المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8200 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24
من آداب التلاوة
2024-11-24
مواعيد زراعة الفجل
2024-11-24
أقسام الغنيمة
2024-11-24
سبب نزول قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الى جهنم
2024-11-24



القول في الأقلّ والأكثر  
  
793   12:00 مساءاً   التاريخ: 1-8-2016
المؤلف : تقريرا لبحث السيد الخميني - بقلم الشيخ السبحاني
الكتاب أو المصدر : تهذيب الأصول
الجزء والصفحة : ج3. ص.287
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / الاصول العملية / البراءة /

..وهو من أنفع المباحث الاُصولية ; فلا عتب علينا لو أرخينا عنان الكلام وجعلنا البحث مترامي الأطراف :

فنقول : تنقيح المقام يتوقّف على بيان مقدّمات :

الاُولى : في الفرق بين الأقل والأكثر الاستقلاليين والارتباطيين:

الفرق بين الاستقلاليين منهما والارتباطيين أوضح من أن يخفى ; فإنّ الأقلّ في الاستقلالي مغاير للأكثر ; غرضاً وملاكاً وأمراً وتكليفاً ، كالفائتة المردّدة بين الواحد وما فوقها ، والدين المردّد بين الدرهم والدرهمين . فهنا أغراض وموضوعات وأوامر وأحكام على تقدير وجوب الأكثر .

ومن هنا يعلم : أنّ إطلاق الأقلّ والأكثر عليهما بضرب من المسامحة والمجاز ، وباعتبار أنّ الواحد من الدراهم أقلّ من الدرهمين وهو كثيرة ، وإلاّ فلكلّ تكليف وبعث بحياله .

وأمّا الارتباطي : فالغرض قائم بالأجزاء الواقعية ، فلو كان الواجب هو الأكثر فالأقلّ خال عن الغرض والبعث من رأس .

فوزانه في عالم التكوين كالمعاجين ; فإنّ الغرض والأثر المطلوب قائم بالصورة الحاصلة من تركيب الأجزاء الواقعية على ما هي عليها ، ولا تحصل الغاية إلاّ باجتماع الأجزاء عامّة ; بلا زيادة ولا نقيصة .

كما هو الحال في المركّبات الاعتبارية أيضاً ; فلو تعلّق غرض الملك على إرعاب القوم وخُصمائه يأمر بعرض الجنود والعساكر ; فإنّ الغرض لا يحصل إلاّ بإراءة صفوف من العساكر ، لا إراءة جندي واحد .

ومن ذلك يظهر : أنّ ملاك الاستقلالية والارتباطية باعتبار الغرض القائم بالموضوع قبل تعلّق الأمر ; فإنّ الغرض قد يقوم بعشرة أجزاء وقد يقوم بأزيد منها .

وسيوافيك(1) ضعف ما عن بعضهم من أنّ ملاكهما إنّما هو وحدة التكليف وكثرته(2) ; ضرورة أنّ وحدته وكثرته باعتبار الغرض الباعث على التكليف ، فلا معنى لجعل المتأخّر عن الملاك الواقعي ملاكاً لتمييزهما ، فتدبّر .

الثانية : تنقيح محطّ البحث

البحث إنّما هو في الأقلّ المأخوذ لا بشرط حتّى يكون محفوظاً في ضمن الأكثر ، فلو كان مأخوذاً بشرط لا فلا يكون الأقلّ أقلّ الأكثر ، بل يكونان متباينين .

ورتّب على هذا بعض محقّقي العصر ـ رحمه اللّه ـ خروج ما دار الأمر فيه بين الطبيعي والحصّة من موضوع الأقلّ والأكثر ; بأن تردّد الأمر بين وجوب إكرام الإنسان أو إكرام زيد ; لأنّ الطبيعي باعتبار قابليته للانطباق على حصّة اُخرى منه المباينة مع الحصّة الاُخرى لا يكون محفوظاً بمعناه الإطلاقي في ضمن الأكثر(3) .

وفيه أوّلا : أنّ تسمية الفرد الخارجي حصّة غير موافق لاصطلاح القوم ; فإنّ الحصّة عبارة عن الكلّي المقيّد بكلّي آخر ، كالإنسان الأبيض . وأمّا الهوية المتحقّقة المتعيّنة فهو فرد خارجي لا حصّة .

وثانياً : أنّ لازم ما ذكره خروج المطلق والمقيّد عن مصبّ النزاع ; فإنّ المطلق لم يبق بإطلاقه في ضمن المقيّد ; ضرورة سقوط إطلاقه الاُولى بعد تقييده . فلو دار الأمر بين أنّه أمر بإكرام الإنسان أو الإنسان الأبيض فالمطلق على فرض وجوب الأكثر بطل إطلاقه .

وثالثاً : أنّ خروج دوران الأمر بين الفرد والطبيعي من البحث لأجل أنّه يشترط في الأمر المتعلّق بالأكثر ـ على فرض تعلّقه ـ داعياً إلى الأقلّ أيضاً ، والفرد والطبيعي ليسا كذلك .

فلو فرضنا تعلّق الأمر بالأكثر ـ أعني الفرد ; لكونه هو الطبيعي مع خصوصيات ـ فهو لا يدعو إلى الأقلّ ـ أعني الإنسان ـ لأنّ الأمر لايتجاوز في مقام الدعوة عن متعلّقه إلى غيره . وتحليل الفرد إلى الطبيعي والمشخّصات الحافّة به إنّما هو تحليل عقلي فلسفي ، ولادلالة للّفظ عليه أصلا .

فلو فرضنا وقوع كلمة «زيد» في مصبّ الأمر فهو لا يدلّ ـ دلالة لفظية عرفية ـ على إكرام الإنسان . وقس عليه الأمر ما لو دار الأمر بين الجنس والنوع ; فلو تردّد الواجب بين كونه الحيوان أو الإنسان فهو خارج عن الأقلّ والأكثر المبحوث عنه في المقام . نعم لو دار الأمر بين الحيوان أو الحيوان الأبيض فهو داخل في مورد البحث .

الثالثة : في الصور المحتملة في المسألة

إنّ الترديد بين الأقلّ والأكثر تارة يكون في متعلّق التكليف ، واُخرى في موضوعه ، وثالثة في السبب المحصّل الشرعي أو العقلي أو العرفي .

وعلى التقادير : قد يكون الأقلّ والأكثر من قبيل الجزء والكلّ ، وقد يكون من الشرط والمشروط ، وثالثة من قبيل الجنس والنوع ، إلى غير ذلك من التقسيمات التي يتّضح حالها وأحكامها ممّا نتلوه عليك في ضمن مطالب :

المطلب الأوّل: فيما إذا كان الأقلّ والأكثر من قبيل الكلّ والجزء:

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم : أنّ البراءة هو المرجع في الأقلّ والأكثر الاستقلاليين اتّفاقاً ، إلاّ أنّ الارتباطي منهما مورد اختلاف ، فهل المرجع هو البراءة أيضاً مطلقاً أو الاشتغال كذلك أو يفصّل بين العقلي منها والشرعي ; فيجري الثاني منها دون الأوّل ، كما اختاره المحقّق الخراساني(4) ؟ والتحقيق : هو الأوّل .

ولنحقّق المقام برسم اُمور :

بيان اُمور لجريان البراءة العقلية:

الأوّل : أنّ وزان المركّبات الاعتبارية في عالم الاعتبار من بعض الجهات وزان المركّبات الحقيقية في الخارج ; فإنّ المركّب الحقيقي إنّما يحصل بعد كسر سورة الأجزاء بواسطة التفاعل الواقع بينها ، فتخرج الأجزاء من الاستقلال لأجل الفعل والانفعال والكسر والانكسار ، وتتّخذ الأجزاء لنفسها صورة مستقلّة ; هي صورة المركّب ، فلها وجود ووحدة غير ما للأجزاء .

وأمّا المركّب الصناعي كالبيت والمسجد ، أو الاعتباري كالقوم والفوج والأعمال العبادية كلّها ، فإنّ كلّ جزء منها وإن كان باقياً على فعليته بحسب التكوين ، ولا يكسر عن سورة الأجزاء في الخارج شيء ، إلاّ أنّها في عالم الاعتبار لمّا كان شيئاً واحداً ووجوداً فارداً تكسر سورة الأجزاء وتخرج الأجزاء عن الاستقلال في عالم الاعتبار ، وتفني في الصورة الحاصلة للمركّب في عالم الاعتبار .

فما لم يحصل للمركّب الصناعي أو الاعتباري وحدة اعتبارية كصورتها الاعتبارية لم يكن له وجود في ذلك اللحاظ ; فإنّ ما لا وحدة له لا وجود له تكويناً واعتباراً ، وإنّما تحصل الوحدة بذهاب فعلية الأجزاء وحصول صورة اُخرى مجملة غير صورة الأجزاء المنفصلات .

والحاصل : أنّ النفس بعد ما شاهدت أنّ الغرض قائم بالهيئة الاعتبارية من الفوج ، وبالصورة المجتمعة من الأذكار والأفعال ينتزع عندئذ وحدة اعتبارية ، وصورة مثلها تبلع فعلية الأجزاء وأحكامها في عالم الاعتبار . والفرق بين الأجزاء والصورة المركّبة هو الفرق بين الإجمال والتفصيل .

فتلخّص : أنّ المركّبات الاعتبارية والصناعية وإن كانت تفارق الحقيقية ، إلاّ أنّها من جهة اشتمالها على الصورة الصناعية أو الاعتبارية أشبه شيء بالحقيقية من المركّبات ، والتفصيل في محلّه .

 

الثاني : أنّ صورة المركّب الاعتباري إنّما ينتهي إليها الآمر بعد تصوّر الأجزاء والشرائط على سبيل الاستقلال ، فينتزع منها بعد تصوّرها صورة وحدانية ، ويأمر بها على عكس الإتيان بها في الخارج .

توضيحه : أنّ المولى الواقف على أغراضه وآماله يجد من نفسه تحريكاً إلى محصّلاتها ، فلو كان محصّل غرضه أمراً بسيطاً يوجّه أمره إليه ، وأمّا إذا كان مركّباً فهو يتصوّر أجزائها وشرائطها ومعدّاتها وموانعها ، ويرتّبها حسب ما يقتضي المصلحة والملاك النفس الأمريين ، ثمّ يلاحظها على نعت الوحدة ; بحيث تفنى فيها الكثرات ، ثمّ يجعلها موضوعاً للحكم ومتعلّقاً للبعث والإرادة ، فينتهي الآمر من الكثرة إلى الوحدة غالباً .

وأمّا المأمور الآتي به خارجاً فهو ينتهي من الوحدة إلى الكثرة غالباً ; فإنّ الإنسان إذا أراد إتيان المركّب في الخارج وتعلّقت إرادته بإيجاده يتصوّره بنعت الوحدة أوّلا ، ويجد في نفسه شوقاً إليه ، ولمّا رأى أنّه لا يحصل في الخارج إلاّ بإتيان أجزائها وشرائطها حسب ما قرّره المولى تجد في نفسه إرادات تبعية متعلّقة بها ، فالمأمور ينتهي من الوحدة إلى الكثرة .

الثالث : أنّ وحدة الأمر تابع لوحدة المتعلّق لا غير ; لأنّ وحدة الإرادة تابع لوحدة المراد ; فإنّ تشخّصها بتشخّصه . فلا يعقل تعلّق إرادة واحدة بالاثنين بنعت الاثنينية والكثرة ، فما لم يتّخذ المتعلّق لنفسها وحدة لايقع في اُفق الإرادة الواحدة .

والبعث الناشئ منها حكمه حكمها . فما لم يلحظ في المبعوث إليه وحدة اعتبارية فانية فيه الكثرات لا يتعلّق به البعث الوحداني ، وإلاّ يلزم أن يكون الواحد كثيراً أو الكثير واحداً .

والحاصل : أنّ الأجزاء والشرائط في الاعتبارية من المركّبات بما أنّها باقية على كثراتها وفعلياتها حسب التكوين فلا يتعلّق بها الإرادة التكوينية الوحدانية مع بقاء المتعلّق على نعت الكثرة . فلابدّ من سبك تلك الكثرات المنفصلات في قالب الوحدة حتّى يقع الكلّ تحت عنوان واحد جامع لشتات المركّب ومتفرّقاتها ، ويصحّ معه تعلّق الإرادة الواحدة ، ويتبعه تعلّق البعث الواحد .

وبذلك يظهر ضعف ما عن بعض محقّقي العصر من أنّ وحدة المتعلّق من وحدة الأمر(5) ، فلاحظ .

الرابع : أنّ الصور في المركّبات الاعتبارية ليست أمراً مغايراً للأجزاء بالأسر ، بل هي عينها حقيقة ; إذ ليس المراد من الصورة إلاّ الأجزاء في لحاظ الوحدة ، كما أنّ الأجزاء عبارة عن الاُمور المختلفة في لحاظ الكثرة . وهذا لا يوجب أن يكون هنا صورة وأجزاء متغايرة ، ويكون أحدهما محصِّلا والآخر محصَّلا .

وإن شئت فلاحظ العشرة ; فإنّها عبارة عن هذا الواحد وذاك الواحد وذلك ، وليست أمراً مغايراً لتلك الوحدات ، بل هي عبارة عن هذه الكثرات في لحاظ الوحدة ، والعنوان يحكي عن وحدة جمعية بين الوحدات .

فلو لاحظت كلّ واحد من الوحدات فقد لاحظت ذات العشرة ، كما أنّك إذا لاحظت العنوان فقد لاحظت كلّ واحد من الوحدات بلحاظ واحد .

والفرق بينهما إنّما هو بالإجمال والتفصيل والوحدة والكثرة ، فالعنوان مجمل هذه الكثرات ومعصورها ، كما أنّ الأجزاء مفصّل ذلك العنوان ; ضرورة أنّ ضمّ موجود إلى موجود آخر حتّى ينتهي إلى ما شاء لا يحصل منه موجود آخر متغاير مع الأجزاء المنضمّات .

الخامس : أنّ دعوة الأمر إلى إيجاد الأجزاء إنّما هو بعين دعوته إلى الطبيعة ; لا بدعوة مستقلّة ولا بدعوة ضمنية ولا بأمر انحلالي ولا بحكم العقل الحاكم بأنّ إتيان الكلّ لا يحصل إلاّ بإتيان ما يتوقّف عليه من الأجزاء ; وذلك لأنّ الطبيعة تنحلّ إلى الأجزاء ; انحلال المجمل إلى مفصّله. والمفروض : أنّها عين الأجزاء في لحاظ الوحدة ، لا شيء آخر .

فالدعوة إلى الطبيعة الاعتبارية عين الدعوة إلى الأجزاء ، والبعث إلى إحضار عشرة رجال بعث إلى إحضار هذا وذاك حتّى يصدق العنوان .

 

ومع ما ذكرنا لا حاجة إلى التمسّك في مقام الدعوة إلى حكم العقل ; وإن كان حكمه صحيحاً .

وأمّا الأمر الضمني أو الانحلالي فممّا لا طائل تحته .

وإن شئت قلت : إنّ الأمر المتعلّق بالمركّب واحد متعلّق بواحد ، وليست الأجزاء متعلّقة للأمر ; لعدم شيئية لها في لحاظ الآمر عند لحاظ المركّب ، ولا يرى عند البعث إليه إلاّ صورة وحدانية هي صورة المركّب ; فانياً فيها الأجزاء ، فهي تكون مغفولا عنها ، ولا تكون متعلّقة للأمر أصلا .

فالآمر لا يرى في تلك اللحاظ إلاّ أمراً واحداً ، ولا يأمر إلاّ بأمر واحد ، ولكن هذا الأمر الوحداني يكون داعياً إلى إتيان الأجزاء بعين دعوته إلى المركّب ، وحجّة عليها بعين حجّيته عليه ; لكون المركّب هو الأجزاء في لحاظ الوحدة والاضمحلال .

وما ذكرنا هاهنا وفي المقدّمة الرابعة لا ينافي مع ما عرفت تحقيقه ; من وجود ملاك المقدّمية في الأجزاء ، وأنّ كلّ جزء مقدّمة ، وهو غير الكلّ(6) .

السادس : أنّ مصبّ الأمر هو العنوان لا ذات الأجزاء المردّدة بين الأقلّ والأكثر بنعت الكثرة ; وإن كان العنوان عينها في لحاظ الوحدة . ومع ذلك فما هو متعلّق الأمر إنّما هو العنوان .

نعم ، التعبير بأنّ الأمر دائر بين الأقلّ والأكثر يوهم تعلّق الحكم بالأجزاء ، وأنّ الواجب بذاته مردّد بينهما ، وهـو خلاف المفروض وخلاف التحقيق ، بل الحكم تعلّق بعنوان غير مردّد في نفسه بين القليل والكثير ; وإن كان ما ينحلّ إليه هذا العنوان مردّد بينهما ، وهو لا يوجب تردّد الواجب بالـذات بينهما ، وهـو لا ينافي قولنا : إنّ العنوان عين الأجزاء ; لما تقدّم أنّ العينية مع حفظ عنواني الإجمال والتفصيل .

تقريب جريان البراءة العقلية:

إذا عرفت ذلك يتّضح لك : جريان البراءة في المشكوك من الأجزاء ; لأنّ الحجّة على المركّب إنّما يكون حجّة على الأجزاء وداعياً إليها إذا قامت الحجّة على كون المركّب مركّباً من الأجزاء الكذائية ومنحلاًّ إليها .

وأمّا مع عدم قيام الحجّة عليه لا يمكن أن يكون الأمر به حجّـة عليها وداعياً إليها .

فمع الشكّ في جزئية شيء للمركّب لا يكون الأمر المتعلّق به حجّة عليه ; ضرورة أنّ تمامية الحجّة إنّما تكون بالعلم ، والعلم بتعلّق الأمر بالمركّب إنّما يكون حجّة على الأجزاء التي علم تركّب المركّب منها ; لما عرفت من أنّ السرّ في داعوية الأمر المتعلّق به إلى الأجزاء ليس إلاّ كونه منحلاّ إليها ومتركّباً منها ، فمع الشكّ في دخالة شيء في المركّب واعتباره فيه عند ترتيب أجزائه لا يكون الأمر بالمركّب حجّة عليه .

فلو بذل العبد جهده في استعلام ما أخذه المولى جزءً للمركّب ، ووقف على عدّة أجزاء دلّت عليه الأدلّة ، وشكّ في جزئية شيء آخر ، فأتى بما قامت الحجّة عليه ، وترك ما لم تقم عليه يعدّ مطيعاً لأمر مولاه ، فلو عاقبه المولى على ترك الجزء المشكوك فيه يكون عقاباً بلا بيان وبلا برهان .

والحاصل : أنّ العبد مأخوذ بمقدار ما قامت الحجّة عليه ; لا أزيد ولا أنقص :

أمّا العنوان : فقد قامت عليه .

وأمّا الأجزاء : فما علم انحلاله إليها فقد لزم على العبد ; لأنّ قيام الحجّة على العنوان قيام على الأجزاء التي علم انحلاله إليها .

وأمّا الأجـزاء المشكوك فيها : فلم يعلم انحلال العنوان عليها ، ولا يتمّ الحجّـة عليها ; للشكّ في دخولها في العنوان . وهذا نظير ما لو كانت الأجزاء واجبـة من أوّل الأمر بلا توسيط عنوان ، فكما يرجع فيه إلى البراءة فهكذا فيما إذا كان متوسّطاً في وجوب الأجزاء ; لما عرفت من العينية مع التحفّظ بالفرق بالإجمال والتفصيل .

لا يقال : إنّ الحجّة قد قامت على العنوان الإجمالي ، فلابدّ من الإتيان بالأكثر حتّى يحصل العلم بالإتيان بما قامت الحجّة عليه .

 

لأنّا نقول : كأنّك نسيت ما حرّرنا من الاُمور لما تقدّم من أنّ النسبة بينهما ـ بين العنوان والأجزاء ـ ليست نسبة المحقِّق إلى المحقّق ـ بالفتح ـ حتّى يكون المآل إلى الشكّ في السقوط ، بل العنوان عين الأجزاء في لحاظ الوحدة ، لا متحصّلا منها .

الإشكالات الثمانية على جريان البراءة العقلية عن الأكثر ودفعها

هذا التقريب الذي أبدعناه يندفع به أكثر الإشكالات ، ومع ذلك لا بأس بالتعرّض لبعض المعضلات التي أوردها الأعاظم من الأصحاب :

فنقول : إنّ هنا إشكالات :

الإشكال الأوّل :

وقد حكي(7) عن المحقّق صاحب «الحاشية» ، وحاصله : أنّ العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ والأكثر حجّة على التكليف ومنجّز له ، ولابدّ من الاحتياط بالإتيان بالجزء المشكوك فيه . ولا ينحلّ هذا العلم الإجمالي بالعلم بوجوب الأقلّ والشكّ في الأكثر ; لتردّد وجوبه بين المتباينين ، فإنّه لا إشكال في مباينة الماهية بشرط شيء للماهية لا بشرط ; لكونهما قسيمين .

فلو كان متعلّق التكليف هو الأقلّ فالتكليف به إنّما يكون لا بشرط عن الزيادة ، ولو كان الأكثر فالتكليف بالأقلّ يكون بشرط انضمامه مع الزيادة .

فوجوب الأقلّ يكون مردّداً بين المتباينين باعتبار اختلاف سنخي الوجوب الملحوظ لا بشرط شيء أو بشرطه ، كما أنّ امتثاله يكون مختلفاً أيضاً حسب اختلاف الوجوب ; فإنّ امتثال الأقلّ إنّما يكون بانضمام الزائد إليه إذا كان التكليف ملحوظاً بشرط شيء ، بخلاف ما إذا كان ملحوظاً لا بشرط ، فيرجع الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيين إلى الشكّ بين المتباينين تكليفاً وامتثالا(8) ، انتهى كلامه .

ويرد عليه أوّلا : أنّ الموصوف باللابشرطية وقسيمها إنّما هو متعلّق التكليف لا نفس التكليف ، والتكليف على سنخ واحد ، والاختلاف إنّما هو في المتعلّق . وما أفاده لعلّه سوء تعبير ، والمراد ما ذكرنا .

وثانياً : أنّ متعلّق التكليف أيضاً ليس أمره دائراً بين الماهية لا بشرط شيء وبشرطه ; إذ ليس التكليف متعلّقاً بالأقلّ ، والمتعلّق مردّداً بين كونه لا بشرط عن الزيادة أو بشرط الزيادة .

فإنّ لازم ذلك تسليم أنّ مصبّ الأمر مطلقاً هو الأقلّ والشكّ في اشتراطه بالزيادة وعدمها . مع أنّه غير صحيح ; لأنّ الأجزاء كلّها في رتبة واحدة ، وليس بعضها جزءً وبعضها شرطاً لبعض، بل الأمر دائر بين تعلّق التكليف بالأقلّ ـ أي المركّب المنحلّ إليه ـ أو الأكثر ـ أي المركّب المنحلّ إليه ـ ولا تكون الأجزاء متعلّقة للتكليف بما أنّها أجزاء ، كما تقدّم في كيفية تعلّق الأوامر بالمركّبات الاعتبارية(9) .

وثالثاً : لا نسلّم أنّ الأقلّ اللابشرط أو التكليف اللابشرط على تعبيره ـ رحمه اللّه ـ يباين الأقلّ بشرط شيء ; تباين القسم مع القسم ; لأنّ معنى كون الأقلّ لا بشرط : أنّ الملحوظ نفس الأقلّ ، من غير لحاظ انضمام شيء معه ، لا كون عدم لحاظ شيء معه ملحوظاً حتّى يصير متبايناً مع الملحوظ بشرط شيء ، فيكون الأقلّ متيقّناً والزيادة مشكوكاً فيها ، فينحلّ العلم إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي في وجوب الزيادة .

هذا ، مع أنّا نمنع كون الأجزاء متعلّقة للحكم ، بل المتعلّق إنّما هو العنوان ; وهو المركّب الواحد الذي تعلّق به بعث واحد ، وهو يصير حجّة على الأجزاء المعلوم انحلالها إليها ، ولا يصير حجّة على الزيادة المشكوك فيها ، كما تقدّم(10) .

ورابعاً : أنّ لازم ما أفاده هو الاحتياط على طريق الاحتياط في المتباينين ; أي الإتيان بالأقلّ منفصلا عن الزيادة تارة ، ومعها اُخرى ; لأنّ المتباينين غير ممكن الاجتماع ، مع أنّ القائل لا يلتزم به .

ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر ـ رحمه اللّه ـ أجاب عن الإشكال بأنّ الماهية لا بشرط والماهية بشرط شيء ليستا من المتباينين اللذين لا جامع بينهما ; فإنّ التقابل بينهما ليس تقابل التضادّ ، بل تقابل العدم والملكة ; فإنّ الماهية لا بشرط ليس معناها لحاظ عدم انضمام شيء معها ; بحيث يؤخذ العدم قيداً للماهية ، وإلاّ رجعت إلى الماهية بشرط لا ، ويلزم تداخل أقسامها .

بل الماهية لا بشرط معناها عدم لحاظ شيء معها . ومن هنا قلنا : إنّ الإطلاق ليس أمراً وجودياً ، بل هو عبارة عن عدم ذكر القيد .

فالماهية لا بشرط ليست مباينة بالهوية والحقيقة مع الماهية بشرط شيء ; بحيث لا يوجد بينهما جامع ، بل يجمعهما نفس الماهية . والتقابل بينهما بمجرّد الاعتبار واللحاظ .

ففي ما نحن فيه يكون الأقلّ متيقّن الاعتبار على كلّ حال ; سواء لوحظ الواجب لا بشرط أو بشرط شيء ; فإنّ التغاير الاعتباري لا يوجب خروج الأقلّ من كونه متيقّن الاعتبار(11) ، انتهى كلامه .

وفي كلامه إشكالات نشير إليها :

منها : أنّه ـ قدس سره ـ جعل الماهية مقسماً وجامعاً ، وفرض اللابشرط المطلق والبشرط شيء من أقسامها ، وفسّر الإطلاق في القسم بما لم يعتبر فيه قيد .

فحينئذ نقول : إن أراد من قوله في تفسير الإطلاق : ما لم يعتبر مع الماهية قيد ، عدم الاعتبار بالسلب البسيط ; بحيث يكون اللابشرط القسمي هو ذات الماهية مع عدم وجود قيد معها في نفس الأمر ، لا بلحاظ اللحاظ فهو غير تامّ ; لأنّ هذا هو عين المقسم ، فيرجع القسم حينئذ إلى المقسم ، ويتداخل الأقسام ، مع أنّه جعل اللابشرط من أقسام نفس الماهية ، وحكم بجامعية ذات الماهية .

والحاصل : أنّ الماهية لا بشرط ـ أي التي لم يلحظ معها شيء ـ هي الماهية المقسمية التي هي نفس الماهية ، ولا يعقل الجامع بين الماهية الكذائية وغيرها . ونفس ذات الماهية عبارة اُخرى عن الماهية التي لم يلحظ معها شيء بنحو السلب البسيط ، لا الإيجاب العدولي .

وإن أراد من عدم اعتبار القيد عدم اعتباره بالسلب التركيبي ـ أي الماهية التي لوحظت كونها لامع قيد على نحو العدول ، أو لم يعتبر معها شيء في اللحاظ على نحو الموجبة السالبة المحمول ـ فهو أيضاً مثل ما تقدّم ; لأنّه يصير اللا بشرط قسيماً مع بشرط شيء ومبايناً ، وهو بصدد الفرار عن كونهما متباينين .

ومنها : أنّ ما ذكره من عدم الجامع بين المتضادّين غير صحيح ، بل قد عرّف الضدّان بأنّهما أمران وجوديان داخلان تحت جنس قريب ، بينهما غاية الخلاف(12) . فتسليم الجامع بين العدم والملكة دون المتضادّين غريب جدّاً .

ومنها : أنّه لو سلّمنا أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة فلا يستلزم ذلك عدم وجوب الاحتياط إذا كان بين المتعلّقين تباين ; ولو بنحو العدم والملكة .

ألا ترى : أنّه لو علم إجمالا بوجوب إكرام شخص مردّد بين الملتحي والكوسج يجب الاحتياط ، مع أنّ بينهما تقابل العدم والملكة .

ولو علم بوجوب إكرام واحد من الإنسان مردّد بين مطلق الإنسان أو الإنسان الرومي يكفي إكرام مطلق الإنسان ـ رومياً كان أو غيره ـ لعدم كون المتعلّق مردّداً بين المتباينين ، وعدم التقابل بينهما .

والحاصل : أنّه ليس مجرّد كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ميزاناً للرجوع إلى البراءة ، وكون التقابل غيره ميزاناً للرجوع إلى الاحتياط كما عرفت ، بل الميزان في الاحتياط كون المتعلّق مردّداً بين المتباينين ، وفي البراءة كونه مردّداً بين الأقلّ والأكثر .

ثمّ إنّ تحقيق تقسيم الماهية إلى الأقسام الثلاثة ، وأنّ المقسم هل هو نفس الماهية أو لحاظ الماهية ؟ وتوضيح الفرق بين المطلقين المقسمي والقسمي موكول إلى محلّه وأهله ، وذكرنا نبذاً من ذلك عند البحث عن المطلق والمقيّد ، فراجع(13) .

الإشكال الثاني :

 

إنّ متعلّق التكليف في باب الأقلّ والأكثر مردّد بين المتباينين ; فإنّ المركّب الملتئم من الأقلّ له صورة وحدانية غير صورة المركّب من الأكثر ، فهما صورتان متباينتان ، ويكون التكليف مردّداً بين تعلّقه بهذا أو ذاك ، فيجب الاحتياط .

والجواب ـ مضافاً إلى أنّه لو صحّ الإشكال لزم وجوب الاحتياط بتكرار الصلاة ، لا ضمّ المشكوك إلى المتيقّن ـ أنّ فيما مضى كفاية لردّ هذا الإشكال ; لأنّ نسبة صورة المركّب الاعتباري إلى الأجزاء ليست نسبة المحصّل إلى المحصّل ، ولا لها حقيقة وراء حقيقة الأجزاء حتّى يكون المتحصّل من بعض الأجزاء غير المتحصّل من عدّة اُخرى .

بل العقل تارة يرى الأجزاء في لحاظ الوحدة واُخرى في لحاظ الكثرة ، وهذا لا يوجب اختلافاً جوهرياً بين الملحوظين . فحينئذ يرجع الاختلاف بين الصورتين إلى الأقلّ والأكثر ، كما يرجع الاختلاف بين الأجزاء إليهما أيضاً .

الإشكال الثالث :

إنّ وجوب الأقلّ دائر بين كونه نفسياً أصلياً توجب مخالفته العقاب ، وكونه نفسياً ضمنياً لا يعاقب على تركه ; فإنّ العقاب إنّما هو على ترك الواجب الأصلي لا الضمني ، فلا يحكم بلزوم إتيان الأقلّ على أيّ تقدير ، بل يكون أمره من هذه الجهة كالمردّد بين الواجب والمستحبّ ، فإذا لم يحكم العقل بوجوب إتيانه كذلك فلا ينحلّ به العلم الإجمالي ، فلابدّ من الخروج عن عهدته بضمّ الزيادة عليه .

وفيه أوّلا : أنّ حصول المركّب في الخارج إنّما هو بوجود عامّة أجزائه بلا نقص واحد منها ، وأمّا عدمه فكما يحصل بترك الأجزاء عامّة ، كذلك يحصل بترك أيّ جزء منه .

ومن ذلك يعلم : أن ليس للمركّب أعدام ـ لأنّ نقيض الواحد واحد ـ بل له عدم واحد ، ولكنّه تارة يستند إلى ترك الكلّ ، واُخرى إلى جزء منه .

فحينئذ : فلو ترك المكلّف المركّب من رأس أو الأجزاء المعلومة ـ أي الأقلّ ـ فقد ترك المركّب، فيكون معاقباً على ترك المأمور به بلا عذر .

وأمّا لو أتى بالأجزاء المعلومة ـ الأقلّ ـ وترك الجزء المشكوك فيه بعد ما فحص واجتهد ولم يعثر على بيان من المولى بالنسبة إليه ، وفرضنا وجوب الأكثر في نفس الأمر فقد ترك في هذه الحالة أيضاً المأمور به ، ولكن لاعن عصيان ، بل عن عذر .

وبالجملة : أنّ الفرق بين الأوّلين والثالث واضح جدّاً ; فإنّ المكلّف وإن ترك المأمور به في الجميع إلاّ أنّه ترك في الأوّلين ترك الأجزاء من رأس ، وترك الأجزاء المعلومة عصياناً للمولى ; لأنّ تركه للأجزاء عين تركه للمأمور به ، فيعاقب على تركه بلا عذر ولا حجّة . وهذا بخلاف الثالث ; فإنّ المأمور به وإن كان متروكاً إلاّ أنّ الترك عن عذر . وهذا المقدار كاف في لزوم الإتيان بالأقلّ عند العقل على كلّ حال ، بخلاف المشكوك فيه .

وبعبارة اُخرى : أنّ المكلّف حين ترك الأقلّ واقف على ترك الواجب تفصيلا ; إمّا لأنّ الواجب هو الأقلّ الذي تركه ، أو الأكثر الذي يحصل تركه بترك الأقلّ ، فيجب الإتيان به على كلّ حال.

وما ذكره القائل من أنّ ترك الأقلّ ليس بحرام على كلّ حال غير تامّ ; لأنّ ترك الأقلّ لمّا كان تركاً بلا عذر يجب الإتيان به ; للعلم بأنّ في تركه عقاباً على أيّ جهة كان ، وهذا كاف في الانحلال .

وثانياً : أنّ ما يلزم على العبد هو تحصيل المؤمّن القطعي من العقاب الذي هو مستند البراءة العقلية ، ولا يتحقّق المؤمّن القطعي إلاّ في مورد يكون العقاب قبيحاً على المولى الحكيم ; لامتناع صدور القبيح منه .

فحينئذ : فلو علم أو احتمل العقاب يجب عليه الإطاعة والاحتياط ; وإن كان الاحتمال ضعيفاً ; لأنّ تمام الموضوع للاحتياط هو احتمال العقاب لا غير .

 

وعليه : فلو دار التكليف بين كونه ممّا يعاقب عليه أو لا ـ كما هو شأن الأقلّ في المقام ـ يجب عليه الاحتياط بلا كلام .

وإن شئت قلت : إنّ ما يرجع إلى المولى إنّما هو بيان الأحكام لا بيان العقوبة على الأحكام ، فلو حكم المولى بحرمة الخمر ، واحتمل العبد أنّ المولى لا يعاقب عليه فلا يمكن الاكتفاء به في مقام تحصيل المؤمّن عن العقاب .

كما أنّه إذا حرّم شيئاً وعلم العبد أنّ في ارتكابه عقاباً ، ولكن لم يبيّن المولى كيفية العقوبة فارتكبه العبد ، وقد كان المنهي عنه في نفس الأمر ممّا أعدّ المولى لمخالفته عقاباً شديداً فلا يعدّ ذلك العقاب من المولى عقاباً بلا بيان ; لأنّ ما هو وظيفته إنّما هو بيان الأحكام ، لا بيان ما يترتّب عليه من المثوبة والعقوبة .

إذا عرفت ذلك فنقول : قد تقدّم(14) أنّ التكليف بالأجزاء عين التكليف بالمركّب ، وأنّ الأقلّ دائر أمره بين كونه واجباً نفسياً أصلياً ـ أي كونه تمام المركّب مستوجباً للعقوبة على تركه ـ أو نفسياً ضمنياً ، ويكون المركّب هو الأكثر ، والعقوبة على تركه لا على ترك الأقلّ .

وحينئذ : فالأقلّ يحتمل العقوبة وعدمها ، وفي مثله يحكم العقل بالاحتياط ; لأنّه لو صادف كونه تمام المركّب لا يكون العقاب عليه بلا بيان ; فإنّ ما لزم على المولى هو بيان التكليف الإلزامي، والمفروض أنّه بيّنه .

وليس عليه بيان كون الواجب ممّا في تركه العقوبة ، كما أنّه ليس له بيان أنّ الأقلّ تمام الموضوع للأمر ، كما لا يخفى .

ولعمر القارئ إنّ انحلال العلم في المقام أوضح من أن يخفى ; لأنّ كون الأقلّ واجباً تفصيلياً ممّا لا سترة فيه ، فكيف يقع طرفاً للعلم الإجمالي ؟ وما أفاده بعض أعاظم العصر من أنّ تفصيله عين إجماله(15) أشبه شيء بالشعر من البرهان .

الإشكال الرابع :

ما ذكره بعض أعاظم العصر ـ رحمه اللّه ـ وأوضحه بتقريبين :

الأوّل : أنّ العقل يستقلّ بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي ; ضرورة أنّ العلم بالاشتغال يستدعي العلم بالفراغ ; لتنجّز التكليف بالعلم به ـ ولو إجمالا ـ ويتمّ البيان الذي يستقلّ العقل بتوقّف صحّة العقاب عليه ; فلو صادف التكليف في الطرف الآخر الغير المأتي به لا يكون العقاب على تركه بلا بيان .

ففي ما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على الأقلّ عقلا ; لأنّه يشكّ معه في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين ، ولا يحصل العلم بالامتثال إلاّ بعد ضمّ الخصوصية الزائدة المشكوكة .

والعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ المردّد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر ، ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل أن يوجب الانحلال ; لأنّه يلزم أن يكون العلم الإجمالي موجباً لانحلال نفسه(16) ، انتهى كلامه .

وفيـه : أنّ العلم الإجمالي قائم بالتردّد والشكّ ـ أي الشكّ بأنّ هـذا واجب أو ذاك ـ وليس المقام كذلك ; للعلم بوجوب الأقلّ على كلّ حال والشكّ في وجـوب الزائد ; إذ المفروض : أنّ الواجب هو ذات الأقلّ على نحو الإطلاق المقسمي ، ووجـوبه لا ينافي مع وجـوب شيء آخـر أو عـدم وجوبه ; إذ الأكثر ليس إلاّ الأقلّ والزيادة ، ولا يفترق حال الأقلّ بالنسبة إلى تعلّق أصل التكليف به ;ضمّت إليه الزيادة أو لا تضمّ .

فالقطع التفصيلي حاصل من غير دخول الإجمال بالنسبة إلى وجوب الأجزاء التي يعلم انحلال المركّب إليها . وإنّما الشكّ في أنّ الجزء الزائد هل يكون دخيلا فيه حتّى يكون متعلّق التكليف بعين تعلّقه بالمركّب ، أولا ؟ وهذا عين ما أوضحناه مراراً بأنّ هنا علماً تفصيلياً وشكّاً بدوياً .

 

وإن شئت قلت : إنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية بمقدار ما قام الدليل على الاشتغال. ولا إشكال في أنّ الحجّة قائمة على وجوب الأقلّ ، وأمّا الزيادة فليست إلاّ مشكوكاً فيها من رأس ، ومع ذلك فكيف يجب الاحتياط ؟ !

وما أفـاده : من أنّ الأقـلّ المـردّد بين اللابشرط وبشرط شـيء هـو عين العلم الإجمالي ، فيلزم أن يكون العلم الإجمالي موجباً لانحلال نفسه ، غير تامّ ; لأنّ الأقلّ متعلّق للعلم التفصيلي ليس إلاّ ، والشكّ إنّما هـو في الـزيادة ، لا في مقـدار الأقلّ .

وإن شئت عبّرت : بأنّه ليس علم إجمالي من رأس حتّى يحتاج إلى الانحلال ، بل علم تفصيلي وشكّ بدوي . وليس حاله نظير قيام الأمارة على بعض الأطراف الموجب للانحلال .

الثاني من التقريبين اللذين في كلامه ـ رحمه اللّه ـ ، ومحصّله : أنّ الشكّ في تعلّق التكليف بالخصوصية الزائدة المشكوكة من الجزء أو الشرط وإن كان لا يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على مخالفته من حيث هو ـ للجهل بتعلّق التكليف به ـ إلاّ أنّ هناك جهة اُخرى تقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على ترك الخصوصية على تقدير تعلّقه بها ; وهي احتمال الارتباطية وقيدية الزائد للأقلّ ; فإنّ هذا الاحتمال بضميمة العلم الإجمالي يقتضي التنجيز .

فإنّه لا رافع لهذا الاحتمال ، وليس من وظيفة العقل وضع القيدية أو رفعها ، بل ذلك من وظيفة الشارع ، ولا حكم للعقل من هذه الجهة . فيبقى حكمه بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم والقطع بامتثاله على حاله ، فلابدّ من ضمّ الخصوصية الزائدة(17) ، انتهى كلامه .

قلت : ليت شعري أيّ فرق بين الجزء الزائد واحتمال الارتباطية والقيدية في أنّه تجري البراءة العقلية في الأوّل دون الأخيرين ، مع أنّ الكلّ من القيود الزائدة المشكوك فيها ، التي لا يكون العقاب عليها إلاّ عقاباً بلا بيان . وقد اعترف ـ قدس سره ـ في صدر كلامه بأنّ كلّ خصوصية مشكوك فيها يكون العقاب عليها عقاباً بلا بيان .

وأمّا ما أفاده : من أنّه ليس وظيفة العقل رفع القيدية أو وضعها فهو صحيح لكن ليس معنى البراءة العقلية رفع التكليف ، بل مفاد البراءة العقلية هو حكم العقل على أنّ العقاب على المشكوك فيه عقاب بلا بيان ، من غير فرق بين أن يكون المشكوك فيه ذات الجزء أو الارتباطية .

وعلى أيّ حال : فإذا كان الأقلّ متعلّقاً للعلم التفصيلي ، من غير كون الخصوصية متعلّقة للعلم ، بل مشكوك فيها من رأس فتجري البراءة في أيّة خصوصية مشكوك فيها .

ولعمر القارئ إنّ بين صدر كلامه وذيله تناقضاً ظاهراً ، ولعلّ التدبّر الصحيح يرفع تلك المناقضة ، فتأمّل .

وهاهنا تقرير ثالث للاشتغال ; وهو أنّ الأقلّ معلوم الوجوب بالضرورة ، ومع إتيانه يشكّ في البراءة عن هذا التكليف المعلوم ; لأنّ الأكثر لو كان واجباً لا يسقط التكليف المتوجّه إلى الأقلّ بإتيانه بلا ضمّ القيد الزائد ، فلابدّ للعلم بحصول الفراغ من ضمّه إليه(18) .

وإن شئت عبّرت : بأنّ الاشتغال قد تعلّق بالأقلّ لا بالأكثر ، لكن الخروج عن الاشتغال المعلوم تعلقه بالأقلّ لا يحصل يقيناً إلاّ بضمّ المشكوك ، والذي يحمل المكلّف على الإتيان بالزائد إنّما هو الاشتغال بالأقلّ الذي لا يحصل اليقين بالبراءة عنه إلاّ بالإتيان بالمشكوك .

والجواب : أنّ وجوب الأقلّ ليس وجوباً مغايراً لوجوب المركّب ، بل هو واجب بعين وجوبه ، وقد عرفت(19)أنّ الوجوب المتعلّق بالأجزاء في لحاظ الوحدة داع بنفسه إلى الإتيان بالأجزاء ، وليس الأجزاء واجباً غيرياً ، كما أنّ نسبتها إلى المركّب ليست كنسبة المحصِّل إلى المحصَّل .

وحينئذ : ما قامت الحجّة عليه ـ وهو الأقلّ ـ يكون المكلّف آتياً به ، وما تركه لم تقم الحجّة عليه. فما علم اشتغال الذمّة به أطاعه ، وما لم يعلم لم يتحقّق الامتثال بالنسبة إليه .

فلو كان الواجب هو الأقلّ فقد امتثله ، ولو كان هو مع الزيادة فقد حصل عنده المؤمّن من العقاب ; وهو كون العقاب عليه عقاباً بلا بيان .

 

وإن شئت قلت : إنّه لا يعقل أن يكون للأمر بالمركّب داعوية بالنسبة إلى أجزائـه مرّتين ، بل له داعوية واحدة إلى الكلّ ، وهو يدعو بهذه الدعوة إلى كلّ واحد من الأجزاء . وعليه : فلو أتى بالأقلّ فقد أتى بما يكون الأمر داعياً إليه ، وما لم يأت به فهو مشكوك ليس للأمر بالنسبة إليه داعوية .

فإن قلت : لو كان الواجب هو الأكثر يكون المأتي به لغواً وباطلا ، فمع الشكّ في أنّ الواجب هو الأكثر يدور أمر الأقلّ بين كونه إطاعة أو أمراً باطلا ، فلابدّ من إحراز كونه إطاعة ومنطبقاً عليه ذلك العنوان .

قلت : إنّ الإطاعة والعصيان من الاُمور العقلية ، والعقل يحكم بوجوب إطاعة ما أمر به المولى وبيّنه ، لا ما أضمره وكتمه . والمفروض أنّ ما وقع تحت دائرة البيان قد امتثله وأطاعه ، ومعه لماذا لا ينطبق عليه عنوان الإطاعة ؟

فإن قلت : إنّ الصلاة وإن كانت موضوعة للأعمّ من الصحيح إلاّ أنّ البعث لا يتعلّق بالصحيح منها ; لأنّ الملاك في التسمية غير الملاك في تعلّق الطلب . وعليه يلزم الإتيان بالجزء المشكوك حتّى يحرز انطباق عنوان الصحيح عليه .

قلت : إنّ الصحّة والفساد من عوارض الطبيعة الموجودة ، وما هو متعلّق للأمر إنّما هو نفس الطبيعة ، فمن المستحيل أن يتعلّق البعث بأمر موجود ، كما أوضحناه في محلّه(20) . وعليه فالطبيعة صادقة على الأقلّ والأكثر ، فما علم تقييد الطبيعة من الأجزاء يجب الإتيان به ، وما لم يعلم يجري فيه البراءة العقلية .

الإشكال الخامس :

ما ذكر المحقّق صاحب «الحاشية» ، وننقله بعين عبارته عن كتابه المطبوع في آخر «حاشيته على المعالم» ، وما نسبنا إليه من الإشكال السابق فقد تبعنا في النسبة على بعض أعاظم العصر ـ رحمه اللّه ـ ، وهذا التقريب غيره ، بل أمتن منه .

وإليك نصّ عبارته ملخّصاً : إذا تعلّق الأمر بطبيعة فقد ارتفعت به البراءة السابقة وثبت الاشتغال ، إلاّ أنّه يدور الأمر بين الاشتغال بالأقلّ والأكثر ، وليس المشتمل على الأقلّ مندرجاً في الحاصلة بالأكثر ، كما في الدين ; إذ المفروض ارتباطية الأجزاء . ولايثمر القول بأنّ التكليف بالكلّ تكليف بالأقل ; لأنّ المتيقّن تعلّق الوجوب التبعي بالجزء ، لا أنّه مورد للتكليف على الإطلاق .

فاشتغال الذمّة ـ حينئذ ـ دائر أمره بين طبيعتين وجوديتين لايندرج أحدهما في الآخر ، فلا يجري الأصل في تعيين أحدهما ; لأنّ مورده هو الشكّ في وجوده وعدمه ، لا ما إذا دار الأمر بين الاشتغال بوجود أحد الشيئين .

فإن قلت : إنّ التكليف بالأكثر قاض بالتكليف بالأقلّ ، فيصدق ثبوت الاشتغال به على طريق اللابشرط ، فيدور الأمر في الزائد بين ثبوت التكليف وعدمه .

قلت : ليس التكليف بالأقلّ ثابتاً على طريق اللا بشرط ; ليكون ثبوت التكليف به على نحو الإطلاق ، بل ثبوته هناك على سبيل الإجمال والدوران بين كونه أصلياً أو تبعياً ، فعلى الأوّل لا حاجة إلى الأصل ، وعلى الثاني لا يعقل إجراؤه(21) .

أقول : قد عرفت أنّ الأقلّ ليس مغايراً للأكثر عنواناً ولا طبيعة ، بل الأكثر هو الأقلّ مع الزيادة(22) ، فما أفاده من أنّ الأمر دائر بين طبيعتين وجوديتين لا يندرج أحدهما في الآخر غير تامّ جدّاً .

كما أنّ ما يظهر منه من أنّ الأقلّ واجب بوجوب التبعي لا بالوجوب المتعلّق بالمركّب على فرض تعلّقه بالأكثر غير صحيح ، بل الأقلّ واجب بوجوبه على أيّ تقدير ; أمّا على تقدير كون الأقلّ تمام المأمور به فواضح ، وأمّا على تقدير تعلّقه بالأكثر فالأمر الداعي إلى المركّب داع بنفس تلك الدعوة إلى الأجزاء ; إذ ليست الأجزاء إلاّ نفس المركّب في لحاظ التفصيل ، كما أنّه عينها في لحاظ الوحدة .

 

وبعد منع تلك المقدّمتين يظهر النظر في ما أفاده من التقريب ، ولا نطول بتوضيحه .

الإشكال السادس :

ما أفاده المحقّق الخراساني ـ رحمه اللّه ـ بتقريبين ، ومرجع الأوّل إلى دعوى تحقّق العلم الإجمالي وامتناع الانحلال ; للزوم الخلف ، ومرجع الثاني إلى امتناعه لأجل كون وجود الانحلال مستلزماً لعدمه(23) .

أمّا الأوّل : فتوضيحه أنّ تنجّز التكليف وتعلّقه بالأكثر لابدّ وأن يكون مفروضاً حتّى يحرز وجوب الأقلّ فعلا على كلّ تقدير ; إمّا لنفسه وإمّا لغيره ; لأنّه مع عدم مفروضية تنجّزه وتعلّقه بالأكثر لايعقل العلم بفعلية التكليف بالنسبة إلى الأقلّ على كلّ تقدير ; فإنّ أحد التقديرين كونه مقدّمة للأكثر ، فلو لزم من فعلية التكليف بالأقلّ عدم تنجّز الأكثر يكون خلف الفرض .

وأمّا الثاني : فلأنّ الانحلال يستلزم عدم تنجّز التكليف على أيّ تقدير وهو مستلزم لعدم لزوم الأقلّ على أيّ تقدير ، وهو مستلزم لعدم الانحلال ، فلزم من وجود الانحلال عدمه ، وهو محال; فالعلم الإجمالي منجّز بلا كلام .

وهاهنا تقريب ثالث ، نبّهنا عليه عند البحث عن مقدّمـة الواجب(24) ، وهو : أنّه إذا تولّد من العلم الإجمالي علم تفصيلي لايعقل أن يكون ذلك العلم مبدءً لانحلال العلم السابق ; لأنّ قوامه بالأوّل ، فلا يتصوّر بقاء العلم التفصيلي مع زوال ما هو قوام له .

فلو علم إجمالا أنّ واحداً من الوضوء والصلاة واجب له ، ولكن دار وجوب الوضوء بين كونه نفسياً أو غيرياً فلا يصحّ أن يقال : إنّ الوضوء معلوم الوجوب تفصيلا ; لكونه واجباً إمّا نفسياً أو مقدّمياً ، وأمّا الصلاة فمشكوكة الوجوب من رأس ; لأنّ العلم على وجوبه ـ على أيّ تقدير ـ إنّما نشأ من التحفّظ بالعلم الإجمالي ، ولو رفع اليد عنه فلا علم بوجوبه على أيّ تقدير .

والجواب : أنّ روح هذه التقريبات واحدة ، وكلّها مبني على أنّ الأجزاء واجب بالوجوب الغيري الذي يترشّح من الأمر بالكلّ ، وأنّ الأجزاء والكلّ يختلفان عنواناً وطبيعةً .

وقد عرفت فساد هذه الأقوال كلّها ، وأنّ الوجوب المتعلّق بالأقلّ عين الوجوب المتعلّق بالمركّب، سواء ضمّ إليه شيء أو لم يضمّ ، وأنّه لو ضمّ إليه شيء لايتغيّر حال الأقلّ في تعلّق الأمر به ، غير أنّه يكون للأمر نحو انبساط لبّاً بالنسبة إليه ، وإن لم يضمّ إليه شيء يقف على الأقلّ ولا يتجاوز عنه . هذا على تعابير القوم .

وإن شئت قلت : لو انضمّ إليه شيء ينحلّ إليه المركّب ويحتجّ بالأمر بالمركّب بالنسبة إلى الزائد ، وإن لم يضمّ فلا ينحلّ ولا يحتجّ .

وعلى المختار ـ كون الأجزاء واجباً بعين وجوب الكلّ ـ فلا يتوقّف وجوب الأقلّ على أيّ تقدير، على تنجّز الأكثر ; فإنّ الأمر بالمركّب معلوم ، وهو أمر بالأجزاء المعلومة أي ينحلّ المركّب الذي تنجّز الأمر بالنسبة إليه ، إلى الأجزاء المعلومة بلا إشكال ; سواء كان الجزء الآخر واجباً أو غير واجب .

فتنجّز الأمر بالأقلّ عين تنجّز الأمر بالمركّب ، ولا يتوقّف وجوبه على وجوب شيء آخر . فلا إشكال في وجوب الأقلّ على كلّ تقدير ; انحلّ المركّب إلى المعلومة من الأجزاء فقط ، أو إليها وإلى أمر آخر .

ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر ـ رحمه اللّه ـ تفصّى عن الإشكال في بعض أجوبته ، مع تسليم كون وجوب الأجزاء مقدّمياً(25).

وأنت إذا أحطت خُبراً بما أشرنا إليه هنا ـ من أنّه إذا كان العلم التفصيلي متولّداً من العلم الإجمالي فلا يعقل أن يكون ذلك التفصيل مبدءً للانحلال ـ تقف على صحّة مقالنا وضعف ما أفاده ـ رحمه اللّه ـ ، فلا نطيل المقام .

الإشكال السابع :

ما أفاده الشيخ الأعظم ـ رحمه اللّه ـ (26) ، ويستفاد من كلامه تقريبان ، لا بأس بتوضيحهما :

 

الأوّل : أنّ المشهور بين العدلية : أنّ الأوامر والنواهي تابعة لمصالح في المأمور به ومفاسد في المنهي عنه ، وأنّ الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية ، والأحكام الشرعية وإن تعلّقت بعناوين خاصّة ـ كالصلاة والصوم والسرقة والغيبة ـ إلاّ أنّ المأمور به والمنهي عنه حقيقة هو المصالح والمفاسد ، والأمر بالصلاة والنهي عن الغيبة إرشاد إلى ما هو المطلوب في نفس الأمر .

والسرّ في تعلّقها بالعناوين دون نفس المصالح والمفاسد عدم علم العباد بكيفية تحصيلها أو الاجتناب عنها ، ولو اطّلع العقل بتلك المصالح والألطاف لَحكم بلزوم الإتيان بها .

فالمصالح والألطاف هي المأمور بها بالأمر النفسي ، والعناوين التي تعلّق بها الأمر والنهي في ظاهر الشرع محصّلات ـ بالكسر ـ تلك الغايات ، وأوامرها إرشادية مقدّمية ، ومع الشكّ في المحصّل لا مناص عن الاحتياط .

الثاني : أنّ الأوامر المتعلّقة بالعناوين وإن كانت أوامر حقيقية غير إرشادية إلاّ أنّ المصالح والمفاسد أغراض وغايات لتلك الأوامر والنواهي ، ولا يحرز الغرض إلاّ بالإتيان بالأكثر .

وإن شئت قلت : إنّ المصالح والمفاسد والأغراض المولوية علّة البعث نحو العمل وعلّة لظهور الإرادة في صورة الأمر والزجر . فكما أنّ وجود الأشياء وبقائها إنّما هو بوجود عللها وبقائها فهكذا انعدامها وسقوطها بسقوط عللها وفنائها .

فحينئذ : فالعلم بسقوط الأوامر والنواهي يتوقّف على العلم بسقوط الأغراض وحصول الغايات الداعية إليها ، فمع الإتيان بالأقلّ يشكّ في إحراز المصالح ، فيشكّ في سقوط الأوامر ، فمع العلم بالثبوت لابدّ من العلم بالسقوط ، وهو لا يحصل إلاّ بالإتيان بالأكثر .

والفرق بين التقريبين أوضح من أن يخفى ; فإنّ المأمور به والمنهي عنه على الأوّل هو المصالح والمفاسد ، والعناوين محصّلات ، وعلى الثاني فالأوامر النفسية وإن تعلّقت بالعناوين حقيقة لكنّها لأجل أغراض ومقاصد ، فما لم تحصل تلك الأغراض لاتسقط الأوامر والنواهي .

وقد أشار الشيخ الأعظم إلى التقريبين بقوله : إنّ اللطف : إمّا هو المأمور به حقيقة أو غرض للآمر ، فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف .

وبذلك يظهر : أنّ ما أفاده بعض أعاظم العصر ـ رحمه اللّه ـ من أنّ مراده ليس مصلحة الحكم وملاكه ، بل المراد منه التعبّد بالأمر وقصد امتثاله(27) ، ليس بشيء وإن أتعب نفسه الشريفة، فراجع .

فالجواب عن الأوّل : أنّ كون أفعال الله معلّلة بالأغراض من المسائل الكلامية ، وهو أساس لهذه القضية الدائرة من تبعية أوامره ونواهيه لمصالح أو مفاسد مكنونة في المتعلّق ، ولا شكّ أنّ غاية ما قام عليه الدليل هو أنّه يمتنع عليه تعالى الإرادة الجزافية ; للزوم العبث في فعله ، والظلم على العباد في تكليفه .

فبما أنّ الأوامر والنواهي أفعال اختيارية له تعالى فلابدّ أن تكون معلّلة بالأغراض ، في مقابل ما يدّعيه الأشاعرة النافين للأغراض والغايات في مطلق أفعاله .

وعليه فدفع العبثية كما يحصل باشتمال نفس تلك العناوين على مصالح ومفاسد قائمة بها متحصّلة بوجودها ، كذلك يحصل بكون المصلحة في نفس البعث والزجر .

بل يمكن أن يقال : إنّ تلك العناوين مطلوبات بالذات ، من قبيل نفس الأغراض ، أو تكون الأغراض اُموراً اُخر غير المصالح والمفاسد .

والحاصل : أنّ الأدلّة المذكورة في محلّه لا يثبت ما ذكر في وجه الأوّل .

أضف إليه : أنّ تعلّق الأمر بالمصالح النفس الأمرية التي يستتبعها تلك العناوين ممّا يمتنع عليه تعالى ; للزوم اللغوية والعبث ; لأنّ الأمر بالشيء والبعث إليه لأجل إيجاد الداعي في نفس المكلّف حتّى ينبعث ببركة سائر المبادئ نحوه ، وهو فرع وصول الأمر إليه .

 

ولا يعقل أن تكون الأوامر النفس الأمرية الغير الواصلة إلى المكلّفين متعلّقة بعناوين واقعية مجهولة لديهم وباعثة نحوها ; فإنّ البعث والتحريك فرع الوصول والاطّلاع . وعليه فتعلّقها بها لا يكون إلاّ لغواً وعبثاً ممتنع عليه تعالى .

وأمّا الجواب عن الثاني : فيكفي ما قدّمناه عن الأوّل عنه أيضاً ; فإنّ العلّة الغائية وإن كانت تعدّ من أجزاء العلّة إلاّ أنّه لا يلزم أن يكون الغاية مغايراً لنفس العنوان الذي وقع تحت دائرة الطلب، بل من المحتمل أن يكون الغرض الذي دلّ الدليل على امتناع خلوّ فعله تعالى عنه هو قائماً بنفس الأمر .

وبالجملة : احتمال كون الغرض هو قائماً بنفس الأمر أو كونه نفس المأمور به ; بمعنى كونه محبوباً بالذات ، من دون أن يكون محصّلا للغرض ينفي الاشتغال .

بل التحقيق : أنّه لم يدلّ دليل على تحصيل الأغراض الواقعية للمولى التي لم يقم عليها حجّة ، بل العقل يحكم بلزوم الخروج عن العهدة بمقدار ما قام عليه الحجّة . وبما أنّ الحجّة قامت على الأقلّ فلو كان الغرض حاصلا به فهو ، وإلاّ ففوت الغرض مستند إلى قصور بيان المولى ; لعدم البيان ، أو لعدم إيجاب التحفّظ والاحتياط .

بل لنا أن نقول : إنّ الغرض يسقط بالأقلّ ويتبعـه سقوط الأمر ; إذ لو لم يسقط به في نفس الأمر لوجب على المولى الحكيم : إمّا البيان أو جعل الاحتياط ;

تحفّظاً على أغراضه ، وإلاّ يلزم التلاعب بالغرض ونقضه ، وهو قبيح على الحكيم . وحيث إنّه لم يبيّنه ولم يوجب الاحتياط نستكشف من ذلك قيام الغرض بالأقلّ وسقوطه به .

أضف إلى ذلك : أنّ العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه مجهول العنوان ; بحيث لا ينقدح في ذهن المكلّف بعنوانه أبداً لا يكون منجّزاً ; فإنّ تنجيزه متوقّف على إمكان الباعثية على أيّ تقدير ـ أي في أيّ طرف كان من الأطراف ـ فإذا كان بعضها مجهول العنوان لا يمكن البعث إليه .

وما نحن فيه من هذا القبيل ; إذ نحتمل أن يكون للصلاة ـ مثلا ـ أجزاء لم تصل إلينا أصلا ، ونحتمل دخالته في سقوط الغرض . ومثل هذا العلم غير منجّز أصلا ; لكون طرف العلم مجهول العنوان .

فلزوم العلم بسقوط الغرض الواقعي موجب لعدم العلم في مطلق التكاليف بسقوط الأوامر ; إذ ما من تكليف إلاّ ويحتمل دخالة شيء في متعلّقه دخيل في حصول الغرض لم يصل إلينا حتّى يصحّ الاحتياط ، ويلزم منه سدّ باب الإطاعات .

فتحصّل من ذلك : عدم لزوم شيء على العبد إلاّ الخروج عن عهدة ما قامت الحجّة عليه ; سقط الغرض لبّاً أم لا .

نعم مع العلم بالغرض الملزم لابدّ من تحصيله ; كان أمر من المولى أم لا .

الإشكال الثامن :

هذا الإشكال يختصّ بالأوامر القربية ، ولا يجري في التوصّلية ، وهو : أنّ أمر الأقلّ دائر بين كونه نفسياً صالحاً للتقرّب ، وكونه غيرياً مقدّمياً غير صالح له ، وما حاله كذلك لايمكن أن يتقرّب به .

وأمّا الأكثر : فالأمر المتعلّق به نفسي صالح للتقرّب ; إمّا لكونه بنفسه هو المأمور به ، أو كون المأمور به هو الأقلّ ، ولكنّه يقصد التقرّب بما هو واجب في الواقع ، فينطبق عليه على كلّ تقدير(28) .

وفيه : أنّ ما هو المعتبر في العبادات هو أن يكون العبد متحرّكاً بتحريك المولى ، ويكون الأمر باعثاً مع مبادئ آخر ـ كالخوف والرجاء ونحوهما ـ نحو المتعلّق ، ولا يكون الداعي في إتيانه أغراض اُخر كالريا ونحوه ، لا بأن يكون قصد الأمر والامتثال ونحوهما منظوراً إليه ، بل حقيقة الامتثال ليست إلاّ الإتيان بداعوية الأمر ، وبه يحصل التقرّب ويصير العبد ممتازاً عن غيره .

 

وقد عرفت(29) : أنّ المركّب عبارة عن أجزاء وشرائط في لحاظ الوحدة ، ويكون الأمر الداعي إلى المركّب داعياً إلى الأجزاء ، لا بداعوية اُخرى .

فحينئذ نقول : لا شبهة في أنّ الآتي بالأقلّ القائل بالبراءة والآتي بالأكثر القائل بالاشتغال كلّ واحد منهما متحرّك بتحريك الأمر المتعلّق بالمركّب ; فقوله تعالى { أَقِمِ الصَّلَاةَ} [الإسراء: 78] محرّك للآتي بالأقلّ والآتي بالأكثر ، من غير فرق بينهما من هذه الجهة .

وإنّما يفترقان في أنّ القائل بالبراءة لا يرى نفسه مكلّفاً بإتيان الجزء المشكوك فيه ، بخلاف القائل بالاشتغال ، وهذا لايصير فارقاً فيما هما مشتركان فيه ; وهو الإتيان بالأجزاء المعلومة بداعوية الأمر بالمركّب .

ثمّ لو فرض الوجوب الغيري للأجزاء فيمكن للآتي بالأقلّ قصد التقرّب ; لاحتمال كون الأقلّ واجباً نفسياً ، وما لا يمكن له هو الجزم بالنيّة ، وهو غير معتبر في العبادات جزماً ; ولهذا يصحّ العمل بالاحتياط وترك طريقي الاجتهاد والتقليد .

وكما أنّ الجزم بالنيّة غير ممكن مع الإتيان بالأقلّ كذلك غير ممكن مع الإتيان بالأكثر ; لعدم العلم بمتعلّق التكليف . فقصد القربة ممكن منهما ، والجزم غير ممكن منهما بلا افتراق بينهما .

في جريان البراءة الشرعية في المقام

ولا يخفى : أنّه بعد ما اتّضح كون الجزء الزائد مشكوكاً فيه من رأس ـ لانحلال العلم الإجمالي ـ يقع الجزء المشكوك فيه مورداً للبراءة الشرعية ، ويشمله حديثا الرفع والحجب ، وغيرهما من أدلّة الباب ; لأنّ شأن الحديثين هو الرفع التعبّدي .

فمعنى الرفع في المقام هو رفع الجزئية عن الجزء المشكوك فيه ، والبناء على عدم كون المشكوك فيه جزءً . فهو يأتي بالأجزاء المعلومة لأجل الأمر المتعلّق بالمركّب الذي عرفت داعويته إلى نفس الأجزاء بدعوة واحدة ، وينفي لزوم الجزء المشكوك فيه أو جزئيته للمركّب ، ويكون مأموناً من العقاب .

وأمّا إجزاء الأقلّ عن الأكثر لو فرض انكشاف الواقع : فقد أوضحنا حاله بما لا مزيد عليه في مبحث الإجزاء(30) ، فلا وجه للإعادة .

المطلب الثاني:

فيما إذا كان الأقلّ والأكثر من قبيل المطلق والمشروط :

تفصيل القول في جريان البراءة في الجزء المشكوك يغنينا عن إفاضة القول في الشرط المشكوك ; فإنّ المناط في الجزء والشرط واحد ، غير أنّا أفردنا البحث عنه ; تبعاً للأصحاب :

فنقول : إنّ منشأ انتزاع الشرطية : تارة يكون أمراً مبايناً للمشروط في الوجود كالطهارة في الصلاة ، واُخرى يكون أمراً متّحداً معه كالإيمان في الرقبة .

أمّا الكلام في الأوّل : فواضح جدّاً ; لأنّ داعوية الأمر إلى ذات الصلاة معلوم ; سواء تعلّق الأمر بها بلا اشتراط شيء أو مع اشتراطه ، والتقييد والاشتراط ، أو القيد والشرط مشكوك فيه، فيجري أدلّة البراءة ; عقلية كان أو شرعية .

وأمّا الثاني ـ أعني إذا كان منشأ الانتزاع متّحداً معه كالإيمان في الرقبة ـ فتجري البراءة فيه أيضاً .

وتوضيحه : أنّ متعلّق البعث والزجر إنّما هو الماهيات والعناوين دون المصاديق الخارجية ، وقد أقمنا برهانه فيما سبق(31) . وعليه فالمدار في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر إنّما هو ملاحظة لسان الدليل الدالّ على الحكم حسب الدلالة اللفظية العرفية ، لا المصاديق الخارجية .

فلو دار متعلّق الأمر بين كونه مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة فهو من موارد البراءة العقلية والشرعية ; لانحلال العلم فيه ، ودورانه بين الأقلّ والأكثر ; لأنّ مطلق الرقبة وإن كان غير موجود في الخارج والموجود منه : إمّا الرقبة الكافرة أو المؤمنة ، وهما متباينان ، إلاّ أنّ الميزان في كون الشيء من قبيل المتباينين أو الأقلّ والأكثر ليس المصاديق الخارجية ; لأنّ مجرى البراءة هو متعلّقات الأحكام ، وهو العناوين المأخوذة في لسان الدليل ، لا المصاديق الخارجية .

 

فحينئذ نقول : إنّ البعث إلى طبيعة الرقبة معلوم ، وتعلّقه إلى المؤمنة مشكوك فيه ، فتجري البراءة على البراهين والمقدّمات السابقة .

وعدم تحقّق الطبيعي في الخارج إلاّ في ضمن الفردين ـ الرقبة المؤمنة والرقبة الكافرة ـ لا يوجب كون المقام من قبيل المتباينين ; فإنّ الميزان هو ما تعلّق البعث به ، ومن المعلوم أنّ البعث إلى الطبيعة غير البعث إلى الطبيعة المقيّدة ، والنسبة بين المتعلّقين هو القلّة والكثرة ; وإن كان المصاديق على غير هذا النحو باعتبار العوارض .

وممّا ذكرنا يعلم حال المركّبات التحليلية ; سواء كانت بسائط خارجية كالبياض والسواد المنحلّين إلى اللون المفرّق لنور البصر أو قابضه ، أو كالإنسان المنحلّ عقلا إلى الحيوان والناطق ; فإنّ الجنس والفصل وإن لم يكونا من الأجزاء الخارجية للمحدود ; لأنّهما من أجزاء الحدّ ، وإن كان مأخذهما المادّة والصورة بوجه يعرفه أهله . وقريب منهما بعض الأصناف والأشخاص المنحلّين في العقل إلى الماهية والعوارض المصنّفة ، وإلى الماهية والعوارض المشخّصة .

فإذا دار أمر صبغ ثوب المولى بمطلق اللون ، أو بلون قابض لنور البصر فما قام عليه الحجّة يؤخذ به ، ويترك المشكوك فيه ; اعتماداً على البراءة .

والحاصل : أنّ البراءة تجري في الجميع على وزان واحد ، من غير فرق بين ما له منشأ انتزاع مغاير وما ليس له كذلك ; لأنّ الموضوع ينحلّ عند العقل إلى معلوم ومشكوك فيه .

فالصلاة المشروطة بالطهارة عين ذات الصلاة في الخارج ، كما أنّ الرقبة المؤمنة عين مطلقها فيه ، والإنسان عين الحيوان وهكذا ، وإنّما الافتراق في التحليل العقلي ، وهو في الجميع سواء، فكما تنحلّ الصلاة المشروطة بالصلاة والاشتراط ، كذا ينحلّ الإنسان إلى الحيوان والناطق . ففي جريان البراءة وقيام الحجّة على المتيقّن دون المشكوك لا فرق في جميع الموارد .

ثمّ إنّ بعض أهل العصر ـ رحمه اللّه ـ نفي الرجوع إلى البراءة عند الترديد بين الجنس والنوع ; قائلا بأنّهما عند التحليل العقلي وإن كان يرجع إلى الأقلّ والأكثر إلاّ أنّهما في نظر العرف من الترديد بين المتباينين .

فلو دار الأمر بين إطعام الإنسان أو الحيوان فاللازم هو الاحتياط بإطعام الإنسان ; لأنّ نسبة الرفع إلى كلّ منهما على حدّ سواء ، فيسقطان بالمعارضة ، فلابدّ من العلم بالخروج من العهدة، ولا يحصل إلاّ بإطعام خصوص الإنسان ; لأ نّه جمع بين الأمرين ، وإطعامه يستلزم إطعام ذاك(32) ، انتهى .

وفيه أوّلا : أنّ ما ذكره يرجع إلى المناقشة في المثال ; فإنّ الإنسان والحيوان وإن كانا في نظر العرف من قبيل المتباينين إلاّ أنّ الحيوان والفرس ليسا كذلك ، فلو دار الأمر في الإطعام بينهما فلا مناص عن البراءة ، كما لو دار الأمر بين مطلق اللون واللون الأبيض ، أو مطلق الرائحة أو رائحة المسك فإنّ الجميع من قبيل الأقلّ والأكثر .

وثانياً : لو كان الدوران بين الإنسان والحيوان دوراناً بين المتباينين فطريق الاحتياط هو الجمع بينهما في الإطعام ، لا إطعام خصوص الإنسان .

وما ذكره من أنّ إطعامه يستلزم إطعام الحيوان أشبه شيء بالمناقضة في المقال ; فإنّ مغزى هذا التعليل إلى أنّهما من الأقلّ والأكثر ، كما لا يخفى .

وممّا ذكرنا يظهر : ضعف ما أفاده المحقّق الخراساني ـ رحمه اللّه ـ : من أنّ الصلاة ـ مثلا ـ في ضمن الصلاة المشروطة ، موجودة بعين وجودها ، وفي ضمن صلاة اُخرى فاقدة لشرطها تكون مباينة للمأمور بها(33) .

وجه ضعفه : فإنّ فيه خلطاً واضحاً ; فإنّ التحقيق : أنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج بنعت الكثرة لا بنعت التباين ; فإنّ الطبيعي لمّا لم يكن في حدّ ذاته واحداً ولا كثيراً فلا محالة يكون مع الواحد واحداً ومع الكثير كثيراً .

 

فيكون الطبيعي موجوداً مع كلّ فرد بتمام ذاته ، ويكون متكثّراً بتكثّر الأفراد ، فزيد إنسان وعمرو إنسان وبكر إنسان ، لا أنّهم متباينات في الإنسانية ، بل متكثّرات فيها ، وإنّما التباين من لحوق عوارض مصنّفة ومشخّصة ، كما لا يخفى .

والتباين في الخصوصيات لا يجعل الماهية المتّحدة مع كلّ فرد وخصوصية متباينة مع الاُخرى; فإنّ الإنسان بحكم كونه ماهية بلا شرط شيء غير مرهون بالوحدة والكثرة ، وهو مع الكثير كثير ; فهو بتمام حقيقته متّحد مع كلّ خصوصية . فالإنسان متكثّر غير متباين في الكثرة. هذا ، ولتوضيحه مقام آخر ، فليطلب من أهله ومحلّه .

أضف إلى ذلك : أنّ كون الفردين متباينين غير مفيد أصلا ; لأنّ الميزان إنّما هو ما وقع تحت دائرة الطلب ، وقد عرفت أنّ متعلّقه إنّما هو العناوين والماهيات ، ومن الواضح أنّ مطلق الصلاة أو الصلاة المشروطة بشيء من الطهارة من قبيل الأقلّ والأكثر ، فتدبّر .

المطلب الثالث : في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات:

وهي تنقسم إلى عقلية وعادية وشرعية :

أمّا الأوّلتين : فمركز البحث فيهما ما إذا تعلّق الأمر بمفهوم مبيّن ، وكان له سبب عقلي أو عادي ، ودار أمر السبب بين الأقلّ والأكثر ، كما لو أمر بالقتل وتردّد سببه بين ضربة وضربتين ، وأمر بتنظيف البيت ودار أمره بين كنسه ورشّه أو كنسه فقط ، ومثله ما لو شكّ في اشتراط السبب بكيفية خاصّة من تقديم أجزاء على اُخرى ، هذا هو محطّ البحث . فلا إشكال في عدم جريان البراءة ; لأنّ المأمور به مبيّن وغير دائـر بين الأقلّ والأكثر ، وما هو دائر بينهما فهو غير مأمور به ، والشكّ بعد في حصول المأمـور به وسقوطه ، وقـد قامت الحجّة على الشيء المبيّن ، فلابدّ مـن العلم بالخـروج عن عهدته .

ويظهر من بعض محقّقي العصر : التفصيل بين كون المسبّب ذا مراتب ومن البسائط التدريجية فتجري البراءة ، وبين غيره ; حيث قال :

لو كان العنوان البسيط متدرّج الحصول من قِبل علّته ; بأن يكون كلّ جزء من أجزاء علّته مؤثّراً في تحقّق مرتبة منه ، إلى أن يتمّ المركّب فيتحقّق تلك المرتبة الخاصّة التي هي منشأ للآثار ، نظير مرتبة خاصّة من النور الحاصلة من عدّة شموع . ومنه باب الطهارة ; لقوله ـ عليه السلام ـ : «فما جرى عليه الماء فقد طهر»(34) ، وقوله ـ عليه السلام ـ :

«وكلّ شيء أمسسته الماء فقد انقيته»(35) ، فلا قصور عن جريان البراءة عند دوران الأمر في المحقّق ـ بالكسر ـ بين الأقلّ والأكثر ; فإنّ مرجع الشكّ ـ بعد فرض تسليم سعة الأمر البسيط في ازدياد أجزاء محقّقه ـ إلى الشكّ في سعة ذلك الأمر البسيط وضيقه ، فينتهي الأمر إلى الأقلّ والأكثر في نفس الأمر البسيط ، فتجري البراءة ، وهذا بخلاف ما لو كان دفعي الحصول فلا محيص عن الاحتياط(36) .

قلت : ما ذكره غير صحيح على فرض ، وخارج عن محطّ البحث على فرض آخر ; لأنّه لو كان الشكّ في أنّ الواجب هل هو غَسل جميع الأجزاء أو يكفي الغالب ولا يضرّ النادر فللقول بجريان البراءة مجال ، ولكنّه خارج عن البحث ; لأنّ مآل البحث حينئذ إلى الأقلّ والأكثر في نفس المأمور به .

وأمّا إذا قلنا بأنّ الواجب هو تحصيل الطهور ، ولكن وقع الشكّ في أنّ السبب هل هو نفس الغسل أو هو مع اشتراط تقديم بعض الأجزاء ـ كالرأس على غيره ـ فلا محيص عن الاحتياط ; وإن كان المسبّب تدريجي الحصول .

فلو علمنا باشتراط صلاة الظهر بالطهارة ، وشككنا في حصوله بالغسلتين والمسحتين مطلقاً أو مع شرط وكيفية خاصّة ، ودار الأمر في المحصّل ـ بالكسر ـ بين الأقلّ والأكثر فلا إشكال في عدم جريان البراءة ، من غير فرق بين كون العنوان البسيط الذي هو المأمور به ذا مراتب متفاوتة متدرّج الحصول ، أو كونه دفعي الحصول .

 

ولو علمنا بوجوب الطهور ، وشككنا في أنّ الحقيقة المتدرّجة الوجود هل يحصل بمطلق الغسل أو بشرط آخر ـ كقصد الوجه مثلا ـ أو غيره لزم الاحتياط .

وبالجملة : فهذا التفصيل لا طائل تحته .

وإليك تفصيلا آخر ذكره ذلك المحقّق في كلامه ; وهو التفصيل بين كون العلم مقتضياً قابلا لإجراء الاُصول في أطراف العلم أو علّة تامّة . فعلى القول بجريان الاُصول في أطراف العلم ما لم يمنع عنه مانع فيمكن أن يقال : إنّ الأمر البسيط وإن كان له وجود واحد إلاّ أنّ له أعداماً على نحو العموم البدلي بانعدام كلّ واحد من أجزاء سببه .

وعليه : فبما أنّ الأمر بالشيء مقتض عن النهي عن ضدّه العامّ ـ أعني ترك المأمور به وإعدامه بإعدام سببه ـ فحينئذ ترك المأمور به عن قِبل ترك الأقلّ ممّا يعلم تفصيلا حرمته ، وعلم استحقاق العقوبة عليه .

وأمّا تركه الناشئ من ترك المشكوك جزئيته فلم يعلم حرمته ; لعدم العلم بإفضاء تركه إلى تركه. هذا ، وقد أجاب عنه بما هو مذكور في كلامه(37) .

أقول : يرد عليه أوّلا : أنّه لو كان المأمور به بالذات مردّداً بين عنوانين ـ كالظهر والجمعة ـ فعلى القول باقتضائية العلم يمكن للشارع أن يكتفي بأحدهما في مقام الامتثال .

وأمّا إذا كان المأمور به معلوم العنوان مبيّن المفهوم ، وقد تعلّق الأمر به ، وقامت الحجّة على لزوم إتيانه فالمأمور به معلوم تفصيلا . ولا يمكن الترخيص في العلم التفصيلي ; وإن كان محصّله مردّداً بين الأقلّ والأكثر .

والحاصل : ليس المقام من قبيل العلم الإجمالي في المأمور به حتّى يأتي فيه ما ذكر . والعلم الإجمالي في المحصّل ـ بالكسر ـ عين الشكّ في البراءة ، لا الشكّ في مقدار الاشتغال .

وثانياً : أنّ هنا علماً واحداً تفصيلياً بحرمة ترك المأمور به المعلوم ، من غير ترديد ، ومن أيّ طريق حصل ترك المأمور به ; أي سواء حصل بترك الأقلّ أو الأكثر .

فحينئذ : فالقول بأنّ حرمة تركه من قِبل ترك الأقلّ ، وأمّا من قبل ترك الأكثر فمشكوك أشبه شيء بالشعر ; فإنّ حرمة ترك المأمور به معلوم مطلقاً ; من أيّ سبب حصل ; سواء حصل بترك الأقلّ أو الأكثر . ومعه كيف يقال : من أنّ حرمة تركه من ناحية الأكثر مشكوك ؟ فإنّ العلم بحرمة تركه مطلقاً يوجب سدّ باب جميع الأعدام المتيقّنة أو المحتملة .

وثالثاً : أنّ هنا حجّة واحدة ; وهو الأمر الصادر من المولى القائم على وجوب المأمور به ، وأمّا النهي عن ترك المأمور به ـ فعلى فرض صحّة هذا النهي ، وعدم كونه عبثاً ولغواً ـ فهو حجّة عقلية ، ينتقل إليه العقل بعد التفطّن بالملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن تركه ، ولكن الحجّة العقلية تابعة في السعة والضيق للأمر المولوي ، ولايمكن أن يكون أوسع منه .

فلو كان لازم أمر المولى هو سدّ جميع أبواب الأعدام ـ من قطعياتها ومحتملاتها ـ فلا يمكن أن يكون مفاد الحجّة العقلية مجوّز إعدامه من جانب واحد ; وهو ترك الأكثر .

ورابعاً : لو سلّمنا انحلال النهي عن ترك المأمور به إلى نهي مقطوع ومشكوك ، فلا يوجب ذلك انحلال الدليل المولوي القائم على وجوب الأمر المبيّن إلى ذلك ; لأنّ إجراء البراءة في النواهي المتعدّدة المنحلّة لا يوجب جريانها في الأمر الواحد المتعلّق بالمفهوم الواحد المبيّن ; فإنّ غاية القول بالانحلال لا يزيد عن إنكار اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ترك العامّ ، ومعه لا محيص عن الخروج عن الاشتغال القطعي .

بيان الحقّ في الأسباب الشرعية:

وتوضيح الحال في عامّة الأسباب سيوافيك بيانه في مبحث الاستصحاب عند البحث عن جريانه في الأحكام الوضعية(38) ، غير أنّا نشير في المقام إلى أمر هامّ ، وهو : أنّ السببية والمسبّبية في الأسباب العقلية والعادية اُمور واقعية خارجة عن طوق الاعتبار فالشمس مضيئة ; اعتبرها اللاحظ أو لا .

 

وأمّا الشرعية والعقلائية منهما : فمن الاُمور الاعتبارية القائمة باعتبار معتبرها ـ شارعاً كان أو عرفاً ـ وليس معنى السببية كون الأسباب مؤثّرات حقيقة في وجود المسبّبات ; بحيث يحصل بعد إعمال الأسباب وجود حقيقي في عالم التكوين لم يكن موجوداً قبله .

فإنّ السببية والتأثير والتأثّر كلّها مـن باب التشبيـه والمجاز ; لأنّ معنى قولنا : «قول البائع بِعْتُ سبب لتحقّق البيع في الخارج» هـو أنّ المتكلّم إذا أنشأ به بداعي الجدّ يصير موضوعاً عند العقلاء لآثار عقلائيـة مترتّبة على المعنى المنشأ اعتباراً بالصيغة .

فالسبب وإن كان أمراً تكوينياً إلاّ أنّ سببيته وتأثيره وإيجاده المعنى المنشأ كلّها قائمة بالاعتبار .

ثمّ إنّ لبيان معنى تأثير الأسباب في المسبّبات في عالم الاعتبار مقاماً آخر ، ولعلّنا نستوفي البحث في مبحث الاستصحاب(39) ; وإن أوضحناه في هذا المقام في الدورة السابقة(40) .

وليعلم : أنّ تشريع الأسباب والمسبّبات الشرعية فيما إذا كانت دائرة بين العقلاء قبل التشريع ليست على وتيرة واحدة .

فتارة : بإمضاء السبب والمسبّب العقلائي وسببيتهما ولم يتصرّف فيه إلاّ تصرّفاً طفيفاً من زيادة شرط وجزء .

واُخرى : بسلب السببية عن الأسباب العقلائية وحصر السببية في سبب واحد ، كما في باب الطلاق ; فإنّه بمعنى الهجران عن الزوجة ، والزوجية أمر عقلائي كسائر الحقائق العقلائية ، متعارف عند كلّ منتحل بدين وغير منتحل ، ولكنّه سلب السببية عن كلّ الأسباب وحصرها في قول القائل : «أنت طالق» .

وثالثة : ببسط دائرة السببية والسبب ، كما في باب الضمان ; فإنّ حصول الضمان بمجرّد وضع اليد المستفادة من قاعدة اليد ممّا ليس منه بين العقلاء عين ولا أثر ، إلى غير ذلك من الأقسام .

أمّا المخترعات الشرعية المحضة التي ليس لها سابقة عند العقلاء ، فهل يجب تعلّق الجعل بكلّ واحد من السبب والمسبّب أو يكفي تعلّقه بأحدهما ؟

فاختار بعض أعاظم العصر الثاني ; قائلا بأنّ جعل أحـدهما يغني مـن الآخر ، فبناءً على تعلّق الجعل بالمسبّبات تكون الأسباب الشرعية كالأسباب العادية غير قابلة للوضع والرفع(41) .

أقول : الاشتباه نشأ من مقايسة الأسباب الشرعية بالعلل التكوينية ; فإنّ الجعل في التكويني حقيقة يتعلّق بوجود السبب ، وسببية السبب أو نفس المسبّب مجعول بالعرض ، فالجاعل جعل النار ، لا جعل النار مؤثّراً في الإحراق ، وهكذا نفس الإحراق .

وأمّا المسبّبات الشرعية المحضة : فبما أنّ أسبابها أيضاً اختراعية لا عقلائية فلا يعقل كفاية تعلّق الجعل بالمسبّب دون سببه أو سببيته ; لأنّ المفروض أنّ المسبّب ليس أمراً عقلائياً بل اختراعياً ، وما كان كذلك لا يعقل أن يكون له سبب عقلائي أو عقلي أو عادي .

فلابدّ أن يكون سببه أيضاً اختراعياً ، فلابدّ من تعلّق الجعل بالسبب ومسبّبه ; سواء تعلّق ابتداءً بالسبب أو بالمسبّب أو أدّى كلاماً يتكفّل الجعلين .

ولا يخفى : أنّ الجعل يتعلّق بوصف السببية ; أي يجعل ما لم يكن سبباً سبباً ، فلو فرضنا أنّ قول القائل : «ظَهْركِ كظهر اُمّي» ليس عند العقلاء محرّماً ، وجعله الشارع سبباً لحرمة ظهر زوجته . فالجعل لم يتعلّق بذات السبب ـ أي الألفاظ ـ بل بوصف السببية ; أي صيّر الشارع ما لم يكن سبباً سبباً للتحريم أنّ الجعل تعلّق بالسبب ، والسببية أمر انتزاعي ، كما هو المشهور .

هذا ، وسيوافيك تفصيل القول في هذه المقامات في الاستصحاب(42) .

عدم جريان البراءة في الأسباب الشرعية:

إذا عرفت ذلك : فالتحقيق عدم إمكان إجراء البراءة العقلية في الأسباب الشرعية ; لتعلّق الأمر بالمفهوم المبيّن والشكّ في سقوطه بالأقلّ ، فلا يجري البراءة العقلية .

فإن قلت : قد تقدّم آنفاً أنّ المسبّب والسبب بمعنى مجعولية سببيته مجعولان شرعاً ، ولا طريق إلى معرفة إحراز السبب سوى بيانه ونقله ، والمفروض أنّ ما وقع تحت دائرة البيان إنّما هو الأقلّ ، والمشكوك لايمكن العقاب عليه على فرض دخالته ; لكون العقاب عليه عقاباً بلا بيان .

 

قلت : إنّ المكلّف وإن كان في فُسحة من ناحية السبب ; لجريان البراءة في سببية الجزء المشكوك ، لكنّه مأخوذ من ناحية تعلّق الأمر الشرعي بالمفهوم المبيّن ـ أعني المسبّب ـ فلا يصحّ رفع اليد عن الحجّة إلاّ بحجّة اُخرى . وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان في ناحية السبب لا يكون حجّة على المسبّب .

وأمّا البراءة الشرعية : فغاية ما يمكن أن يقال : إنّ الشكّ في تحقّق المسبّب وعدمه ناش من اعتبار أمر زائد في السبب وعدمه ، وبما أنّ سببية السبب مجعولة شرعاً فيرفع جزئية المشكوك للسبب ، فيرتفع الشكّ في ناحية المسبّب ، فيحكم بتحقّقه ; لوجود الأقلّ وجداناً ورفع الزيادة بحديث الرفع ، ويرفع الشكّ عن تحقّق السبب ، فيحكم بأنّه موجود . وليست السببية عقلية حتّى يكون من الأصل المثبت .

وفيه : أنّ الشكّ في تحقّق المسبّب ليس ناشئاً من دخالة الجزء المشكوك وعدمها ، بل من كون الأقلّ تمام المؤثّر وتمام السبب . ورفع جزئيته لا يثبت كونه كذلك إلاّ على القول بالأصل المثبت .

والحاصل : أنّ المسبّب يترتّب حسب الجعل على السبب الواقعي التامّ ، وليس رفع الزيادة مثبتاً لذلك بالأصل حتّى يرتفع الشكّ من المسبّب .

وليس عدم الزيادة وحصول الأقلّ سبباً بنحو التركيب حتّى يحرز أحد الجزئين بالوجدان والآخر بالأصل ، ويترتّب عليه المسبّب ; ضرورة أنّ تمام السبب حينئذ هو الأقلّ ، والزيادة لا تكون دخيلة في حصول المسبّب وجوداً وعدماً حتّى يؤخذ عدمها جزءً للسبب .

نعم ، لو دلّ الدليل على أنّه كلّما تحقّق الأقلّ ولم يتحقّق الزيادة وجد المسبّب كان للتوهّم مجال ، لكنّه خارج عن مبحث الأقلّ والأكثر .

المطلب الرابع: في الشبهة الموضوعية من الأقلّ والأكثر الارتباطيين:

فالأولى أن نذكر الصور المتصوّرة في المقام ، ثمّ نجول حول ما قيل أو يمكن أن يقال ، مع بيان ما هو المختار :

الأقسام المتصوّرة في الشبهة الموضوعية:

إنّ تعلّق الحكم على العناوين الواقعة تحت دائرة الحكم يتصوّر على وجوه أربعة:

الأوّل : أن يتعلّق الحكم على الطبيعة بوجودها الساري والاستغراق الأفرادي ، ويسمّى العامّ الاُصولي .

الثاني : أن يتعلّق بها بوجودها المجموعي ، ويسمّى العامّ المجموعي .

والفرق بينهما : أنّ المحكوم بالحكم في الأوّل كلّ فرد منها وفي الثاني مجموع الأفراد ، وفي الأوّل عصيانات وامتثالات بخلاف الآخر ; فإنّ فيه امتثالا واحداً وعصياناً كذلك .

الثالث : أن يتعلّق الحكم بنفس الطبيعة ; أعني الماهية من حيث هي هي .

الرابع : أن يتعلّق الحكم بها على نحو صرف الوجود ; أعني ناقض العدم عند البعث إليها ، أو ناقض الوجود عند الزجر عنها .

وهناك قسم خامس : نبّه عليه بعض الأعاظم(43) ; وهو أن يكون متعلّق الحكم القضية المعدولة على وجه الناعتية ; بأن يطلب من المكلّف كونه لا شارب الخمر ، ولكن المذكور صرف تصوّر ; ولذلك ضربنا عنه صفحاً .

ثمّ إنّ الحكم قد يتعلّق بالموضوع الخارجي ، كقولك : «أكرم العلماء» ، فإنّ العلماء موضوع لمتعلّق الحكم ; أعني «الإكرام» ، وقد لا يكون كذلك ، كقوله : «صلّ» والفرق بينهما واضح ; فإنّ المتعلّق ما هو مصبّ الحكم ومتعلّقه ; أعني «الإكرام» و «الصلاة» ، والموضوع متعلّق المتعلّق .

ثمّ إنّه قد يكون الشكّ في أصل التكليف ، وقد يكون في جزئه أو شرطه ، أو مانعه أو قاطعه .

وهـذه هي الأقسام المتصوّرة . وبما أنّ الموضـوع والمتعلّق لا يفترقان حسب النتيجة جعلناهما قسماً واحداً . وعلى أيّ حال : قد يكون التكليف أمراً وقد يكون نهياً .

 

وإليك بيان حال الأقسام في ضمن أمرين :

الأمر الأوّل : حال الأقسام فيما إذا كان الحكم نفسياً:

القسم الأوّل : إذا تعلّق الحكم الوجوبي النفسي على الموضوع على نحو العامّ الاستغراقي فالحقّ فيه البراءة ; فإنّ مصبّ الحكم حسب الدليل وإن كان عنوان الكلّ وأشباهه إلاّ أنّه عنوان مشير إلى الأفراد ، وقد جعله المولى وسيلة لبعث المكلّف إلى إكرام كلّ واحد واحد من الأفراد .

ولم يتعلّق الحكم بعنوان واحد حتّى نشكّ في انطباقه على المأتي به ; فإنّ لفظة «كلّ» في قوله : «أكرم كلّ عالم» أو «صلّ مع كلّ سورة» لم يكن له موضوعية ، بل واسطة لإيصال الحكم إلى الموضوعات الواقعية ، وهي أفراد الطبيعة .

وإن شئت قلت : إنّ هنا أحكاماً وموضوعات وإطاعات وعصيانات ; فمن علم كونه من مصاديق الموضوع فقد علم تعلّق الحكم به ، ومن شكّ كونه عالماً أو لا فقد شكّ في تعلّق الحكم عليه ، فيقع مصبّ العقاب بلا بيان ، أو البراءة الشرعية .

وما يقال : إنّ وظيفة المولى بيان الكبريات لا الصغريات ، فما يرجع إليه إنّما هو بيان الحكم الكلّي ، والمفروض أنّه بيّنه . وأمّا أنّ هذا فرد أو لا فخارج عن وظيفته ، فلابدّ من الاحتياط ; خروجاً عن مخالفته في الأفراد الواقعية التي تمّ بيانه بالنسبة إليها .

وإن شئت قلت : لابدّ للمكلّف من الخروج عن عهدة تلك الكبرى المعلومة يقيناً ، وهو لا يحصل إلاّ بالاحتياط(44).

فغير تامّ ; فإنّ الكبرى الكلّية ليست بياناً للفرد المشكوك بالضرورة ، وتعلّقها على الأفراد الواقعية غير كونها بياناً للفرد المشكوك فيه .

وما ذكره من أنّ وظيفة المولى إنّما هو بيان الكبريات لا المصاديق وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ العقاب لا يصحّ إلاّ مع تمام الحجّة على العبد ، والكبرى لا تصير حجّة على الصغرى ، بل لابدّ من عثوره عليها بطريق عقلائي أو علمي .

وإن شئت قلت : إنّ ما هو موضوع حكمه هو قبح العقاب بلا حجّة ، وهي مؤلّفة من صغرى وكبرى ، فلابدّ من قيام الحجّة على الصغرى والكبرى ; وإن قامت الحجّة عليها ، إلاّ أنّ الصغرى مشكوكة لم تقم الحجّة عليها .

وتوهّم قياس المقام بصورة العلم الإجمالي ـ فإنّ الكبرى فيه حجّة على الصغرى المشكوكة ـ قياس باطل ; فإنّ العلم الإجمالي قد تعلّق بالصغرى ، ولكنّه مردّدة بين أمرين أو اُمور .

فالحجّة بالنسبة إلى الصغرى تامّة ، وعروض الإجمال لا تأثير له في تمامية الحجّة ، بخلاف المقام ; فإنّ الصغرى غير معلومة ; لا تفصيلا ولا إجمالا .

وإن شئت قلت : إنّ الشكّ في المقام شكّ في التكليف ، بخلافه في العلم الإجمالي . ولا أظنّ أنّه يحتاج إلى بيان أزيد من هذا .

القسم الثاني : تلك الصورة مع كون العامّ مأخوذاً على نحو العامّ المجموعي ; بأن أوجب إكرام مجموع العلماء ; بحيث يتعلّق الحكم على ذلك العنوان لا على ذات الأفراد ; ولو بتوسيط كلّ .

فلا محيص عن الاشتغال ; لأنّ ترك إكرام من يشكّ كونه عالماً ، والاكتفاء على إكرام من علم كونه عالماً يوجب الشكّ في تحقّق هذا العنوان الذي تعلّق به الأمر وقامت عليه الحجّة ، نظير الشكّ في المحصِّل ; وإن كان بينهما فرق من جهة اُخرى .

وإن شئت قلت : إنّ وصف الاجتماع مأخوذ في موضوع الحكم ، فيكون ما هو الموضوع أمراً وحدانياً في الاعتبار ـ وهو المجموع من حيث المجموع ـ ومع الشكّ في الموضوع يكون الشكّ في انطباق المأمور به على المأتي به .

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ ما مثّله الشيخ الأعظم ـ رحمه اللّه ـ للمقام ، وحكم فيه بالاحتياط فيما إذا اُمر بالصوم بين الهلالين(45) في غاية الصحّة بناءً على هذا الفرض ; فإنّ ترك صوم يوم الشكّ من رمضان يوجب الشكّ في تحقّق هذا العنوان ، ومعه لا مناص من الاشتغال .

 

وأمّا ما أفاده بعض أعاظم العصر ـ رحمه اللّه ـ من الرجوع إلى البراءة عند تعلّق الحكم بالعامّ المجموعي ففي غاية الضعف .

وحاصل ما أفاده : أنّ مرجع الشكّ في عالمية بعض إلى الشكّ بين الأقلّ والأكثر الارتباطي ; فإنّه لم يتعلّق التكليف الاستقلالي بإكرام ما يشكّ في كونه من أفراد العلماء ، على تقدير أن يكون من أفراد العلماء واقعاً ; لأنّه ليس هناك إلاّ تكليف واحد تعلّق بإكرام مجموع العلماء من حيث المجموع .

فيكون إكرام فرد من العلماء بمنزلة الجزء لإكرام سائر العلماء ، كجزئية السورة للصلاة ، فيرجع إلى الشكّ بين الأقلّ والأكثر الارتباطي ، غايته : أنّ التكليف بالسورة ليس له تعلّق بالموضوع الخارجي ، فلا يمكن أن يتحقّق الشبهة الموضوعية فيها ، بل لابدّ وأن تكون حكمية، بخلاف المقام(46) ، انتهى .

وجه ضعفه ـ مضافاً إلى إمكان تصوير الشبهة الموضوعية في جزئية السورة ، كالشكّ في جزئية بعض السور التي يدّعيه الحشوية من العامّة وبعض الإمامية أنّها من القرآن(47) ; وإن كان واضح الفساد ، إلاّ أنّ تصويرها ممكن في حدّ نفسه ـ هو وضوح الفرق بين المقامين ; فإنّ الأمر في الأقلّ والأكثر الارتباطيين تعلّق بالأجزاء في لحاظ الوحدة ، وليست الصلاة عنواناً متحصّلا منها ; بحيث يشكّ في تحقّقها مع ترك الجزء أو الشرط .

فالشكّ في جزئية السورة شكّ في انبساط الأمر أو في داعويته المتعلّق بالمركّب على ما مرّ توضيحه(48) .

وأمّا المقام فالأمر تعلّق بعنوان خاصّ ـ أعني المجموع بما هو هو ـ وقد قامت الحجّة بما هو هو، ومرجع الشكّ إلى انطباق المأتي به للمأمور به .

وبالجملة : الشكّ في المقام شكّ في تحقّق عنوان المأمور به ، بخلاف الشكّ في تقيّد الصلاة بشيء أو جزئية شيء لها .

القسم الثالث والرابع : تلك الصورة ، ولكن تعلّق الأمر بنفس الطبيعة أو على نحو صرف الوجود ، فالاشتغال أوضح ، فلا يمكن الاكتفاء بالفرد المشكوك كونه من أفرادها في مقام إيجادها أو ناقض عدمها . فمرجع الشكّ إلى تحقّق المأمور به ـ الطبيعة أو صرف الوجود ـ بالفرد المشكوك فيه .

هذا كلّه في الحكم الوجوبي النفسي بأقسامه الأربعة .

وأمّا الحكم التحريمي النفسي : فلمّا لم يكن بعثاً ـ بل زجراً ـ فلا فرق في جريان البراءة بين صورها الأربعة :

أمّا الاستغراق منه : فواضح لكون مرجع الشكّ إلى تعلّق الحكم المنحلّ به ، ونظيره في الوضوح إذا تعلّق بنفس الطبيعة أو بصرف الوجود ; فإنّ مآل الشكّ في الجميع إلى تحقّق الفرد المبغوض . فالعقاب عليه عقاب بلا حجّة ، وكذا إذا تعلّق على نحو العامّ المجموعي . فلو قال : «لا تكرم مجموع الفسّاق» فله إكرام مَن علم فسقه ، مع ترك إكرام المشكوك فسقه ; للشكّ في تحقّق المبغوض بذلك .

هذا كلّه في الحكم النفسي وجوباً أو تحريماً .

وإليك بيان الأوامر والنواهي الغيرية في ضمن أمر آخر :

الأمر الثاني : حال الأقسام فيما إذا كان الحكم غيرياً :

أمّا الشرطية والجزئية : فالاستغراقي منها مورد للبراءة ، والمجموعي مورد للاشتغال ; لأنّ مرجع الشكّ في الأوّل إلى أنّه تعلّق الأمر الغيري الانحلالي به أو لا ، كالشكّ في جزئية السورة التي تخيّلها الحشوية من العامّة وبعض الخاصّة كونها جزءً من القرآن .

فلو كان قراءة سور القرآن مأخوذاً على نحو الجزئية فلا يجب قراءة المشكوك ، ويجـوز الاكتفاء بالمعلوم منها ، كما أنّ الشكّ في الثاني إلى تحقّق المأمـور به ـ عنوان المجموع ـ بترك السورة المشكوك فيها ، فلابدّ من الإتيان بها .

 

والذي يسهّل الخطب : كون القسمين من التصوّرات المحضة . وأمّا إذا كانت الشرطية أو الجزئية على نحو تعلّق الحكم بالطبيعة أو على نحو صرف الوجود فالاشتغال محكّم ، فلا يجوز الاكتفاء بسورة مع الشكّ في كونها من القرآن .

وأمّا المانعية والقاطعية : فملخّص القول في الأوّل : أنّ المانعية إن كانت مرجعها إلى مضادّية وجود المانع للمأمور به ـ كما هو كذلك في التكوين ـ فالظاهـر جريان البراءة مطلقاً ; سواء كانت على نحو العامّ الاستغراقي ; لكون مرجع الشكّ إلى تعلّق الحكم الغيري به مستقلاّ على نحـو الانحلال المعقول ، أم على نحو العامّ المجموعي ; للشكّ في تحقّق هذا العنوان مع ترك المشكوك ، وارتكاب عامّة ما علم كونه مانعاً ، كما هو الحال في النواهي النفسية ، أم على نحو القضية الطبيعية ، أم على صرف الوجود ; للشكّ في تحقّق المانع بارتكاب الفرد المشكوك . هذا ، مع أنّ للتأمّل في بعضها مجالا .

وإن كان مرجع المانعية إلى شرطية عدمه ـ على ما هو خلاف الاعتبار والتحقيق ـ فيصير حالها حال الشرط في الانحلال وعدمه ، ففي العامّ الاستغراقي يرجع إلى البراءة ; للشكّ في شرطية عدم هذا اللباس المشكوك كونه ممّا لا يؤكل في الصلاة .

وأمّا الثلاثة الباقية فالاشتغال هو المحكّم في العامّ المجموعي ; فلأنّ ما هو الشرط مجموع الأعدام ، فلابدّ من إحراز ذلك الشرط بترك المشكوك منه .

وأمّا إذا كانت بنحو القضية الطبيعية أو صرف الوجود ففي الرجوع إلى البراءة ـ لأنّ ما هو الشرط هو طبيعة العدم أو ناقضه ، وهو يحصل بترك اللباس المعلوم كونها ممّا لا يؤكل لحمه ـ أو إلى الاشتغال تردّد ; وإن كان الأوّل أوضح .

وأمّا القاطعية : فلو قلنا بأنّ اعتبارها باعتبار مضادّة الشيء مع الهيئة الاتّصالية المأخوذة في المركّب ، ومع الشكّ في عروض القاطع تجري فيه ما قلنا في المانع بالمعنى الأوّل ; أعني مضادّية وجوده للمأمور به .

ولكنّه لا تخلو عن إشكال لو قلنا بأنّ الهيئة الاتّصالية مأخوذة في المأمور به على وجـه العنوان، وسيأتي تتميم ذلك في استصحاب الهيئة الاتّصالية عن قريب إن شاء الله(49) هذا تمام الكلام في الأقلّ والأكثر .

_____________

1ـ يأتي في الصفحة 293 .

2 ـ نهاية الأفكار 3 : 373 و 377 .

3 ـ نهاية الأفكار 3 : 373 .

4 ـ كفاية الاُصول : 413 ـ 416 .

5 ـ نهاية الأفكار 3 : 373 و 377 .

6 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 290 ـ 293 .

7 ـ راجع ما يأتي من المناقشة في صحّة النسبة في الإشكال الخامس .

8 ـ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 152 ـ 154 ، هداية المسترشدين 3 : 563 .

9 ـ تقدّم في الصفحة 294 ـ 295 .

10 ـ تقدّم في الصفحة 296 .

11 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 154 ـ 155 .

12 ـ الحكمة المتعالية 2 : 113 ، شرح المنظومة ، قسم الحكمة : 41 .

13 ـ تقدّم في الجزء الثاني : 263 ـ 266 .

14 ـ تقدّم في الصفحة 294 ـ 295 .

15 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 160 .

16 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 159 ـ 160 .

17 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 161 .

18 ـ الفصول الغروية : 357 / السطر 12 ، اُنظر مقالات الاُصول 2 : 261 .

19 ـ تقدّم في الصفحة 294 ـ 295 .

20 ـ راجع الجزء الأوّل : 487 .

21 ـ هداية المسترشدين 3 : 563 .

22 ـ تقدّم في الصفحة 306 ـ 307 .

23 ـ كفاية الاُصول : 413 .

24 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 349 و 350 .

25 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 158 .

26 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 319 .

27 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 172 ـ 173 و 176 .

28 ـ اُنظر فرائـد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 325 ، درر الفوائـد ، المحقّق الحـائري : 478 .

29 ـ تقدّم في الصفحة 294 ـ 295 .

30 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 277 ـ 278 .

31 ـ راجع الجزء الأوّل : 489 .

32 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 208 .

33 ـ كفاية الاُصول : 417 .

34 ـ الكافي 3 : 43 / 1 ، وسائل الشيعة 2 : 229 ، كتاب الطهارة ، أبواب الجنابة ، الباب 26 ، الحديث 1 .

35 ـ تهذيب الأحكام 1 : 148 / 422 ، وسائل الشيعة 2 : 230 ، كتاب الطهارة ، أبواب الجنابة ، الباب 26 ، الحديث 5 .

36 ـ نهاية الأفكار 3 : 401 ـ 402 .

37 ـ نهاية الأفكار 3 : 402 ـ 404 .

38 ـ الاستصحاب ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 165 .

39 ـ الاستصحاب ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 71 ـ 72 .

40 ـ أنوار الهداية 2 : 318 .

41 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 145 ـ 146 .

42 ـ الاستصحاب ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 70 .

43 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 394 ـ 395 .

44 ـ نهاية الاُصول : 329 .

45 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 352 .

46 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 202 ـ 203 .

47 ـ اُنظر مجمع البيان 1 : 83 ، بحر الفوائد 1 : 101 / السطر 8 .

48 ـ تقدّم في الصفحة 296 .

49 ـ يأتي في الصفحة 370 .

 

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.