المدرك والظاهر أنّ مدركه هو أخبار من بلغ.
فالعمدة في المقام إنّما هي الأخبار، واستدلّ بها بأنّ ظاهرها ترتّب الثواب على العمل لا من باب التفضّل فقط بل من باب إنّ العمل يوجب الإستحقاق، ففي حديث صفوان: «كان له أجر ذلك» (المشار إليه هو العمل)، وكذلك في حديث هشام (الذي مرّ إنّه من أهمّها): «كان أجر ذلك له» فقد اُضيف الأجر في هذين الحديثين إلى العمل، وهو ظاهر في كون العمل مأموراً به ولازمه الاستحباب النفسي.
وبعبارة اُخرى: لا إشكال في أنّ هذه الأخبار تحرّضنا إلى العمل والتحريض إلى العمل دليل على كونه محبوباً، والمحبوبية تدلّ على وجود الأمر.
هذا غاية البيان للاستدلال بهذه الأخبار على الاستحباب.
لكن أورد عليه بوجوه عديدة بعضها قابل للدفع:
1 ـ إنّ هذه الأخبار أخبار آحاد، وقد ثبت في محلّه عدم حجّيتها بالنسبة إلى الاُصول.
ويمكن الجواب عنه بأمرين: أحدهما: إنّ المسألة فقهيّة لا اُصوليّة. ثانيهما: إنّه قد وقع الخلط بين اُصول الفقه واُصول الدين وما ذكر من عدم حجّية أخبار الآحاد إنّما هو بالنسبة إلى الثاني لا الأوّل.
لكنّ فيه: إنّ اُصول الفقه أيضاً على المبنى المختار لا تثبت بخبر الواحد لأنّ عمدة الدليل على حجّيته إنّما هو بناء العقلاء، وهم لا يقنعون به في المسائل الأساسية الاُصوليّة فلا يكتفون به مثلا في ما يسمّى اليوم بالدُستور، وباللغة الفارسيّة «قانون أساسي» ولا ريب في اتّحاد القاعدة الفقهيّة مع القاعدة الاُصوليّة في هذه الجهة (أي الأهميّة والخطورة).
اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ خبر الواحد في ما نحن فيه معتضد بعمل الأصحاب قديماً وحديثاً، مضافاً إلى تظافر الأخبار في المقام، وهو كاف في إثبات المطلوب.
2 ـ إنّه لا يستفاد من هذه الأخبار أكثر من الثواب الإنقيادي كما أنّه مقتضى صراحة بعض التعابير الواردة فيها كقوله(عليه السلام): «ففعل ذلك طلب قول النبي(صلى الله عليه وآله)» أو «التماس ذلك الثواب» وكما أنّه مقتضى التفريع بالفاء في بعض آخر (فعمله) حيث إنّ مثل هذه التعابير ظاهرة أو صريحة في أنّ الباعث على العمل إنّما هو الإنقياد والتماس الثواب، وحينئذ بناءً على ترتّب الثواب على الإنقياد أيضاً لا تكون هذه الأخبار دليلا على الاستحباب بل غاية ما يستفاد منها الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الإنقياد.
وإن شئت قلت: لا أقلّ من صيرورتها مجملة بالنسبة إلى دلالتها على الاستحباب.
أقول: هذا عمدة الإيراد على الاستدلال بهذه الأخبار على الاستحباب النفسي، وذلك وقع الأعلام في حيص وبيص في مقام الجواب عنه.
فأجابوا عنه أوّلا: بأنّ لازم هذا (كون المدلول الثواب الإنقيادي فقط) ترتّب الثواب الإنقيادي كلّما حصل الاحتمال بكون هذا العمل صادراً من ناحية الرسول(صلى الله عليه وآله) ولو من طريق فتوى فقيه فلماذا عبّر فيها بخصوص الخبر؟
ولكنّه قابل للدفع بأنّ الغالب في نشوء الاحتمال إنّما هو الخبر الضعيف، فالروايات ناظرة إلى الفرد الغالب، أضف إلى ذلك وجود احتمال خصوصيّة في الثواب الإنقيادي الحاصل من الخبر وهى احترام قول النبي(صلى الله عليه وآله) والأئمّة(عليهم السلام).
وثانياً: بأنّ الثواب الإنقيادي أمر لازم لنيّة العبد لنفس العمل كما لا يخفى، بينما الظاهر من هذه الروايات ترتّب الثواب على نفس العمل.
ولكنّه أيضاً قابل للدفع بأنّ الثواب الإنقيادي أيضاً مربوط بالعمل لا النيّة، غاية الأمر أنّه يترتّب على العمل المستند إلى النيّة كما يحكم به الوجدان في باب التجرّي أيضاً.
3 ـ (وهو من أهمّها) إنّ لحن هذه الأخبار لحن التفضّل لا الاستحقاق كما يشهد عليه أنّ ظاهرها ترتّب نفس الثواب الذي بلغه، مع أنّه لو كان من باب الاستحقاق، كان الثواب الاستحقاقي تابعاً في درجته مقدار ما يقتضيه العمل واقعاً سواء كان أقلّ ممّا بلغه أو أكثر.
نعم لا يوجد هذا اللحن في الصحاح منها (وهى روايتي هشام) لكنّه موجود في عدّة متضافرة، منها والتضافر موجب لجبر الضعف وحصول الوثوق بالصدور.
4 ـ ما أفاده المحقّق النائيني (رحمه الله) من «أنّ هذه الأخبار مسوقة لبيان أنّ البلوغ يحدث مصلحة في العمل بها فيكون البلوغ كسائر العناوين الطارئة على الأفعال الموجبة لحسنها وقبحها والمقتضية لتغيير أحكامها، كالضرر والعسر والنذر والإكراه وغير ذلك من العناوين الثانوية، فيصير حاصل معنى قوله (عليه السلام) «إذا بلغه بعد حمل الجملة الخبرية على الإنشائيّة هو أنّه يستحبّ العمل عند بلوغ الثواب عليه كما يجب العمل عند نذره، فيكون مفاد الأخبار حجّيه قول المبلّغ وأنّ ما أخبر به هو الواقع، فيترتّب عليه كلّ ما يترتّب على الخبر الواجد للشرائط»(16).
أقول: إنّ معنى هذا الكلام قبول دلالة الأخبار على الاستحباب لعدم الفرق بين أن نستفيد منها الحجّية الاُصوليّة أو الاستحباب في مسألة فقهيّة ولا تترتّب عليه ثمره غير ما سيأتي ذكره في التنبيهات، فليس هذا إشكالا على دلالة أخبار من بلغ.
5 ـ ما ذهب إليه في تهذيب الاُصول وهو: «أنّ الظاهر من هذه الأخبار أنّ وزانها وزان الجعالة، بمعنى وضع الحكم على العنوان العام ليتعقّبه كلّ من أراد، فكما أنّ تلك، جعل معلّق على ردّ الضالّة، فهذا أيضاً جعل متعلّق على الإتيان بالعمل بعد البلوغ برجاء الثواب.
توضيحه: أنّ غرض الشارع لما تعلّق على التحفّظ بعامّة السنن والمستحبّات ويرى أنّ الاكتفاء في طريق تحصيلها بالطرق المألوفة ربّما يوجب تفويت بعضها، فلأجل ذلك توصّل إلى مراده بالحثّ والترغيب إلى إتيان كلّ ما سمع عن الغير الذي يحتمل كونه ممّا أمر به رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأردف حثّه باستحقاق الثواب وترتّب المثوبة على نفس العمل حتّى يحدث في نفس المكلّف شوقاً إلى الإتيان، لعلمه بأنّه يثاب بعمله طابق الواقع أو خالف ... وممّا ذكرنا يظهر إنّ استفادة الاستحباب الشرعي منها مشكل غايته، للفرق الواضح بين ترتّب الثواب على عمل له خصوصيّة ورجحان ذاتي فيه كما في المستحبّات وبين ترتّب الثواب على الشيء لأجل إدراك المكلّف ما هو الواقع المجهول كما في المقام، كما أنّ جعل الثواب على المقدّمات العلمية لأجل إدراك الواقع لا يلازم كونها اُموراً استحبابيّة وكما أنّ جعل الثواب على المشي في طريق الوفود إلى الله أو إلى زيارة الإمام الطاهر الحسين بن علي(عليهما السلام) لأجل الحثّ إلى زيارة بيت الله أو الإمام لا يلازم كون المشي مستحبّاً نفسيّاً»(17).
أقول: لا يترتّب على نفس ما يكون مجرّد طريق أو مقدّمة إلى شيء ثواب كما ذكر في محلّه في مبحث مقدّمة الواجب سواء كانت مقدّمة العلم أو مقدّمة الوجود مع أنّ الظاهر من هذه الأخبار ترتّب الثواب على نفس العمل، وهذا يقتضي كونه مستحبّاً ولو بعنوان ثانوي غير كونه مقدّمة.
6 ـ إنّه يمكن أن يكون مورد الروايات ما إذا كان المبلّغ ثقة كما هو الظاهر في بدو النظر من قوله(عليه السلام): «بلغه» لأنّ البلوغ ظاهر في البلوغ الصحيح، ولا أقلّ من عدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة (كون المبلغ ثقة أو غير ثقة) فلا يمكن التمسّك بإطلاقه بل إنّه في مقام بيان أنّ الثواب يترتّب على العمل حتّى في صورة التخلّف عن الواقع.
لكن يمكن أن يقال: إنّ اطلاق حديث من بلغ يقتضي عدم الفرق بين البلوغ من الطرق المعتبرة أو غيرها لصدق البلوغ على كليهما، ويؤيّده فهم الفقهاء، حيث إنّهم في باب التسامح في أدلّة السنن تمسّكوا بهذه الأخبار.
وإن شئت قلت: بلوغ الخبر أعمّ من أن يكون الخبر مطابقاً للواقع أو غير مطابق، فالبلوغ صحيح على كلّ حال وإن لم يكن الخبر مطابقاً للواقع.
7 ـ إنّها تتعارض مع منطوق آية النبأ لأنّها تدلّ بإطلاقها على وجوب التبيّن حتّى في المستحبّات.
واُجيب عنه: بأنّ عموم الآية أو إطلاقها يخصّص أو يقيّد بهذه الروايات.
8 ـ إنّ مدلولها أخصّ من المدّعى من ناحية وأعمّ منها من ناحية اُخرى، فهو أخصّ من باب أنّ موردها ما إذا وعد بالثواب، فلا يعمّ غيره كما إذا ورد خبر ضعيف بصيغة الأمر كقوله «اغتسل» من دون الوعد بالثواب، وأعمّ من جهة إنّها تشمل ما إذا كان الخبر الضعيف دالا على الوجوب أيضاً.
ويمكن الجواب عن هذا بأنّها شاملة لموارد عدم الوعد بالثواب بمدلولها الالتزامي كما لا يخفى، لإلغاء الخصوصيّة من هذه الناحية عرفاً. وأمّا عمومها بالنسبة إلى الخبر الدالّ على الوجوب فلا بأس به لأنّ المعتبر دلالته على رجحان الفعل وترتّب الثواب فيصير بضميمة أخبار من بلغ دليلا على الاستحباب.
هذا كلّه هو ما اُورد على أخبار من بلغ من الإيرادات حيث كان الأوّل منها إيراداً من ناحية السند والباقي من ناحية الدلالة، وكان أهمّها الذي لا يمكن الجواب عنه، هو الإشكال الثاني وحينئذ لا يمكن التمسّك بهذه الأخبار لإثبات استحباب ما أمرت به الأخبار الضعاف، فلا يجوز الفتوى بالاستحباب بل لابدّ أن يقيّد بلزوم إتيان العمل بقصد الرجاء، وبهذا يسقط كثير من المستحبّات الواردة في كتب الفتوى والرسائل العمليّة، فاللازم الإتيان بها بقصد الرجاء لا الورود، إلاّ إذا كان دليلها الأخبار المعتبرة لا الضعاف.
ثمّ إنّه لو سلّمنا دلالتها على الاستحباب فليس مفادها حجّية الخبر الضعيف بعنوان مسألة اُصوليّة بحيث يكون مثل قوله (عليه السلام): «ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان» بل إنّ مفادها مجرّد إعطاء قاعدة كلّية فقهيّة وهى استحباب العمل بعنوان ثانوي وهو عنوان البلوغ.
والفرق بين الأمرين يظهر في بعض الفروع نظير ما مثّل به الشيخ الأعظم الأنصاري(رحمه الله)في رسائله من غسل المسترسل من اللحية في الوضوء، فالحكم باستحبابه من باب دلالة خبر ضعيف عليه لا يوجب جواز المسح ببلله لأنّ المسح لابدّ من أن يكون من بلل الوضوء، ولا يصحّ ببلل ما ليس منه ولو كان مستحبّاً فيه إلاّ إذا ثبت كونه جزءاً مستحبّاً من الوضوء بدليل معتبر، فلا إشكال حينئذ في جواز المسح به.
أضف إلى ذلك كلّه خروج هذه الأخبار عن محلّ النزاع (وهو تصحيح العبادة الاحتياطيّة) لأنّه إمّا أن تكون أخبار من بلغ كافية لإثبات الاستحباب الشرعي أو لا، وفي كلا الحالين يكون البحث عنها خارجاً عن محلّ النزاع، أمّا على الأوّل فلأنّ محلّ البحث في المقام ما إذا لم يكن في البين حجّة على الوجوب أو الاستحباب واُريد الاحتياط، فلو كانت هذه الأخبار كافية لإثبات الحجّية للخبر الضعيف فلا معنى لإتيان العمل بقصد الاحتياط كما لا يخفى.
وأمّا على الثاني فلأنّ المفروض في محلّ الكلام عدم كفاية قصد الرجاء مع أنّ مقتضى التعبير الوارد في هذه الأخبار لزوم قصد الرجاء في هذه الموارد، فلا فائدة في الاستناد إلى أخبار من بلغ لما هو محلّ البحث.
بقي هنا اُمور
الأمر الأوّل: إنّ إحراز موضوع البلوغ من وظيفة المجتهد لا المقلّد سواء كانت المسألة اُصوليّة أو كانت قاعدة فقهيّة أو مسألة فقهيّة، أمّا بناءً على كونها اُصوليّه فلأنّ الحجّية أو عدمها أمر تشخيصها من شأن المجتهد، وأمّا بناءً على كونها قاعدة فقهيّة أو مسألة فقهيّة فلأنّ تشخيص البلوغ أو عدمه يتوقّف على إعمال مقدّمات فنيّة لا يكون في استطاعة المقلّد غالباً.
الأمر الثاني: أنّه لا فرق في المقام بين أن يكون الخبر الضعيف مفاده استحباب الشيء أو وجوبه لاتّحاد المناط فيهما وهو بلوغ الثواب، فالخبر الدالّ على الوجوب حيث إنّ من مدلوله ترتّب الثواب والأجر يتحقّق به موضوع البلوغ، فيكون مشمولا لأخبار من بلغ، ويصير مفاده مستحبّاً بالعنوان الثانوي وإن لم يثبت به الوجوب بالعنوان الأوّلي، نعم هذا كلّه بناءً على عدم كون المسألة اُصوليّة، وأمّا إذا كانت المسألة اُصوليّة فحيث إنّه يثبت بهذه الأخبار حجّية الخبر الضعيف يكون الخبر معتبراً من ناحية السند فيدلّ على الوجوب بلا إشكال.
اللهمّ إلاّ أن يقال: بإمكان بالتبعيض في الحجّية، وذلك بأن لا يكون مفاد هذه الأخبار بناءً على هذا المبنى أيضاً أكثر من الحجّية من ناحية دلالة الخبر على الرجحان لا الحجّية مطلقاً، فيثبت به مجرّد رجحان العمل واستحبابه فحسب.
الأمر الثالث: أنّه لا فرق بين أن يكون الخبر منسوباً إلى النبي(صلى الله عليه وآله) أو إلى الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)، لأنّ روايات الباب من هذه الجهة على ثلاث طوائف فطائفة: منها يكون الموضوع فيها مطلق بلوغ الثواب كالرواية 6 و8 و9 من الباب، وفي طائفة اُخرى مقيّد بالبلوغ عن النبي (صلى الله عليه وآله) كالرواية 5 و4 و3 و1، وفي طائفة ثالثة مقيّد بالبلوغ عن الله تبارك وتعالى كالرواية7.
أمّا الطائفة الاُولى: فلا إشكال في شمولها للخبر المنسوب إلى الأئمّة(عليهم السلام) كما لا إشكال في عدم تقييدها بالطائفتين الاُخريين لأنّهما من قبيل المثبتين.
وأمّا الطائفة الثانية والثالثة: فيمكن أيضاً الاستدلال بهما لجهتين:
الاُولى: إلغاء الخصوصيّة من النبي(صلى الله عليه وآله)وإنّ الأئمّة وارثون له وحاملون لعلومه.
الثانية: الأخبار الخاصّة التي تدلّ على أنّ ما عند الأئمّة(عليهم السلام) من علم الحلال والحرام والشرائع والأحكام نزل به جبرئيل(عليه السلام) وأخذوه من رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقد ورد في بعضها عن أبي عبدالله(عليه السلام) يقول: «حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدّي وحديث جدّي حديث الحسين(عليه السلام) وحديث الحسين(عليه السلام) حديث الحسن(عليه السلام)وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين(عليه السلام) وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله) وحديث رسول الله(صلى الله عليه وآله) قول الله عزّ وجلّ»(18).
وفي بعضها الآخر عن الصادق(عليه السلام): «ما سمعته منّي فاروه عن أبي وما سمعته منّي فاروه عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)»(19).
فبضمّ هذه الروايات إلى الخبر الضعيف المروي عن الأئمّة(عليهم السلام) يثبت موضوع البلوغ عن النبي(صلى الله عليه وآله) أو الله سبحانه بلا إشكال.
الأمر الرابع: أنّ هذه الأخبار لا تشمل ما إذا احتمل الاستحباب من غير ناحية الخبر الضعيف من فتوى فقيه بل من شهرة أو إجماع منقول أو من غير ذلك ممّا ليس بحجّة شرعاً (في صورة عدم حصول اليقين أو الاطمئنان بسببها بوجود خبر لم يصل إلينا) وإن كانت بعضها مطلقةً كما مرّ آنفاً لانصرافها إلى البلوغ عن المعصوم بالخبر المروي عنه.
وإن شئت قلت: لا يصدق عنوان البلوغ عن المعصوم في فتوى الفقيه باستحباب شيء أو وجوبه لأنّ الفقيه يخبر عن رأيه بالوجوب أو الاستحباب ولا يكون واسطة في النقل.
الأمر الخامس: أنّه يكفي في المقام مجرّد ورود أمر من ناحية المعصوم(عليه السلام)من دون أن يعد بالثواب صريحاً، كما إذا ورد في رواية ضعيفة: «اغتسل للزيارة» لما مرّ سابقاً من أنّه لا فرق فيما نحن فيه بين أن يكون الوعد بالثواب مدلولا مطابقياً للخبر أو مدلولا التزامياً له، ولا إشكال في أنّ الأمر بعمل يدلّ بالالتزام على ترتّب أجر وثواب عليه.
الأمر السادس: أنّ الظاهر عدم شمول الأخبار لما يدلّ على كراهة عمل أو حرمته، فلا يجري التسامح في أدلّة المكروهات لأنّ موضوعها بلوغ الثواب، وهو يصدق فيما إذا كان الفعل ذو مصلحة وترتّب عليه ثواب، والمكروه أو الحرام لا يكون في تركه مصلحة فلا يترتّب عليه ثواب بل إنّه مجرّد اجتناب عن مفسدة يوجب النجاة من العقاب.
لكن الإنصاف أنّ ظاهر جملة من الآيات والروايات ترتّب الثواب على ترك المعصية إذا
كان بعنوان الإطاعة لله كقوله تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [النساء: 13 وسورة الفتح: الآية 17] وقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [النازعات: 40، 41] وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...} [النساء: 69] إذن فتأتي فيها أخبار من بلغ، ويكون الكلام في الخبر الدالّ على الحرمة نظير الكلام في الخبر الدالّ على الوجوب.
الأمر السابع: في شمول أخبار من بلغ الأحاديث المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله)بطرق العامّة وعدمه.
فنقول: لو كنّا نحن وأخبار من بلغ فلا إشكال في دخولها تحت اطلاق هذه الأخبار، إلاّ أنّه يمكن أن يقال بأنّ مقتضى بعض الروايات الخاصّة عدم جواز الأخذ برواياتهم كقوله(عليه السلام)في مقبولة عمر بن حنظلة: «ما خالف العامّة ففيه الرشاد»(20) وقوله(عليه السلام): «لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ...»(21).
لكن الصحيح عدم طروّ منع من ناحية هذه الروايات لأنّها خارجة عن محلّ الكلام، فمثلا الرواية الاُولى مختصّة بالمرجّحات في باب تعارض الخبرين، والثانية ظاهرة في اُصول الدين بمقتضى تعبيرها بمعالم الدين حيث إنّه ظاهر في الاُصول وشبهها.
الأمر الثامن: أنّه لا إشكال في عدم شمول أخبار من بلغ للرواية الضعيفة من ناحية الدلالة والغير ظاهرة في الاستحباب أو الوجوب لعدم صدق موضوع البلوغ حينئذ كما لا يخفى.
الأمر التاسع: أنّه لا تبعد دعوى شمول أخبار من بلغ للإخبار عن بعض الموضوعات الخارجية التي يلازم الأخبار عن ترتّب الثواب عرفاً كما إذا قام خبر ضعيف على كون مكان معيّن مدفن معصوم كمدفن هود وصالح في المكان المعروف الآن في وادي السلام في أرض الغري أو مقام إمام(عليه السلام)، فإنّ الإخبار بهذه الموضوعات يدلّ التزاماً على ترتّب الثواب على زيارة المعصوم في المكان الذي قام الخبر على كونه مدفنه، ولا إشكال في أنّ البلوغ يصدق على كلّ من الدلالة المطابقيّة والإلتزامية لأنّ العرف يلغي الخصوصيّة عن المدلول المطابقي، فيصير مثل هذا الخبر مشمولا لأخبار من بلغ.
الأمر العاشر: إذا وردت رواية ضعيفة باستحباب فعل، وورد دليل معتبر ظنّي بعدم استحبابه فهل تشملهما أخبار من بلغ أو لا؟ قال الشيخ الأعظم الأنصاري(رحمه الله)في رسالته الخاصّة في مسألة التسامح: «فيه وجهان بل قولان صرّح بعض مشايخنا بالثاني لأنّ الدليل المعتبر بمنزلة القطعي فلابدّ من التزام عدم استحبابه وترتيب آثار عدم الاستحباب عليه كما لو قطع بعدم الاستحباب» ثمّ إستشكل فيه بما يرجع حاصله إلى وجهين:
الأوّل: إنّ أخبار من بلغ تعارض أدلّة حجّية الدليل المعتبر، ومقتضى القاعدة وإن كان هو التساقط إلاّ أنّ الأمر لمّا دار بين الاستحباب وغيره وصدق بلوغ الثواب حكم بالاستحباب تسامحاً.
فإن قلت: أخبار بلوغ الثواب لا تعمّ نفسها.
قلنا: نعم هو غير معقول إلاّ أنّ المناط منقّح فلا يقدح عدم العموم اللفظي لعدم تعقّله فافهم فالقول بالتسامح قوي جدّاً.
الثاني: أنّه لا تعارض في البيان لأنّ الشارع نزّل المظنون بالأدلّة المعتبرة منزلة الواقع المقطوع لا أنّه نزّل صفة الظنّ منزلة صفة القطع، ونزّل نفس الاحتمال المرجوح منزلة القطع بالعدم، وحينئذ يكون الاحتمال باقياً على حاله، وهو موضوع أخبار عن بلغ، ولذا لا ينكر حسن الاحتياط مع قيام الأدلّة المعتبرة.
أقول: أوّلا: لا تعارض بين أدلّة حجّية خبر الواحد وأخبار من بلغ، بل الثانية حاكمة على الاُولى كحكومة أدلّة الوفاء بالنذر على أدلّة استحباب صلاة الليل مثلا فيما إذا نذر أن يأتي بها، فإنّ موضوع هذه الأخبار عنوان ثانوي وهو عنوان العمل بالخبر الضعيف امتثالاً لقول النبي(صلى الله عليه وآله) (وتعظيماً واهتماماً بكلامه) وهو متحقّق حتّى بعد قيام دليل معتبر على عدم الاستحباب.
وثانياً: لا يبعد دعوى انصراف هذه الأخبار عن مثل هذا المورد، وقد أشار إليه الشيخ(رحمه الله) نفسه في ذيل كلامه إلاّ أنّه لم يقبله بقوله «ولا شاهد عليه»، ونحن نقول: الشاهد عليه هو الوجدان.
الأمر الحادي عشر: لو وردت رواية ضعيفة بالاستحباب ورواية ضعيفة اُخرى بعدمه فلا إشكال في شمول أخبار من بلغ، لعدم جريان ما مرّ في التنبيه السابق من الانصراف هنا كما لا يخفى، ومنه يظهر الحال فيما إذا وردت رواية ضعيفة اُخرى بالكراهة فلا مانع من الشمول أيضاً لتحقّق موضوع الأخبار وهو بلوغ الثواب وعدم إحراز الإنصراف.
لكن شيخنا الأنصاري(رحمه الله) إستشكل فيه بأنّ لازمه استحباب كلّ من الفعل والترك لأنّ ترك العمل المكروه أيضاً مستحبّ، وهو غير ممكن لأنّ طلب الفعل والترك قبيح لعدم القدرة على الإمتثال، وصرف الأخبار إلى استحباب أحدهما على وجه التخيير موجب لاستعمال الكلام في الاستحباب العيني والتخييري (أي استعمال اللفظ في أكثر من معنى) مع أنّ التخيير بين الفعل والترك في الاستحباب لا محصّل له (لأنّ المكلّف إمّا فاعل أو تارك على أيّ حال فيكون الطلب التخييري من قبيل تحصيل الحاصل).
أقول: أوّلا: لا إشكال في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى على المبنى المذكور في محلّه.
ثانياً: ليس التخيير بين الفعل والترك في ما نحن فيه من قبيل تحصيل الحاصل لأنّه إنّما يتصوّر فيما إذا لم يكن شقّ ثالث في المقام بينما الصور المتصوّرة هنا أربعة، فتارةً يأتي بالعمل احتراماً للنبي(صلى الله عليه وآله) ورجاءً للثواب، واُخرى يتركه كذلك، وثالثة يأتي به لا لطلب الثواب وقول النبي(صلى الله عليه وآله) بل لداع من الدواعي الاُخرى، ورابعة يتركه كذلك، وحينئذ يمكن البعث والتحريك لأن يأتي المكلّف بالفعل أو يتركه بقصد القربة وطلباً لما بلغ عن النبي(صلى الله عليه وآله) من الثواب.
فلا إشكال حينئذ في شمول الأخبار لما نحن فيه، نعم لا يبعد القول بالانصراف في هذه الصورة أيضاً كما أشار إليه الشيخ الأنصاري(رحمه الله) في ذيل كلامه بقوله: «مضافاً إلى انصرافها
بشهادة العرف إلى غير هذه الصورة»(22).
الأمر الثاني عشر: حكى عن الشهيد(رحمه الله) في الدراية أنّه قال: «جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال لا في صفات الله تعالى وأحكام الحلال والحرام وهو حسن حيث لم يبلغ الضعيف حدّ الوضع والاختلاف (الاختلاق)».
وقال شيخنا الأعظم(رحمه الله) بعد نقل كلامه هذا: «المراد بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب وترتيب الآثار عليها عدا ما يتعلّق بالواجب والحرام ... ويدخل حكاية فضائل أهل البيت(عليهم السلام)ومصائبهم من دون نسبة إلى الحكاية ... كأن يقول: كان أمير المؤمنين يقول كذا ويفعل كذا ويبكي كذا، ونزل على مولانا سيّد الشهداء(عليه السلام) كذا وكذا»(23).
ثمّ استدلّ على الجواز بطريق العقل والنقل وقال: إنّ الدليل على جواز ما ذكرنا من طريق العقل حسن العمل بهذه مع أمن المضرّة فيها على تقدير الكذب، وأمّا من طريق النقل فرواية ابن طاووس(رحمه الله) (من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك(24) والنبوي(25) (وهو رواية عدّة الداعي المذكورة سابقاً).
أقول: يرد عليهما (الشهيد والشيخ الأعظم(رحمهما الله)) أوّلا: أنّ المقام داخل في ما استثنياه من كلامهما وهو ما يتعلّق بالحرام والحلال لأنّ المقام مشمول لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الإسراء: 36] والقول بغير علم حرام بمقتضى هذه الآية وأدلّة اُخرى كثيرة إلاّ إذا قلنا بأنّ المستفاد من أخبار من بلغ حجّية الخبر الضعيف فيكون حاكماً على هذه الآية.
ثانياً: الظاهر من قوله(عليه السلام) «فعمل به» العمل الخارجي الجارحي، ونقل القصص وذكر الفضائل ليس عملا بالقصص والفضائل ولا أقلّ من الإنصراف.
ثالثاً: لا يأمن من المضرّة في المقام لأنّ هذا يفتح باب الأكاذيب والخرافات في الشرع المقدّس وادخال ما يوجب الوهن للأنبياء والأوصياء ولمعالمهم ومعارفهم، وأيّ مضرّة أشدّ منه؟!
ومن العجب استدلال بعضهم للجواز بما دلّ على رجحان الإعانة على البرّ والتقوى ورجحان الإبكاء على سيّد الشهداء(عليه السلام) ما دامت الغبرى والسماء، وأنّ من أبكى وجبت له الجنّة من باب أنّ ذكر المصائب مقدّمة للبكاء المستحبّ ومقدّمة المستحبّ مستحبّة.
وفيه: أنّ الإعانة والإبكاء ـ كما أفاد الشيخ الأعظم(رحمه الله) ـ قد قيّد رجحانهما بالسبب المباح والمقدّمة المباحة، لعدم جواز التوصّل بالمحرّم لإتيان المستحبّ، فلابدّ حينئذ من ثبوت إباحة المقدّمة من الخارج، ولا يمكن إثبات إباحة شيء وعدم تحريمه بأنّه يصير ممّا يعان به على البرّ لو كان كذلك لكان لأدلّة الإعانة والإبكاء قوّة المعارضة لما دلّ على تحريم بعض الأشياء كالغناء في المراثي والعمل بالملاهي لإجابة المؤمن ونحو ذلك.
الأمر الثالث عشر: هل يترتّب على متعلّق أخبار من بلغ سائر آثار العمل المستحبّ غير تّرتّب الثواب؟ فإذا ورد خبر ضعيف على استحباب غسل خاصّ فهل يمكن إتيان الصّلاة به بناءً على كفاية الأغسال المستحبّة عن الوضوء؟
قد يقال بالفرق بين ما إذا كان المبنى ثبوت المسألة الاُصوليّة فيترتّب سائر الآثار، وما إذا كان المبنى ثبوت المسألة الفقهيّة فلا يترتّب، ولكن الإنصاف عدم الفرق بين المبنيين لأنّه إذا كان المستفاد من الأخبار مجرّد ترتّب الثواب على ذلك الفعل لا المحبوبيّة الذاتيّة فعلى القول بدلالتها على حجّية الخبر أيضاً يمكن أن يقال بأنّها تدلّ على الحجّية من هذه الجهة لا من جميع الجهات
وإن شئت قلت: كفاية الأغسال المستحبّة عن الوضوء ناظرة إلى ما كان مستحبّاً ذاتيّاً لا ما كان بعنوان الإنقياد وطلب قول النبي(صلى الله عليه وآله) من العناوين الطارئة.
الأمر الرابع عشر: لا إشكال في أنّ النسبة بين هذه الأخبار وأدلّة حرمة التشريع ليست التعارض لأنّ الأخبار حاكمة عليها توجب رفع موضوع التشريع تعبّداً كما لا يخفى.
وإن شئت قلت: أخبار من بلغ لسانها لسان أدلّة العناوين الثانوية كأدلّة أمر الوالد وشبهها الجارية على موضوعات ثانوية، ومن المعلوم أنّها حاكمة على أدلّة العناوين الأوّلية بل قد يكون واردة عليها إذا كانت قطعيّة.
الأمر الخامس عشر: أنّ ظاهر الأصحاب عدم التفصيل في مسألة التسامح بين أن يكون الفعل من ماهيّات العبادات المركّبة المخترعة كما إذا ورد خبر ضعيف على أنّ صلاة الأعرابي
أربع ركعات وبين أن يكون من غيرها.
قال الشيخ الأعظم(رحمه الله): «إلاّ أنّ الاُستاذ الشريف(قدس سره) فصّل ومنع التسامح في الاُولى، والذي بالبال ما ذكره لساناً في وجه التفصيل هو أنّ(26)... (إلى هنا جفّ قلمه الشريف).
أقول: لعلّ وجه التفصيل في نظر شريف العلماء(رحمه الله) أنّ المستفاد من مذاق الشرع والذوق الفقهي المتشرّعي أنّ ماهيات العبادات لكونها من المخترعات الشرعيّة التوقيفيّة لا تثبت إلاّ بدليل معتبر، وهذا غاية ما يمكن أن يقال به في توجيه هذا التفصيل، وهو في محلّه، وإن أبيت عن هذا فإنّ الأخبار عامّة تعمّ كلتا الصورتين كما لا يخفى.
إلى هنا تمّ البحث عن أخبار من بلغ وقد تحصّل منه اُمور أهمّها ثلاثة:
الأوّل: إنّه لا يستفاد من هذه الأخبار لا حجّية الأخبار الضعيفة ولا الاستحباب الفقهي، وما ذكرنا من التنبيهات كان مبنيّاً على أحد المبنيين لا على ما اخترناه من أنّ المستفاد منها مجرّد ترتّب الثواب تفضّلا، وقد جرت عادة القوم على هذا النحو من البحث فكثيراً ما يبحثون عن مسائل لا موضوع لها إلاّ على بعض المباني.
الثاني: إنّ المستفاد من هذه الأخبار لزوم إتيان العمل بقصد رجاء ترتّب الثواب وإن قلنا بدلالتها على الاستحباب لأنّه صريح مثل قوله (عليه السلام) «فعمل به رجاء ذلك الثواب».
الثالث: إنّ هذه الأخبار لا تحلّ المشكلة التي طرحنا هذا البحث لأجلها، وهى مشكلة العبادات المشكوكة بناءً على اعتبار قصد الأمر القطعي فيها، وذلك باعتبار أنّ المستفاد منها إتيان العمل بقصد الرجاء كما مرّ آنفاً، والمفروض عدم كفايته في عبادية العبادة. هذا أوّلا.
وثانياً: لو سلّمنا الكفاية كان الدليل أخصّ من المدّعى حيث إنّ هذه الأخبار تشمل خصوص العبادات المشكوكة التي يكون منشأ الشكّ فيها رواية ضعيفة، فلا تعمّ ما كان المنشأ فيه أمر آخر من قبيل شهرة أو إجماع منقول.
نعم هذا كلّه بناءً على اعتبار قصد الأمر الجزمي القطعي في العبادة، وأمّا على القول بكفاية مطلق المحبوبية وقصد الرجاء (كما هو المختار) فلا حاجة إلى أخبار من بلغ من الأساس كما لا يخفى، وقد عرفت غير مرّة أنّ المعتبر في العبادة الحسن الفعلي والفاعلي، والمراد من الحسن الفعلي كونه أمراً قربيّاً، ومن الحسن الفاعلي كون الداعي والباعث على الإتيان بالعمل هو الله تعالى بأيّ صورة كانت.
التنبيه الثالث : في جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة:
وفيه ثلاثة وجوه:
الأوّل: ما هو المشهور وهو البراءة مطلقاً.
الثاني: الاحتياط مطلقاً.
الثالث: التفصيل بين ما إذا كان المطلوب في الحرام مجموع التروك من حيث المجموع بحيث لو أتى به في زمان أو مكان دفعةً واحدة لم يمتثل أصلا فلا تجري البراءة، وبين ما إذا كان المطلوب فيه تروكاً متعدّدة بحيث يكون كلّ ترك مطلوباً مستقلا (كالنهي عن الخمر أو الكذب) فيقتصر في الترك على الأفراد المعلومة، وأمّا المشكوكة فتجري البراءة عن حرمتها.
واستدلّ للقول الأوّل: تارةً بالبراءة العقليّة، واُخرى بالبراءة الشرعيّة.
أمّا البراءة العقليّة: فالمعروف جريانها في الشبهات الموضوعيّة أيضاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
لكن الإنصاف أنّه مشكل لأنّ وظيفة الشارع بما هو شارع ليس إلاّ بيان الكبريات، وقد بيّنها ووصلت إلى المكلّف حسب الفرض، وإنّما الشكّ في الصغرى وهى كون هذا المائع الخارجي مثلا ممّا ينطبق عليه متعلّق الحرمة وهو الخمر أم لا، ومن المعلوم أنّ المرجع في إزالة هذه الشبهة ليس هو الشارع فلا يتحقّق حينئذ موضوع القاعدة وهو عدم البيان، فلا تجري القاعدة بل على المكلّف إزالة هذا النوع من التردّد والاشتباه.
قد يقال: إنّ المراد من البيان في هذه القاعدة هو العلم، وعدم العلم صادق في المقام، ولكنّه مجرّد دعوى عهدتها على مدّعيها لأنّه لا دليل على كون قبح العقاب بلا علم مطلقاً وفي جميع الموارد من المستقلاّت العقليّة.
وقال المحقّق النائيني (رحمه الله)بما حاصله: إنّ مردّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان إنّما هو قبح العقاب بلا علم لأنّ العقل حاكم على أنّ المجهول لا يمكن أن يكون باعثاً ومحرّكاً للمكلّف ولا
فرق فيه بين الجهل بالصغرى والكبرى(27).
وقد مرّ أنّه لا إشكال في محرّكية المجهول بل الإنسان ونوع البشر يتحرّك في الصناعات والتجارات والزراعات في أكثر الموارد بالاحتمال بل قد يكون الإنبعاث بمجرّد الوهم (أي الاحتمال المرجوح) كما إذا كان في طلب ضالّته.
هذا كلّه بناءً على مبنى القوم من أنّ القاعدة عقلية، وأمّا بناءً على ما اخترناه من أنّها عقلائيّة فلا يبعد عدم بناء العقلاء على البراءة في الشبهات الموضوعيّة خصوصاً في الموضوعات الهامّة، فإذا قال المولى لعبده «إحذر من أعدائي» مثلا، فمن البعيد جدّاً بناء العقلاء على قبح عقاب العبد فيما إذا لم يحذر من مشكوك العداوة، والظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين الدماء والفروج وغيرها.
أمّا البراءة النقلية: فلا إشكال في جريانها في الشبهات الموضوعيّة لأنّه القدر المتيقّن من أكثر أدلّتها، وأمّا تفصيل المحقّق الخراساني(رحمه الله) بين ما كان من قبيل العام الإفرادي والمجموعي، فقد أورد عليه بأنّ مقتضى القاعدة جريان البراءة في كلا القسمين من كلامه، لما سيأتي من عدم وجوب الاحتياط حتّى في الأقلّ والأكثر الإرتباطيين، ولا إشكال في رجوع القسم الثاني إلى الأقل والأكثر الإرتباطيين، والحقّ فيه الانحلال.
إن قلت: إنّ الإشكال مبنائي لأنّ مبنى المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الأقلّ والأكثر الإرتباطيين هو الاحتياط.
قلنا: سيأتي إنّه قائل بجريان البراءة الشرعيّة وإن كان حكم العقل عنده الاحتياط، فالنتيجة النهائيّة عنده في مقام العمل هي البراءة، وهى تخالف ما اختاره في المقام.
نعم هيهنا صورة ثالثة تقتضي القاعدة الاحتياط فيها ولعلّها كانت مورد نظر المحقّق الخراساني(رحمه الله) وهى ما إذا كان المأمور به أمراً بسيطاً يتحقّق بإتيان مجموع التروك مقدّمة، فيرجع الشكّ في المصداق المشكوك إلى الشكّ في المحصّل الذي لا إشكال في أنّ مقتضى الاشتغال اليقيني فيه البراءة اليقينية، وحينئذ الأصل الجاري إنّما هو الاحتياط وقاعدة الاشتغال لا البراءة (وإن كانت عبارته قاصرة عن أداء هذا المعنى).
التنبيه الرابع : في حسن الاحتياط مطلقاً حتّى مع قيام الحجّة على العدم:
لا إشكال في اختلاف موارد الاحتياط من جهات ثلاثة: من ناحية قوّة درجة الاحتمال وضعفها، ومن ناحية قوّة المحتمل وضعفها، ومن ناحية قيام الأمارة على الجواز وعدمه.
ذهب المحقّق الخراساني(رحمه الله) إلى حسن الاحتياط مطلقاً في مطلق الشبهات سواء كانت وجوبيّة أو تحريميّة وسواء كانت حكميّة أو موضوعيّة وسواء قامت الحجّة على العدم أم لم تقم وسواء كان الاحتمال أو المحتمل قويّاً أو ضعيفاً، نعم إنّه قال: إنّ حسن الاحتياط مطلقاً منوط بعدم إخلاله بالنظام وإلاّ يكون الاحتياط قبيحاً فلابدّ حينئذ من ترجيح بعض الاحتياطات على بعض، أمّا بملاك أقوائية الاحتمال أو أقوائية المحتمل أو بملاك عدم قيام الأمارة على العدم.
أقول: هنا نكتتان ينبغي ذكرهما في المقام:
إحديهما: إنّ اختلال النظام من العناوين الثانوية للأحكام ولا خصوصيّة له في المقام بل كلّ عنوان ثانوي يزاحم حسن الاحتياط لابدّ من تقديمه عليه، كما إذا لزم من الاحتياط ترك المراودة والمعاشرة مع المؤمنين أو ترك صلة الأرحام أو إيذاء المؤمن أو هتكه أو لزم منه تشويه وجه المذهب في الأنظار أو ترك أمر أهمّ كتحصيل العلم لطلاّب العلوم الدينية (وكلّ هذه العناوين ممّا يبتلى بها كثيراً في الاحتياط التامّ) فلا حسن في مثل هذه الموارد للاحتياط وإن لم يلزم منها اختلال النظام.
الثانية: يمكن أن يقال: إنّه لا دليل أصلا على حسن الاحتياط التام في الشبهات الموضوعيّة في جميع الموارد، بل الدليل على خلافه فيما إذا قامت الأمارة على الخلاف، والشاهد على ذلك لحن الروايات الواردة عن المعصومين بالنسبة إلى سوق المسلمين في الجبن وغيره نظير ما رواه أبو الجارود قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن الجبن فقلت له: أخبرني من رأى إنّه يجعل فيه الميتة، فقال: أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل، والله إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن، والله ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان»(28).
فإنّ مقتضى السياق العرفي لهذه الرواية وأمثالها مرجوحية الاحتياط وإنّه مرغوب عنه في موارد قيام الحجّة على الجواز.
إن قلت: يمكن أن يقال: بأنّ مثل هذه الروايات تكون في مقام دفع الحظر فلا يستفاد منها إلاّ مطلق عدم الحرمة.
قلنا: الإنصاف أنّ سياقها هو النهي بمعناه الحقيقي عن مثل هذا الاحتياط، وسيرة المعصومين
(رحمه الله) وأهل الشرع من أقوى الشواهد عليه في موارد قيام الحجّة على الجواز.
_______________
1. راجع فوائد الاُصول: ج 3، ص 380.
2. راجع فوائد الاُصول: ج 3، ص 382.
3. وهى ما رواه السكوني عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين. فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل لأنّه يفسد وليس له بقاء فإن جاء طالبها غرموا له الثمن، قيل: يا أمير المؤمنين: لا ندري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي فقال: هم في سعة حتّى يعلموا. (وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذبائح الباب 38، ح 2).
4. تهذيب الاُصول: ج 2، ص 222 و 223، طبع جماعة المدرّسين.
5. نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 260 و261.
6. وسائل الشيعة: الباب 18، أبواب مقدّمة العبادات، ح 3.
7. المصدر السابق: ح 6.
8. وسائل الشيعة: الباب 18، أبواب مقدّمة العبادات، ح 4.
9. المصدر السابق: ح 7.
10. المصدر السابق: ح 1.
11. المصدر السابق: ح 9.
12. المصدر السابق: ح 8.
13. نهاية الدراية: ج 2، ص 217، الطبع القديم.
14. تهذيب الاُصول: ج 2، ص 230، طبع جماعة المدرّسين.
15. جامع أحاديث الشيعة: ج 1، الباب 9، من أبواب مقدّمات العبادات الحديث الأخير من الباب.
16. فوائد الاُصول: ج 3، ص 414 و 415، طبع جماعة المدرّسين.
17. تهذيب الاُصول: ج 2، ص 233 ـ 234، طبع جماعة المدرّسين.
18. جامع أحاديث الشيعة: ج 1، ص 12.
19. المصدر السابق: ص 13.
20. وسائل الشيعة: الباب 9، من أبواب صفات القاضي، ح 1.
21. المصدر السابق: الباب 11، من أبواب صفات القاضي، ح 42.
22. مجموعة رسائل: ص 28 و 36.
23. المصدر السابق: ص 28 و 36.
24. وسائل لشيعة: الباب 18، من أبواب مقدّمة العبادات، ح 9.
25. المصدر السابق: ح 4.
26. مجموعة رسائل: ص 42.
27. راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 200.
28. وسائل الشيعة: الباب 61، من أبواب الأطعمة المباحة، ح 5.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|