أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-7-2018
![]()
التاريخ: 13-1-2017
![]()
التاريخ: 24-10-2016
![]()
التاريخ: 18-7-2018
![]() |
كانت قوة آشور الحقيقية في كل عصور تاريخها تتمثل في أخلاق سكانها، وهؤلاء قد ظلوا لا يُمسون بسوء في عددهم أو في قوتهم، ولذلك كان في مقدور دولة «آشور» أن تنهض بسرعة من الضربة التي صوبتها لها بلاد «أورارتو» التي كانت بدورها متأرجحة في مركزها، والواقع أن «تجلات بليزر» الذي قبض على مقاليد الأمور في عام 745ق.م كان في استطاعته أن يعيد إلى «آشور» مجدها الغابر، بل كان في استطاعته أن يفعل أكثر من ذلك؛ إذ استرد لها ما كانت تسيطر عليه من ممتلكات في عهد كل من «شلمنصر الثالث» «وأداد نيراري الثالث».
ومما يلفت النظر هنا أن «تجلات بليزر الثالث» لم يلمح أبدًا إلى أحوال توليه عرش الملك، ولذلك يغلب على الظن أنه لم يكن وارثًا شرعيًّا للملك، بل أخذه بحد السيف، وبخاصة عندما نعلم أن البيت المالك قد هلك عن آخره في ثورة «كالح» التي مات فيها «آشور نيرارى الخامس» وكل أعضاء أسرته.
وقد كان أول عمل لهذا العاهل الجديد له مغزاه وأهميته، فقد أطلق على نفسه اسم «تجلات بليزر» تيمنًا باسم أعظم ملك محارب مد سلطان «نينوة» على أقاليم لم تعرفها من قبل ولا من بعد، وفي عهده وصلت «آشور» لمدة قصيرة إلى مكانة سامية لم تصل إليها قط إمبراطورية «آشور ناصير بال» أو «شلمنصر الثالث»، والواقع أن اسم «تجلات بليزر الثالث» كان في نظر الآشوريين مرادفًا لتجديد شباب الإمبراطورية ومجدها وعزتها، وكان حكمه وعدًا للعودة السريعة للأيام الخالدات القديمة التي اتسمت بالشجاعة والبطولة (1).
وقد دلت نتائج أعماله على ما كان منتظرًا، فقد لوحظ أن الدم الملكي الجديد الذي كان يحمله في عروقه هذا العاهل قد سرى في عروق كل الإمبراطورية، وأعاد لها شبابها في لمحة عين، وانتعش روحها الحربي كأنما تلا عليها عزيمة سحرية، ففي حين أنه وقف زحف ملوك «أورارتو» نرى من جهة أخرى أن الثوار في سوريا قد جبنوا وعادت إسرائيل إلى موقفها المعتاد الذي ينطوي على الذلة والمسكنة والتضرع والتوسل كما نجد أن آمال حزب بابل الذي كان يريد الانفصال عن «آشور» قد تحطمت وقُضي عليها.
وقد كان أول عمل قام به «تجلات بليزر» أنه أخذ يشعر أهل «بابل» بأنهم خاضعون «لآشور»، ولم يسعَ في خلع ملكهم «نابو-ناصير» أو العمل على إذلاله، بل اكتفى بالقيام بمظاهرة حربية في الجزء الشمالي من تلك البلاد الثائرة، وفي الوقت نفسه عاقب القبائل الآرامية المغيرة التي كانت قد احتلت المجرى الأوسط لنهر الفرات، وكانت بطبيعة الحال تتدخل في سبل التجارة، وفي الوقت نفسه أظهر للبابليين ما كان له من قوة حربية، وما كانوا يجنونه من فوائد تجارية بمهادنته ومصادقته.
والواقع أن عمله الحقيقي لحفظ كيان دولته كان متوقفًا على نفوذه في الأقاليم الغربية من بلاده، وبعبارة أخرى استرجاع الإمبراطورية السورية التي كان قد أقامها «آشور ناصير بال» هناك، ولكن قبل أن يقوم بهذا العمل وجه ضربة مفاجئة للأقطار الواقعة في الشمال الشرقي من بلاده، فاخترق جبال «يود داغ» وردَّ أهل القبائل الذين اقتربوا جدًّا من وسط مملكته، وبهذه الكيفية تلافى كل خطر في مؤخرته من جهة «بابل» أو من جهة «مديا»، ثم أخذ بعد ذلك «تجلات بليزر» يزحف في عام 743ق.م بجيشه إلى نهر الفرات قاصدًا غزو بلاد سوريا، وقد أخذ الفزع يستولي على الزعماء السوريين عندما علموا بزحفه عليهم، ولذلك ألفوا حلفًا بقيادة «متبي اللو» زعيم «إرباد» وهي مدينة تقع في شمال حلب لمقاومته، وفضلًا عن ذلك طلبوا إلى ملك «أورارتو» المسمى «ساردوريس الثالث» مساعدتهم، وكانت ممتلكات الأخير تشمل «كوموخ» (كومجين)، وعلى ذلك وصلت حتى حدود «سوريا»، وقد أزعج هذا الزحف الملك «ساردوريس» فعزم على أن يضرب ضربته بسرعة خاطفة، فزحف فجأة على مضيق نهر «الفرات» لمهاجمة الآشوريين، وقد انقض «تجلات بليزر» لصد هذا الخطر، وهزم «ساردوريس» هزيمة ساحقة، وبذلك أصبحت سوريا عرضة لهجوم الجيش الآشوري بدون كبير عناء، وحوالي عام 740ق.م استولى الآشوريون على «إرباد»، وخضع بعدها كل بلاد الغرب.
وفي هذا الوقت كان الرعب قد ملأ كل بلاد سوريا وفلسطين، وأصبح استقلال الممالك المختلفة فيها يتهدده الخطر.
وكان «يربعام الثاني» ملك إسرائيل قد مات منذ فترة قصيرة حوالي عام 743ق.م، وكان موته نذيرًا بقيام الفوضى في الممالك الشمالية وقتل ابنه «زكريا» بيد «شالوم» الذي قتل بدوره بيد «منحيم» (راجع «سفر الملوك الثاني الإصحاح 15»)، والظاهر أن هذه الفوضى قد هيأت فرصة مواتية لملك اليهود المسن «عزريا» ليبسط مؤقتًا سيادة «يهوا» ربه على الممالك الشمالية «ودمشق» «وحماة» التابعين لها، ولا نعرف السبب الذي من أجله لم نسمع في سفر الملوك (راجع «سفر الملوك الأول الإصحاح 5») شيئًا عن «عزريا» إلا أنه أصبح في نهاية أمره أبرص، ومن جهة أخرى نجد في تواريخ الأيام قصصًا تحدثنا عن نشاطه بأنه حارب فلسطين والعرب (راجع كتاب أخبار الأيام الثاني الإصحاح 26) وفي هذه الحالة نجد أن قصص كتاب أخبار الأيام التي لا يُعتمد عليها كثيرًا في نظر المؤرخين قد أكدت الحقائق التاريخية التي وردت في الآثار الآشورية، فثبت بذلك صحتها، والواقع أننا إذا فحصنا هذه الحقيقة فحصًا مجردًا عن العاطفة وجدنا أنه يكاد يكون «عزريا» صاحب «بلويدي» الذي ظهر بوصفه المحرض على مقاومة «آشور» في جنوب «سوريا» ليس إلا ملك «يهودا»، ونحن نعلم علمًا أكيدًا بوجود أرض تدعى «يلودا» ذكرت في هذا الوقت بالذات، وتحمل نفس الاسم الذي كان يحمله ملك بلاد «يهودا» الذي كان يحكم فعلًا في هذا الوقت، فليس لدينا إلا أن نقرر بأنه هو هذا الملك وأن «عزريا» صاحب «يلودا» هو «عزريا» ملك «يهودا»، غير أن بعض المؤرخين لا يأخذون بهذا القول، ويعتقد آخرون أن الموضوع لا يزال يحيط به الغموض.25
وإذا فرضنا صحة وجود «عزريا» هذا فإنه يكون هو السيد المشرف على الولايات الإسرائيلية التي فتحها «ياربعام الثاني»، وأن الآشوريين كانوا يعدونه المحرض على المقاومة التي كانوا يلاقونها وقتئذٍ في جنوب «سوريا».
والواقع أنه في عام 739ق.م استدعى «تجلات بليزر» من حملة في جبال «أرمينيا» بسبب تهديد «عزريا» وأتباعه أو حلفائه لممتلكاته، وكان أبرز هؤلاء الحلفاء هو «يانامو» حاكم «سامال»، وقد زحف على هذا الحلف ملك آشور في عامي 739 و738ق.م في حملتين، فهزم هذا الحلف، وبذلك قضى على الحلم الذي كان يرمي إلى إحياء إمبراطورية «سليمان» فقد سقطت بلدة «كولاني» (كالنو) وسلمت بعدها «حماة»، ولم تلبث أن أصبحت «سامال» (شمأل = الشام) تحت حكم «آشور» مباشرة، ومن ثم كان يدفع الجزية كل من «رزين» ملك «دمشق» «وحيرام» ملك «صور» «ومنحيم» ملك إسرائيل لآشور (راجع سفر الملوك الإصحاح 15 سطر 20)، وفي هذا الوقت مات «عزريا» وخلفه «يوثام» سنة 739ق.م.
هذا ولم يأتِ في النصوص الآشورية ذكر جزية جُمعت من «يهودا»، ويحتمل أن سبب ذلك يرجع إلى أن «تجلات بليزر» كان مكتفيًا بالقضاء على الحلف، وكان في الوقت نفسه يتوق إلى العودة إلى آشور ليصفي حسابه مع بلاد «أورارتو»، ذلك الحساب الذي كان قد بدأ في السنة السابعة من حكمه، ولكنه أُوقف بسبب زحفه لمعاقبة «عزريا» وحلفه.
قام «تجلات بليزر» من أجل ذلك بثلاث حملات اخترق خلالها «مديا» حتى سفح دمافند Demavend ودخل «أورارتو» وأوغل فيها حتى بحيرة «وان» حيث تقع «توروشيا» عاصمة الملك «ساردوريس»، ولكن «تجلات بليزر» لم يكن في مقدوره الاستيلاء على هذه المدينة لمناعة قلعتها الصخرية «وهي قلعة وان الحالية»، ولكن على الرغم من ذلك كسر شوكة «أورارتو» لمدة سنين عدة 735ق.م.
وفي أثناء غياب «تجلات بليزر» في حرب «أورارتو» أخذ أمراء فلسطين يعلنون الثورة، ولم يكونوا بعد قد خضعوا مثل أمراء شمال «سوريا» وعرفوا ألا فائدة من المقاومة، وذلك أن «فقحيا» بن «منحيم» قد قتله «فقح» بن «رمليا» الذي انضم وقتئذٍ إلى «رزين» ملك دمشق وزعماء فلسطين وأمراء «أودوم» لمهاجمة «يونام» ملك «يهودا» وخليفة «عزريا»، وكان السبب الذي دعا إلى هذا الهجوم هو حب الانتقام من أجل السيادة المؤقتة التي كان قد نالها «عزريا»، وقد حقد عليه من أجل ذلك كل الحلفاء حقدًا عظيمًا، والواقع أنه كان مما لا يتفق مع مجريات الأحوال أن تسيطر على هذا الحلف مملكة «يهودا» الصغيرة لمدة ما، غير أن مقتضيات الأحوال هي التي أدت إلى ذلك.
وفي خلال فترة هذا الارتباك مات «يوثام» وخلفه «آحاز» الذي ظن أن خلاصه الوحيد المباشر في أن يلتجئ إلى آشور على الرغم من معارضة النبي «أشعيا» لهذه الفكرة؛ إذ رأى نتيجة ذلك هو أن «يهودا» ستكون تابعة لآشور، غير أن ملك يهودا كان مستعدًّا لقبول هذه التبعية ثمنًا لخلاصه. وعندما التجأ إلى «تجلات بليزر» أجاره، إذ في عام 734ق.م ظهر هذا العاهل بجيشه في «سوريا» على أثر تخريب بلاد «أورارتو». ومما يلفت النظر أن «تجلات بليزر» لم يهاجم بلاد الحلف من الخلف، وربما كان قد نهج هذه السبيل ليجعل الفلسطينيين يشعرون أن بعد المسافة بينهم وبين بلاده لم يكن ليقدم لهم أمانًا من نار حربه. وقد سار على الساحل حتى بلاد فلسطين التي لم تكن حتى الآن قد غزيت أو فتحت، إذ إنها قد حافظت على استقلالها من إسرائيل حتى في أيام سليمان، وفي خلال القرنين اللذين أعقبا ذلك لم تعترف قط بسيادة إسرائيل في عهد «عمري» الذي كان مليئًا بالحروب كما لم تعترف بسيادة «يهودا» في عهد «عزريا» الذي لم يمضِ على موته فترة طويلة. والواقع أن الدم الكريتي الذي يجري في عروق السكان الكريتيين الأجانب الذين وفدوا إلى فلسطين منذ زمنٍ قد بعث في نفوس الكنعانيين الذين يقطنون الساحل روح الاستقلال والشهامة الحربية.
وقد كان الهدف الرئيسي لزحف الآشوريين هو القضاء على «حانو» ملك «غزة» عام 734ق.م وهاك المتن الذي ذكر عنه: «أما عن «حانو» صاحب «غزة» الذي هرب أمام جيشي وفر إلى مصر فقد فتحت بلده «غزة» … ومتاعه الخاص وصوره، لقد وضعت (؟) صور … آلهتي وتمثالي الملكي في قصر بلدته «الإلهة» وأعلنت أنها ستكون من الآن فصاعدًا إلهة بلادهم وفرضت عليهم الضرائب».
والمقصود من هذا المتن أن حاكم «غزة» «حانو» قد هرب واختفى في مصر، ثم نصب «تجلات بليزر» تمثاله هو في قصره وقدمت الضحايا للإله «آشور» في معبد آلهته الذين حملوا مع الكنوز الملكية إلى «آشور»، وقد تأخر استعباد إسرائيل في تلك الفترة، وذلك بسبب موت «فقح» على يد «هوشع» الذي قدم خضوعه في الحال لملك «آشور» «تجلات بليزر»، وقد سمح له هذا أن يبقى ملكًا على إسرائيل بعد أن فقد نصف ممتلكاتها، إذ قد ضمت كل البلاد الواقعة شرقي نهر الأردن أي الجليلي «ونفتالي»، هذا بالإضافة إلى مدن «خازور» «وقادش» وإيون Iyon «ويبنوم» وغيرها إلى آشور، وقد حمل ملك آشور معه أهل قبائل «روين» «وجاد» ونصف قبيلة «منشة» أسرى. وبعد ذلك تفرغ ملك آشور إلى ملك «دمشق» المسمى «رزين»، فاستولى على «دمشق» وقتل ملكها وضم بلاده إلى ملكه وساق أهلها أسرى إلى «قر» عام 732ق.م. وتدل الأحوال على أن الفلسطينيين لم يقبلوا في الحال الاستعباد الذي فرضه عليهم «تجلات بليزر»، ولذلك حاول ملك «عسقلان» أن يقوم بثورة في أثناء حصار الآشوريين لمدينة «دمشق»، غير أنه عندما أعلن سقوط «دمشق»، الأمر الذي لم يكن في الحسبان، جن جنون ملك «عسقلان» خوفًا ورعبًا مما عساه يكون نتيجة عصيانه، من أجل ذلك أسرع «روقبتي» في تقديم خضوعه للفاتح «الآشوري»، ثم قفا أثره «متنا» ملك «صور»، وذلك على أثر موت «رزين» ملك «دمشق». وقد فرض «تجلات بليزر» جزية كبيرة على «صور». ومن ثم أرسلت البلاد المجاورة وهي «عامورة» «ومؤاب» «وأودوم» جزية لملك «آشور» صاحب السلطان العظيم، وكذلك قدمت له الملكة «شمش» ملكة بلاد العرب الجزية وأصبحت خاضعة لسلطانه، وقد نصبت آشور في كل بلاطِ أميرٍ من البلاد التابعة لها موظفًا أو مقيمًا يدعى، «قبي»، ووضعت حدود مصر تحت ملاحظة مقيم يدعى «إدبي-إلو». والظاهر أنه كان هو زعيمًا بدويًّا أطلق عليه لقب «قبوموصور» (مصر)؛ أما عن المراكز التي ضمت إلى «آشور» فعلًا وتشمل «فلستيا» وكل «فلسطين» «وسوريا» شمالي جليلي وشرقي الأردن ما عدا بلاد «فينيقيا» فكان يعين فيها حكام يلقبون «شوت رش» (قائد حربي) أو «يل-بيجاتي» (رئيس مركز).
وتحدثنا النقوش عن أن ما يقرب من نصف السكان في كل مملكة فتحت كانوا يؤخذون أسرى يحل محلهم أسرى أجانب من «أرمينيا» وغيرها ومستعمرين من «بابل» إلخ، هذا وكان السكان الأصليون في كل حالة تضعف حالتهم لدرجة خطيرة، في حين أن الأجانب الدخلاء كانوا مكروهين من الأهالي بقدر ما كان الآشوريون ممقوتين منهم أيضًا، من أجل ذلك اتحد الأجانب مع الآشوريين النزلاء وعضدوا الحكم الآشوري، والواقع أن ملوك «آشور» السابقين كانوا يأخذون الأسرى المقهورين إلى بلادهم غير أن «تجلات بليزر» كان أول من وضع هذه السياسة المعقولة التي ذكرناها هنا.
وعلى إثر الانتهاء من إخضاع كل البلاد الغربية كانت الأحوال في «مسوبوتاميا» قد سادها الاضطراب، مما دعا «تجلات بليزر» إلى قيامه بحملته الأخيرة هناك؛ وذلك لأن النظام الحسن الذي وضعه في «بابل» نتيجة لحملة 745ق.م، كان قد انتقض بموت «نابو ناصير» في عام 734ق.م؛ إذ كان ابنه «نابو-نادين-زري» قد قتل في ثورة، واغتصب الملك «أوكين زر» زعيم قبيلة «كالدو» التابعة «لبيت أموقاني»، وكان معنى ذلك قيام اضطراب عام في تلك البلاد، ولذلك قام «تجلات بليزر» بجيشه عام 731ق.م متجهًا نحو ذلك الغاصب وحاصره في «سابيا» عاصمة «بيت أموقاني»، ولكنه لم يفلح في الاستيلاء عليها، وفي عام 729ق.م انتهت هذه الحروب بخضوع قبيلة «كلداني» وهي مملكة «أو كيزير» «وبيت يكن» وهي أرض البحر، وكان ملكها هو «مروداخ-بلادان».
والواقع أن خضوع «مروداخ بلادان» كان من الأهمية بمكان؛ لأنه كان ملك أرض البحر «الذي لم يأتِ إلى حضرته واحد من الملوك آبائي وإنهم لم يقبلوا قدمي» كما يقول ملك «آشور».
عاد بعد ذلك «تجلات بليزر» إلى بلاد آشور من آخر حملة له بعد أن نصب حكامًا على البلاد المقهورة، وقد انتهى حكمه عام 730ق.م دون وقوع حوادث تذكر، غير أن «بابل» كان لا يمكن أن تُترك دون تنصيب ملك عليها؛ ولذلك نجد «تجلات بليزر» في عامي 729، 728ق.م قد أخذ بنفسه يدي الإله «بل» كما كان المعتاد، وبذلك أصبح ملكًا على «بابل» بالاسم والفعل، فكان يعد أول عاهل آشوري حمل هذا اللقب منذ عهد الملك «توكولتي نينورتا الأول».
وبعد ذلك بقليل تُوفي «تجلات بليزر» بعد حكم كله مفاخر له، وتولى بعده الملك «شلمنصر الخامس».
أما عن أعمال «تجلات بليزر» الفنية فلا نعرف عنها إلا اليسير، والألواح القليلة التي تركها لنا منقوشة تصور مناظر الحرب العادية التي قام بها، غير أن شواهد الأحوال تدل على أن قصره كان أفخم مسكن أقامه ملك في بلاد «مسوبوتاميا»، فقد كان أعظم ملوك «آشور» يتخذونه نموذجًا يحذون حذوه، فقد قلده الملك «سنخرب» عندما أعاد بناء قصر «نينوة» كما سنرى بعد.
وعندما نذكر أن أعمال «تجلات بليزر» العظيمة قد أنجزت كلها في مدة حكمه التي لا تتجاوز ثماني عشرة سنة، وأنه حوالي عام 728ق.م بسط سلطانه ووطد نفوذه من أول مياه «بيت يكن» الملحة حتى جبال «بكيني» (دمافند) في الشرق، ومن البحر الغربي حتى مصر، ومن أفق السماء حتى سمتها، نقرر بحق أنه أعظم شخصية بارزة في تاريخ «آشور».
ولا يفوتنا بحال أن نذكر هنا بعض حقائق بارزة عن هذه الإمبراطورية في عهد هذا العاهل لنستطيع تقدير استمرار قوة «آشور» في النمو والتطور من أول عهد عاهلها «آشور ناصير بال»، فنلحظ أن إخضاع شمال سوريا في مدة لم تتجاوز ثلاث سنوات كان ممكنًا فقط بسبب أن أسس قوة «آشور» كانت قد وضعت بذورها بحكمة ودراية في عهد أسلافه، أما أقاليم «قوى» (سيليسيا) «وتابال» فقد سقطت في يديه دون حرب؛ لأن «شلمنصر» كان قد أخضعها تمامًا في خمس حملات قام بها في تلك الجهات، يضاف إلى ذلك أن الاعتراف به ملكًا على «بابل» نفسها يجب أن يُعزى إلى أتباع «شلمنصر الثالث» «وأداد نيراري الثالث» ومساعدة السلطة المركزية في «بابل» على «الآراميين» «والكالدو».
أما استيلاؤه على عرش ملك «بابل» والقيام بتأدية واجباتها في مدنية «بابل» نفسها، وهي تلك الواجبات التي اقتضتها ضرورات الموقف فيظهر أنه كان إجراء خارجًا عن هذه السياسة لم يكن مقصودًا، وكان أكبر تقدم قام به «تجلات بليزر» في فتوحه هو بلا نزاع ما أحرزه في الغرب من بلاده من فتوح، وهنا نرى أنه اتبع بكل أمانة سنن أسلافه، هذا إلى أن فكرته بأن «سوريا» يمكن القبض على ناصيتها بقوة يكون في استطاعتها السيطرة تمامًا على مدن «فينيقيا» «وفلسطين» مما يجعله يمد الممتلكات الآشورية الواقعة في طريقه، كانت هي السياسة التي اتبعها أخلافه من ملوك آشور.
والواقع أن بسط السيادة على فينيقيا وإسرائيل لتكون حماية للأقاليم السومرية لم تلبث أن تحولت إلى التسلط المباشر على هذه البلاد، وبالاختصار نجد أن «تجلات بليزر» عندما أراد تنفيذ مرامي «آشور ناصير بال» «وشلمنصر» السياسية قد اتخذ طريقًا لا تؤدي إلا إلى الحملات التي قام بها فيما بعد كل من «إسرحدون» «وآشور بنيبال» كما سنرى.
تحدث بعض المؤرخين عن طريقة نقل هذا الملك لسكان البلاد المقهورة بالجملة، وقد رأى بعض الكتاب أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن «الآشوريين» أن يحكموا بها البلاد التي استولوا عليها بالقوة وحسب، وقد رأى آخرون أن هذا الإجراء كان فيه بذور الضعف في المستقبل؛ لتمزيق روابط الوطنية والدين، ومهما يكن من أمر فإنه ينبغي أن نلحظ هنا أن نقل السكان المفاجئ لم يكن بالأمر الغريب في الشرق القديم، حيث نجد أن قبائل كانت تهجر من تلقاء نفسها بلادها في طلب مساكن جديدة؛ كما حدث مع قبائل «اللوبيين» في عهد «رعمسيس الثالث»، وكما حدث مع قوم «الهكسوس» في مصر في نهاية الأسرة الثالثة عشرة، هذا إلى أن «تجلات بليزر» قد سار على نهج أسلافه في هذا الأمر، وكان رائده في ذلك خطة سياسية لها بعض الأهمية في إدارة الأقاليم الجديدة التي ضمها إلى ملكه، فنجد أن السكان الآراميين التابعين لمملكة «دمشق» كانوا قد نُقلوا إلى القبائل الآرامية الساكنة على حدود «عيلام»، ونُقل أهل «كالدو» إلى وادي «نهر الأرنت» (العاصي)، ونقل «الإسرائيليون» إلى «آشور»، ومن ثم لا نجد في أية حالة أن السكان الجدد كانوا يختلفون كلية في اللغة والعادات عن القوم الذين سكنوا معهم، وبذلك تخلص الحكام المحليون في المستعمرات الآشورية من الصعوبات التي قد تحدث من وجود أجانب بين أهلهم أنفسهم، هذا إلى أنه كان في مقدورهم أن يوردوا عددًا مُحَسًّا من العمال لأشغال السخرة والخدمة العسكرية في الجيش الآشوري.
......................................................
|
|
"إنقاص الوزن".. مشروب تقليدي قد يتفوق على حقن "أوزيمبيك"
|
|
|
|
|
الصين تحقق اختراقا بطائرة مسيرة مزودة بالذكاء الاصطناعي
|
|
|
|
|
مكتب السيد السيستاني يعزي أهالي الأحساء بوفاة العلامة الشيخ جواد الدندن
|
|
|