المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8120 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05
مـعاييـر تحـسيـن الإنـتاجـيـة
2024-11-05
نـسـب الإنـتاجـيـة والغـرض مـنها
2024-11-05
المـقيـاس الكـلـي للإنتاجـيـة
2024-11-05
الإدارة بـمؤشـرات الإنـتاجـيـة (مـبادئ الإنـتـاجـيـة)
2024-11-05
زكاة الفطرة
2024-11-05

الصدق في الأحاديث
28-4-2022
أحكام القرآن
20-12-2014
السومريون
11-9-2016
اهم فصول حياة الرضا(عليه السلام)
19-05-2015
تركب الانسان من روح و بدن
26-09-2014
قانون "بيو"و"ساڤار" Biot-Savart law
23-1-2018


الإستصحاب  
  
1909   10:16 صباحاً   التاريخ: 23-8-2016
المؤلف : الشيخ جعفر السبحاني
الكتاب أو المصدر : الوسيط في أُصول الفقه
الجزء والصفحة : ج 2 ص 150- 170.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / الاصول العملية / الاستصحاب /

الاستصحاب أحد الأُصول الأربعة العامة الذي له دور كبير في استنباط الوظيفة العملية، ولم يزل يُتمسك به بين الفقهاء من عصر أئمّة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ إلى يومنا هذا، و يتميز عن سائر الأُصول الثلاثة بوجود الحالة السابقة وملاحظتها.

أمّا وجود الحالة السابقة فهو أساس الاستصحاب، وأمّا اشتراط كونها ملحوظة، فلأجل انّه ربّما لا تكون الحالة السابقة معتبرة عند الشارع بأن تكون حجة في استنباط الوظيفة العملية كما سيوافيك موارده.(1)

وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

الأوّل: الاستصحاب في اللغة أخذ الشيء مصاحَباً أو طلب صحبته، وفي الاصطلاح «إبقاء ما كان على ما كان » والمعروف بين المتأخرين أنّ الاستصحاب أصل كسائر الأُصول ـ و إن كانت مرتبته متقدّمة على سائر الأُصول العملية ـ لكن الظاهر من قدماء الأُصوليين أنّه أمارة ظنية، فكأنّ اليقين السابق بالحدوث أمارة ظنية لبقاء الشيء في ظرف الشك، إذ ليس المراد من الشك هو الشكّ المنطقي ـ أعني به تساوي الطرفين ـ حتى ينافي الظن بالبقاء، بل المراد احتمال الخلاف الجامع مع الظن بالبقاء.

وأمّا المتأخرون فلم يعتبروه أمارة ظنية بل تلقّوه أصلاً عملياً وحجّة في ظرف الشك، واستدلّوا عليه بروايات ستوافيك.

الثاني: الاستصحاب مسألة أُصولية لا قاعدة فقهية، وذلك لأنّ المعيار في تمييز المسائل الأُصولية عن القواعد الفقهية هو محمولاتها.

توضيحه: انّ المحمول في القواعد الفقهية لا يخلو إمّا أن يكون حكماً فرعيّاً تكليفيّاً كالوجوب والحرمة و الاستحباب والكراهة و الإباحة. أو حكماً فرعيّاً وضعيّاً كالضمان و الصحّة و البطلان. مثلاً قوله: «كل شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام» قاعدة فقهية بحكم أنّ المحمول هو الحليّة، التي هي من الأحكام الفرعية التكليفية، كما أنّ قوله: «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» قاعدة فقهية، لأنّ المحمول فيها هو الضمان وهو حكم وضعي، ومثله قوله :«لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس: الطهور و الوقت والقبلة والركوع و السجود»(2) فانّ المحمول هو البطلان في الخمسة و الصحّة في غيرها. هذا هو ميزان القاعدة الفقهية.

وأمّا القاعدة الأُصولية فتختلف محمولاً عن القاعدة الفقهية، فالمحمول فيها ليس حكماً شرعياً تكليفياً أو وضعياً، بل يدور حول الحجّية وعدمها، فنقول: الظواهر حجّة، الشهرة العملية حجّة، خبر الواحد حجّة، أصل البراءة والاحتياط والاستصحاب، كلٌّ حجّة في ظرف الشك.

وربما يخطر بالبال بأنّ المحمول في المسائل الأُصولية ربما يكون غير الحجّة، كقولك: الأمر ظاهر في الوجوب والنهي ظاهر في الحرمة، ولكنّه عند التدقيق يرجع إلى البحث عن الحجّة على الوجوب والحرمة، فالغاية من إثبات ظهورهما هي إقامة الحجّة على الوجوب والتحريم.

وإن شئت قلت: الغاية من إثبات الصغرى(كونه ظاهراً في الوجوب) هي احتجاج المولى به على العبد. وروح المسألة عبارة عن كون الأمر حجّة في الوجوب أو لا، وهكذا كلّ ما مرّ في باب الأوامر والنواهي.

الثالث: قد تضافرت الأخبار عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ مضمون «أنّ اليقين لا يُنقض بالشك»، وظاهره اجتماعهما في زمان واحد وعدم نقض أحدهما الآخر، وهو في بادئ النظر أمر غريب، لأنّهما لا يجتمعان حتى لا ينقض أحدُهما الآخر، لأنّ اليقين هو الجزم بشيء، والشكّ هو التردّد وانفصام الجزم، فكيف يجتمعان؟!

والجواب أنّ اليقين والشكّ لايجتمعان إذا كان المتعلّق واحداً ذاتاً وزماناً، كما إذا فرضنا انّه تيقّن بعدالة زيد يوم الجمعة ثمّ شكّ في نفس ذلك اليوم في عدالته، ففي مثله لا يمكن اجتماع اليقين والشكّ، فعندما يكون متيقناً لا يمكن أن يكون شاكاً وبالعكس.

وأمّا إذا كان متعلقاهما متحدين جوهراً، ومتغايرين زماناً، فاليقين والشكّ يجتمعان قطعاً، مثلاً لو تيقن بعدالة زيد يوم الجمعة لكن صدر منه يوم السبت فعلٌ شكَ معه في بقاء عدالته في ذلك اليوم، ففي هذا الظرف يجتمع اليقين والشكّ فهو في آن واحد متيقن بعدالة زيد يوم الجمعة لا يشك فيه أبداً، وهو في الوقت نفسه شاك في عدالته يوم السبت، وبذلك صحّ اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد لتغاير المتعلّقين زماناً، وإلى ذلك يؤول قولهم في باب الاستصحاب «اليقين يتعلّق بالحدوث والشكّ بالبقاء» فمقتضى الاستصحاب إبقاء عدالة زيد يوم الجمعة إلى يوم السبت وترتيب أثر العدالة في زمان الشك.

وبذلك علم أنّ الاستصحاب يتقوّم بأمرين:

أ. فعليّة اليقين في ظرف الشكّ، ووجودهما في آن واحد في وجدان المستصحِب.

ب. وحدة متعلّقهما جوهراً وذاتاً، و تعدده زماناً بسبق زمان المتيقن على المشكوك.

الرابع: الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين إنّ في مصطلح الأُصوليين قاعدة موسومة بقاعدة اليقين والشك الساري لسريان الشكّ إلى نفس اليقين كما إذا تيقّن بعدالة زيد يوم الجمعة ثم طرأ عليه الشكّ يوم السبت في عدالة زيد في نفس يوم الجمعة (لا السبت) وقد تبين بذلك أركان قاعدة اليقين:

أ. عدم فعلية اليقين في ظرف الشك.

ب. وحدة متعلقهما جوهراً وزماناً، حيث تعلّق الشكّ بنفس ما تعلّق به اليقين وهو عدالة يوم الجمعة.

والمعروف بين الأصحاب انّ الاستصحاب حجّة دون قاعدة اليقين. وانّ روايات الباب منطبقة على الأوّل دون الثانية كما سيوافيك.

الخامس : انّ هنا قاعدة ثالثة وهي قاعدة المقتضي والمانع التي تغاير القاعدتين الماضيتين وتختلف عنهما باختلاف متعلّق اليقين والشك جوهراً وذاتاً فضلاً عن الاختلاف في الزمان.

مثلاً إذا تيقن بصبِّ الماء على اليد للوضوء، وشك في تحقّق الغَسْل للشك في المانع. أو تيقن برمي السهم وشكّ في القتل للشك في وجود المانع، فمتعلّق اليقين غير متعلّق الشكّ بالذات، حيث تعلّق اليقين بصبّ الماء والرمي، وتعلّق الشكّ بوجود الحاجب والمانع.

نعم يتولد من هذا اليقين والشكّ، شك آخر، وهو الشكّ في حصول المقتضى أعني : الغَسْل والقَتل، والقائل بحجّية تلك القاعدة يتمسك بأصالة عدم المانع و الحاجب ويثبت بذلك الغَسل أو القتل. بحجّة انّ المقتضي موجود، و المانع مرفوع بالأصل فيكون «المقتضى» محقّقاً . وربما حاول تطبيق روايات الباب على تلك القاعدة .(3)

والمشهور أعرضوا عن تلك القاعدة بحجّة عدم الدليل عليها.

السادس: تقسيمات الاستصحاب:

إنّ للاستصحاب تقسيمات، تارة باعتبار المستصحَب ، وأُخرى باعتبار الشكّ المأخوذ فيه، وإليك البيان:

1. تقسيمه باعتبار المستصحَب

ينقسم الاستصحاب باعتبار المستصحَب إلى الأقسام التالية:

ألف. أن يكون المستصحَب أمراً وجوديّاً أو عدميّاً، كاستصحاب الكرّية إذا كان الماء مسبوقاً بها، أو عدم الكرّية إذا كان مسبوقاً به.

ب. أن يكون المستصحَب حكماً شرعيّاً تكليفيّاً سواء أكان كليّاً كاستصحاب حليّة المتعة، أم جزئياً كاستصحاب وجوب الإنفاق على الزوجة المعيّنة إذا شكّ في كونها ناشزة.

ج. أن يكون المستصحَب حكماً شرعيّاً وضعياً ـ لا تكليفياً ـ كاستصحاب الزوجية، والجزئية، والمانعية والشرطية، والسببية عند طروء الشك في بقائها.

د. أن يكون المستصحب موضوعاً لحكم شرعي سواء كان موضوعاً لحكم شرعي تكليفي، أو موضوعاً لحكم وضعي، وهذا كاستصحاب حياة زيد، فتترتب عليه حرمة قسمة أمواله، و بقاء علقة الزوجية بينه وبين زوجته.

2. تقسيمه باعتبار الشك:

ينقسم الاستصحاب باعتبار الشكّ المأخوذ فيه إلى الأقسام التالية:

أ. أن يتعلّق الشكّ باستعداد المستصحَب للبقاء في الحالة الثانية، كالشكّ في بقاء نجاسة الماء، المتغيّرِ أحدُ أوصافه الثلاثة، بالنجس، إذا زال تغيره بنفسه، حيث إنّه يتعلّق الشكّ بمقدار استعداد النجاسة للبقاء، بعد زوال تغيّره بنفسه، ومثله الشكّ في بقاء الليل أو النهار، حيث إنّه يتعلّق بمقدار استعدادهما للبقاء من حيث الطول و القِصَر، وهذا ما يسمّى بالشكّ في المقتضي.

ب. وأُخرى يتعلّق بطروء الرافع مع إحراز قابلية بقاء المستصحب ودوامه لولاه، وهو على أقسام:

1. أن يتعلّق الشكّ بوجود الرافع، مع إحراز قابلية بقائه ودوامه لولا الرافع، كما إذا شكّ في وجود الحدث بعد الوضوء.

2. أن يتعلّق الشكّ برافعية الأمر الموجود للجهل بحكمه، كالمذي الخارج من الإنسان، فيشك في أنّه رافع للطهارة مثل البول أو لا؟ فيرجع الشكّ إلى رافعية الأمر الموجود للجهل بحكمه.

3. أن يتعلّق الشكّ برافعية الأمر الموجود للجهل بوصفه وحاله، كالبلل المردّد بين البول والوذي مع العلم بحكمهما.

هذه هي التقسيمات الرئيسيّة ،وهناك تقسيمات أُخر يتركنا ذكرها للاختصار.

إذا عرفت ذلك، فاعلم انّه استدلّ على حجّية الاستصحاب بوجوه مختلفة أصحها هو الأخبار المتضافرة في المقام و قد أوردنا في الموجز ثلاث روايات، فلنذكر سائرها.

1. صحيحة زرارة الثالثة:

روى الكليني ، عن زرارة، عن أحدهما عليمها السَّلام قال:« إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع، وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أُخرى ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقين بالشك».(4)

وجه الاستدلال: الظاهر انّ قوله: «ولا ينقض اليقين بالشك» علّة للأمر بإضافة ركعة أُخرى، فكأنّه يقول: يأتي بركعة أُخرى ولا شيء عليه، لأنّه كان على يقين بعدم الإتيان بها فليمض على يقينه.

نعم ظاهر قوله: «فأضاف» انّه يأتي بالركعة الاحتياطيّة متصلة، مع أنّ الفتوى على الانفصال، فتُرفع اليد عن هذا الظاهر بقرينة إجماع الطائفة على الانفصال.

2. موثقة إسحاق بن عمّار:

روى الصدوق بإسناده، عن إسحاق بن عمار، قال: قال لي أبو الحسن الأوّل: «إذا شككت فابن على اليقين»، قال: قلت: هذا أصل؟ قال: «نعم».(5)

وجه الاستدلال: أنّ ظاهر الكلام فعليّة اليقين والشكّ، فهو في آن واحد ذو يقين وشك، فينطبق على الاستصحاب.

وأمّا قاعدة اليقين، فالشكّ فيها فعلي دون اليقين بل هو زائل كما مرّ في توضيح القاعدة.

أضف إلى ذلك انّ الرواية ظاهرة في الاستصحاب بقرينة وحدة لسانها مع سائر الروايات .

3. مكاتبة القاساني:

كتب علي بن محمد القاساني إلى أبي محمد ـ عليه السَّلام ـ ، قال: كتبت إليه ـ وأنا بالمدينة ـ عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان، هل يصام أم لا؟ فكتب:« اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية».(6)

وجه الاستدلال: أنّ المراد من اليقين، إمّا هو اليقين بأنّ الزمان الماضي كان من شعبان فشكّ في خروجه بحلول اليوم التالي، أو اليقين بعدم دخول رمضان وقد شكّ في دخوله. وعلى كلا التقديرين لا يكون اليقين السابق منقوضاً بالشك. وهذا هو المراد من قوله: «اليقين لا يدخل فيه الشك» .

4. صحيحة عبد اللّه بن سنان:

روى الشيخ بسند صحيح عن عبد اللّه بن سنان قال: سأل أبي أبا عبداللّه ـ عليه السَّلام ـ وأنا حاضر: إنّي أُعير الذمِّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمرَ، ويأكل لحم الخنزير، فيردّها عليّ أفأغسِلُه قبل أن أُصلّي فيه؟ فقال أبو عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ : «صلّ فيه ولا تَغْسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إيّاه و هو طاهر، ولم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتى تستيقن أنّه نجّسه».(7)

وجه الاستدلال: انّ الإمام لم يعلِّل طهارة الثوب بعدم العلم بالنجاسة حتى ينطبق على قاعدة الطهارة، بل علّله بأنّك كنتَ على يقين من طهارة ثوبك وشككتَ في تنجيسه فمالم تستيقن انّه نجّسه فلايصحّ لك الحكم على خلاف اليقين السابق، والمورد و إن كان خاصّاً بطهارة الثوب لكنه غير مخصِّص وذلك لوجهين:

الأوّل: ظهور الرواية في صدد إعطاء الضابطة الكلّية.

والثاني: التعليل بأمر ارتكازيّ يورث إسراء الحكم إلى غير مورد السؤال.

5. خبر بكير بن أعين:

روى بكير بن أعين قال: قال لي أبو عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ : «إذا استيقنت أنّك توضّأت، فإيّاك أن تحدث وضوءً حتى تستيقن أنّك أحدثت».(8)

هذه هي المهمّات من روايات الباب، وفيما ذكرنا غنىً و كفاية.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الروايات، وكون التعليل (لا تنقض اليقين بالشك) أمراً ارتكازياً، حجّية الاستصحاب في جميع الأبواب والموارد، سواء أكان المستصحب أمراً وجودياً أم عدميّاً، وعلى فرض كونه وجوديّاً لا فرق بين كونه حكماً شرعيّاً تكليفياً أو وضعياً أو موضوعاً خارجياً له آثاره الشرعيّة كالكرّية، وحياة زيد، وغير ذلك.

حجّية الاستصحاب في الشكّ في المقتضي:

ذهب بعضهم إلى عدم حجّيته في خصوص الشكّ في المقتضي دون الرافع، ولإيضاح الفرق بين الشكّين نقول:

كلُّ حكم أو موضوع لو ترك لبقي على حاله إلى أن يرفعه الرافع فالشكّ فيه شكّ في الرافع، وأمّا كلّ حكما و موضوع لو ترك لزال بنفسه ـو إن لم يرفعه الرافع ـ فالشك فيه من قبيل الشكّ في المقتضي، فمثلاً وجوب الصلاة والصوم والحجّ من التكاليف التي لا ترفع إلاّ برافع، وذلك لأنّ الوجوب الجزئي منه لا يُرفع إلاّ بالامتثال، وأمّا الوجوب الكلي فبالنسخ، فالشكّ في الامتثال في مورد الحكم الجزئي، أو الشكّ في النسخ في مورد الحكم الكلي، شك في الرافع، لإحراز المقتضي لبقائه.

وهذا بخلاف مالو شكّ في بقاء الخيار في الآونة المتأخرة، كالخيار المجعول للمغبون بعد علمه بالغبن و تمكّنه من إعمال الخيار، إذا لم يفسخ، فيشكّ في بقاء الخيار، لأجل الشكّ في اقتضائه للبقاء بعد العلم و المساهلة في إعماله، ومثله الشكّ في بقاء النهار إذا كانت في السماء غيوم، فالشكّ في تحقّق الغروب يرجع إلى طول النهار وقصره، فالشكّ فيه شكّ في المقتضي.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه استدل القائل بعدم حجّية الاستصحاب في الشكّ في المقتضي بدليل مبني على أمرين:

الأوّل: أنّ حقيقة النقض هي رفع الهيئة الاتصالية، كما في قوله نقضت الحبل، قال سبحانه: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92]

الثاني: أنّ إرادة المعنى الحقيقي ممتنعة في المقام لعدم اشتمال اليقين على الهيئة الاتصالية، فلابدّ من حمله على المعنى المجازي، وأقرب المجازات هو ما إذا تعلّق اليقين بما أحرز فيه المقتضي للبقاء وشك في رافعه، لا ما شكّ في أصل اقتضائه للبقاء مع صرف النظر عن الرافع، وقد قُرر في محلّه أنّه إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى.

يلاحظ عليه: أنّه لم يثبت في اللغة كون النقض حقيقة في رفع الهيئة الاتصالية حتى لا تصح نسبته إلى نفس «اليقين» لعدم اشتماله عليها، بل هو عبارة عن نقض الأمر المبرم و المستحكم ـ سواء أكان أمراً حسيّاً أم قلبيّاً ـ والشاهد على ذلك صحّة نسبة النقض إلى اليمين والميثاق والعهد في الذكر الحكيم، قال سبحانه: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] وقال سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ } [النساء: 155] وقال سبحانه{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [الرعد: 25] واليقين كالميثاق و اليمين والعهد من الأُمور النفسانية المبرمة المستحكمة فتصح نسبة النقض إليه، سواء تعلق بما أحرز فيه المقتضي للبقاء أو لا، والمصحح للنسبة هو كون نفس اليقين أمراً مبرماً مستحكماً، سواء أكان المتعلّق كذلك، كما في الشكّ في الرافع، أم لم يكن كذلك كما في الشكّ في المقتضي.

هذا تمام الكلام في أدلّة الاستصحاب.

 

 

تنبيهات

التنبيه الأوّل: كفاية إحراز المتيقّن بالأمارة

قد عرفت أنّ اليقين بالحدوث من أركان الاستصحاب فلا كلام فيما إذا كان حدوث المتيقّن محرزاً باليقين، إنّما الكلام فيما إذا كان محرزاً بالأمارة وشكّ في بقائه، كما إذا دلّ قول الثقة على وجود الخيار للمغبون في الآن الأوّل و شُكَّ في بقائه في الآن الثاني، أو دلّت البيّنة على حياة زيد أو كونه مالكاً فشُك في بقاء حياته أو مالكيته فهل يحكم بالبقاء أو لا؟ وجه الإشكال أنّه لا يقين بالحدوث لعدم إفادة قول الثقة أو البيّنة ، اليقينَ فكيف يحكم بالبقاء؟

والجواب أنّ المراد من اليقين في أحاديث الاستصحاب هو الحجّة على وجه الإطلاق، لا خصوص اليقين بمعنى الاعتقاد الجازم، كما هو المصطلح في علم المنطق، والشاهد على ذلك أمران:

1. انّ العلم واليقين يستعملان في الحجّة الشرعية، كما في قولهم: يحرم الإفتاء بغير علم، فيُراد به الحجّة الشرعية لا العلم الجازم القاطع. لكفاية الحجّة غير القطعية في جواز الافتاء.

2. ملاحظة روايات الباب ـ مثلاً ـ ففي الصحيحة الأُولى(9) لزرارة لم يكن له علم وجداني بالطهارة النفسانية، بل كان علمه مبنياً على طهارة مائه وبدنه و لباسه، بالأُصول والأمارات، وهكذا سائر الروايات، فإنّ حصول اليقين فيها هناك كان رهنَ قواعد فقهية وأُصولية، وفي الصحيحة الثانية كان اليقين بطهارة ثوبه والشكّ في طروء النجاسة مستنداً إلى جريان أصالة الطهارة في الإناء والماء الذي غسل به ثوبه إلى غير ذلك.

كلّ ذلك دليل على أنّ المراد من اليقين في الروايات هو الحجّة، عقلية كانت كالقطع، أو شرعية كالبيّنة والأمارة، ويكون المراد من «الشك» بقرينة المقابلة هو اللاحجّة من غير فرق بين الظن والشكّ والوهم. فكأنّ الشارع يقول: «لا تنقض الحجّة باللا حجّة» لأنّ اليقين فيه صلابة، والشكّ فيه رخاوة فلا يُنقض الأوّل بالثاني كما لا يُنقض الحجر بالقطن.

التنبيه الثاني: في استصحاب الزمان والزمانيات

المستصحب تارة يكون نفس الزمان، وأُخرى الشيء الواقع فيه.

أمّا الأوّل: فكما إذا كان الزمان موصوفاً بوصف ككونه ليلاً أو نهاراً، فشككنا في بقاء ذلك الوصف، فيستصحب بقاء الليل أو النهار.

وربّما يقال: إنّ الزمان غير قارّ الذات ولا يتصوّر فيه البقاء بل سنخ تحقّقه هو الوجود شيئاً فشيئاً، وما هذا حاله، لا يتصور فيه الحدوث والبقاء، حتى يتحقّق فيه أركان الاستصحاب.

والجواب: إنّ بقاء كلّ شيء بحسبه، فللأُمور القارّة بقاء وانقضاء، وللأُمور المتصرّمة كالليل و النهار أيضاً بقاء و زوال مثلاً، يطلق على الطليعة، أوّل النهار، وعلى الظهيرة، وسط النهار، وعلى الغروب، آخره، وهذا يعرب عن أنّ للنهار بقاءً حسب العرف، وإن لم يكن كذلك بالدقة العقلية.

وأمّا الثاني: أعني الشيء الواقع في الزمان وهو المسمّى بالزماني كالتكلم والكتابة والمشي و جريان الماء، فلكل منها حدوث و بقاء في نظر العرف، فلو شرع الإنسان بالتكلّم أو أخذ بالمشي ، فشككنا في بقائهما أو انقطاعهما، يصح استصحابهما كاستصحاب الزمان، والإشكال فيه كالإشكال في الزمان، و الجواب نفس الجواب.

ومثاله الشرعي إذا كانت العين نابعة، جارية ووقعت فيها نجاسة، وشككنا عند الوقوع في بقاء النبع والجريان ، فيستصحب، ويترتب عليه الأثر الشرعي وهوعدم انفعال ماء العين بالنجاسة.

التنبيه الثالث: في شرطية فعلية الشك

يشترط في الاستصحاب، فعلية الشكّ فلا يفيد الشكّ التقديريّ، فلو تيقن الحدث من دون أن يشكّ ثمّ غفل و صلّى ثمّ التفت بعدها فشكّ في طهارته من حدثه السابق فلا يجري الاستصحاب، لأنّ اليقين بالحدث وإن كان موجوداً قبل الصلاة لكنّه لم يشك لغفلته فلا يتحقّق أركان الاستصحاب، ولأجل عدم جريانه يحكم عليه بصحّة الصلاة أخذاً بقاعدة الفراغ، لاحتمال أنّه توضّأ قبل الصلاة، وهذا المقدار من الاحتمال كاف لجريان قاعدة الفراغ، ولكن يجب عليه التوضّؤ بالنسبة إلى سائر الصلوات، لأنّ قاعدة الفراغ لا تثبت إلاّ صحّة الصلاة السابقة، وأمّا الصلوات الآتية فهي رهن إحراز الطهارة.

وهذا بخلاف ما إذا كان على يقين من الحدث ثمّ شكّ في وضوئه و مع ذلك غفل و صلّى والتفت بعدها فالصلاة محكومة بالبطلان لتماميّة أركان الاستصحاب وإن احتمل انّه توضأ بعد الغفلة.

التنبيه الرابع: المراد من الشك مطلق الاحتمال يطلق الظن على الاحتمال الراجح، والوهم على الاحتمال المرجوح، فيكون الشكّ هو الاحتمال المساوي وهذا هو المسمّى بالشكّ المنطقي.

وأمّا الشكّ الأُصولي المطروح في باب الاستصحاب فهو عبارة عن خلاف اليقين، سواء كان البقاء مظنوناً أو موهوماً أو مشكوكاً متساوي الطرفين، وهذا هوالمراد من الشكّ في لسان الروايات، وقد ورد الشك بالمعنى الأُصولي في الذكر الحكيم، قال سبحانه: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] وقال سبحانه: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] ، والشكّ في الآيتين يعمّ الحالات الثلاث.

ونظير الآيتين: الشكّ في صحيحة زرارة قال: فإنْ حُرّك على جنبه شيء و لم يعلم به؟ قال ـ عليه السَّلام ـ : «لا، حتى يستيقن أنّه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلاّ فانّه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ » وذلك لأنّ التحريك على جنب الإنسان يفيد الظن بأنّه قد نام، و مع ذلك أطلق عليه الإمام الشك ولم يستفصل بين إفادته الظن بالنوم و عدمه، وهذا يدل على أنّ المراد من الشكّ هو مطلق الاحتمال المخالف لليقين، من غير فرق بين كون البقاء مظنوناً أو مرجوحاً أو مساوياً.

أضف إلى ذلك ما مرّ من أنّ المراد من اليقين هو الحجّة الشرعية، ويكون ذلك قرينة على أنّ المراد من الشكّ هو اللاّ حجة، ويكون معنى الحديث لا تنقض الحجّة باللاّ حجّة، فالملاك في الجميع عدم وجود الحجّة، من دون نظر إلى كون البقاء راجحاً أو مرجوحاً أو متساوياً.

التنبيه الخامس: التمسّك بعموم العام أو استصحاب حكم المخصص إذا كان هناك عموم يدل على استمرار الحكم في جميع الأزمنة، كقوله سبحانه:(أَوفُوا بالعُقود) حيث يدلّ على وجوب الوفاء على وجه الإطلاق من غير فرق بين زمان دون زمان.

ثمّ إذا فرضنا أنّه خرج منه عقد في وقت خاص، كالعقد الغبني، فانّ المغبون يملك الخيار وله أن يفسخ العقد بظهوره، ولكنّه تساهل و لم يفسخ، فيقع الشكّ في بقاء الخيار في الآن الثاني فهل المرجع هو:

أ. عموم العام، فيكون العقد واجب الوفاء في الآن الثاني و الخيار فورياً؟

ب. أو استصحاب حكم المخصِّص(10) ويكون الخيار غير فوري؟

ومثله خيار العيب إذا تساهل المشتري ولم يفسخ، فهل المرجع عموم وجوب الوفاء بالعقد أو استصحاب حكم المخصص الذي دلّ على جواز الفسخ إذا ظهر العيب؟(11)

فالتحقيق أن يقال: إنّه إن لزم من العمل بحكم المخصِّص عن طريق الاستصحاب، تخصيص زائد وراء التخصيص الأوّل فالمرجع هو عموم العام، وأمّا إذا لم يلزم إلاّ نفس التخصيص الأوّل فالمرجع هو استصحاب حكم المخصص.

توضيح ذلك: أنّ الزمان تارة يكون قيداً للموضوع في ناحية العام، بحيث يكون العقد في الزمان الأوّل موضوعاً وفي الزمان الثاني موضوعاً آخر و هكذا، وهذا ما يطلق عليه بكون الزمان مفرِّداً للموضوع.

وأُخرى يكون الزمان ظرفاً للحكم و مبيّناً لاستمراره، بمعنى أنّ العقد في جميع الآونة موضوع واحد، فلو خرج في الآن الأوّل أو خرج في جميع الآونة لم يلزم إلاّ تخصيص واحد.

ففي الصورة الأُولى يكون المرجع هو عموم العام، لافتراض أنّ الأخذ بحكم المخصص يستلزم تخصيصاً زائداً ، ومن المعلوم أنّ المرجع عند الشكّ في التخصيص هو عموم الدليل الاجتهادي، مثلاً إذا قال المولى: أكرم العلماء، وعلمنا بخروج زيد ثمّ شككنا في خروج عمرو، فكما أنّ المرجع عندئذ هو عموم قوله : أكرم العلماء، لأنّ خروج عمرو تخصيص زائد، فهكذا المقام، فالعقد الغبني في الآن الأوّل موضوع كما انّه في الآن الثاني موضوع ثان، وقد دلّ الدليل على التخصيص الأوّل، وبقي العقد في الآن الثاني تحت العام، فيتمسك به لتقدم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي وهو استصحاب حكم المخصص.

وهذا بخلاف ما إذا كان للفرد في جميع الأزمنة مصداق واحد بحيث لا يلزم من خروجه في الآن الأوّل و الثاني إلاّ تخصيص واحد، ففي مثله يؤخذ باستصحاب حكم المخصص، لأنّه كان متيقناً وشكّ في بقائه، ولا ينقض اليقين بالشك ولا يؤخذ بالعام لخروجه عنه حسب الفرض، فرجوعه تحت العام ثانياً يتوقف على دليل خاصّ.

وزبدة القول: هي أنّه لو كان الزمان في ناحية العام قيداً للموضوع ـ العقد ـ و مفرِّداً له بحيث يلزم من خروجه بعد الآن الأوّل تخصيص ثان وثالث فالمرجع هو عموم العام.

وأمّا إذا كان الزمان في ناحية العام ظرفاً لبيان استمرار الحكم بحيث يكون له في جميع الأزمنة فرد واحد ولا يلزم من خروجه في الآونة المتأخرة تخصيص زائد، فالمرجع هو استصحاب حكم المخصص.

وهذه هي النظرية المعروفة من الشيخ الأعظم (قدَّس سرَّه) ، و هناك نظريات أُخرى تطلب من محالها.

التنبيه السادس: كفاية وجود الأثر بقاءً يكفي في جريان الاستصحاب ترتّب الأثر بقاءً ولا يشترط ترتّب الأثر عليه حدوثاً، وبعبارة أُخرى: يشترط ترتّب الأثر في زمان الشكّ وظرف التعبّد بالبقاء، دون زمان اليقين، إذ يكفي في صحّة التعبّد بالبقاء، وجود أصل الأثر حتى لا يكون التعبّد ببقاء المستصحب أمراً لغواً، ولذلك يصحّ الاستصحاب في المثال التالي:

إذا كان الوالد والولد حيّين فمات الوالد و شككنا في حياة الولد، فتُستصحب حياتُه، ويترتب عليها الأثر الشرعي من إرثه، وبالتالي: تُعزل حصته من التركة، فحياة الولد ذاتُ أثر ـ الوراثة القطعيّة ـ بقاءً وإن لم يكن كذلك حدوثاً، أي في زمان حياة الوالد إلاّعلى وجه التعليق.

التنبيه السابع: قياس الحادث إلى أجزاء الزمان

إذا علم بحادث في زمان معيّن ولم يُعلم وقته فيمكن استصحاب عدم حدوثه إلى زمان العلم به، مثلاً إذا علمنا بحدوث الكرّية وشككنا في حدوثها يوم الخميس أو الجمعة، فتجري أصالة عدم حدوثها إلى نهاية يوم الخميس، فيترتب عليه أثر عدم الكرّية في ذلك اليوم، فلو غسل ثوب بهذا الماء في يوم الخميس يحكم ببقاء النجاسة فيه.

نعم لا يثبت باستصحاب عدم حدوث الكرية إلى يوم الخميس عنوان تأخرها عنه، لأنّه لازم عقلي لا شرعي، ولو كان للتأخر أثر شرعي فلا يثبت بهذا الاستصحاب.

التنبيه الثامن: قياس الحادث بحادث آخر

الكلام هنا حول قياس حادث بحادث آخر، كما إذا علم بحدوث حادثين، ولم يعلم المتقدّم والمتأخر منهما، فهل يجري الأصل أو لا؟

مثلاً لو علم موت الوالد المسلم وعلم أيضاً إسلام وارثه، ولكن شكّ في تقدّم موت المورِّث على إسلام الوارث حتى لا يرثه ـ لأنّ الكافر لا يرث المسلم حتى وإن أسلم بعد موت المورِّث ـ أو تأخر موته عن إسلامه حتى يرثه، فهل يجري الأصل أو لا؟

فنقول: للمسألة صورتان:

الأُولى: أن يكون أحد الحادثين(موت الوالد) معلوم التاريخ والآخر(إسلام الوارث) مجهوله، فيجري الأصل في المجهول دون المعلوم.

امّا أنّه لا يجري الأصل في معلوم التاريخ كموت الوالد المسلم في غرّة رجب فلأجل أنّ حقيقة الاستصحاب هو استمرار حكم المستصحَب ـ عدم الموت ـ إلى الزمان الذي يشكّ في بقائه، وهذا إنّما يتصور فيما إذا جهل تاريخ حدوثه، وأمّا لو فرض العلم بزمان الحدوث وأنّه مات في غرّة رجب فلا معنى لاستصحاب عدمه لعدم الشكّ في زمان الموت.

وبعبارة أُخرى: لابدّ في الاستصحاب من وجود زمان يشكّ في بقاء المستصحَب فيه، وهذا غير متصوّر في معلوم التاريخ، لأنّا نعلم عدم موت الوالد قبل غرّة رجب وموته فيها، فليس هنا زمان خال يُشك في بقاء المستصحب ـ عدم موت الوالد ـ فيه.

وأمّا جريانه في مجهول التاريخ، وهو إسلام الولد، حيث كان كافراً في شهر جمادى الآخرة و مسلماً في غرّة شعبان و مشكوك الإسلام بين الشهرين فيُستصحب بقاؤه أي عدم الإسلام في الظرف المشكوك، ويترتب عليه أثره وهو حرمانه من الإرث لثبوت موضوعه وهو موت الوالد حين كفر الولد.

الثاني: إذا كان كلّ من الحادثين مجهول التاريخ وشكّ في التقدّم والتأخر، فيجري الاستصحاب في كلّ منهما ويسقطان بالتعارض ويرجع إلى دليل اجتهاديّ كعامّ أو اطلاق أو أصل آخر، وإليك بعض الأمثلة:

1. إذا علم موت المورث وفي الوقت نفسه علم إسلام الوارث ولكن شكّ في تقدّم أحدهما على الآخر، فلو كان موت المورث متقدّماً على إسلام الوارث فلا يرث الوارثُ الكافر، بخلاف ما انعكس فيرى الوارث كسائر الورثة، فيقال الأصل عدم إسلام الوارث إلى زمان موت المورث، كما انّ الأصل عدم موت المورث إلى زمان إسلام الوارث، فيجريان ويتساقطان، ولأجل التساقط لا يثبت تقارن الإسلام والموت.

مضافاً إلى انّ التقارن لازم الأصلين فيكون الأصلان بالنسبة إليه مثبتين، فإذا سقط الأصلان يرجع إلى دليل أو أصل آخر.

2. إذا وجد كرّ فيه نجاسة يعلم بعدم حصول الكرية للماء في زمان وعدم وجود النجاسة فيه أيضاً ولكن لا يعلم زمان حدوثهما فيحتمل تقدّم كلّ منها على الآخر وتقارنهما، فيستصحب حينئذ عدم تقدّم كلّ منهما على الآخر فيتعارضان ويتساقطان ولا يثبت بهما التقارن لما عرفت انّ الأصلين بالنسبة إليه مثبتان.

وأمّا ما هو حكم الماء أو الثوب النجس الوارد عليه فيرجع فيهما إلى دليل أو أصل آخر.

وبما انّه ليس هنا ضابطة خاصة لتعيين ذلك الدليل أو الأصل بل لكلّ مورد، حكمه الخاص أعرضا عن التفصيل فيهما.

التنبيه التاسع: تقدّم الاستصحاب على سائر الأُصول

الاستصحاب متقدّم على سائر الأُصول، لأنّ التعبّد ببقاء اليقين السابق وجعله حجّة في الآن اللاحق يوجب ارتفاع موضوعات الأُصول(عدم البيان)، أو حصول غاياتها(العلم بالحرمة)، وإليك البيان:

أ. أنّ موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان، فإذا كان الشيء مستصحَب الحرمة أو الوجوب، فالأمر بالتعبّد بإبقاء اليقين السابق بيان من الشارع، فلا يبقى موضوع للبراءة العقلية.

ب.كما أنّ موضوع البراءة الشرعية هو «مالا يعلمون» والمراد من العلم هو الحجّة الشرعيّة، والاستصحاب كما قرّرناه حجّة شرعيّة على بقاء الوجوب والحرمة في الأزمنة اللاحقة، فيرتفع موضوع البراءة الشرعية.

ج. أنّ موضوع التخيير هو تساوي الطرفين من حيث الاحتمال، والاستصحاب بحكم الشرع هادم لذلك التساوي.

د. أنّ موضوع الاشتغال هو احتمال العقاب في الفعل أو الترك، والاستصحاب بما أنّه حجّة مؤمِّن، فالاستصحاب بالنسبة إلى هذه الأُصول رافع لموضوعها.وإن شئت فسمِّه وارداً عليها.

وربّما يكون الاستصحاب موجباً لحصول غاية الأصل كما هو الحال في أصالتي الطهارة والحليّة، فإنّ الغاية في قوله ـ عليه السَّلام ـ :«كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»، وفي قوله ـ عليه السَّلام ـ : «كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام» وإن كان هو العلم، لكن المراد منه هو الحجّة، و الاستصحاب حجّة، ومع جريانه تحصل الغاية، فلا يبقى للقاعدة مجال.

ولمّا انجرّ الكلام إلى تقدّم الاستصحاب على عامّة الأُصول اقتضى المقام بيان نسبة بعض القواعد إلى الاستصحاب.

_____________

1. كما في الشكّ في المقتضي عند الشيخ الأنصاري، أو في الشبهات الحكمية التي أنكر المحقّق النراقي وتبعه المحقق الخوئي، حجّية الاستصحاب فيها وخصّا الحجّية بالشك في الشبهات الموضوعية.

2. الوسائل:4، الباب 1 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث4.

3. لاحظ تعليقة المحقّق الخراساني على الفرائد،ص195 عند البحث عن مفاد «لا تنقض» فقد ردّ على القائل بالقاعدة ردّاً عنيفاً.

4. الوسائل: 5، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 3، رواه عن علي بن إبراهيم الثقة عن أبيه، الذي هو فوق الثقة، عن حماد بن عيسى عن حريز عن زرارة وكلّهم ثقات.

5. الوسائل: 5، الباب 8 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 2 و سند الصدوق إلى إسحاق بن عمار صحيح في المشيخة.

6. الوسائل: الجزء7، الباب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث13.

7. الوسائل: 2، الباب 74 من أبواب النجاسات ، الحديث 1. رواه الشيخ باسناده عن سعد بن عبد اللّه القمي، عن أحمد بن محمد بن عيسى المتوفّـى نحو 280هـ، عن الحسن بن محبوب المتوفّى عام 224هـ، عن عبد اللّه بن سنان، وسند الشيخ إلى سعد بن عبد اللّه صحيح في التهذيبين، لاحظ آخر الكتاب الذي ذكر فيه أسانيده إلى أصحاب الكتب التي أخذ الأحاديث منها.

8. الوسائل1، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 7. والسند صحيح إلى «بكير» غير أنّ بكيراً لم يوثّق لكن القرائن تشهد على وثاقته.

9. لاحظ صحيحة زارة الأُولى والثانية في الموجز220.

10. المخصص قوله ـ عليه السَّلام ـ : «غبن المسترسل سحت» و قوله: «غبن المؤمن حرام» وقوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «لا ضرر ولا ضرار » لاحظ الوسائل:12، الباب 17 من أبواب الخيار، الحديث 1و2و3.

11. مثل قوله ـ عليه السَّلام ـ : إن شاء رد البيع و أخذ ماله كله... لاحظ الوسائل:12، الباب 14 من أبواب الخيار.




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.