الدولة والنظم السياسية والمجتمع:

كان الملك يقوم على راس ماكنة الدولة الآشورية، وكان يجمع في شخصه كل السلطان الزمنية والدينية. فكان في قمة الهرم من سلطات الدولة، بل إنه كان الدولة نفسها. وأما جهاز الدولة من كبار الموظفين وصغارهم، مدنيين وعسكريين، فكانوا كلهم "خدم الملك العظيم، القدير، ملك بلاد آشور، ملك الكون"، بحسب التعبير المستعمل في ألقاب الملوك الرسمية. على ان الملك الآشوري، مثل الحاكم أي الأنسي السومري القديم والملك السومري والبابلي، كان يستمد سلطته من كبير الآلهة الآشورية "آشور" والآلهة العظام الأخرى، بطريقة التفويض الإلهي، فكان يحكم الناس بالنيابة عنه ويمثله على الأرض. وكان اول من اتخذ لقب الملك "شرام" Sharrum الملك الآشوري شمسي ــ أدد الأول (1781 – 1813 ق.م) في حين أن الملوك والحكام القدامى قبله كانوا يلقبون أنفسهم باللقب السومري القديم "آنسي" المرادف للمصطلح الآكدي ــ الآشوري. . "اشاكم".

وأول ما يمتاز به النظام الملكي الآشوري أنه كان وراثياً، مثل النظام البابلي بوجه عام. فكان الملك يختار ولي عهده في أثناء حياته من بين أبنائه. ويفرض البيعة والولاء له على الأمراء من العائلة المالكة وعلى جميع وجهاء المملكة وكبار قواد الجيش، وأمراء الأقاليم التابعة. وكان يفترض في ذلك التعيين أنه تنفيذ لإرادة الإله "آشور" وبعد استشارة كبار الآلهة ، مثل الإله "شمش" وسين عن طريق الفأل والكهانة. وحالما يتم اختيار أحد أبناء الملك ولياً للعهد فإنه يترك قصر أبيه الملك ويعيش في قصر خاص يطلق عليه اسم، بيت الخلافة أو بيت ولاية العهد، وبالآشورية "بيت ريدوتي" وقد عثر على بقايا مثل هذه القصور في الموضع المسمى "تربيصو" (تل شريف خان الآن شمال نينوى ببضعة أميال). وكان يتم في هذا القصر إعداد ولي العهد للحكم، فكان يعلم وظائف "الملوكية" وواجباتها وأساليب الحكم، وتعهد إليه مهمات عسكرية وإدارية مهمة، من بينها النيابة عن أبيه الملك عند غيابه. هذا بالإضافة إلى تلقينه بمختلف فنون الحرب والقتال وفنون السلم. وقد نال بعض ولاة العهد تربية وتدريباً عاليين، نخص بالذكر منهم "آشور بانيبال" الذي يذكر في نصوصه اموراً مفصلة عن إعداده وتربيته ونورد منها قوله ــ "حصلت على الفنون الخاصة بالآلهة "ندايا"، واستقيت المعارف الخاصة بالكتبة، وحذقت آيات السماء والأرض (نبوءات الفأل) . . . ودرست ظواهر السماء. واستطعت أن احل قضايا عويصة في القسمة والضرب وأتقنت في الكتابة السومرية، والكتابة الآكدية البالغة الصعوبة. . وكان يطيب لي أن أقرأ الأحجار والانصاب المكتوبة من أزمان ما قبل الطوفان. وكنت طيلة يومي أمتطي فرسي بفرح وحبور، وأقصد موضع الصيد وأمسك قوسي فأرمي منه السهام الجديدة، وأقذف بالرماح الثقيلة، وأمسك بعنان خيل العربات، وأسرع فيها، وتعلمت استعمال التروس الثقيلة.. وفي الوقت نفسه كنت اجهد في تعلم الآداب والسلوك الملكية. فكنت أمثل بحضرة الملك، أبي، وأصدر الأوامر إلى النبلاء والأمراء، ولم يكن يعبن حاكم بدون موافقتي ولا وال بدون حضوري" (1) .

وجرت العادة أن الملك إذا مات أعلن الحداد في المملكة، وكان الملك المتوفي يدفن في الاصمة القديمة آشور فكانت هذه المدينة بمثابة المدينة المقدسة لدفن الملوك وتتويجهم فيها كما سنين بعد قليل. وقد وجدت في أثناء التنقيبات التي أجراها الألمان فيها (1914 – 1904) جملة توابيت ثقيلة من الحجر المنحوت تحت القصر القديم (2)، وكان كل منها يحتوي على رفات مشاهير الملوك الآشوريين، وقد عين بعض هذه التوابيت بأنها تعود إلى الملك "آشور ــ بيل كالا"، وآشور ناصربال وشمسي ــ ادد الخامس، ولكنها وجدت فارغة، إذ عبث بها في الأزمنة القديمة. ويعد ان يدفن الملك بفترة كانت تقام مراسيم تتويج الملك الجديد التي كانت تجري في العاصمة القديمة "آشور" أيضاً. وكان اهم جزء في الاحتفال بالتتويج هو ان الملك الجديد كان يحمل على عرشه ويتقدمه الكاهن الأعلى وهو ينادي ــ "آشور هو الملك . . آشور هو الملك" ثم يتوجه الموكب إلى معبد الإله آشور المسمى "أي ــ كور" فيدخل الملك إلى الحجرة المقدسة ويقدم كأساً من الذهب مملوءاً بالزيت و "منا" من الفضة وحلة موشاة فاخرة، ويسجد إزاء تمثال الإله وعندئذ يمسحه الكاهن الأعلى بالزيت ويسلمه شارات الملوكية، "تاج آشور وصولجان ننليل" (3)، ثم يتلو العبارة: التاج على رأسك فعسى آشور وننليل سيدا التاج وصاحباه، أن يجعلاه يدوم فوق رأسك مائة عام، وعساك أن تنال الرضا والقبول وأنت في معبد "أي ــ كور" ويداك مرفوعتان مبسوطتان تدعوان إلى إلهك آشور. فعليك أن توسع بلادك بصولجانك المستقيم، وعسى آشور أن يمنحك الرضا والطمأنينة والحكم العادل (4).

ويقصد الملك الجديد من بعد ذلك إلى القصر حيث يجتمع الأمراء وكبار رجال الدولة فيحيون الملك الجديد ويتخلون عن مناصبهم ورتبهم ويطرحون شارات وظائفهم وأوسمتهم، فيعيدهم الملك الجديد إلى مناصبهم إذا أراد.

واشتهر الملوك الآشوريون بسهرهم ويقظتهم في إدارة شؤون الدولة ويأتي في مقدمة الوسائل المحققة لذلك أنهم كانوا على اتصال دائم بولائهم وحكام الاقاليم التابعة يومياً تقريباً عن طريق الرسائل المتبادلة ولنا أن نتصور كثرة عدد الكتبة والسكرتاريين الذين يكونون في صحبة الملك لإملاء الاوامر عليهم. وإلى هذا الواجب المرهق كان الملك يستقبل السفراء والمبعوثين الأجانب. وبصفته قائد الجيش الأعلى كان يضع خطط الحملات الحربية. أما في الاوقات الاخرى فإن رياضة الملوك المحببة كانت صيد الحيوانات الوحشية في الأراضي والغابات الملحقة في العادة بقصورهم أو في المواضع التي تتردد إليها تلك الحيوانات المفترسة كالأسود والثيران الوحشية والفيلة والحمر والخيول البرية. ولعل خير ما يمثل لنا ولع أولئك الملوك برياضة الصيد المنحوتات الشهيرة وما صور فيها بإبداع وبراعة فائقتين من مشاهد صيد الأسود، ويعد بعض تلك المنحوتات من قطع الفن الرفيع على المقياس العالمي، مثل مشهد اللبوة والأسد الجرحين ومشهد مطاردة الخيول الوحشية.

وكان الملك الآشوري يتفرد عن الملك البابلي بأنه كان علاوة على وظيفته الملكية المرهقة، الكاهن الأعلى للإله آشور ورئيس الكهنة الأعلى، فكان عليه أن يقوم بإجراء الشعائر والطقوس الدينية والسحرية المقدسة. فإلى جانب سهرة على العناية بمعابد الآلهة وتجديد بنائها وضمان القيام بأداء أدوار رئيسية في بعض الأعياد الكبرى مثل عيد راس السنة الجديدة. فبصفته ملكاً وكبير كهنة الآلهة كان يضطلع بالشعائر الخاصة بتقديم الطعام والشراب يومياً إلى الإله آشور وكبار الآلهة، وهو المصطلح المسمى بالآشورية "تاكلتو"، ثم تناول هذا الطعام المقدس بعد أن يأكل منه الإله بوجه رمزي، وعليه أن يقوم بالتطهير المقدس (بيت رمكى).

والملك مسؤول إزالة الآلهة عن صالح الناس وخيرهم. وكان عليه أن يصوم صوماً خاصاً إذا كانت نبوءات الفأل تنذر بشر يقع في البلاد. ولما كان وجود الملك بين البشر تتوقف عليه سلامتهم فقد حرص القوم على ألا يصيبه أي مكروه في حالات قرب وقوع الشر بطريقة إقامة الملك البديل Pukh sharri وهو شخص يختار بموجب إرشادات الفأل ويتوج وينصب ملكاً فعلياً فترة من الزمن ما دامت نذر الشر قائمة لكي تقع عليه الأخطار فيدرأها بذلك عن شخص الملك الحقيقي، وقد سبق أن نوهنا بتلك الحادثة الطريفة في تأريخ سلالة أيسن البابلية حينما اغتصب الملك البديل العرش وقضى على الملك الحقيقي.

ومع أن الملك الآشوري كان مطلق السلطة وغير مسؤول لأحد سوى الآلهة، بيد أن الواقع العملي أنه لم يكن ليستطيع أن يمارس سلطته هذه إلا بإسناد الطبقة الأرستقراطية أو بالمصطلح الآشوري "ماري بنوتي"، وقد مرت بنا حالات في التأريخ الآشوري نشبت فيها ثورات داخلية على الملك من جانب الطبقة الحاكمة وكثيراً ما تزعمها أحد أبناء الملك أو أحد من ذوي قرباه. كما أن الولاة وقواد الجيش وكبار موظفي الدولة كان يختارهم الملك من تلك الطبقة الارستقراطية، وعلى ولائهم للملك كانت تقوم سلطته وحكمه.

ولم يكن للملك الآشوري ولا للملك البابلي أيضاً وزير أو وزراء بالمعنى الحديث لهذا المصطلح، بل كان يعتمد على مستشارين مقربين من كبار موظفي الدولة وقادة الجيش وعلى رأسهم ما يسمى بالآشورية "تورتانو" ــ القائد العام ــ و الـ "ناكر ايكالي" Nagir eklli وغيرهم. والعادة أن مثل أولئك الموظفين الكبار يعينون في مناصبهم زمناً طويلاً (قد يدوم ثلاثين عاماً)، وكانوا يقطعون القطائع الكبيرة. وقد ورد الكثير من رتب كبار الموظفين في أثبات "اللمو" التي سبق أن تطرقنا إليها.

ويأتي في السلم الاجتماعي من بعد طبقة النبلاء، وهم الطبقة العليا في المجتمع، طبقة الناس الأحرار، وفي مقدمتهم ذوو المهن والحرف الاحرار Ummane كأصحاب المصارف والنجار والأطباء والكتبة والصناع، ويوجه الاختصار ما يسمى بالطبقة البرجوازية وكانوا منظمين في جمعيات أو نقابات على غرار نقابات القرون الوسطى في أوروبا، والغالب ان محلات معينة كانت تخصص لكل حرفة أو مهنة. اما الطبقة الاجتماعية التي كانت في العهد البابلي القديم والتي ورد ذكرها في شريعة حمورابي بمصطلح "مشكينو"، فإنها اختفت من الوجود تقريباً بصفتها الطبقة الوسطى من الأحرار، وصار المصطلح يستعمل بمعنى لغوي للفقير، مثل الكلمة العربية "مسكين" ويأتي من بعد الطبقة الوسطى التي نوهنا بها عامة الناس من الفلاحين والاجزاء ثم طبقة العبيد الكثيرة العدد في المجتمع الآشوري ومصدرها بالدرجة الاولى أسرى الحروب وكان الكثيرة من العبيد يعملون الحرف والصناعات اليدوية لتنمية موارد أسيادهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ARAB, II, 986.

(2) Haller, Die Graber and Grufte von Assur, (1954).

(3) الآلهة "ننليل" بالأصل زوجة الإله السومري الشهير "انليل" ولكن جعلت في بلاد "آشور" زوجة الإله (آشور).

(4) حول مراسيم التتويج راجع:

Frankfort, Kingship amd The Gods.