أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-8-2016
2009
التاريخ: 8-8-2016
3096
التاريخ: 25-7-2020
3336
التاريخ: 26-8-2016
1587
|
وفيه ، جهات من البحث :
الجهة الاولى:
في بيان مدلول صيغة الامر فنقول : انهم ذكروا لصيغة الامر معاني متعددة : منها الطلب. ومنها الترجي والتمني كما في قول الشاعر:
الا يا ايها الليل الطويل الا انجلى بصبح وما الاصباح منك بأمثل
ومنها التهديد كقوله سبحانه: { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } [فصلت: 40].
ومنها الانذار ومنه قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} [الزمر: 8] ، { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65].
ومنها التسخير والاهانة والتسوية كقوله سبحانه: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة: 65] ، وقوله تعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 108] ، وقوله عز من قائل: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [الطور: 16]
ومنها غير ذلك من المعاني الاخر كالاستعانة والتكذيب والمشورة والتعجب ونحوها مما هو مذكور في المطولات.
ولكن التحقيق خلافه وأنه لا يكون دلالة للصيغة بنفسها على شيء من المعاني المزبورة ما عدا المعنى الاول وهو الطلب، بل ولا كانت الصيغة مستعملة في شيء منها بوجه اصلا، بل ما هو مدلول الصيغة لا يكون الا معنى وحدانيا وهو الطلب الانشائي أوالنسبة الارسالية كما سنحققه وان استفادة تلك المعاني في الموارد المزبورة انما هي من جهة القرائن الخارجية المقتضية لها لا من جهة ان الصيغة قد استعملت فيها، كما هو واضح.
ولقد اجاد في الكفاية وجاء بما فوق المراد في تحقيق وحدة المعنى وتفرده بل مدخلية لتلك المعاني فيما يستعمل فيه اللفظ، فان تلك على ما أفاده هو (قدس سره) من الدواعي من حيث كون الداعي على الاستعمال تارة هو التهديد واخرى الانذار وثالثة التمني ورابعة التعجيز وخامسة غير ذلك، ومن البداهة ان ذلك غير الاستعمال فيها ولو مجازا، كما هو واضح.
نعم انما الكلام حينئذ في كيفية دلالتها على الطلب وانها هل هي موضوعة للطلب أي الانشائي الايقاعي منه كما عليه الكفاية ؟
أو انها موضوعة للنسبة الارسالية الايقاعية وان دلالتها على الطلب انما هي من جهة الملازمة؟ كما سنبينه ان شاء الله . ولكن الذي يقتضيه التحقيق هو الثاني، ووجهه يظهر مما تقدم في مبحث المشتق من انحلال الوضع في المشتقات بأسرها من المصادر والافعال وأسماء الفاعلين والمفعولين ونحوها إلى وضعين :
وضع المادة ووضع الهيئة ، إذ عليه نقول : بان صيغة اضرب مثلا لما كانت مشتملة على مادة وهيئة خاصة فمادتها تدل حسب الوضع النوعي على نفس الحدث واما هيئتها الخاصة فهي ايضا لا تدل الا على النسبة الارسالية والمحركية بين المبدء والفاعل، لكن لا مفهوم هذه النسبة لأنه معنى اسمي، بل مصداقه وصورة ذلك الربط الخاص الحاصل من تحريك المأمور نحو العمل على طبق الارسال الخارجي، وحينئذ فلا يكون المستعمل فيه في الصيغة الا النسبة الارسالية لا مفهوم الطلب كما عليه الكفاية (قدس سره) وعليه فلابد وان يكون دلالتها على الطلب من جهة الملازمة خاصة الناشئ هذا التلازم من جهة كون المتكلم في مقام الجد بالأرسال، إذ حينئذ ينتقل الذهن من تلك النسبة الارسالية إلى مفهوم الطلب بانتقال تصوري، ففي الحقيقة منشأ هذا التلازم انما هو التلازم الخارجي بين منشئيهما وهما البعث والارسال الخارجي والارادة الخارجية وعدم انفكاك احد الامرين عن الآخر، وحينئذ فحيث ان اللفظ كان وجها للمفهوم وكان المفهوم وجه المنشأ وكان بين المنشأين وهما البعث والارسال الخارجي والارادة الحقيقية ملازمة في مرحلة الخارج فينتقل الذهن عند تصور احد المفهومين من جهة كونه وجها لمنشئه إلى مفهوم الآخر كذلك (يعني من حيث كونه ايضا وجها لمنشئه) بانتقال تصوري ولو لم يكن للمنشأ وجود في الخارج اصلا بل كان المنشأ مما يقطع بعدم وجوده خارجا، نعم في مقام التصديق لابد من احراز كون المتكلم في مقام الجد بالأرسال ولو بالأصل ليحرز به وجود الارادة وتحققها فيصدق عليه الطلب والامر حقيقة.
فعلى ذلك فدلالة الصيغة على الطلب انما هي باعتبار كونه من لوازم ما هو المدلول لا انها من جهة كونه بنفسه هو المدلول للصيغة، وبين الامرين بون بعيد.
نعم جعل الطلب مدلول بنفسه للصيغة يتم على مسلك الكفاية (قدس سره) في المعاني الحرفية من وحدة المعنى والموضوع له في الحروف والاسماء وجعل الفارق بينهما بلحاظ الآلية والاستقلالية، والا فبناء على تغاير المعنى والموضوع له فيهما كما سلكناه بجعل معاني الحروف والهيئات النسب والاضافات الخاصة المتقومة بالطرفين لا محيص من دعوى ان المدلول في الصيغة هو النسبة الارسالية الايقاعية، وعليه فكان دلالتها على الطلب باعتبار كونه من لوازم المدلول كما شرحناه لا من جهة كونه هو المدلول لها كما لا يخفى.
نعم في مقام التصديق كما ذكرناه يحتاج في صدق الامر الحقيقي إلى احراز كون المتكلم في مقام الجد بالأرسال ولو بالأصل : وهو اصالة كون المتكلم في مقام الجد بالأرسال وكون الداعي عليه هو الارادة الحقيقة للفعل دون غيرها من الدواعي، كما هو واضح .
الجهة الثانية : انه بعد الفراغ عن دلالة الصيغة على الطلب إما بدوا أو بالملازمة، فهل هي حقيقة في خصوص الطلب الالزامي؟ أو انها حقيقة في مطلق الجامع بين الالزامي والاستحبابي ؟ أو انها حقيقة في خصوص الطلب الاستحبابي ومجاز في غيره؟
فيه وجوه : اضعفها الاخير .
فيدور الامر حينئذ بين كونها حقيقة في مطلق الطلب أو في خصوص الطلب الالزامي.
وقد استدل على كونها حقيقة في الطلب الوجوبي بما تقدم سابقا في مادة الامر من نحو آيتي الحذر والنبوي المعروف من قوله ( صلى الله عليه وآله ) لو لا ان اشق على امتي لأمرتهم بالسواك ونحو هما.
ولكن الجواب عنها هو الجواب هناك فلا نعيده .
نعم ظهورها في خصوص الوجوب عند اطلاقها لا ينكر ظاهرا حيث لا تأمل لاحد من الاصحاب في حملها على الوجوب عند اطلاقها وحينئذ فبعد ثبوت هذا الظهور للصيغة وتسلمه عندهم لا يهمنا البحث عن منشئه وانه هو الوضع أو قضية الاطلاق بأحد التقريبين المتقدمين أو غيرهما من الغلبة وغيرها، إذ لا يترتب عليه فائدة مهمة بوجه اصلا، وان لم يبعد دعوى استناد الظهور المزبور إلى قضية الاطلاق بما تقدم تقريبه سابقا وذلك من جهة ان دعوى الاستناد إلى قضية الوضع بعيدة جدا خصوصا بعد ما يرى من صحة استعمالها في موارد الاستحباب بلا رعاية عناية تقتضيه .
واما التشبث بأصالة عدم القرينة لا ثبات الوضع في خصوص الوجوب فقد عرفت الجواب عنها بانها انما تكون حجة ومتبعة عند العقلاء في كشف المرادات لا في تعيين الاوضاع، حيث انه لا دليل لفظي على حجيتها حتى يؤخذ بإطلاقها حتى في تعيين الاوضاع.
لكن مع ذلك كله ربما يميل النفس إلى كونها حقيقة في خصوص الوجوب نظرا إلى ما هو المتبادر منها مؤيدا ذلك بأصالة تشابه الازمان المقتضي لكون وضعها لخصوص الطلب الالزامي، فتدبر.
الجهة الثالثة: إذ وردت جملة خبرية في مقام بيان الحكم الشرعي من نحو قوله: تغتسل، وتعيد الصلاة، ويتوضأ، وقوله ( عليه السلام ) : إذا حال الحول اخرج زكاته، ونحو ذلك فلا اشكال في انه ليس المراد منها هو الاخبار عن وقوع الفعل من المكلف كما في غيره من موارد الاخبار، بل وان المراد منها انما هو الطلب والبعث نحو الفعل والعمل، وانما الكلام والاشكال في انها هل كانت مستعملة في الطلب أو الارسال بما هو مفاد الصيغة مجازا؟ أو انه مستعملة في معناها الذي تستعمل فيه في مقام الاخبار وهو النسبة الايقاعية لكنه بداعي افادة ملزومه وهو الطلب والبعث؟
نظير باب الكنايات كما فيقولك : زيد كثير الرماد ، مريدا به افادة ملزومة الذي هو جوده وسخائه، حيث ان استعمالك ذلك كان في معناه الحقيقي لكن الداعي على هذا الاستعمال هو الاعلام بملزومه الذي هو جوده وسخائه ففي المقام أيضا كانت الجملة الخبرية مستعملة في معناها الذي تستعمل في مقام الاخبار ولكن الداعي على الاستعمال المزبور هو إفادة ملزومه الذي هو البعث والطلب، أو لا هذا ولا ذاك؟ بل كان استعمالها في معناها الحقيقي الاخباري وكان الغرض والداعي من الاستعمال ايضا هو الاعلام والاخبار دون الطلب والبعث والارسال كما هو قضية الوجه الثاني، ولكن اعلامه بتحقق الفعل من المكلف انما كان بلحاظ تحقق مقتضيه وعلته وهو الارادة والطلب كما هو الشأن في غير المقام من موارد الاخبار بوجود المقتضي (بالفتح) عند تحقق مقتضيه، ومنها باب اخبار علماء النجوم بمجيء المطرو برودة الهواء أو حرارته فيما بعد حسب ما عندهم من الامارات الخاصة من نحو تقابل الكوكبين وتقارنهما الذي يرونه سببا لتلك الانقلابات.
ففي المقام ايضا نقول : بان المولى لما كان مريدا للفعل من المكلف والمأمور وكان طلبه وارادته للفعل علة لصدوره من المكلف ولو بمعونة حكم عقله بوجوب الاطاعة والامتثال ، فلا جرم فيما يرى طلبه متحققا يرى كانه وجود المقتضي (بالفتح) وهو العمل في الخارج، فمن هذه الجهة يخبر بوقوعه من المكلف بمثل قوله: تعيد الصلاة وتغتسل .
فهذه وجوه ثلاثة : لكن اضعفه اولها من جهة بعد انسلاخها عن معناها الاخباري واستعمالها في الطلب والنسبة الارسالية بل وعدم مساعدته ايضا لما يقتضيه الطبع والوجدان في استعمالاتنا الجمل الاخبارية في مقام الطلب والبعث والارسال، كما هو واضح. وحينئذ فيدور الامر بعد بطلان الوجه الاول بين الوجهين الاخيرين .
وعند ذلك نقول : انه وان كان لكل منهما وجه وجيه ولكن الاوجه هو الوجه الاخير بملاحظة اقر بيته إلى الاعتبار والوجدان وشيوعه ايضا عند العرف والعقلاء من ترتيبهم الآثار على الاشياء التي منها الاخبار بوقوعه بمحض العلم بوجود عللها ومقتضياتها، كما كان من ذلك ايضا اخبار اهل النجوم بتحقق امورات فيما بعد لعلمهم بتحقق عللها ، كما هو واضح ، وعلى هذا البيان ايضا ربما كان دلالتها على الوجوب آكد من الصيغة نظرا إلى اقتضاء الاخبار بوجود الشيء وتحققه وجوبه أيضا، بلحاظ ان الشيء ما لم يجب لم يوجد .
فمن هذه الجهة كان الوجوب هو المناسب مع الاخبار دون الاستحباب فانه لم يكن بتلك المثابة من المناسبة مع الاخبار، وهذا بخلافه في الصيغة فأنها ليست بتلك المثابة من الآكدية في الوجوب من جهة ملائمتها مع الاستحباب ايضا.
نعم ربما يورد على هذا الوجه بعدم مصححية مجرد وجود الارادة وتحققها للأخبار بوجود الفعل من المأمور والمكلف، وذلك بتقريب ان الارادة الواقعية لا تكون مما له الدخل ولو بنحو الاقتضاء لحكم العقل بوجوب الاطاعة والامتثال كي بهذه العناية كانت مصححة للأخبار بوجود العمل والمقتضي وتحققه من المكلف، بل وانما تمام العلة لحكم العقل بوجوب الاطاعة والامتثال انما هو علم المأمور بالإرادة حيث انه بمحض علمه بإرادة المولى يتبعه حكم العقل بالإطاعة ولو لم يكن في الواقع ارادة للمولى اصلا بان فرض تخلف علمه عن الواقع وكونه جهلا مركبا، وبدون علمه بإرادة المولى لا يكاد حكم عقله بالإطاعة بوجه اصلا ولو فرض ان ارادة المولى كانت متحققة في الواقع ونفس الامر.
وعلى هذا فإذا كان تمام العلة لحكم العقل بالإطاعة هو الارادة بوجوده العلمي لا الواقعي يتوجه عليه: بانه حين الاخبار حيثما لا يكون للمكلف علم بالإرادة كما هو المفروض فاين المصحح لأخباره بعد فرض عدم مدخليه للإرادة الواقعية ولو بنحو الاقتضاء في حكم العقل بالإطاعة ؟ هكذا اورد عليه الاستاذ ، ولكن نقول : بان ارادة الفعل من المكلف واقعا لما كانت سببا لأعلام المكلف والمأمور به، وكان الاعلام سبب لحكم عقله بالإطاعة، وحكم عقله بالإطاعة سببا لتحقق العمل منه في الخارج، فقهر بهذه السلسلة الطولية تكون الارادة سببا ومقتضيا لوجود العمل وتحققه، ومعه نقول بانه يكفى هذا المقدار من الدخل في مصححية الاخبار، كما هو واضح. وعلى كل حال ففي المقام وجه رابع لاستفادة الطلب من الجمل الخبرية ولعله اوجه من الوجوه المتقدمة، وهو ان يقال:
بان استفادة الطلب من مثل هذه الجمل الواردة في مقام بيان الحكم الشرعي انما هو من جهة كونه من لوازم قضية الجد بإيقاع النسبة التي هي مدلول الجمل، وذلك ايضا بمقتضى التلازم الثابت بين الايقاع الخارجي والارادة، بتقريب: انه كما ان اخراج المبدء من كمون الفاعل خارجا وايقاع النسبة بينه وبين الفاعل في الخارج ملازم مع ارادة الوجود ولا يمكن انفكاكه عنها كذلك هذه النسبة الايقاعية الذهنية، فإذ كان المتكلم في مقام الجد بهذا الايقاع فقضية جده بذلك تقتضي ملازمته مع ارادة الوجود من المكلف، فعليه فكان ما هو المستعمل فيه في تلك الجمل هو النسبة الايقاعية التي تستعمل فيها في مقام الاخبار الا انه لم يقصد بإيقاع تلك النسبة الايقاعية في مقام استعمال الجملة الحكاية عن الواقع الثابت كما في سائر الجمل الاخبارية، نعم لازمه هو عدم انفكاك قضية الجد بإيقاع النسبة ايضا عن قصد الانشاء بعد عدم قصد الحكاية بها عن واقع ثابت، كما لا يخفى.
ولقد مر منا توضيح هذه الجهة في مبحث الحروف عند الفرق بين الجمل الاخبارية والانشائية فراجع .
الجهة الرابعة : هل اطلاق الصيغة يقتضي التوصلية بمعنى كفاية مجرد وجود الواجب كيفما اتفق في سقوط الغرض الداعي على الامر به ؟ ام يقتضى التعبدية بمعنى عدم كفاية مجرد وجوده في سقوط الغرض الداعي على الامر به الا إذا اتى عن داع قربى؟ وعلى فرض عدم اقتضائه لشيء من الامرين فهل الاصل العملي يقتضي التعبدية بمعنى عدم سقوط الامر به الا بإتيانه عن داع قربى ام لا ؟
فهنا مقامان :
المقام الاول : فيما يقتضيه الاطلاقات والاصول اللفظية، وتوضيح المرام في هذا المقام يقتضي رسم امور :
الاول : فنقول : انه قد ظهر من عنوان البحث معنى الواجب التعبدي والتوصلي وان الواجب التعبدي هو الذي لا يكاد حصول الغرض الداعي على الامر به الا بإتيانه على وجه قربى، والواجب التوصلي بخلافه وهو الذي يحصل الغرض الداعي على الامر به بمجرد وجوده وتحققه كيفما اتفق ولو لا يكون الاتيان به عن داع قربى بل ولو كان حصوله من غير ارادة المكلف واختياره، كما في مثل غسل الثوب من الخبث حيث انه بمحض تحققه يحصل الغرض الداعي على الامر به ويسقط الامر به ايضا ولو كان ذلك بمثل اطارة الريح اياه في الماء.
نعم في مقام ترتب المثوبة ولو في التوصليات لابد من إتيان العمل عن داعي أمره سبحانه، بلحاظ ان المثوبة انما كان ترتبها على عنوان الاطاعة وهذا العنوان مما لا يكاد تحققه الا إذا كان الاتيان بالواجب بداعي أمر المولى، لكن مجرد ذلك لا يقتضي تعبديته، حيث ان المدار في التعبدية والتوصلية على امر آخر قد ذكرناه.
ثم ان ما ذكرناه من التعريف للتعبدي والتوصلي هو اجود التعاريف واحسنها، لا ما قيل في تعريفهما : بان الواجب التعبدي هو مالا يعلم انحصار المصلحة فيه في شيء والتوصلي بخلافه، وذلك لما يرد على هذا التعريف بما يرى كثيرا من التوصليات التي لا يعلم انحصار الغرض والمصلحة فيها في شيء، على ان التعبدي بهذا المعنى غير مجد فيما هو المهم في مثل المقام ، حيث ان المهم والمقصود من التعبدي في المقام هو الذي لا يحصل الغرض الداعي على الامر به ولا يسقط امره الا بإتيانه على وجه قربى، ويقابله التوصلي الذي يحصل الغرض ويسقط الامر بمجرد وجوده كيفما اتفق، كما هو واضح .
الامر الثاني : لا يخفى عليك ان المهم في المقام على ما ستعرف من امكان اخذ القربة قيدا للمأمور به أو عدم امكانه انما هو مجرد اثبات امكان التمسك بالإطلاقات، لا فعلية التمسك به كي يستلزم ذلك تسليم ورود الاطلاقات في مقام البيان فينافي ذلك مع ما ذكرناه سابقا في مسألة الصحيح والاعم من نفى الثمرة بين القولين من جهة عدم صحة التمسك بالإطلاقات نظرا إلى المنع عن ورود تلك المطلقات في مقام البيان بل في مقام اصل تشريع المركب، ففي الحقيقة الجهة المبحوث عنها في المقام من صحة التمسك بالمطلقات انما كانت مبنية بفرض ثبوت ورود المطلقات في مقام البيان( فتدبر) .
الامر الثالث: وهو العمدة في الباب ان عبادية الشيء وما به قوام كون الشيء عبادة عبارة عن كون الشيء من وظائف العبودية ومما يتقرب به إلى المولى، ومرجعه إلى كون الشيء بنحو يظهر العبد والمأمور به خضوعه وعبوديته لمولاه .
وحينئذ نقول : بان مثل هذا المعنى تارة يكون جعليا واخرى ذاتيا، ومن قبيل الاول الامور الموضوعة ابرازا للعبودية ومنها بعض الحركات المجعولة عند العقلاء لان تكون آلات للتعظيم وللخضوع والعبودية كالركوع والسجود وتقبيل اليد والرجل وكرفع القلنسوة من الرأس عند بعض الطوائف ورفع اليد إلى الاذن عند طائفة اخرى والقيام بنحو الاستقامة وتحريك اليد عند طائفة ثالثة، وهكذا غير ذلك من الامور المجعولة عند العرف والعقلاء آلات للتعظيم وللخضوع والعبودية، ومن المعلوم انه يكفي في عبادية مثل هذه الامور وكونها آلات للعبودية مجرد اتيانها بقصد كونها خضوعا وتعظيما، أو قصد عنوان آخر بجعل ذلك العنوان تعظيم وخضوعا، نظير الصلاة مثلا، حيث انه بمجرد اتيانها بقصد الخضوع والتعظيم يعد كونه تعظيما، كما في القيام للغير بقصد التعظيم، أو السجود له بقصد التذلل والخضوع، كم انه يكفي ايضا في مقربية مثل هذه الامور مجرد اتيانها للمولى وتخصيصها له بلام الصلة بجعل خضوعه له دون غيره، من دون احتياج في مقربيتها إلى توجه الامر بها ولا إلى اتيانها بداعي امرها وجعل الله سبحانه غاية عمله، من جهة ان فيها حينئذ اقتضاء المقربية بنفس اتيانها لمولاه من دون اعتبار قصد كونها بداعي امره، كما هو واضح.
نعم يحتاج في مقربية هذه الامور فعلا ان لا يكون مخلا بغرض المولى من جهة اخرى ومبغوضا فعلي للمولى والا فلا يكاد يصلح مثلها للمقربية بوجه اصلا وان لم تخرج بعد ايضا من جهة عباديتها، إذ كان مثل هذه الامور يجتمع حيث عباديتها مع مبغوضيتها عند المولى، ومن ذلك ايضا نقول بإمكان حرمة العبادة ذاتا من غير ان تكون جهة حرمتها ومبغوضيته منافية مع عباديتها وان كانت مانعة عن مقربيتها باعتبار انه لابد في مقربيتها ان لا تكون مبغوضة للمولى.
نعم كما عرفت لا يحتاج جهة مقربيتها إلى توجه الامر بها من المولى، من جهة ان مقربية مثل هذه الاعمال كانت مستندة إلى اقتضاء ذاتها بحيث لولا منع المولى ونهيه عن ايجادها لكانت من جهة كونها خضوعا للمولى مقربة للعبد وان لم يأمر المولى باتيانها، كما هو واضح.
ثم ان في قبال هذه الوظائف الجعلية للعبودية وظائف اخرى ذاتية غير جعلية وهى مطلق ما امر به بداعي امره فان كون مثل هذه الاعمال من وظائف العبودية انما هو ذاتي لا جعلي كما في القسم الاول وكان مقربيتها ايضا ذاتية غير قابلة للمبعدية ولا المبغوضية بوجه اصلا، لانه من المستحيل حينئذ توجه النهي إلى مثل هذا العنوان الذي اخذ في حقيقته تعلق الامر بذاته وحينئذ فلا يمكن انفكاك عباديتها عن جهة مقربيتها .
بخلاف الوظائف الجعلية ، فان انفكاك جهة المقربية عن جهة العبادية فيها بمكان من الامكان، ولذلك قلنا بامكان الالتزام بحرمة العبادة ذاتا كما في صلاة الحائض بلا احتياج إلى ارجاع النهى الوارد فيها إلى حيث التشريع.
ثم انه من الجهات الفارقة بين هاتين الوظيفتين هو انه في الوظائف الجعلية يكفي في مقربيتها مجرد اتيانها لله بلام الصلة، واما في الوظائف الغير الجعلية فلا يكفي هذا المقدار في مقربيتها بل لابد في مقربيتها من اتيانها بداعي أمرها وجعل الله سبحانه غاية عمله الراجع إلى كون عمله راجحا ومحبوبا عند المولى، وحينئذ فكم فرق بين هذين النحوين من القرب ! من حيث كفاية مجرد الاتيان بالعمل بلام الصلة للمولى في أحدهم وعدم كفايته في الآخر ولزوم الاتيان به بداعي امره .
ومن الجهات الفارقة ايضا بينهم انه على الاول يختص بخصوص بعض الاعمال المجعولة آلات للخضوع وللعبودية ولا يجري في جميع الاعمال، بخلافه على الثاني، فانه عليه لا اختصاص له بعمل دون عمل بل يجري في جميع الاعمال التي أمر المولى بها، فكل عمل أو فعل أمر المولى به إذا اتى به بداعي أمره كان مقربا ولو كان من الافعال العادية من نحو الاكل والشرب وغيرها ويحكم العقل ايضا باستحقاق المثوبة عليه كما هو واضح.
ومن الجهات الفارقة بين الخضوعين ايضا تصحيح باب النيابة في العبادات بمثل الخضوعات الجعلية نظرا إلى كونها قابلة للنيابة والتسبيب فانه حينئذ بنفس نسبتها إلى الغير يقع الخضوع لذلك الغير لا له ويكون الغير هو المتقرب بهذا العمل كما هو المشاهد بالوجدان في الخضوعات الجعلية العرفية من تقبيل اليد ونحوه فيما إذا أمر الغير بتقبيل يد زيد عن قبله أو بخضوعه عنه بنحو آخر، فانه لا شبهة حينئذ في انه إذا خضع المأمور لزيد أو قبل يده عن قبل الآمر يقع خضوعه ذلك لذلك الغير الذي امره به لا لنفسه وكان ذلك الغير ايضا هو المتقرب بعمله، بل ربما لا يحتاج إلى الامر ايض فيتقرب بعمل غيره عنه بمحض رضائه بذلك وان لم يكن بتسبيب منه كما لو خضع احد لزيد وقبل يده عن قبل الغير فانه بمحض رضاء ذلك الغير بهذا الخضوع عن قبله يقع ذلك خضوع له لا للفاعل فكان الفاعل بمنزلة الآلة لإيجاد ما هو خضوع الغير من دون استناد لهذ الخضوع إلى شخص الفاعل بوجه اصلا.
وحينئذ نقول: بانه إذا كان ذلك حال الخضوعات العرفية، فليكن كذلك في العبادات ايضا، فكان النائب إذا اتى بما هو آلة الخضوع ولو بجعل الشارع كالصلاة والصوم والحج والزيارة والطواف بالبيت لوجهه سبحانه عن قبل الغير يقع هذه الخضوعات حقيقة لذلك الغير وكان هو المتقرب بعمل النائب لكن مع تسبيبه اياه في ايجاد تلك الخضوعات عن قبله ولا اقل من رضائه بذلك، ففي الحقيقة مقربية هذه الخضوعات للغير منوطة بأمرين :
احدهما خضوع الغير لله سبحانه عن قبله، وثانيهما رضاء ذلك الغير وطيب خاطرة به بحيث لو كان مكرها فيه لما كان العمل عبادة له ولما كان متقربا به، فإذا تحقق الامران المزبوران يقع القرب لا محالة لذلك الغير، وعليه فلا يرد اشكال في باب النيابة في العبادات.
وهذا بخلافه في العبادة بداعي الامر إذ عليه كان امر تصحيح النيابة في العبادات في غاية الاشكال نظرا إلى استحالة صدور مثل هذا المعنى عن النائب، إذ الامر المتعلق بالعبادة على الفرض انما هو متوجه إلى المنوب عنه دون النائب، ومعه كيف يمكن صدورها عن النائب بداعي امرها ؟ وهل يصلح الامر للداعوية بالنسبة إلى غير من يتوجه إليه؟ ، لا يقال : هذا كذلك لو لا دليل التنزيل والا فبملاحظة دليل التنزيل لا اشكال في البين لأنه بتنزيل نفسه منزلة المنوب عنه يتوجه امره إليه من جهة صيرورته هو اياه بهذا لاعتبار، وحينئذ فيأتي بالعبادة بدعوة هذا الامر المتوجه إليه ويكون عمله مقربا للمنوب عنه ، فانه يقال : كلا، وان مجرد التنزيل لا يوجب توجه امره إليه حقيقة وان نزل نفسه منزلته الف مرة بل وانما غايته هو توجه مماثل الامر المتوجه إلى المنوب عنه إليه، وفي مثل ذلك نقول : بان اتيانه بداعي هذا الامر لا محالة لو اثر لكان مؤثرا في مقربية نفس النائب دون المنوب عنه، لأنه في الحقيقة يكون هو المكلف بالعبادة، وفي مثله يستحيل مقربية عمله للمنوب عنه حقيقة، كما هو واضح. وتنقيح المرام بازيد من ذلك موكول إلى محله، والمقصود في المقام انما هو بيان الجهات الفارقة بين نحوي العبادة من الخضوعات الجعلية والخضوعات الغير الجعلية والاشارة إلى امكان تصحيح النيابة في العبادة في الامور المجعولة لان تكون آلات للخضوع دونه في الخضوعات الغير الجعلية وهى العبادة بداعي الامر . ثم هنا شيء، وهو ان العبادات الشرعية يحتاج في كفاية مجرد الاتيان به لله بلام الصلة لا الغاية إلى احراز كونها من قبيل القسم الاول، والا فمع الشك فيه في انها من قبيل القسم الاول الذي فيه اقتضاء المقربية بنفس اتيانها لمولاه من دون قصد كونها بداعي أمره أو من قبيل القسم الثاني الذي قوام عباديته بتعلق الامر بذاته، يشكل جواز الاكتفاء بها باتيانها لمولاه من دون قصد كونها بداعي أمر مولاه، نعم غاية ما هناك حينئذ في احراز كونها من قبيل الاول انما هو التشبث بمثل ادلة النيابة في موارد ثبوت مشروعيتها في ابواب العبادات وذلك بالكشف منها بنحو الان عن كونها من الوظائف المجعولة ولو بجعل الشارع آلات الخضوع والعبودية، فتأمل . ثم ان هنا جهات أخر من القرب ايضا، وهو الاتيان بالعمل بداعي حسنه ورجحانه الذاتي الذي هو ملاك الامر به، فان الظاهر كما سيأتي في مبحث الضد هو كفاية مجرد الاتيان بالعبادة بداعي رجحانها الذاتي ومحبوبيتها في تحقق القرب المعتبر في صحتها بلا احتياج إلى الامر الفعلي به.
وبعد ما عرفت ذلك نقول: انه لا اشكال في جواز اخذ القرب بغير معنى دعوة الأمري المأمور به وهو القرب بمعنى الاتيان بما هو آلة الخضوع لله سبحانه بلام الصلة أو القرب بمعنى الاتيان بالعمل بداعي ملاكه ورجحانه الذاتي، إذ لا بأس بأمر الشارع بالصلاة القربية الناشئ قربها من جهة دعوة الملاك أو الحسن أو من جهة اتيانها لوجهه الاعلى . وانما الكلام والاشكال في امكان اخذ القرب الناشئ عن دعوة الامر في المأمور به بنحو القيدية أو الجزئية. ومن التعرض في جواز اخذ مثل القرب الناشئ عن داعى الامر في المأمور به وعدم جوازه يظهر أيضا حال اخذ الجامع بين هذا القرب والقرب الناشئ عن اتيان العمل لوجهه الاعلى أو القرب الناشئ من دعوة الملاك والمصلحة، من حيث جواز اخذه بنحو الشرطية أو الشطرية في المأمور به وفي متعلق الامر، لأنه إذا لا يجوز اخذ القرب الناشئ من دعوة الامر في المأمور به لا يجوز اخذ جامع القرب الناشئ من دعوة الامر ومن دعوة الرجحان والمصلحة، كما هو واضح . وبعد ذلك نقول: بان التحقيق كما عليه اهله هو عدم جواز اخذ القرب الناشئ من دعوة الامر في المأمور به بنحو الشرطية أو الشطرية وامتناعه. ووجه الامتناع ظاهر، لان القرب الناشئ من دعوة هذا الامر انما هو معلول شخص هذا الامر ومترتب عليه، ولازمه هو كونه في رتبة متأخرة عن الامر، بحيث يصح ان يقال في شخص هذا اللحاظ ويحكم عليه: بانه عقيب الامر ومترتب عليه ترتب المعلول على علته، وحينئذ فمع كونه مرئيا في هذا اللحاظ عقيب الامر وفي رتبة متأخرة عنه فكيف يمكن ان يؤخذ مثله في موضوع هذا الامر في هذا اللحاظ وفي رتبة متقدمة عليه؟ وهل هو الا من المستحيل؟. ولا مجال ايضا لتنظير المقام بمثل معلوم الخمرية أو البولية المأخوذة جهة المعلومية ايضا جزء للموضوع مع معلومية تأخر العلم عن الذات نحو تأخر الحكم عن موضوعه فيقال بانه حيث يجوز ذلك بلا اشكال يجوز ايضا في المقام بلا كلام. وذلك لما هو المعلوم من وضوح الفرق بين البابين، من جهة ان اخذ العلم جزء للموضوع انما هو بلحاظ امر آخر وهو حكم وجوب الاجتناب أو حرمة الارتكاب، واين ذلك والمقام المفروض فيه اخذ الدعوة الناشئة عن قبل الامر في موضوع شخص هذا الامر! فان ذلك هو الذي قلنا بامتناعه واستحالته. واما ما يتوهم من امكان تصحيح ذلك بنحو اخذ الطبيعي في متعلقة القابل للانطباق عليه خارجا من تقريب انه يمكن للمولى ان يتصور مثلا الصلاة المقيدة بطبيعة الدعوة كما انه يمكن له ايضا ان يأمر بما تصوره من الصلاة المقيدة بطبيعة الامر، وحينئذ فإذا أمر بما هو متصورة يتحقق مصداق الامر خارجا فينطبق عليه الطبيعي المزبور لأنه من افراده ومصاديقه، وحينئذ فلا يرد محذور في البين لامن طرف المأمور ولا من طرف الآمر، اما عدم محذور فيه من طرف المأمور فواضح من جهة تمكنه حينئذ بعد الامر من الاتيان بالمأمور بداعي شخص الامر المتعلق به، واما من طرف الآمر فكذلك لما ذكرنا من امكان لحاظه الصلاة المتقيدة بطبيعة القرب والدعوة وامكان الامر ايض بما تصوره من الموضوع المقيد، واما شبهة محذور كون الشيء في رتبتين فيدفعه ايض اختلاف الظرفين والوجودين، فان ما هو معلول الامر ومترتب عليه انما هي الدعوة بحسب الوجود الخارجي وما هو مأخوذ في متعلق الامر وفي رتبة سابقة بنحو الجزئية أو القيدية انما هي الدعوة بوجودها ذهنا ولحاظا، وحينئذ فمع اختلاف الوجودين يرتفع المحذور المزبور ايضا. فمدفوع بما عرفت فان الدعوة الناشئة عن شخص هذا الامر بعد ان كانت مرئية بحقيقتها في هذا اللحاظ في رتبة متأخرة عن شخص هذا الامر المتعلق بالمقيد، فلا جرم يرى كونها في هذا اللحاظ خارجة عن دائرة الطبيعي المزبور المأخوذ في رتبة سابقة عن الامر المزبور، ومع خروجها عن دائرة الطبيعي في هذا اللحاظ يستحيل شمول الطبيعي لهذا المصداق وانطباقه عليه خارجا، إذ ذلك حينئذ بمنزلة ما لو قيد الامر وحدد دائرة الطبيعي بحد خاص غير شامل لمثل هذا الفرد الناشئ عن الامر به، كم في قوله: يجب الصلاة المتقيدة بدعوة طبيعة الامر غير الدعوة الناشئة عن شخص هذا الوجوب، فكما انه بالتحديد المزبور تضيق دائرة الطبيعي بحد لا يعقل شموله لمثل هذا الفرد وانطباقه عليه خارجا كذلك ايضا بتحديد العقل اياه ولو من جهة اقتضاء اختلاف الرتبة المزبورة، فان قضية ذلك ايضا توجب ضيقا قهريا في دائرة الطبيعي المزبور على وجه يستحيل شموله لمثل هذا الفرد وانطباقه عليه خارجا. ولعل عمدة المنشأ لتوهم الجواز في المقام انما هو بلحاظ مقايسة المقام بباب الاغراض والغايات الداعية على الاعمال من حيث كونها متقدمة على الارادة لحاظا وتصورا ومترتبة عليها خارجا، ولكن الغفلة عن وضوح الفرق بين المقامين، فانه في باب الاغراض والغايات انما يكون ترتبه على موضوع الارادة لا على نفسها، كما هو الحال بالنسبة إلى المقدمة وذيها من حيث ترتبه على المقدمة خارجا وترشح الارادة من تعلقها به إلى المقدمة. وهذا بخلاف المقام المفروض فيه ترتب الدعوة ولو بحسب هذا اللحاظ على شخص الامر، وهذا هو الذي قلنا باستحالة اخذ مثله قيدا في موضوع شخص الامر المزبور بلحاظ اقتضاء الامر بالمقيد لان يكون الامر بحقيقته قائما بالمقيد بنحو يكون المقيد بقيده في رتبة سابقة عن الامر المزبور، فانه في مثله يستحيل شمول القيد المزبور ولو بلحاظه بنحو الطبيعي لمثل هذا الفرد الناشي عن قبل الامر المزبور، كما هو واضح . وعلى ذلك نقول: بانه إذا لم يشمل الطبيعي المزبور لمثل هذا الفرد يتوجه عليه محذور عدم قدرة المأمور على الامتثال نظرا إلى انه لا امر آخر في البين كي يتمكن المأمور من الاتيان بالمأمور به بدعوة الامر، واما شخص دعوة هذا الامر المتعلق به فهو على الفرض غير قابل لانطباق الطبيعي المزبور عليه.
وعليه فلا محيص بناء على اخذ الدعوة في المأمور به في تصحيحه من الالتزام بأمرين طوليين: يكون احدهما متعلقا بذات المأمور به والآخر في طول الامر الاول بإتيانه بداعي أمره، والا ففي فرض وحدة الامر يستحيل اخذ دعوة الامر في المأمور به بنحو القيدية أو الجزئية، كما هو واضح. نعم لو اغمض عما ذكرناه من الاشكال لا يرد عليه محذور لزوم داعوية الامر إلى شخص نفسه، كما قيل، بتقريب: ان المأمور به بعد ان كان عبارة عن الذات المتقيدة بدعوة الامر فلا محالة الامر المتعلق بهذا المقيد كما يدعوا إلى ذات المقيد وهى الصلاة مثلا كذلك يدعوا إلى قيد ها الذي هي دعوة شخص نفسه ومعه يلزم داعوية الامر إلى دعوة شخصه وهو كما ترى من المستحيل. إذ نقول: بانه يمكن دفع هذا المحذور من جهة انحلال الامر إلى امرين وتقطيعه في الذهن بقطعة فقطعة: متعلقة احديهما بذات المقيد والاخرى بقيد الدعوة، حيث نقول حينئذ: بان الامر الضمني المتعلق بالدعوة انما يكون داعيا إلى دعوة تلك القطعة الاخرى من الامر الضمنى المتعلق بذات المقيد لا إلى دعوة شخص نفسه حتى يتوجه المحذور المزبور. نعم انما يرد هذا الاشكال بناء على عدم انحلال الامر بالمقيد إلى امرين ضمنيين والا فبناء على انحلاله ذهنا يكون حاله حال الامرين المستقلين، فكما انه لا يرد هذا المحذور في صورة الالتزام بتعدد الامر فامكن تعلق احد الامرين بذات المقيد والآخر بقيد الدعوة الراجع إلى داعويته لإتيان المقيد عن دعوة الامر المتعلق به بلا كلام، كذلك بناء على الانحلال، لان لام انحلال الامر بالمقيد انما هو تعلق أمر ضمني بذات المقيد وتعلق امر ضمني آخر إلى قيد الدعوة كما في صورة استقلال الامرين، فكان الامر المتعلق بالدعوة داعيا إلى ايجاد ذات المقيد عن داعى الامر الضمني المتعلق به، ومعه لا يلزم محذور داعوية الامر إلى دعوة شخصه، كما هو واضح. وحينئذ فإذا لم تكن الدعوة المأخوذة قيدا أو جزء كذات المقيد تعبدية محتاجة إلى قصد الامتثال بل كانت توصلية صرفة فبإتيان ذات الصلاة عن دعوة الامر الضمني المتعلق بها يتحقق المقيد والمأمور به ايضا، فيرتفع به محذور عدم تمكن المكلف من الامتثال ايضا كم ادعى من عدم قدرة المكلف على الاتيان بالذات المقيدة بالدعوة بداعي الامر لان المقدور منه انما هو الاتيان بذات المقيد بداعي امرها إذ نقول: بان مثل هذا المحذور انما يرد إذا كان القيد وهو الدعوة كذات المقيد تعبديا محتاجا في سقوط الامر عنه إلى قصد الامتثال، والا فبناء على كونه توصليا فلا جرم يكفى نحققه كيفما اتفق، وفي مثله نقول: بان الاتيان بالذات المقيدة بالدعوة بمكان من المقدورية للمكلف بلحاظ ان الآتي بذات المقيد بداعي أمرها كان آتيا بالدعوة أيضا نظرا إلى توصليتها وتحققه بنفس الاتيان بذات المقيد بداعي امرها. نعم غاية ما يلزم حينئذ انما هو كون الامر المتعلق بالمقيد ببعض منه تعبديا وببعضه الآخر توصليا ولكن نقول: بانه لا ضير في الالتزام بمثله، فتأمل . وحينئذ فالعمدة في الاشكال عليه هو ما ذكرناه من عدم امكان أخذ دعوة الامر قيدا في موضوع هذا الامر. ثم ان ما ذكرناه من الاشكال جار في الارادة ايضا حرفا بحرف، ففى لب الارادة ايضا لا يمكن اخذ دعوة الارادة في موضوعه بنحو القيدية أو الجزئية، كما هو الحال بالنسبة إلى مرحلة الرجحان والمصلحة ايض حرفا بحرف. ثم لا يخفى عليك انه على ما ذكرنا من عدم امكان اخذ الدعوة قيدا في المأمور به لا يلزم منه تعلق الامر والارادة بنفس ذات العمل مطلقا ولو منفردة عن الدعوة كما توهم بخيال انه إذا لم يكن المأمور به هو المقيد فلا جرم يكون هو الذات المطلقة ولازمه هو سقوط الامر بالإتيان بنفس ذات العمل الا انه في صورة انفرادها عن الدعوة لما كان الغرض بعد على حاله يحدث امر آخر متعلقا بالعمل وهكذا إلى ان يؤتى بداعي امره فيحصل الغرض ويسقط الامر، إذ نقول: بانه بعد فرض عدم قيام الغرض والمصلحة في العبادات بنفس الذات ولو مجردة عن الدعوة، بل قيامه بالذات مع الدعوة، فلا جرم في مثله يستحيل اوسعية دائرة الارادة والامر عن دائرة قيام الغرض والمصلحة، بل في مثله بمقتضي تبعية الارادة لقيام المصلحة يتضيق دائرة الارادة والامر ايضا حسب تضيق دائرة الغرض والمصلحة بنحو لا يكاد تعلقها الا بالذات التوئمة مع الدعوة، وعلى ذلك فموضوع الارادة والامر وان لم يكن مقيدا بالدعوة ولكنه لا يكون مطلقا ايضا بل هو انما يكون عبارة عن حصة من ذات العمل تكون توأما وملازمة مع الدعوة، ومنشأ هذا الضيق كما عرفت انما هو من جهة تضيق دائرة الغرض والمصلحة وعدم سعته للشمول لحال خلو المتعلق عن الدعوة، حيث انه لأجل تضيق دائرة الغرض يقع ضيق ايضا في ناحية الارادة والامر بنحو يقصر عن الشمول لحال خلو الذات عن الدعوة من دون ان يكون ذلك الضيق منشأ لتقيد الموضوع، كما هو واضح. وحينئذ فأذن لا يكون موضوع الامر والارادة مطلقا، فلا جرم بإتيان ذات العمل مجردة عن الدعوة لا يسقط ايضا أمره، إذ سقوطه حينئذ انما هو بإتيان العمل مقرونا بالدعوة فما دام عدم الاتيان به كذلك كان الامر والارادة على حاله، لا انه يسقط هذا الامر ومن جهة بقاء الغرض يحدث امر جديد، كما هو واضح. نعم هنا تقريب آخر لعدم اطلاق دائرة المأمور به، ولكنه يختص بخصوص الامر ولا يتأتى بالنسبة إلى الارادة ومباديها من الرجحان والمحبوبية، وبيان ذلك انما هو بدعوى ان الغرض من الامر المولوي والبعث الذي هو ابراز للإرادة حيثما كان هو داعوية امره ومحركيته للمكلف نحو المطلوب بنحو يكون المحرك له على الاتيان هو دعوة امره دون غيرها من الدواعي فلا جرم بمقتضي تضيق دائرة هذا الغرض يتضيق دائرة معلوله الذي هو الامر ايضا فلا يكون له سعة اطلاق ازيد من دائرة الغرض، ولازمه قصوره عن الشمول للعمل المأتى عن غير دعوة الامر، وحينئذ فمع قصور الامر قهرا يصير موضوعه ايضا عبارة عن الحصة المقرونة بالدعوة، فلا يكون مطلقا ولا مقيدا بالدعوة ايضا. بل ولئن تدبرت ترى كونه كذلك في التوصليات ايضا، حيث انه بالتقريب المزبور نثبت عدم انفكاك الامر فيها ايضا عن الدعوة كما في العبادات ونقول بعدم انطباق عنوان الواجب والمأمور به على العمل المأتى به عن غير دعوة الامر، ولذا لا يستحق المثوبة على الاتيان به عن مثل دعوة الشهوة ونحوها ولا يكاد يصدق عليه عنوان الاطاعة، ومجرد حصول الغرض الاصلي وسقوط الامر بمجرد تحقق العمل في الخارج كيفما اتفق ولو في فرض وجوده باختيار الناشئ عن دعوة شهوته لا يقتضي تعلق امره بوجود المطلق و لذا يسقط الامر ويحصل الغرض ولو في فرض وجوده لا باختيار المكلف، كما هو واضح. نعم مثل هذا التقريب لا يجري بالنسبة إلى لب الارادة وكذا مباديها من الشوق والمحبة، ووجهه ظاهر من جهة ان الارادة وكذا مباديها امر قهري ناشئ عن قيام الغرض والمصلحة في المتعلق، فإذا كان الغرض والصلاح قائما بمطلق وجود العمل ولو فرض وجوده لا باختيار المكلف وباختياره الناشئ عن دعوة شهوته يتبعه الارادة ايضا قهرا كما في الواجبات التوصلية، فان الغرض والصلاح فيها لما كان قائما بمطلق وجود المتعلق كانت الارادة ايضا بتبعه قائمة بمطلق وجوده. وهذا بخلاف الامر فانه لما كان فعلا اختياريا لا يكون تابعا للغرض القائم بالمتعلق كالإرادة ومباديها، بل تبعيته انما كانت للغرض المترتب على نفسه وهو الداعوية والمحركية، ومن هذه الجهة قلنا باستلزامه في مطلق الواجبات حتى التوصليات، لتضيق دائرة المأمور به بالحصة المقرونة مع الداعي ولو لا مقيدا بها، كما عرفت. وحينئذ فتمام الفرق بين العباديات والتوصليات بعد اشتراكهم في كون المأمور به بالامر الفعلي هو الحصة الملازمة لداعوية الامر انما هو بالنسبة إلى مرحلة لب الارادة ومباديها، فان ما هو الوافي بالمصلحة في العبادات لما كان هو الحصة المقرونة مع الداعي لا مطلقا كانت الارادة وكذا مباديها ايضا غير متعدية عن تلك الحصة الوافية لا مطلقها، بخلاف التوصليات فان الوافي بالمصلحة فيها كان مطلق وجود العمل فمن هذه الجهة كانت الارادة وكذا مباديها حسب تبعيتها للمصلحة ايض متعلقة بمطلق وجوده، لكن بالنسبة إلى مقام فعلية الارادة ومرحلة الامر كانت العبادات والتوصليات مشتركين في عدم تعلق الامر الا بالحصة الملازمة لداعوية الامر حسب ما بيناه من ان غرض الآمر من الامر انما هو التوصل بأمره إلى وجود مرامه واقتضاء هذا الغرض قهرا التضيق في دائرة متعلق الامر وتخصيصه بالحصة الناشئة عن قبل داعوية امره لا مطلقا ولو الناشئ عن شهوته، من جهة عدم كون ذلك مقصودا للأمر في مقام امره، فتدبر. فكيف كان فهذا كله بناء على وحدة الامر وشخصيته، ولقد عرفت في مثله لزوم تجريد متعلق الاوامر كلية عن عنوان نشوه عن داعي الامر شخصيا ام طبيعيا، من جهة امتناع اخذ ما هو ناش عن قبل الامر في متعلقه بنحو القيدية أو الجزئية.
واما بناء على تعدد الامر والارادة فلا مانع من أخذ عنوان الدعوة شطرا أو شرطا في المأمور به بأن يكون أحد الامرين متعلقا بذات العمل والامر الآخر في طول الامر الاول بإتيانها بداعي امرها، حيث انه لا يرد عليه حينئذ ما ذكرناه من الاشكال في صورة وحدة الامر، فإذا يرى المولى بان الحصة من الذات الملازمة مع داعى الامر فيه الغرض والمصلحة، يترشح نحوها الارادة قهرا من قبله، ثم بعد ما يرى ان لداعويته ايضا دخلا في الغرض يترشح ارادة اخرى في طول الارادة الاولى نحو هذا الداعي، بل مثل هذا المعنى مما لا محيص عن الالتزام به في فرض البناء على كون الدعوة قيدا حيث انه لا يمكن تصحيحه الا بالتزام بتعدد الارادة في مقام اللب. نعم هنا اشكال آخر بالنسبة إلى مقام الامر من جهة لغوية الامر الثاني، ببيان ان الامر الاول اما ان يسقط بمجرد الاتيان بذات العبادة ولو مع عدم قصد امتثاله كما هو قضية الامر الثاني من فرض توصليته واما ان لا يسقط بمجرد الموافقة والاتيان بذات العبادة بدون قصد امتثاله، وعلى التقديرين لا مجال لا عمال المولوية في الامر الثاني، وذلك اما على الاول فواضح من جهة انه بعد سقوط الامر الاول لا يبقى مجال لموافقة الامر الثاني نظرا إلى عدم امكان الاتيان بالدعوة حينئذ مستقلا لكونها من الكيفيات القائمة بنفس العمل وحينئذ فيلزم من تعلق الامر بها لغوية الامر المزبور، واما على الثاني فكذلك ايض وذلك لان عدم سقوط امره حينئذ ليس الا من جهة عدم حصول غرضه الداعي على الامر به، والا ففي ظرف سقوط غرضه يستحيل بقاء امره وعدم سقوطه.
وحينئذ نقول: بانه إذا كان الوجه في عدم سقوط الامر الاول هو عدم سقوط غرضه فلا جرم في مثله يستقل العقل في مقام حكمه بلزوم تحصيل الفراغ بلزوم الاتيان به عن قصد الامتثال بنحو يحصل معه غرضه، ومع فرض استقلال العقل بذلك في مقام حكمه بالفراغ لا حاجة للمولى إلى وسيلة تعدد الامر في الوصلة إلى تحصيل غرضه بأعمال جهات المولوية في امره، لان الامر المولوي انما يتعلق بشيء لا يكون في البين داع عقلي على تحصيله والا فمع وجود داع عقلي في البين لا يبقى مجال لأعمال المولوية، كما هو واضح.
اقول: ولا يخفى عليك ما في هذا الاشكال، إذ نقول، بانه لوتم هذا الاشكال فإنما هو على مبنى مرجعية قاعدة الاشتغال في نحو هذه القيود عند الشك في اعتبارها، والا فبناء على مبنى البراءة كم هو التحقيق على ما يأتي بيانه ان شاء الله تعالى فلا موقع لهذا الاشكال، وذلك لأنه في فرض استقلال العقل بمرجعية البراءة عند الشك لا محيص للمولى من بيان مدخلية قصد الامتثال في غرضه على فرض دخله فيه واقعا، وبيانه انما هو بأمره به مستقلا لكي لا يذهب المكلف ويستريح في بيته وينام متكلا على حكم عقله بالبراءة وقبح العقاب بلا بيان، والا فمع عدم أمره بذلك لكان قد اخل بما هو مرامه وغرضه، ومن المعلوم بداهة ان كمال المجال حينئذ لأعمال المولوية بأمره، إذ لا نعني من الامر المولوي الا ما كان رافعا لموضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لقلب عدم البيان بالبيان، كما هو الشأن ايضا في الامر الاول المتعلق بذات العبادة، فكما ان الامر الاول امر مولوي ورافع لموضوع حكم العقل بالبراءة بلا كلام، كذلك الامر الثاني المتعلق بقصد الامتثال فهو ايضا امر مولوي قد أعمل فيه جهة المولوية لرفع موضوع حكم العقل ب البراءة.
نعم بناء على مبنى مرجعية الاشتغال عند الشك في اعتبار هذه القيود ربما يتوجه الاشكال المزبور، إذ يمكن أن يقال حينئذ بانه بعد حكم العقل واستقلاله بالاشتغال لا يلزم على المولى بيان دخل قصد الامتثال في تحقق غرضه، من جهة إمكان اتكاله حينئذ على قضية حكم العقل بالاشتغال، ومعه لا يلزم من عدم بيانه اخلال منه بغرضه كي يجب عليه البيان، هذا.
ولكن يمكن دفع الاشكال المزبور على هذا المسلك ايضا إذ نقول حينئذ: بانه على هذا البيان وان لم يجب على المولى الامر المولوي بداعي الامر، من جهة جواز اتكاله على حكم العقل بالاشتغال، الا انه لو أمر به حينئذ لا يلزم منه اللغوية، كيف وان للمولى حينئذ بيان كل ما له الدخل في تحقق غرضه بالأمر به، ويكفى في فائدته ارتفاع موضوع حكم العقل بالاشتغال، من جهة ان حكم العقل بالاشتغال كحكمه ب البراءة انما هو في ظرف الشك بالواقع وبعد بيان المولى ما له المدخلية في تحقق غرضه واقعا يرتفع موضوع حكم عقله بالاشتغال كارتفاع موضوع حكمه بالبراءة .
نعم لو انحصر فائدة الامر المولوي بأحداث الداعي للمكلف نحو المطلوب لامكن دعوى لغوية امره مولويا مع حكم العقل الجزمي بالاحتياط ولكنه ليس كذلك، بل نقول: بان من الفوائد ايضا اعلام المكلف بما له المدخلية في حصول غرضه واقعا لكي يرتفع به موضوع حكم عقله بالاحتياط كما هو واضح.
وحينئذ فعلى كل حال يكون الامر المتعلق بداعي الامر امرا مولويا لا ارشاديا.
نعم انما يتوجه هذا المحذور في مورد علم من الخارج بعبادية المأمور به، فانه في هذا الفرض يصير أمره الثاني لغوا محضا، ولكن الشأن كله في حصول هذا العلم من الخارج خصوصا في الصدر الاول وغفلتهم عن دخل مثل دعوة الامر في عبادية الشيء، فانه في مثله يكون طريق العلم بدخل داعى الامر هو أمر الشارع دون غيره، كما هو واضح، فعلى هذا فلا بأس بدعوى تقيد المأمور به بداعي الامر بالالتزام بأمرين طوليين:
احدهما متعلق بذات العبادة والاخر في طول الامر الاول بإتيانها بداعي الامر المتعلق بها، كما هو واضح.
ثم ان لنا تقريبا آخر لتصحيح امكان تقيد المأمور به بالقرب الناشئ عن دعوة الامر ولو مع وحدة الانشاء والامر، لا مع تعددهما كي يرد عليه اشكال الكفاية اخيرا :
بانه من المقطوع بانه ليس في العبادات الا امر واحد، وبيانه انما هو بدعوى انه في مقام الامر يكون ما هو المنشأ بهذا الانشاء الشخصي في قوله : صل أو يجب الصلاة، عبارة عن طبيعة الوجوب والطلب بنحو قابل للسريان في ضمن فردين من الطلب: أحدهما متعلق بذات العبادة والاخر في طول الامر الاول بعنوان داعى الامر، كما نظيره في مثل قوله ( عليه السلام )(إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة) فان من المعلوم بداهة ان المستعمل فيه في قوله (وجب) ليس هو شخص الوجوب والطلب بل وانما هو عبارة عن طبيعة الوجوب الساري في ضمن فردين من الوجوب متعلقين بموضوعين طوليين: احدهما الوجوب النفسي المتعلق بالصلاة والاخر الوجوب الغيري المقدمي المتعلق بالطهور.
ونظيره ايضا في مسألة حجية الاخبار مع الواسطة، حيث نقول فيها ايضا: بان الاثر الذي هو مأخوذ في موضوع وجوب التصديق انما هو عبارة عن طبيعة الاثر بنحو قابل للسريان في ضمن أفراد متعددة طولية لا انه عبارة عن شخص الاثر، كيف وانه على هذا المعنى يبقى الاشكال المعروف في شمول دليل الحجية للأخبار مع الواسطة على حاله إلى ابد الدهر إذ يقال حينئذ في تقريب ذلك الاشكال: بان شمول الحجية لمثل خبر زرارة الذي ينقل عن محمد بن مسلم عن الصفار عن الامام ( عليه السلام )انما يكون في ظرف يكون مؤداه الذي هو خبر ابن مسلم ذا اثر شرعي، لان معنى حجيته انما هو عبارة عن وجوب ترتيب اثر المؤدى، وصيرورة مؤداه ذا اثر شرعي انما تكون في فرض شمول دليل التعبد لخبر ابن مسلم، والا فمع عدم شمول دليل التعبد بالأثر لخبر ابن مسلم لا يصير مؤدى خبر زرارة ذا اثر شرعي.
وعليه فإذا كان الاثر المفروض عبارة عن نفس وجوب التصديق مثلا وكان ذلك وجوبا واحدا شخصيا يتوجه الاشكال: بانه كيف يمكن شمول دليل وجوب التصديق لمثل خبر زرارة الذي منشأ صيرورته ذا اثر شرعي من قبل شمول هذا الوجوب لخبر ابن مسلم؟ ومن المعلوم حينئذ انه لا يجدي في دفع الاشكال حينئذ مجرد اعتبار الموضوع بنحو القضية الطبيعية، إذ نقول: بانه بعد ما كان مثل هذا الفرد من الموضوع مترتبا على هذا الاثر وفي رتبة متأخرة عنه فقهرا في هذا اللحاظ يرى ضيق في دائرة الطبيعي المزبور بحد موجب لخروج هذا الفرد عنها بنحو يستحيل انطباقه عليه، ومن ذلك تريهم ملجئين في التفصي عن هذا الاشكال بمصيرهم إلى دعوى تنقيح المناط.
وهذا بخلافه على ما ذكرنا من أخذ الاثر عبارة عن طبيعة الاثر وطبيعة الوجوب بنحو السريان في ضمن افراد متعددة، إذ عليه لا محالة ينحل ذلك بحسب تعدد الموضوعات إلى آثار متعددة ووجوبات عديدة متعلقة بموضوعات متعددة طولية بعضها في رتبة متأخرة عن شمول الاثر لموضوع آخر، حيث انه من شمول الاثر لموضوع يتولد موضوع آخر لأثر آخر وهكذا، وعليه يرتفع اصل الاشكال المزبور من رأسه .
وعلى ذلك نقول : بانه بعد ان كان مناط الاشكال في المقام بعينه هو مناط الاشكال في ذلك المقام، فبعين ذلك التقريب ايضا نجيب في المقام ونقول:
بانه بعد امكان تعدد الارادة بحسب اللب ففي مقام الامر ايضا يمكن ان نجعل ما هو المنشأ بالإنشاء طبيعة الطلب والوجوب بنحو قابل للسريان في ضمن فردين من الطلب : متعلق أحدهما بنفس ذات العبادة والآخر في طول الاول بإتيانها بداعي امرها. واما توهم عدم تحمل انشاء واحد شخصي إلا لوجوب واحد شخصي فيدفعه مثل قوله (عليه السلام) : اغتسل للجمعة والجنابة ومس الميت، وقوله (عليه السلام ) : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة، من جهة وضوح ان ما هو المنشأ في قوله وجب الطهور والصلاة ليس هو شخص الوجوب بل هو طبيعة الوجوب بنحو السريان في ضمن فردين : احدهم الوجوب النفسي المتعلق بالصلاة والآخر الوجوب الغيري المتعلق بالطهور .
وحينئذ فبعد ما امكن ان يكون المنشأ هو طبيعة الوجوب بنحو قابل للانحلال إلى وجوبين ، كما في قوله: وجب الطهور والصلاة فلا جرم يترتب عليه ارتفاع المحذور المزبور وصحة تقيد المأمور به بالقرب الناشئ عن دعوة الامر في امر واحد وانشاء فارد. وعليه ايضا يسلم عما اورده المحقق الخراساني (قدس سره) في كفايته من دعوى القطع بانه لا يكون في العبادات الا امر واحد، إذ ذلك انما يرد بناء، على القول بالاحتياج إلى تعدد الامر في الخارج، والا فبناء على ما ذكرنا من التعدد بحسب الانحلال فلا يرد هذا المحذور، إذ ما في الخارج حينئذ لا يكون الا انشاء واحدا وامرا واحدا، فتدبر. وكيف كان فبعد ان ظهر لك امكان اخذ القربة قيدا في المأمور به بالبيان الذي ذكرناه، فلنرجع إلى اصل المسألة من ان ظواهر الاوامر هل تقتضي تعين التعبدية أو التوصلية ام لا تقتضي شيئا منهما وانه على الاخير فمقتضي الاصول العملية أي شيء منهما.
فنقول: بعد البناء على امكان تقيد المأمور به ولو بالقرب الناشئ عن دعوة امره فضلا عن التقيد بمطلق القرب كما تقدم بيانه بما لا مزيد عليه اما بالالتزام بتعدد الامر والطلب خارجا أو بتعدده انحلالا، ففي فرض كون الخطاب مسوفا في مقام البيان لا في مقام الاهمال والاجمال لا مانع من التمسك بأطلاق الخطاب والامر ولو من جهة كشفه عن الارادة لا ثبات توصلية الواجب واستكشاف قيام المصلحة والغرض بذات العمل المجرد عن حيث دعوة الامر.
وحينئذ فإذا ورد خطاب من الشارع تعلق بعنوان مثل عنوان الخمس أو الجماعة في الصلاة وشك في توصليته أو تعبديته فيؤخذ بأطلاق الخطاب في فرض كونه في مقام البيان ويثبت به اطلاق متعلق الارادة وقيام المصلحة بوجوده بقول مطلق ولو مع خلوه عن نشو كونه عن داعى الامر والارادة والا لكان الواجب على المولى اقامة البيان على التقيد.
نعم مثل هذا التقريب لا يجري بالنسبة إلى عنوان المأمور به بما هو كذلك نظرا إلى ما تقدم منا من عدم اطلاق فيه حتى في التوصليات يشمل غير صورة داعوية الامر إذ عليه نقطع بعدم اطلاق دائرة المأمور به حتى في التوصليات وتخصيصه بالذات المقرونة بداعي الامر، كما هو واضح. ومن ذلك نقول ايضا : بان التمسك باطلاق الامر واطلاق الخطاب في الجهة الاولى انما هو باعتبار جهة كشف الخطاب عن الارادة، والا فباعتبار نفسه وجهة عليته لحكم العقل بوجوب الاطاعة والامتثال وانتزاع عناوين الوجوب واللزوم لا يكاد يكون له اطلاق كي يمكن التمسك به، كما هو واضح، ولكن الذي يسهل الخطب هو كفاية اطلاق الامر من الجهة الاولى أي جهة كشفه عن الارادة لا ثبات التوصلية وكشف قيام المصلحة والغرض بمطلق وجود المتعلق لعدم استلزام تضيق دائرة المأمور به وعدم شموله لغير صورة داعوية الامر لتضيق دائرة المراد والمصلحة كما في التوصليات حيث كان دائرة المصلحة ودائرة المصلحة ودائرة المراد فيها اوسع من دائرة المأمور به، وحينئذ فلا باس بالتمسك بأطلاق الخطاب من تلك الجهة لا ثبات التوصلية من دون احتياج إلى قضية الاطلاق المقامي كي يحتاج إلى كلفة اثبات كون القيد من القيود المغفول عنها عند عامة الناس، وان كان ذلك ايضا تاما في نفسه من جهة امكان اثبات كون مثل الدعوة مما يغفل عنها عامة الناس، كما هو الشأن ايضا في مثل قصد الوجه والتميز، إذ مجرد ارتكازية داعوية الامر ومحركيته للإتيان بالمأمور به لا يقتضي ارتكازية دخلها في مقام المصلحة ومرحلة لب الارادة حتى لا يلزم من عدم بيانه اخلال بغرضه كما هو واضح. ثم ان ذلك كله بناء على ما اخترناه من امكان اخذ داعى الامر والارادة قيدا في المأمور به بالالتزام بتعدد لب الارادة، واما بناء على القول بعدم امكانه واستحالته ولو من جهة عدم تصور الطبيعي الساري في الامر لتوهم عدم تكفل الانشاء الشخصي الا لأمر واحد شخصي، فقد يقال حينئذ بعدم اقتضاء اطلاق الخطابات ولو بموادها شيئا لانه فرع امكان التقيد، فمع امتناعه كما هو المفروض لا مجال للتشبث بها لا ثبات التوصلية كما هو واضح.
لكن فيه ان مجرد عدم التمكن من اخذه قيدا في المأمور به لا يمنع عن اطلاقه حتى في فرض تمكنه من الاتيان بأمر مستقل متصل بالكلام، كيف وان للمولى حينئذ بيان مثل هذه القيود التي لها الدخل في تحقق غرضه ومرامه خصوصا على مبني مرجعية البراءة العقلية في مثلها إذ في مثله يجب على المولى لو فرض دخل القرب في تحقق غرضه واقعا بيانه ولو لا بنحو التقيد بل بأمر آخر متصل بالكلام، والا لتحقق الاخلال منه بغرضه.
وحينئذ فإذا لم يكن إشكال في جهة كون الخطابات في مقام البيان لا بأس بالتمسك بإطلاقها لكشف قيام الغرض والمصلحة بمطلق وجود المتعلق ولو لم يكن نشوه عن داع قربي من جهة ما تقدم من تمكن المولى حينئذ من بيان ماله الدخل في غرضه ومرامه حينئذ ولو بأمر آخر بالقيد المزبور متصلا بكلامه.
واما توهم لغوية الامر الثاني حينئذ، فمدفوع بما تقدم بانه كذلك في فرض العلم بعبادية المأمور به من الخارج لا مع الغفلة والشك في عباديته ودخل مثله في تحقق غرضه ومرامه، مع انه لو اغمض عن ذلك يكفينا حينئذ الاطلاقات المقامية بناء على كون مثل تلك القيود من القيود المغفول عنها عند عامة الناس، إذ يستكشف بها ايضا عن عدم دخل داعى القرب في ما هو مرامه وغرضه، نعم العمدة على ذلك حينئذ هو اثبات هذه الجهة وأن هذا القيد من القيود المغفول عنها عند عامه الناس، والا فبعد الفراغ عن اثبات هذه الجهة لا اشكال في اقتضاء اطلاق المقام لعدم دخله في تحقق غرضه ومرامه، فتدبر. هذا كله في المقام الاول.
واما المقام الثاني: فالكلام فيه انما هو فيما اقتضته الاصول العملية من البراءة أو الاحتياط فنقول: اما العقلية منها فقد يقال كما في الكفاية بالاشتغال ولو مع القول ب البراءة في الاقل والاكثر الارتباطيين، نظرا إلى رجوع الشك في المقام إلى الشك في الخروج عن عهدة امتثال الامر المتعلق بذات العمل، فانه بعد احتمال عبادية المأمور به فلا محالة يشك في مدخلية قصد امتثال أمره في حصول الغرض وسقوط الامر المتعلق به ومعه يشك في الخروج عن العهدة بمجرد الاتيان بذات العمل الغير المقرون بقصد امتثال امره، وحينئذ فلا بد بحكم العقل الجزمي باقتضاء الاشتغال اليقيني بالشئ للفراغ اليقيني عنه من الاحتياط وتحصيل الجزم بالفراغ، ولا يكون ذلك الا بإتيان العمل عن قصد امتثال امره، دون البراءة لأنها انما تكون في مورد كان الشك في اصل التكليف لا في سقوطه فارغا عن اصل ثبوته وتنجزه على المكلف، والمقام انما كان من قبيل الثاني حيث كان الشك في سقوط التكليف المتعلق بالعمل والخروج عن عهدة امتثاله باتيانه بدون قصد امتثال امره، وفي مثله كان المرجع هو الاشتغال دون البراءة كما هو واضح.
اقول: ولا يخفى عليك ان هذا الاشكال بعينه هو الاشكال المعروف في الاقل والاكثر الارتباطيين، حيث انه أو رد هذا الاشكال بعينه هناك على القائل بالبراءة وانحلال العلم الاجمالي بتقريب: ان العلم الاجمالي بوجوب الاقل أو الاكثر وان انحل إلى العلم التفصيلي بوجوب الاقل والشك البدوي في الاكثر وكان الاكثر من تلك الجهة تحت البراءة الا ان لازم اليقين بوجوب الاقل بحكم العقل هو الخروج عن عهدته بتحصيل الجزم بالفراغ عنه وتحصيل هذا الجزم بعد احتمال وجوب الاكثر مع فرض ارتباطية الواجب لا يكون الا بالإتيان بالأكثر من جهة انه معه الاقتصار بالأقل حينئذ لا يعلم بالخروج عن عهدته نظرا إلى احتمال وجوب الاكثر في الواقع وحينئذ فلابد من الاحتياط بإتيان الاكثر مقدمة لتحصيل الجزم بالفراغ عن عهدة التكليف الثابت المعلوم تعلقه بالأقل، وعلى ذلك فكان هذا الاشكال مشترك الورود بين المقام وبين تلك المسألة ولا خصيصة له بالمقام حتى يقال باقتضاء الاصل في المقام الاشتغال ولو مع القول بالبراءة في الاقل والاكثر الارتباطيين فلو بنينا حينئذ بان هم العقل بالنسبة إلى ما تم عليه البيان هو الجزم بسقوط التكليف والامر عنه فلابد من الاحتياط في المقامين، كما انه لو بنينا على ان المهم عند العقل هو تحصيل الفراغ عن تبعات الامر المعلوم المحقق من العقوبة على المخالفة كما هو التحقيق فلازمه هو البراءة العقلية في المقامين.
وبعد ذلك نقول : بانه وان كان قد مر منا ما يوضح البراءة في مبحث الاقل والاكثر الا ان الحوالة عليه لما كانت غير خالية عن المحذور، فلا بأس بالتعرض لدفع الاشكال وايضاح جريان البراءة في المقامين بنحو الاجمال والاختصار، فنقول : انه بعد الجزم بعدم كون مجرد التكليف بشيء واقعا وفي نفس الامر مع قطع النظر عن تمامية البيان عليه منشأ لاعتبار اشتغال العهدة بثقل التكليف عند العقل بشهادة موارد الشبهات البدوية الوجوبية والتحريمية، وان تمام المنشأ لاعتبار ثقل التكليف في العهدة الذى هو عبارة عن حكم العقل بالاشتغال انما هو تمامية البيان على التكليف ووصوله إلى المكلف، نقول بانه لا شبهة في ان هم العقل في حكمه بالفراغ في فرض ثبوت الاشتغال بالتكليف انما هو تحصيل الجزم بالخروج عن تبعات التكليف المعلوم من العقوبة على المخالفة، وحينئذ فإذا كان المفروض هو عدم تمامية البيان على التكليف الا بمقدار الاقل نظرا إلى فرض انحلال العلم الاجمالي بوجوب الاقل أو الاكثر بالعلم التفصيلي بوجوب الاقل فلا جرم هذا المقدار من الاشتغال لا يقتضي الا الاتيان بذات الاقل ولو لا في ضمن الاكثر لأنه بإتيانه يحصل الجزم بالخروج عن تبعة ما يترتب على مخالفته من العقوبة، واما عدم اتصاف المأتى به وهو الاقل حينئذ بكونه مأمورا به وعدم سقوط أمره في فرض وجوب الاكثر واقعا نظرا إلى ارتباطية التكليف فهو لا يقتضي ايضا اتيانه في ضمن الاكثر إذ ذلك انما يكون كذلك فيما لو كان قضية عدم سقوط أمره وعدم وقوعه مأمورا به من جهة القصور في المأتي به وهو الاقل، وهو ممنوع جدا، بل نقول بان عدم سقوط امره وعدم اتصافه بكونه مأمورا به انما هو من جهة القصور في نفس الامر والتكليف الضمني المتعلق بالأقل عن الشمول لحال وجوده لا في ضمن الاكثر لا من جهة قصور في طرف الاقل المأتى به، كما هو واضح. وحينئذ فإذا كان الاكثر في نفسه تحت البراءة العقلية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان نقول: بانه لا يقتضي قضية الاشتغال بالأقل ايضا بحكم العقل الا الاتيان بما هو متعلقه فرارا عن تبعات ما يترتب من العقوبة على مخالفتة وبالإتيان بالأقل يحصل الجزم بالخروج عن العهدة من طرف العقوبة على مخالفة الامر المعلوم وان لم يقطع بوقوعه على صفة الوجوب ولا سقوط الامر عنه واقعا من جهة احتمال وجوب الاكثر واقعا، وذلك لما تقدم من ان هم العقل في نحو ذلك انما هو رفع الشك عن جهة وجود ما هو متصف بالوجوب لا رفع الشك عن جهة الاتصاف ايضا، فتدبر.
وعلى ذلك فبعين هذا التقريب نجيب عن الاشكال المزبور في المقام ايضا ونقول بجريان البراءة عن قيد دعوة الامر عند الشك في التعبدية والتوصلية وجواز الاكتفاء في الخروج عن عهدة التكليف بمجرد الاتيان بذات المأمور به ولو منفكا عن قصد دعوة الامر، وحينئذ فلا فرق في جريان البراءة بين مثل المقام وبين الاقل والاكثر الارتباطيين.
بل ولئن تأملت ترى امر جريان البراءة في المقام اوضح من جريانها في الاقل والاكثر، إذ دوران الامر في المقام بعد ان كان بين التكليف الواحد أو التكليفين المستقل المتلازمين ثبوت وسقوطا فمن الاول يقطع تفصيلا بتعلق تكليف مستقل بذات المأمور به وانما الشك في تعلق تكليف وارادة اخرى بعنوان دعوة الامر، فمن هذه الجهة تجرى البراءة بالنسبة إلى التكليف المشكوك من دون علم اجمالي في البين.
وهذا بخلافه في الاقل والاكثر الارتباطيين، إذ فيه لا دوران بين التكليف الواحد أو التكليفين المستقلين ولو متلازمين في مقام الثبوت والسقوط، فمن هذه الجهة لم يعلم باستقلالية التكليف المعلوم المتعلق بالأقل بل يحتمل فيه الضمنية ايضا، وفي مثله ربما كان المجال للخدشة في جريان البراءة عن الاكثر من جهة توهم عدم انحلال العلم الاجمالي، وان كان مثل هذه الدعوى ضعيفة ايضا في نفسها، كما أوضحنا فسادها في محله بما لا مزيد عليه.
وكيف كان فهذا كله حال البراءة العقلية ولقد عرفت جريانها في المقام بلا اشكال فيها.
واما البراءة النقلية كحديث الرفع ونحوه فان بنينا على جريان البراءة عقل فلا اشكال في جريان البراءة النقلية ايضا، واما لو بنينا على الاشتغال والاحتياط عقلا نظرا إلى الشبهة المزبورة من لزوم تحصيل القطع بالامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم ففي جريان البراءة النقلية حينئذ نحو خفاء، ولكن الظاهر هو جريان البراءة النقلية في هذا الفرض ايضا نظرا إلى عدم كون حكم العقل بالاحتياط حينئذ حكما تنجزيا كما في موارد العلم الاجمالي حتى ينافيه الترخيص الشرعي، بل نقول بان حكمه ذلك كان حكما تعليقيا بعدم ورود الرخص الشرعي على خلافه، وحينئذ فبجريان مثل حديث الرفع يرتفع حكمه بالاحتياط، فتأمل.
هذا بناء على ان يكون مفاده رفع مطلق الآثار التي منها المؤاخذة أو خصوص المؤاخذة على الترك، إذ نقول بان رفعها حينئذ انما هو برفع منشئها الذي هو ايجاب الاحتياط في ظرف الشك أو بجعل الترخيص على خلاف ما يقتضيه حكم العقل بالاحتياط، إذ لا مانع عنه بعد فرض تعليقية حكم العقل بذلك، كما هو واضح.
نعم لو قيل بكون مفاده هو رفع خصوص الآثار الشرعية ففيه اشكال ينشأ من عدم كون دخل مثل دعوة الامر في الغرض من الآثار الشرعية المجعولة كالشرطية والجزئية والمانعية حتى يرفع به، فيكون اللازم حينئذ التفصيل بين مثل المقام وبين الاقل والاكثر بدعوى عدم جريانها في المقام وجريانها في تلك المسألة، نعم بناء على ما ذكرنا سابقا من إمكان أخذ دعوة الامر قيدا في المأمور به ولو بالالتزام بتعدد لب الارادة ربما لا يفرق في جريانها بين المقام وبين الاقل والاكثر، فتدبر.
لكن لا يخفى عليك ان الاستاذ لم يتعرض لحال جريان البراءة النقلية في المقام وانما تعرضته لتعرضه دام ظله لها في الدورة السابقة.
قالوا ان التعبدي قد يطلق على ما يعتبر فيه ماشرة المكلف أو صدوره عن ارادته أو اتيانه في مصداق غير محرم ومقابلة التوصلى الذى لا يعتبر فيه شيء من ذلك. وحيث ان المؤلف المقرر لم يعترض لما افاده استاذه المحقق (قدس سرهم) هيهنا وتعرض له العلامة آية الله الآملي دامت بركاته في تقريره لبحث الاستاذ فلذا تأتي بما افاده تتميما للفائدة .
(المصحح) قال هنا ما لفظة : تتميم هل اطلاق الخطاب يقتضى صدور الفعل من المأمور مباشرة أو يقتضى الاعم من المباشرة والتسبيب أو لا يقتضى شيئا من ذلك وايضا هل يقتضى اطلاقه صدور الفعل من اختيار أو لا يقتضى ذلك وايضا هل يقتضى اطلاقه كون الفعل المأمور به غير محرم حين صدوره من الفاعل أو لا يقتضى ذلك وتوضيح جميع ذلك يتم في ثلاثة مواضع الموضع الاول فالتحقيق يقضي ان اطلاق الخطاب يقتضي صدور الفعل من المكلف مباشرة وعليه لا يكفي صدور الفعل بالتسبيب أو الاستنابة به فضلا عن صدوره من غيره بل تسبيب أو استنابة ،وبيان ذلك يتوقف على تمهيد (مقدمة) وهى ان التخيير مطلقا بين فعلين أو افعال لابد ان يكون بلحاظ الجامع بين الفعلين أو الافعال الذي يحصل به غرض المكلف فلا محالة تكون خصوصيات الافعال المخير بينها خارجة عن حيز الارادة ومباديه من المصلحة والحب ونحوهما وعليه يكون كل فعل من الفعلين أو الافعال المخير بينه مخاطبا ومأمورا به حين عدم الآخر لا مقيدا أو مشروطا بعدمه ليلزم الدور ولا مطلق ليلزم كون الوجوب في كل منهما تعيينيا وان شئت فعبر عن الوجوب المزبور بالإرادة الناقصة اعني بها ارادة الفعل في جميع أحوال الامكان إلا في حال الاتيان بالفعل المعادل له.
هذا كله فيما لو كان كل من الفعلين أو الافعال مقدورا للمكلف، واما إذ خرج احدهما عن قدرته وبقى أحدهما مقدورا له أو كان كذلك حين جعل الحكم فالمشهور انه يصير المقدور منهما واجبا تعيينيا لانحصار الخطاب فيه (ولكن التحقيق) يقضي ببقاء ذلك الفعل المقدور على وجوبه التخييري كما كان عليه قبل امتناع عدله فيما لو كان كل منهما مقدورا حين الخطاب أو كما لو كان كل منهما مقدورا حين الخطاب فيما لو كان احدهما ممتنعا حين جعل الحكم وذلك لان الوجوب عبارة عن الارادة التشريعية التي اظهرها الشارع بما يدل عليها للمكلف ولا ريب في أن الارادة تتبع في مقام تعلقه بالمراد المصلحة القائمة فيه ولا شبهة ايضا في ان المصلحة الداعية إلى ايجابه تخييرا حين القدرة على كلا الفعلين لا تتغير عما هي عليه حين امتناع احدهما وإذ كانت لم تتغير عما هي عليه من الخصوصية المقتضية للوجوب التخييري لا يعقل ان يكون مقتضاها حين امتناع احد الفعلين هو الوجوب التعييني إذ هو سنخ آخر من الوجوب لا ينشأ إلا عن مصلحة اخرى تسانخه.
ومما ذكرنا في بيان ملاك الوجوب التخييري يتضح لك السر في بعض الواجبات التوصلية بل التعبدية التي يسقط وجوبها عن المكلف بفعل غيره كتطهير ثوب المكلف بالصلاة والقضاء عن الميت على القول بصحة عمل المتبرع فانه عليه يسقط وجوب القضاء عن الولي كما يسقط وجوب تطهير الثوب عن المكلف بالصلاة وذلك لان ملاك هذا النحو من الوجوب هو حصول الغرض بوجود الفعل في الخارج بلا دخل لخصوصية فاعله فيه غاية الامر ان المورد اقتضى توجيه الخطاب إلى مكلف خاص كما يظهر ذلك من المثالين المزبور وعليه يكون فعل غير المكلف كفعله في تحصيل الغرض الداعي إلى وجوب ذلك الفعل على المكلف به فكما ان ملاك الوجوب التخييري هو حصول الغرض بكل من فعلى المكلف أو أفعاله المقتضي ذلك لتخييره شرعا أو عقلا بينهما كذلك يكون ملاك الوجوب الذي يسقط عن المكلف بفعل غيره توصليا كان ام تعبديا كما اشرنا إليه وبما ان فعل غير المكلف خارج عن قدرة المكلف واختياره لا يصح ان يخاطب به بنحو التخيير بين فعله وفعل غيره ولكن لما كان المكلف يعلم ان هذا التكليف يسقط عنه بفعل غيره يخيره العقل بين ان يفعله هو بنفسه وبين ان يتسبب إلى فعل غيره فان فعله سقط عن المكلف التكليف وإلا بقى مخاطبا به لان الخطاب بمثل هذا الفعل متوجه إلى المكلف في حين عدم فعل غيره اياه كما هو الشأن في الواجب التخييري حيث علمت ان الخطاب بكل من الفعلين أو الافعال متوجه إلى المكلف حين عدم الآخر، ومن هذا البيان ظهر ان خطاب المكلف بالفعل الذي يسقط وجوبه عنه بفعل غيره لا يكون مشروطا بعدم فعل الغير كما توهم بل هو خطاب توجه إليه في حين عدم فعل الغير كما هو شأن الواجب التخييري كما اشرن إليه، كما ظهر ان الخطاب في مثل هذا الواجب لم يتعلق بالجامع بين فعل المكلف وفعل غيره كما يتعلق به في الواجب التخييري وذلك لخروج فعل الغير عن قدرته واختياره، كم ظهر ايضا ان الخطاب لم يتعلق به بنحو التخيير بينه وبين التسبيب، إلى فعل غيره لان الجامع الذي يحصل به الغرض ليس مشتركا بين فعل المكلف وبين التسبيب إلى فعل غيره بل بين فعل المكلف وبين نفس فعل الغير كما لا يخفى وانما العقل يرشد المكلف إلى ما يسقط به التكليف عنه وهو فعل الغير فيتسبب إليه بما يراه سببا لصدور الفعل من الغير ومما ذكرنا اتضح لك ما في كلام بعض الاعاظم (قدس سره) في المقام من الوهن كما هو محرر في تقريراته.
(إذا عرفت هذه المقدمة) تعرف ان اطلاق الخطاب يقتضي كون الوجوب مطلق في جميع الاحوال وازمان الامكان لا انه قضية حينية اي انه ثابت في حين دون حين وحال دون حال ونتيجة ذلك هو عدم سقوط الوجوب عن المكلف وعدم حصول الغرض بفعل غيره (ان قلت) ان مقتضي اطلاق المادة قيام المصلحة والغرض بها وان صدرت من الغير (ولا يتوهم) تقييده بتقيد اطلاق الهيئة بخصوص الصادر من المأمور لخروج فعل الغير عن قدرته (لان ذلك) بسبب حكم العقل الغير الموجب لانقلاب اطلاقها إلا من جهة الحجية لا في أصل الظهور حتى يسرى إلى المادة (قلت) الامر كما ذكر ان فرضنا التمسك بحكم العقل في اختصاص الهيئة ولكن نحن نعتمد على ظاهر توجيه الخطاب والطلب المقتضي لحصرة في فعل المأمور فيمنع عن تمامية اطلاق المادة بحيث يستكشف قيام المصلحة حتى في ما صدر عن الغير لكى يزاحم مع اطلاق الهيأة في مطلوبية فعل المأمور وان صدر من الغير.
هذا مقتضى الاطلاق، ومع عدمه فمقتضى الاصل العملي هي البراءة عن التكليف بالفعل المزبور حين صدوره من الغير ولو قلنا بالاحتياط في مقام دوران الامر بين التعيين والتخيير وذلك لان منشأ القول بالاحتياط في مقام الدوران المزبور هو وجود العلم الاجمالي باشتغال ذمة المكلف اما بوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة مثلا مطلقا أي ولو مع صلاة الجمعة واما بوجوب الجمعة في حال ترك الظهر ونتيجة هذا العلم هو الاحتياط بفعل ما يحصل به اليقين بفراغ الذمة من التكليف المعلوم وهى صلاة الظهر وهذا العلم الاجمالي غير موجود في محل الكلام لأنه يعلم تفصيلا بانه مخاطب بهذا الفعل لخروج فعل غيره عن قدرته واختياره فلا يكون عدلا لفعله في مقام التكليف ليحتمل كونه مكلفا تخييرا بأحد الامرين وبما ان المكلف يعلم انه مخاطب بالفعل المزبور في حال ترك غيره له ويشك بوجوبه عليه في حال اتيان الغير به يصح له الرجوع إلى البراءة في مقام الشك المذكور ولا مجال لجريان اصالة الاشتغال بتوهم ان اشتغال الذمة بالتكليف متيقن وانما يشك بسقوطه بفعل الغير والاصل يقتضي عدم كونه مسقط وذلك لانه يكون هو بنفسه مجرى لأصالة البراءة فيكون هذا الاصل حاكما على اصل عدم كون فعل الغير مسقطا.
(ومن هنا) يظهر لك الجواب عن توهم بعض الاعاظم (قدس سره) في المقام لصحة جريان اصالة الاشتغال في محل الكلام بتقريب ان المكلف يعلم باشتغال ذمته بالتكليف في حال ترك غيره لمتعلق ذلك التكليف وبعد فعل الغير له يشك بسقوط التكليف عنه وحينئذ يصح جريان اصالة الاشتغال أو استصحاب بقاء التكليف بذلك الفعل (وذلك) لما قد بينا ان الشك في المقام يكون في طور التكليف هل هو تام أو ناقص ومعه لا مجال للاستصحاب إذ ما هو مقطوع من الاول هو وجوب الاتيان في ظرف عدم صدور الفعل من غيره واما لزوم الاتيان في ظرف صدوره من الغير فيكون مشكوكا من الاول فلا تتم فيه اركان الاستصحاب وحينئذ يصح ان يرجع فيه إلى البراءة ولا مجال للاشتغال ومن هن يتضح انه لا مجال لتوهم جريان الاستصحاب في القدر الجامع بين الوجوب التام والناقص لحكومة البراءة عليه كما هو الشأن في جميع موارد الشك في الاقل والاكثر. الموضع الثاني في ان اطلاق الخطاب هل يقتضي صدور الفعل عن اختيار اولا يقتضي ذلك وغاية ما يمكن ان يقال هو ان التكليف لما كان مشروطا بالقدرة والاختيار عقلا امتنع الاطلاق في كل من الهيئة والمادة اما الهيئة فلان مفادها على الفرض مشروط بالاختيار عقلا واما المادة فلسراية تقييد الهيئة إليها ومعه لم يبق مجال لتوهم الاطلاق فضل عن صحة التمسك به إلا انه يمكن النظر في ذلك بما اشرنا إليه فيما سبق من انه قد تكون للكلام دلالات وظهورات متعددة فإذا سقط بعضها عن الحجية فلا موجب لسقوط الآخر بل القاعدة تقضي ببقائه على الحجية وما نحن فيه من هذا القبيل فان اطلاق الهيئة ببعض ظهوره وان كان مقيدا عقلا بالاختيار فظهورها في الاطلاق وان سقط عن الحجية للقرينة العقلية إلا ان ظهورها في كون المادة ذات مصلحة ملزمة لا موجب لسقوطه عن الحجية وعليه يكشف اطلاقها عن اطلاق المصلحة القائمة فيها.
(ولكن قد يستشكل) في ذلك بان اطلاق المادة وان كان يقضي بحصول الغرض من الامر وان صدرت من المكلف بلا اختيار ولازم ذلك سقوط التكليف حين صدورها من المكلف بلا اختيار لحصول الغرض الداعي إليه ولكن ذلك ينافي مقتضي اطلاق الهيئة إذ بعد تقييد الهيئة بالقدرة ولو بحكم العقل يكون مفادها لزوم الاتيان بالمادة في حال الاختيار ومقتضي اطلاقها لزوم الاتيان بالمادة في حال الاختيار وان صدرت من المكلف في حال بلا اختيار وعليه يقع التهافت بين اطلاقي الكلام الواحد (ويمكن الجواب) عن ذلك بان الخطاب مع قطع النظر عن تقييده عقلا بحال الاختيار مطلق بالإضافة إلى حالتي الاختيار والاضطرار وبعد تقيده عقل بحال الاختيار يسقط ظهوره في الاطلاق المزبور عن الحجية ولكن لا ينعقد للمقيد ظهور في الاطلاق الاحوالي بالاضافة إلى الاتيان ببعض افراد غير المقيد كما هو الشأن في التقييد بالمنفصل فان التقييد بالمنفصل لا يوجب إلا سقوط ظهور المطلق في الاطلاق عن الحجية ولا ينعقد معه ظهور للمقيد في التقييد بخلاف التقييد بالمتصل فانه ينعقد معه للمقيد ظهور في الاطلاق الاحوالي بالاضافة إلى الاتيان بغير افراده وعدمه وبما ان التقيد بحال الاختيار في المقام انما حصل بدليل منفصل وهو دليل العقل لم ينعقد للمقيد المزبور ظهور في الاطلاق بالإضافة إلى الاتيان بالفرد الاضطراري.
ومن هن يظهر الجواب عن اشكال آخر وهو ان مدلول الهيئة محصور بصورة الاختيار لان الداعي إليه هو البعث واحداث الداعي في نفس المأمور وذلك يختص بصورة صدور الفعل عن اختيار المأمور فيزاحم حينئذ مقتضى اطلاق المادة بل يمنع عن استفادة الاطلاق في ناحية المادة، وملخص الجواب ان اختصاص الهيئة بما ذكر بحكم العقل الذي هو من التقييد المنفصل فلا ينافي ظهور الهيئة في تحقق مبادي الطلب من الارادة والمصلحة مطلقا وان قيدت حجية الهيئة في فعلية الارادة بصورة صدور الفعل عن اختيار وعليه يبقى ظهور المادة في الاطلاق بلا معارض فيصح الاخذ به ويكون دليلا على سقوط التكليف حين الاتيان بالفرد الاضطراري.
وبهذا يتضح لك عدم تمامية ما ذهب إليه بعض الاعاظم في المقام حيث افاد ان التكليف لابد ان يتعلق بالفعل الاختياري فلو كان الفعل غير الاختياري مسقط له لكان التكليف مشروطا بقاء بعدم وجود الفعل غير الاختياري وحيث يشك بكونه مسقط يشك بكون التكليف مطلقا أو مشروطا ومقتضي اصالة الاطلاق هو عدم الاشتراط ومع عدم الاطلاق يكون المرجع استصحاب بقاء التكليف هذا حاصل تحقيقه في محل الكلام ولا يخفى ما فيه، لما عرفت آنفا من ان الخطاب مطلق بالإضافة إلى الفعل الاختياري والاضطراري وتقييده بالدليل المنفصل العقلي لا يوجب الا سقوط ظهوره في الاطلاق عن الحجية ولا ينعقد معه للمقيد المزبور ظهور في الاطلاق الاحوالي بالإضافة إلى الاتيان بالفرد الاضطراري، وعدمه ليجعل دليلا على وجوب الاتيان بالفعل الاختياري بعد الاتيان بالفرد الاضطراري، هذا كله فيما لو كان هناك اطلاق، واما إذا لم يكن في المقام اطلاق فالمرجع عند الشك في بقاء التكليف بعد الاتيان بالفرد الاضطراري هي البراءة لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في الاقل والاكثر الاستقلاليين ولا شبهة في أن المرجع في الشك المزبور هي البراءة ومعه لا مجال للرجوع إلى استصحاب التكليف لحكومة اصالة البراءة عليه.
الموضع الثالث في ان اطلاق الخطاب هل يقتضي كفاية الامتثال بالفرد المحرم أو لا يقتضي ذلك والتحقيق يقتضي بالأول مطلقا سواء كان بين متعلق الامر ومتعلق النهى عموم من وجه أم عموم مطلق وسواء قلنا بجواز الاجتماع ام بامتناعه وذلك لان اطلاق الخطاب يكشف عن وجود المصلحة الملزمة في متعلقة مطلقا ولو كان بعض افراده محرما غاية الامر ان ملاك النهى لغلبته على ملاك الامر يوجب فعلية النهى عن الفرد الذي اجتمعا فيه وتنتفي فعلية الامر وذلك لا يستلزم انتفاء ملاك الامر ومعه يحصل بالفرد المحرم الغرض الداعي إلى اصل الخطاب فيسقط بانتفاء الموضوع لا بالامتثال، وعند عدم الاطلاق يكون المرجع حين الشك البراءة كما تقدم في الموضع الثاني، ومما ذكرنا في هذا الموضوع يظهر لك ما في كلام بعض الاعاظم من النظر وقد اشرنا إليه فيم سبق فراجع.
الجهة الخامسة : لا يخفى عليك ان اطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا، من جهة احتياج غيره من الغيري والتخييري والكفائي إلى مؤنة زائدة غير مناسبة مع قضية الاطلاق، إذ يحتاج الغيري إلى تقيد وجوبه بتقدير دون تقدير وهو تقدير وجوب أمر آخر، والتخييري إلى بيان انه واجب على تقدير عدم الاتيان ببدله فيحتاج إلى بيان لفظ (أو) مثلا بقوله: يجب هذا أو ذاك، والكفائي إلى التقيد بصورة عدم اقدام الغير.
وهذا بخلافه في النفسي التعييني العيني، فانه واجب على كل تقدير، فكان هذه القيود كله يدفعها قضية اطلاق الصيغة.
الجهة السادسة : إذ اورد أمر عقيب الحظر أو توهمه، فهل هو ظاهر في الوجوب؟ كما لو لم يكن في البين حظر ولا توهمه، اولا؟ وعلى الثاني فهل هو ظاهر في الاستحباب؟ أو في الاباحة؟ كما ينسب إلى المشهور، أو انه تابع لما قبل النهى لو علق الامر على زوال علة النهى؟ أو مطلقا ؟ وجوه بل أقوال.
والظاهر ان مورد النزاع ومحل الكلام بينهم انما هو في مورد كان متعلق الامر بعينه هو المتعلق للنهى من حيث العموم والخصوص كما في قوله : لا تكرم النحويين، أو لا تكرم زيدا، وقوله بعد ذلك: اكرم النحويين، أو اكرم زيدا، والا فمع اختلاف متعلق الامر والنهى من جهة العموم والخصوص كان خارجا عن موضوع هذا النزاع نظير قوله : لا تكرم النحويين، وقوله: اكرم الكوفيين منهم، فانه في مثله لابد من التخصيص أو التقييد الكاشف عن عدم تعلق النهى بالخاص من أول الامر، كما يشهد لذلك بناء العرف في نحو ذلك بحمل العام والمطلق فيها على الخاص والمقيد.
وحينئذ فبعد أن اتضح مورد النزاع بينهم، نقول : بانه ان بنينا على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد العقلائي فلا شبهة في ان لازمه هو الحمل على الوجوب ما لم يكن في البين قرينة قطعية على الخلاف، حيث ان مجرد وقوعه عقيب الحظر أو توهمه لا يمنع عن الحمل على الحقيقة، وأما لو بنينا على حجيتها من باب الظهور التصديقي كما هو التحقيق ففي ذلك لا مجال للحمل على الوجوب، لأنه بمحض اقترانه بما تصلح للقرينية ينتفي ظهوره فيما كان ظاهرا فيه، فلا يبقى له ظهور في الوجوب بل ولا في الاستحباب ايضا بحيث لو قام بعد ذلك دليل على الخلاف يحكم بالمعارضة بينهما، ضرورة انه بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب لا مقتضي في تعين ظهوره في غيره من الاستحباب أو الاباحة بالمعنى الاخص بل هو يصير حينئذ مجملا من تلك الجهة غير ظاهر في شيء مما ذكر الا مع قيام القرينة في البين على ارادة الندب أو الاباحة أو على حكم ما قبل النهي ، والا فمع خلو المقام عن القرينة لا يكون فيه ظهور لا في الوجوب ولا في الندب ولا في الاباحة بالمعنى الاخص، نعم يستفاد من هذا الامر عدم الحرج في الفعل واباحته بالمعنى الاعم الذي هو جامع بين الوجوب والندب والاباحة بالمعنى الاخص، ومن ذلك يحتاج في تعيين احدى الخصوصيات إلى ملاحظة خصوصيات الموارد وقيام القرينة على التعيين .
نعم يمكن ان يقال باستفادة الاستحباب في خصوص العبادات نظرا إلى اقتضاء الامر فيها لمحبوبية المتعلق ورجحانه، إذ حينئذ بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب من جهة وقوعه عقيب الحظر أو توهمه يمكن الحكم باستحبابه نظرا إلى قضية ظهوره في محبوبية المتعلق ورجحانه، ففي الحقيقة استفادة الاستحباب حينئذ في العبادات انما هو لمناسبة خصوصية المورد لا من جهة ظهور الامر في الاستحباب بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب، كما هو واضح.
ثم انه مما ذكرنا ظهر لك حال النهي الواقع عقيب الوجوب أو توهمه، حيث نقول فيه ايضا بعدم ظهوره لا في الحرمة ولا في الكراهة.
الجهة السابعة: هل الصيغة تقتضي المرة أو التكرار أو لا تقتضي الا صرف وجود الطبيعي الذي يتحقق بأول وجوده؟
فيه وجوه واقوال : أقويها الاخير كما ستعرف.
وقبل الخوض في المرام ينبغي تعيين المراد من القول بالمرة والتكرار، حيث ان فيها وجوها ثلاثة:
في المرة والتكرار:
الاول: ان يكون المراد من المرة هو الفرد فيقابلها التكرار بمعنى الافراد.
الثاني: ان يكون المراد منها الوجود الواحد وفي قبالها التكرار بمعنى الوجودات، والفرق بينهما هو انه على الاول يكون الفرد بخصوصية الفردية تحت الطلب والامر بخلافه على الثاني فانه عليه يكون مطلوبية الفرد بما أنه وجود للطبيعي فتكون خصوصية الفردية خارجة عن دائرة الطلب، وربما يثمر ذلك في مقام الامتثال عند الاتيان بالفرد بقصد الخصوصية لا بما انه وجود الطبيعي، حيث انه على الاول يقع الامتثال بالخصوصية بخلافه على الثاني، فانه علاوة عن عدم تحقق الامتثال بالخصوصية ربما صدق التشريع المحرم ايضا في قصده الخصوصية نظرا إلى ما هو المفروض من خروج الخصوصية عن دائرة الطلب والامر، كما هو واضح.
الثالث: ان يكون المراد من المرة الدفعة ومن التكرار ما يقابلها وهو الدفعات والفرق بين ذلك والوجهين المتقدمين واضح، إذ على هذا المعنى ربما يتحقق الامتثال بالمتعدد فيما لو اوجد دفعة افرادا متعددة فانه حينئذ يتحقق الامتثال بالمجموع، بخلافه على المرة بمعنى الفرد أو الوجود الواحد فانه عليهما يقع الامتثال بواحد منها. وحينئذ فهذه محتملات ثلاثة في المراد من المرة والتكرار.
ولكن الاحتمال الاول بعيد غايته عن مصب كلماتهم بقرينة النزاع الآتي في تعلق الامر بالطبيعة أو الفرد، فانه لو كان المراد من المرة في المقام هو الفرد لكان اللازم هو ذكرهم ذلك في طي المقام الآتي :
في انه بعد فرض تعلق الامر بالفرد لا بالطبيعة فهل الامر يدل على فرد واحد أو على افراد متعددة؟ لا جعلهم ذلك بحثا مستقلا في قبال البحث الآتي، وحينئذ فنفس تعرضهم لهذا البحث مستقلا في قبال البحث الآتي قرينة قطعية على عدم ارادتهم من المرة في المقام الفرد والافراد، كما هو واضح.
وحينئذ فيدور الامر بين الوجهين الآخرين، وعند ذلك ربما كان المتعين منهما هو الاخير نظر إلى كونه هو المنساق منها في الذهن عند العرف، ومن ذلك لو أتى بالماء مثلا في ظروف متعددة دفعة واحدة لا يقال: بانه أتى بالماء مرات أو أتى به متكررا، بل يقال: انه أتى بالماء مرة واحدة.
هكذا أفاده الاستاذ ، ولكن اقول : بان عدم صدق التكرار والمرات في المثال انما هو باعتبار اضافته إلى الاتيان لا بلحاظ اضافته إلى المأتي به وهو الماء، فحيث ان الاتيان لم يكن الا اتيانا واحدا اضيف إليه المرة فقيل : بانه أتى بالماء مرة واحدة، والا فباعتبار اضافتها إلى نفس المأتى به وهو الماء ربما يصدق عليه التكرار في المثال المزبور، كما هو واضح ، وكيف كان فهل المراد من المرة على كلا المعنيين بمعنى الدفعة أو الوجود هو المرة بنحو بشرط لا عن الزيادة في مرحلة الوجود الخارجي؟ أو المرة بنحو لا بشرط على معنى وقوع الامتثال بواحد من الوجودات وبأول وجود على المرة بمعنى الدفعة وصيرورة الزائد لغوا فيه وجهان: اظهرهما الثاني على ما يستفاد من كلماتهم، فان ظاهر هم انما هو على صيرورة الزائد على المرة (بأي معنى فرضناها ) لغوا محضا، في قبال القائل بالتكرار الذي يقول بتحقق الامتثال بالزائد ايضا لا انه كان مخلا ايض بالامتثال بالنسبة إلى اول وجود، كما هو واضح، هذا بالنسبة إلى القول بالمرة.
واما القول بالتكرار فيحتمل فيه ايضا وجهان، فانه على المعنيين من الوجودات أو الدفعات تارة يراد تكرر الوجود بنحو الارتباط كما في العام المجموعي، واخرى يراد تكرره بنحو الاستقلال والسريان على نحو كان كل فرد ووجود موردا لتكليف مستقل كما نظيره في العام الاستغراقي، والفرق بينهما واضح مثل الفرق بينهما والطبيعة الصرفة، فانه على الثاني يكون كل فرد وكل وجود موردا لتكليف مستقل حسب إنحلال التكليف المتعلق بالطبيعة ويكون لكل واحد منها امتثال مستقل غير مرتبط بامتثال الآخر، بخلافه على الاول فانه عليه وان لو حظ الطبيعي بنحو السريان في ضمن الافراد الا انه بنحو كان المجموع موضوعا وحدانيا في مقام تعلق الطلب والامر، فمن هذه الجهة لا يكاد تحقق الامتثال الا بإتيان الطبيعي خارجا متكررا ولا يكاد يكون لإتيان المجموع الا امتثال واحد ولا على مخالفتها الاعقاب واحد، كما هو واضح.
وبعد ما عرفت ذلك فلنرجع إلى ما كنا بصدده من المختار في المسألة، فنقول: قد عرفت في صدر البحث ان المختار من الوجوه الثلاثة هو الوجه الاخير من عدم دلالة الصيغة الا على صرف الطبيعي المتحقق بأول وجود بلا اقتضائها للمرة أو التكرار بوجه اصلا، كيف وان المادة فيها حسب وضعه النوعي على ما تقدم من انحلال اوضاع المشتقات مادة وهيئة لا تدل الا على صرف الطبيعي، كما هو ذلك ايضا في ساير الصيغ من المصدر وغيره، إذ حينئذ من انتفاء دلالة المادة فيها على المرة أو التكرار يستكشف انتفائها ايضا في الصيغة.
ولعله إلى ذلك ايضا نظر الفصول في انكاره دلالة الصيغة على المرة والتكرار بانتفائها في ناحية المصدر المجرد عن اللام والتنوين بأجماع من علماء الادب، فكان تمام نظره في النقض بمثل المصدر المجرد عن اللام والتنوين إلى تلك المادة المأخوذة فيه التي هي جهة مشتركة سارية فيه وفي سائر الصيغ من الماضي والمضارع وغيرهما، لا ان نظره إلى ان المصدر هو الاصل والمادة لسائر المشتقات كي يتوجه عليه اشكال الكفاية : بان المصدر ليس اصلا ومادة لسائر المشتقات بل يكون صيغة مثلها وفي قبالها، فلا يلزم حينئذ من عدم دلالة المصدر المجرد عليهما عدم دلالة الصيغة ايضا عليهما.
نعم لو قيل بعدم انحلال الوضع في المشتقات إلى وضعين: وضع المادة المشتركة في الجميع وضعا نوعيا ووضع الهيئة في كل واحدة من الصيغ وضعا شخصي وان الوضع في كل واحدة من الصيغ من قبيل الوضع في الجوامد في كون كل واحد منها مادة وهيئة موضوعا لمعنى خاص، لامكن المجال لما في الكفاية من المناقشة بان عدم دلالة المصدر على المرة والتكرار لا يقتضي عدم دلالة الصيغة عليهما، ولكن الكلام حينئذ في اصل هذا المبني فانه خلاف ما عليه المحققون في اوضاع المشتقات، إذ بنائهم فيها على انحلال الوضع فيها إلى وضعين : وضع نوعي للمادة السارية فيها ووضع شخصي لكل واحدة من الهيئات الخاصة، وعلى ذلك فيتجه الاستدلال لعدم دلالة المبدء في الصيغة على المرة والتكرار بانتفائها في طرف المصدر المجرد عن اللام والتنوين، كما هو واضح.
وحينئذ فبعد ما ظهر من عدم دلالة المادة على احد الامرين في الصيغة فلا جرم يبقى الكلام فيها في الهيئة وهى أيضا كما عرفت غير مرة لا تدل الا على طلب ايجاد الطبيعة أو النسبة الارسالية الملازمة لطلب الطبيعة فلا يكون فيها ايضا اقتضاء المرة أو التكرار بوجه اصلا، كما لا يخفى.
واما ما يرى من الاكتفاء بالمرة والفرد الواحد فإنما هو من جهة تحقق صرف الوجود بأول وجوده وتحقق الامتثال بذلك لا من جهة ان الامر يقتضي المرة كما هو واضح. كما أن تحقق الامتثال بإتيان أفراد عرضية دفعة انما هو من جهة انطباق الطبيعي المأمور به على الجميع كانطباقه في الاول على وجود واحد لا من جهة اقتضاء الامر للتكرار كما توهم.
ومن ذلك البيان ربما امكن ارجاع القول بالمرة أيضا إلى القول بالطبيعة الذي هو المشهور نظرا إلى سقوط الامر عن الطبيعة وتحقق الامتثال بإيجاد المأمور به دفعة ولو في ضمن فرد واحد وعدم المقتضى بعد للامتثال بإتيان ثاني الوجود وثالثه، كما هو واضح فتدبر.
بقي الكلام فيما استدل به للقول بالتكرار وهى امور: منها قوله ( صلى الله عليه وآله ) (إذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم) وفيه ما لا يخفى، إذ بعد الغض عما يرد عليه من لزوم تخصيص الاكثر في مثل الصلاة اليومية وصوم شهر رمضان وسائر الواجبات من الصلوات وغيرها، نقول بانه ينافي ذلك ما في ذيل تلك الرواية من الظهور بل الصراحة في عدم لزوم التكرار وهو قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): (ويحك وما يؤمنك أن اقول نعم والله لو قلت نعم لوجب) الخ فان ما هو المستفاد من هذا الذيل انما هو خلاف ما يقوله القائل بالتكرار كما هو واضح.
ومنها استدلالهم بمثل الصوم والصلوات اليومية المتكررة في كل سنة ويوم. وفيه ما لا يخفى حيث ان تكرر الصلاة في كل يوم والصوم في كل سنة انما هو من جهة اقتضاء قضية الشرط لتعدد الوجود عند تكرره حسب اناطة وجوب الصوم بدخول شهر رمضان واناطة وجوب الصلاة بدخول الوقت واين ذلك وإقتضاء الامر للتكرار كما لا يخفى.
ومنها ولعله هو العمدة مقايسة باب الاوامر بباب النواهي التي من المعلوم انها للدوام والاستمرار، بتقريب: انه كما ان قضية اطلاق الهيئة في النواهي هي الدوام والاستمرار بملاحظة اقتضاء اطلاقها لسعة دائرة الطلب وشموله للوجودات العرضية والطولية ومبغوضية الطبيعة بوجودها الساري في جميع الافراد، وتحكيمه على قضية اطلاق المادة فيها في اقتضائه لكون تمام المبغوض هو صرف وجود الطبيعي المتحقق بأول وجود ولو من جهة عليه الهيئة لتحقق المادة خارجا، كذلك في الاوامر ايضا، حيث انه بعين هذا التقريب أي تقريب اطلاق الهيئة وتحكيمه على اطلاق المادة يستكشف في الاوامر ايضا عن ان المطلوب فيها هو الطبيعة بوجودها الساري في ضمن جميع الافراد لا صرف وجوده المتحقق بأول وجودها كما هو واضح، وبذلك يثبت المطلوب الذي هو اقتضاء الامر للتكرار هذا.
ولكن فيه ايضا ما لا يخفى، إذ نقول : بان ما افيد وان تم لا ثبات الدوام والاستمرار في باب النواهي الا انه يمنع عن جريان التقريب المزبور في باب الاوامر من جهة وضوح الفرق بين المقامين، وحاصل الفرق بين المقامين في جريان اطلاق الهيئة وصحة تحكيمه على اطلاق المادة في باب النواهي وعدم جريانها في باب الاوامر هو ان صحة تحكيم اطلاق الهيئة في باب النواهي واستفادة الدوام الاستمرار منه انما هو من جهة عدم ترتب محذور العسر والحرج في الترك على الدوام والاستمرار، بخلافه في الاوامر فانه فيها يلزم من تحكيم قضية اطلاق الهيئة على اطلاق المادة محذور العسر والحرج الشديد، فمن هذه الجهة ربما يمنع مثل هذا المحذور في باب الاوامر عن جريان اطلاق الهيئة فيها والاخذ بها، ومع عدم جريان الاطلاق فيها لا جرم يبقى اطلاق المادة فيها على حاله سليما عن المزاحم، ومقتضاه كما عرفت هو كون تمام المطلوب عبارة عن صرف الطبيعي المتحقق بأول وجوده دون الطبيعة السارية، وعليه فلا مجال للتشبث بمثل هذا البيان ايضا لا ثبات التكرار في الاوامر وان صح ذلك في باب النواهي، كما هو واضح.
ثم انه يبقى الكلام حينئذ في بيان الثمرة بين الاقوال المزبورة فنقول : أما الثمرة بين القول بالطبيعة وبين القول بالمرة بمعنى الفرد أو الوجود الواحد فظاهرة فيما لواتي دفعة واحدة بأفراد متعددة، فانه على القول بالطبيعة يقع الامتثال بالمجموع ويكون المجموع امتثالا واحدا، ولكنه لا بمناط الترجيح بلا مرجح بل بمناط انطباق الطبيعي المأمور به على الجميع باعتبار كونها وجودا لها، وأما على القول بالمرة فلا يقع الامتثال الا بواحد منها لا بعينه، هذا إذا لم يؤخذ الفرد مقيدا بعدم الزيادة، والا فلا يقع الامتثال بواحد منها أصلا، ولكن الذي يسهل الخطب هو عدم ارادة القائل بالمرة مثل هذا المعنى لما تقدم بان المراد منها إنما هو المرة على نحو اللا بشرطية وعليه فيقع الامتثال بواحد منها ويصير الزائد لغوا محضا لا مخلا بأصل الامتثال، هذا إذا اتى المكلف بأفراد متعددة دفعة واحدة.
وأما لو أتى بها دفعات فالثمرة أيضا تظهر من جهة قصد الامتثال بالخصوصية وعدم قصدها فانه على القول بالطبيعة يقع قصده ذلك تشريع محرما بخلافه على المرة بمعنى الفرد فانه حينئذ لابد من قصد الخصوصية ويقع الامتثال به ايضا.
نعم على تفسير المرة بالوجود الواحد من الطبيعة لا ثمرة في هذا الفرض بينها وبين الطبيعة بل تختص الثمرة بينهما بالفرض الاول وهو صورة الاتيان بأفراد متعددة دفعة واحدة.
هذا كله بناء على تفسير المرة بالفرد أو الوجود الواحد، وام بناء على تفسيرها بالدفعة كما استظهرناه فلا ثمرة بينها وبين القول بالطبيعة، ومن ذلك أرجعنا القول بالمرة أيضا إلى القول بالطبيعة هذا كله في الثمرة بين القول بالمرة وبين القول بالطبيعة.
وأما الثمرة بين الطبيعة وبين القول بالتكرار فعلى تفسيره بالأفراد والوجودات فتظهر أيضا في صورة الاتيان بالطبيعة في ضمن فرد واحد فانه على القول بالطبيعة يتحقق الامتثال ويسقط الامر والتكليف من جهة انطباق الطبيعي على المأتى به بخلافه على القول بالتكرار إذ عليه كان التكليف بعد على حاله فيجب الاتيان ثانيا وثالثا وهكذا، بل وتظهر الثمرة ايضا عند الاتيان بأفراد متعددة دفعة، إذ على القول بالطبيعة من جهة انطباق الطبيعي على الجميع يكون المجموع امتثال واحدا دونه على القول بالتكرار فانه عليه يكون تلك امتثالات متعددة كما في صورة ايجاد الطبيعة ثانيا وثالثا ورابعا.
هذا على التكرار بمعنى الوجودات، وأما على التكرار بمعنى الدفعات فتظهر عند الايجاد ثانيا وثالثا حيث انه على التكرار يقع الامتثال بثاني الوجود وثالث الوجود ايضا بخلافه على الطبيعة فانه عليه يكون ثاني الوجود من الامتثال عقيب الامتثال، كما يأتي الكلام فيه في مبحث الاجزاء انشاء الله تعالى.
واما الثمرة بين القول بالمرة وبين القول بالتكرار فواضحة غير محتاجة إلى البيان.
بقي شيء وهو انه على التكرار هل يعتبر تعدد الوجود مطلقا حتى في الامور القابلة للداوم والاستمرار كالقيام والقعود ونحوهما فيجب في تكرر القيام انهدامه ثم قيام آخر كي يتحقق التعدد؟ أو ان اعتبار تعدد الوجود انما هو الامور الآنية غير القابلة للدوام والاستمرار كالضرب مثلا والا ففي الامور القابلة للاستمرار يكفى في تكراره استمرارها بنحو لا يتخلل فصل في البين بان يقصد بها في كل آن امتثال الامر المتعلق بالطبيعة بلا احتياج إلى تخلل فصل في البين؟ فيه وجهان: مقتضي ظاهر العنوان هو الاول من لزوم تكرر الوجود في صدق التكرار وتحققه حتى في مثل القيام والقعود الذي يتصور فيه القرار والاستمرار، لكن مقتضي استدلالهم بباب النواهي هو الثاني وهو عدم اعتبار تكرر الوجود، كما هو ذلك في باب النواهي حيث كان المطلوب فيها هو الدوام والاستمرار. وعليه ربما تظهر الثمرة ايضا بين القول بالتكرار وبين القول بالطبيعة في صورة استمرار القيام من جهة وحدة الامتثال على القول بالطبيعة وتعدده على القول بالتكرار فيما لو قصد كون القيام في كل آن امتثال للأمر به كما هو الشأن ايضا في باب النواهي فيما لو ترك شرب الخمر قاصدا كونه في كل آن امتثالا لقوله : لا تشرب الخمر فيكون هذا القيام الشخصي المستمر حينئذ امتثالات متعددة للأمر بالقيام، وهكذا الامور التدريجية كالحركة والتكلم والقراءة فان حالها حال الامور القابلة للدوام والاستمرار، فبناء على القول بالطبيعة يكون مجموع الحركة والتكلم والقراءة من اوله إلى آخرها وجودا واحد للطبيعة ما لم يتخلل فصل في البين فيحتاج في كونه ثاني الوجود إلى طرو فصل في البين بان يتحرك ثم يسكن ثم يتحرك، وهكذا في التكلم والقراءة فما دام كان مشغولا بالتكلم والقراءة كان ذلك يعد وجودا واحدا للقراءة ولا يتحقق ثاني الوجود الا بتخلل سكون في البين بنحو يعد الكلام الثاني وجودا آخر.
واما على التكرار على النحو المزبور يتحقق التكرار وتعدد الامتثال بقصده القراءة في كل آن امتثالا للأمر بها.
نعم لو كان الامر متعلقا لا بعنوان القراءة بقول مطلق بل بعنوان قرائه الحمد مثلا ففي ذلك يكون تحقق الطبيعة بمجرد الفراغ عن الحمد ولو لم يقطع قرائته بل اتصل قرائته بقرائه حمد آخر وحينئذ فيكون الحمد الثاني الذي اشتغل به بدون تخلل فصل وسكون من ثاني الوجود للطبيعة ويكون من باب الامتثال عقيب الامتثال كما هو واضح.
في الفور والتراخي:
الجهة الثامنة: هل الصيغة تقتضي الفور أو التراخي أو لا تقتضي شيئا منهما الا طلب ايجاد الطبيعة الجامعة بين الفور والتراخي؟ فيه وجوه واقوال:
أقويها الاخير، نظر إلى عدم اقتضاء وضع المادة وكذا الهيئة لشيء من ذلك، اما المادة فلما عرفت من عدم دلالتها الا على صرف الطبيعي، واما الهيئة فلعدم دلالتها ايضا الا على طلب الطبيعة المجامع مع الفور والتراخي، بل ومع الشك ايضا ربما كان قضية اطلاق المادة هو سقوط الغرض وتحقق الامتثال بالاستعجال الملازم لزمان الحال والتأخير الملازم لزمان الاستقبال بل كان امر التمسك بقضية اطلاق المادة في المقام اهون من المقام السابق نظرا إلى سلامته عن المزاحمة مع اطلاق الهيئة كما هناك وذلك لعدم اقتضاء لأطلاق الهيئة للاستعجال والفورية في المقام كي يقع بينهما المزاحمة كما هو واضح، وحينئذ فمقتضي اطلاق المادة هو تحقق الامتثال بإتيان الطبيعة وايجادها بنحو الاستعجال أو التراخي.
نعم لو اغمض عما ذكرنا لا يتوجه على القول بالفور بعدم مأخوذية الزمان في المشتقات، وذلك من جهة وضوح ان نظر القائل بمطلوبية الفور انما هو إلى مجرد الاستعجال والمسارعة في ايجاد المأمور به المنطبق في الزمانيات على أول الازمنة بعد الامر بلا مدخلية للزمان فيه بنحو القيدية أصلا، كما ان نظر القائل بالتراخي انما هو إلى ما يقابل ذلك، ومعه لا يتوجه عليه الاشكال المزبور كما هو واضح. وكيف كان فاستدل للفور بأمور:
منها: ما قيل في وجه ابطال الواجب المعلق من استحالة انفكاك الارادة عن المراد وذلك بتقريب: ان الارادة التشريعية انما هي كالإرادة التكوينية بلا فرق بينهما الا من جهة الاقتضاء والعلية حيث كانت الارادة التكوينية علة لتحقق المراد في الخارج وكانت الارادة التشريعية مقتضية له، وحينئذ فكما ان الارادة التكوينية لا يمكن تخلفها عن المراد في الخارج ولو آنا ما كذلك الارادة التشريعية حيث ان مقتضاها ايضا لزوم اتصال حركة العبد بأمر المولى وطلبه من جهة ان حركة العبد في الارادات التشريعية بمنزلة حركة المريد في الارادة التكوينية ولا نعني من الفور الا قضية اتصال حركة المأمور نحو المأمور به متصلا بطلب الآمر.
وفيه ان قضية الامر بشيء ليست الا البعث نحوه بالإيجاد فإذا كان المتعلق هو الطبيعي الجامع بين الفرد الحالي والفرد الاستقبالي فلا جرم لا يتقضى الامر به ايضا الا ايجاد تلك الطبيعة بما انها جامعة بين الفرد الحالي والاستقبالي، وما ذكر من امتناع تخلف الارادة ولو التشريعية عن المراد متصل بها كلام شعري وسيأتي بطلانه ايضا في مبحث المعلق والمشروط بما لا مزيد عليه ان شاء الله تعالى.
ومنها : قوله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] بتقريب الدلالة فيه على وجوب الاستباق والمسارعة نحو المأمور به بالإيجاد على ما هو قضية ظهور الامر في الوجوب.
وفيه ايضا انه بعد الغض عما يرد عليه من لزوم تخصيص الاكثر لخروج المندوبات طرا وخروج كثير من الواجبات ايضا كالصلاة اليومية ونحوها، نقول: بانه انما يتم ذلك لو لا قضية الارتكاز العقلي بحسن المسارعة والاستباق إلى ايجاد المأمور به والا فمع هذا الارتكاز لا جرم يكون الامر بالمسارعة ارشادا محضا ومعه لا مجال لجعله دليل على وجوب الفور والمسارعة، كما لا يخفى .
بقى الكلام في انه على هذا القول من وجوب المبادرة والاستعجال، هل الواجب هو الاتيان بالمأمور به فورا ففورا بحيث لو لم يأت المكلف بالمأمور به في الآن الاول بعد الامر يجب عليه الاتيان به في الآن الثاني ولا يجوز التراخي؟ ام لا بل يجوز له التراخي في الآن الثاني كما لو لم يجب عليه الفور في الآن الاول؟ أو ان قضية ذلك هو سقوط التكليف عن المأمور به في الآن الثاني رأسا عند الاخلال بالفور في الآن الاول ولو من جهة كونه من قبيل وحدة المطلوب؟ فيه وجوه: أظهرها أولها، كما هو قضية استدلالهم بآية المسارعة والاستباق حيث ان من المعلوم ان الآية انما هو في مقام بيان المسارعة إلى الخيرات فورا ففورا، بل ذلك ايضا مما تقتضيه قضية استدلالهم بذلك البرهان العقلي المزبور إذ مقتضاه ايضا هو لزوم الاتيان بالمأمور به فورا ففورا، كما هو واضح.
وأما الاحتمال الاخير وهو احتمال سقوط التكليف في ثانى الحال عن المأمور به لو لم يأت المكلف به في الآن الاول فهو أبعد الوجوه ولا يساعد عليه استدلالهم بل ولا كلماتهم ايضا، إذ لا يستفاد من كلماتهم تقيد المأمور به بالفور والاستعجال كي يلزمه سقوط التكليف في ثاني الحال، وحينئذ فيكون هذا الاحتمال مما يقطع بعدم ارادته القائل بالفور، ومعه يدور الامر بين الوجهين الاولين وعند ذلك قد عرفت تعين الوجه الاول منهما دون الثاني، كما هو واضح .
وأما القول بالتراخي فاستدل عليه ايضا بتحقق الامتثال مع التراخي الملازم لزمان الاستقبال. ولكنه كما ترى بانه لا يقتضي مجرد ذلك كون الصيغة والامر للتراخي ، وذلك لإمكان ان يكون ذلك من جهة ان المأمور به هو الطبيعة الجامعة بين الفرد الحالي والفرد الاستقبالي، ولذلك ايضا ترى تحقق الامتثال بإتيانه في الآن الاول بعد الامر والطلب، نعم لو فرض عدم تحقق الامتثال الا بإيجاد المأمور به في الآن الثاني والثالث كان للاستدلال المزبور كمال مجال، ولكنه لا يكون كذلك قطعا بل ولا يدعيه ايضا القائل بالتراخي، لان اقصى ما يدعيه انما هو جواز التراخي وعدم وجوب الفور فيقابل القائل بالفور، واما وجوبه فلا.
وأما ما يظهر من السيد (قدس سره) في استدلاله بان الصيغة قد استعملت تارة في الفور واخرى في التراخي والاصل في الاستعمال الحقيقة، فإنما هو على حسب ما هو ديدنه من ارجاع المشتركات المعنوية إلى الاشتراك اللفظي بالأصل الذي كان عنده من كون الاستعمال علامة الحقيقة وان كان قد شاع الجواب عنه ايضا باعمية الاستعمال من الحقيقة، مع ان كلامه (قدس سره) انما هو في بيان رد القائل بالفور بانه كما استعمل الصيغة في الفور استعملت ايضا في التراخي فلا تكون الصيغة حينئذ لخصوص الفور. وعليه فلا ثمرة بين القول بالطبيعة وبين القول بالتراخي، إذ بعد عدم التزامهم بوجوب التراخي ينطبق هذا القول على القول بالطبيعة بل هو بعينه، ومن ذلك ايضا يمكن المنع عن تثليث الاقوال في هذه المسألة وانه لا يكون فيها الا قولان : قول بالفور وقول بالطبيعة فتدبر هذا ، ولكن اقول : بان ما ذكرنا من عدم وجوب الفور انما هو بالنسبة إلى دلالة الصيغة والا فقد يجب الفور مع قيام القرينة عليه، ومن ذلك ما لو قام قرينة قطعية على عدم تمكنه من الاتيان بالواجب في ثاني الحال وثالثه ان لم يأت به في الآن الاول بعد الامر فانه حينئذ يجب بحكم العقل المبادرة إلى الاتيان بالواجب في الآن الاول بحيث لو لم يأت به ففات منه الواجب لعدم تمكنه منه فيما بعد يستحق عليه العقوبة، بل ولعل الامر كذلك مع الظن بالفوت إذا كان اطمينانيا، كما في الازمنة التي كثر فيها الامراض من نحو الطاعون والوباء ونحوهما اعاذنا الله منها ان شاء الله تعالى، فانه في نحو ذلك أيضا ربما كان يحكم العقل ايضا بوجوب المبادرة والاستعجال بإتيان الواجب في اول وقته واول ازمنة تمكنه منه.
واما مع الظن غير الاطميناني أو الشك فالظاهر هو جواز التأخير للاستصحاب فتدبر.
هذا كله فيما يتعلق بمسألة الفور والتراخي، ولكن الاستاذ دام ظله لم يتعرض لهذا الفرع الاخير فافهم.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|