أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-04-2015
2755
التاريخ: 25-04-2015
1995
التاريخ: 22-12-2014
2502
التاريخ: 24-04-2015
2143
|
بالرّغم من أنّ القرآن الكريم تميّز بأُسلوبٍ فريدٍ في اللُّغة العربية ، وصل به إلى مستوى الإعجاز ولكنّه جاء أيضاً وفقاً للنظام العام للُّغة العربية ، وتطبيقاً لقواعدها ومناهجها في التعبير ، ومتّفقاً مع الذوق العربي العام في فنون الحديث ، وعلى هذا الأساس كان يحظى بفهمٍ إجماليٍّ من معاصري الوحي ـ على وجه العموم ـ ولأجل ذلك كان البيان القرآني يأخذ بأَلبابِ المشركين ، ويفتح قلوبهم للنور ، وكثيراً ما اتّفق للشخص أن يستجيب للدعوة ، ويشرح الله صدره للإسلام بمجرّد أن يسمع عدّة آياتٍ من القرآن ، فلولا وجود فهمٍ إجماليٍّ عامٍّ للقرآن ، لم يكن بالإمكان أن يحقّق القرآن هذا التأثير العظيم السريع في نفوس الأفراد ، الذين عاشوا البيئة الجاهلية وظلامها.
ولكنّ هذا لا يعني أنّ معاصري الوحي ، وقتئذٍ كانوا يفهمون القرآن كلَّه فهماً كاملاً شاملاً من ناحية المفردات والتراكيب ، بنحوٍ يُتيح لهم أن يحدّدوا المدلول اللّفظي لسائر الكلمات والجُمَل والمقاطع التي اشتمل عليها القرآن الكريم ، كما زعم ابن خلدون حيث قال في مقدّمته :
(إنّ القرآن نزل بلغة العرب ، وعلى أساليب بلاغتهم ، فكانوا كلّهم يفهمونه ويعلمون معانيه ، في مفرداته وتراكيبه).
فإنّ نزول القرآن بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم لا يكفي وحده دليلاً على أنّهم كانوا ـ على وجه العموم ـ يفهمونه ، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه ، ويُدركون كلَّ ما يدلّ عليه اللّفظ القرآني من أحكام ومفاهيم؛ لأنّ كون الشخص من أبناء لغةٍ معيّنةٍ لا يعني اطّلاعه عليها اطّلاعاً شاملاً ، واستيعابه لمفرداتها وأساليبها في التعبير ، وفنونها في القول ، وإنّما يعني فهمه للّغة بالقدْر الذي يدخل في حياته الاعتيادية.
ومن ناحيةٍ أُخرى : لا يتوقّف فهم الكلام واستيعابه على المعلومات اللُّغوية فحسب ، بل يتوقّف إضافةً إلى ذلك على استعدادٍ فكريٍّ خاص ، ومرانٍ عقليٍّ يتناسب مع مستوى الكلام ، ونوع المعاني التي سيق لبيانها ، وإذا كان العرب ـ وقتئذٍ ـ يعيشون حياةً جاهليةً من القاعدة إلى القمّة ، ويعبّرون عن تراثٍ جاهليٍّ سيطر على مختلف شؤون حياتهم قروناً عديدةً فمن الطبيعي أن لا يتيّسر لهم حين الدخول في الإسلام ـ بصورةٍ تلقائيّة ـ الارتفاع ذهنيّاً وروحيّاً إلى المستوى الذي يُتيح لهم استيعاب مدلولات اللّفظ القرآني ، ومعاني الكتاب الكريم الذي جاء لهدم الحياة الجاهلية ويقوّض أُسسها ، ويبني الإنسان من جديد.
ومن ناحيةٍ ثالثة : نحن نعرف أنّ عملية فهم القرآن الكريم لا يكفي فيها النظر إلى جملةٍ قرآنيةٍ أو مقطعٍ قرآني ، بل كثيراً ما يحتاج فهم هذا المقطع أو تلك الجملة إلى مقارنةٍ بغيره ، ممّا جاء في الكتاب الكريم أو إلى تحديد الظروف والملابسات ، وهذه الدراسة المقارنة لها قريحتها ، وشروطها الفكرية الخاصّة ، وراء الفهم اللُّغوي الساذج؛ وهكذا نعرف أنّ طبيعة الأشياء تدل على أنّ العرب المعاصرين لنزول القرآن كانوا يفهمون القرآن فهماً إجماليّاً ، وأنّهم لم يكونوا على وجه العموم يفهمونه بصورةٍ تلقائيّةٍ ، فهماً تفصيليّاً يستوعب مفرداته وتراكيبه.
الشواهد على عدم توفّر الفهم التفصيلي :
وهذا الذي تدلُّ عليه طبيعة الأشياء أكّدته أحاديث ووقائع كثيرة ، دلّت على أنّ المعاصرين لرسول الله كانوا كثيراً مّا لا يستوعبون النص القرآني ولا يفهمون معناه ، إمّا لعدم اطّلاعهم على مدلول الكلمة القرآنية المفردة من ناحيةٍ لُغويّة ، أو لعدم وجود استعدادٍ فكريٍّ يُتيح لهم فهم المدلول الكامل ، أو لفصل الجملة أو المقطع القرآني عن الملابسات والأُمور التي يجب أن يُقرن المقطع القرآني بها لدى فهمه (1).
وإليكم عدداً من هذه الأحاديث والوقائع :
1 ـ عن الحاكم في المستدرك أنّ أنس قال بينا عمر جالس في أصحابه ، إذ تلا هذه الآية :
{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } [عبس : 27 - 31] ثمّ قال هذا : كلّه عرفناه فما (الأب)؟
قال وفي يده عصية يضرب بها الأرض ، فقال : هذا لَعمر الله التكلّف ، فخذوا أيّها الناس بما بُيّن لكم فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فَكِلُوه إلى ربِّه.
وروي أيضاً أنّ عمر كان على المنبر فقرأ : {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ...} [النحل : 47] فسأل عن معنى التخوُّف ، فقال له رجل من هذيل : التخوّف عندنا التنقص.
وجاء عن ابن عبّاس أنّه قال : كنت لا أدري ما فاطر السماوات حتّى أتاني أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها يقول أنا ابتدأتها.
كما رُوي عنه في تفسير الطبري أنّه سأل أبا الجلد عن معنى البرق في الآية 12 من سورة الرعد ، فذكر له أنّ معناه هنا المطر.
2 ـ وجاء في تفسير الطبري أنّ عمر سأل الناس عن هذه الآية :
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ...} [البقرة : 266]
فما وجد أحداً يشفيه ، حتّى قال ابن عبّاس وهو خلفه : يا أمير المؤمنين : إنِّي أجد في نفسي منها شيئاً ، فتلفّت إليه فقال : تحوّل هاهنا لم تحقّر نفسك؟!
قال : هذا مَثَلٌ ضرَبَهُ الله عزّ وجل ، فقال أيَوَدُّ أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة حتّى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخيرٍ حين فني عمره ، واقترب أجله ، ختم ذلك بعملٍ من عمل أهل الشقاء فأفسده كلّه فحرقه ، وهو أحوج ما يكون إليه.
وعن البخاري : أنّ عدي بن حاتم لم يفهم معنى قوله تعالى :
{...وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ...} [البقرة : 187] وبلغ من أمره أن أخذ عقالاً أسود فلمّا كان بعض الليل نظر إليهما فلم يستبينا ، فلمّا أصبح أخبر الرسول بشأنه فافهمه المراد.
3 ـ ورُوي أنّ عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين ، فقدم الجارود على عمر فقال : إنّ قدامة شرب فسكر.
فقال عمر : من يشهد على ما تقول قال الجارود : أبو هريرة يشهد على ما أقول.
فقال عمر : يا قدامة ، إنّي جالدك. قال : والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني. قال عمر : ولم؟
قال : لأنّ الله يقول :
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة : 93] ، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثمّ اتقوا وآمنوا وأحسنوا ، شهدت مع رسول الله بدراً وأُحداً والخندق والمشاهد ، فقال عمر : ألا تردون عليه قوله فقال ابن عبّاس : إنّ هذه الآيات أُنزلت عذراً للماضين وحجّةً على الباقين؛ لأنّ الله يقول :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة : 90].
فقال عمر : صدقت.
فهذه الوقائع تدل على أن بعض الصحابة كثيراً ما كانوا لا يفهمون القرآن بصورةٍ تلقائية ، ويحتاجون في فهمه إلى السؤال ، والبحث ، إمّا لعدم الاطّلاع على المدلول اللُّغوي للكلمة كما في القسم الأوّل ، أو لعدم الارتفاع فكريّاً إلى مستوى أغراض القرآن ومعانيه كما في القسم الثاني ، أو للنظرة التجزيئية التي ورّطت قدامة بن مظعون في فهمٍ خاطئٍ للآية الكريمة كما في القسم الثالث.
ويمكننا أن نضيف إلى ما تقدّم نقطةً أُخرى أيضاً وهي : أنّ الآية قد تكون من الناحية اللُّغوية في مستوى معلومات الشخص ، ولكنّه يبقى مع ذلك ـ عند محاولة استيعاب المعنى ـ بحاجةٍ إلى البحث والسؤال لتعيين المصداق الذي يتجسّد فيه مدلول اللّفظة ، ففي قوله تعالى : {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر : 1 ، 2] من الطبيعي أن يعرف الصحابة جميعاً ـ بحكم نشأتهم العربية ـ معنى كلمة (ليال) ومعنى كلمة (عشر) ، ولكن يبقى بعد ذلك أن يعرفوا المصداق ، وما هي الليالي العشر التي عناها الله تعالى؟
وكذلك الأمر في قوله تعالى : {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات : 1] {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات : 1] فالمعرفة باللُّغة وحدها لا تكفي في هذه المجالات.
وهكذا نستنتج أنّ المسلمين في عصر الرسول (صلّى الله عليه وآله) لم يكن الفهم التفصيلي للقرآن ميسّراً لهم على وجه العموم ، بل كانوا في كثيرٍ من الأحيان بحاجةٍ إلى السؤال والبحث والاستيضاح لفهم النص القرآني.
_______________
(*) كتبه الشهيد الصدر.
(1) ذكرنا وجود شواهد كثيرة على هذه الحقيقة وردت في كتب الحديث والتفسير ، مثل الطبرسي وصحيح البخاري والمستدرك للحاكم وغيرها.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|