أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-05-31
1248
التاريخ: 31-5-2022
2135
التاريخ: 4-08-2015
3750
التاريخ: 2024-09-02
320
|
إنّ أبرز ما تتميز به عقيدة مدرسة أهل البيت ( عليهم السّلام ) في المهدي الموعود هو القول بوجوده بالفعل وغيبته وتحدد هويته بأنّه الإمام الثاني عشر من أئمة العترة النبوية الطاهرة ، وأنه قد ولد بالفعل من الحسن العسكري ( عليه السّلام ) سنة ( 255 ه ) وتولى مهام الإمامة بعد وفاة أبيه العسكري سنة ( 260 ه ) وكانت له غيبتان الأولى وهي الصغرى استمرت إلى سنة ( 329 ه ) كان الإمام يتصل خلالها بشيعته عبر سفرائه الخاصين ، ثم بدأت الغيبة الكبرى المستمرة حتى يومنا هذا وإلى أن يأذن اللّه عزّ وجلّ بالظهور لإنجاز مهمته الكبرى في إقامة الدولة الاسلامية العالمية التي يسيطر فيها العدل والقسط على أرجاء الأرض ان شاء اللّه تعالى .
ويتفق أهل السنة على انتماء المهدي الموعود لأهل البيت ( عليهم السّلام ) وأنه من ولد فاطمة ( عليها السّلام ) وقد اعتقد جمع منهم بولادته لكن بعضهم ذهب إلى أنه سيولد ويظهر في آخر الزمان ليحقق مهمته الموعودة دون أن يستند إلى دليل نقلي ولا عقلي في ذلك سوى الاستناد إلى الأحاديث المشيرة إلى أن ظهوره يكون في آخر الزمان . وليس هذا دليلا تاما على أن ولادته ستكون في آخر الزمان أيضا كما أنه ليس فيه نفي للغيبة ؛ لأنها والظهور لا يكونان في زمن واحد لكي يقال بأنّ إثبات الظهور في آخر الزمان يعني نفي الغيبة دفعا لاجتماع النقيضين المحال عقلا ، فرأي الإمامية هو أن الغيبة تكون قبل الظهور فلا تعارض بينهما .
ومدرسة أهل البيت ( عليهم السّلام ) تقدم الأدلة لإثبات الغيبة بتفصيل في كتبها العقائدية المشهورة[1].
وقد لاحظنا سابقا أن البشارات السماوية الواردة في الأديان السابقة بشأن المنقذ العالمي الموعود في آخر الزمان لا تنطبق بالكامل إلّا على المهدي ابن الحسن العسكري ( عليهما السّلام ) الذي تؤمن به مدرسة أهل البيت ( عليهم السّلام ) ، بل وتصرّح بغيبته وهذا أهم ما يميّز رأي الإمامية كما تصرّح بأنه خاتم الأئمة الاثني عشر وتشير إلى خصائص لا تنطبق على سواه ، الأمر الذي جعل التعرّف على عقيدة الإماميّة في المهدي المنتظر وسيلة ناجحة في حل الاختلاف في تحديد هوية المنقذ العالمي استنادا إلى المنهج العلمي في دراسة هذه البشارات .
ونعرض هنا مجموعة من الآيات الكريمة التي تدل بصورة مباشرة على حتمية أن يكون في كل زمان إمام حق يهدي الناس إلى اللّه ويشهد على أعمالهم ليكون حجة اللّه عزّ وجلّ على أهل زمانه في الدنيا والآخرة ، والتي تحدد له صفات لا تنطبق - في عصرنا الحاضر - على غير الإمام المهدي الذي تقول مدرسة أهل البيت ( عليهم السّلام ) بوجوده وغيبته . فتكون هذه الآيات دالة على صحة عقيدة الإمامية في المهدي المنتظر ، وهي في الواقع من الآيات المثبتة لاستحالة خلو الأرض من الإمام الحق في أي زمان ، ودلالتها على المقصود واضحة لا تحتاج إلى المزيد من التوضيح إلّا أن الخلافات السياسية التي شهدها التأريخ الإسلامي وانعكاساتها في تشكيل الآراء العقائدية ؛ أدّت إلى التغطية على تلك الدلالات الواضحة وصرفها إلى تأويلات بعيدة عن ظواهرها البيّنات .
ونكمل هذا البحث بدراسة لدلالات طائفة من الأحاديث الشريفة التي صحّت روايتها عن الرسول الأكرم ( صلّى اللّه عليه وآله ) في الكتب الستة المعتبرة عند أهل السنة وغيرها من الكتب المعتبرة عند جميع فرق المسلمين ؛ فهي تشكل حجة عليهم جميعا ؛ وهي تكمل دلالات الآيات الكريمة المشار إليها وتشخص المصاديق التي حددت الآيات صفاتها العامة . وتثبت أن المهدي الموعود الذي بشر به رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) هو الإمام الثاني عشر من أئمة العترة النبوية وهو ابن الحسن العسكري سلام اللّه عليه .
1 - عدم خلو الزمان من الإمام
قال اللّه تعالى : يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا[2].
وهذا نصّ صريح على أن لكل أهل زمان « كل أناس » إمام يدعون به يوم القيامة . ويكون الاحتجاج به عليهم أو ليكون شاهدا عليهم يوم الحساب وهذا أيضا يتضمن معنى الاحتجاج عليهم . فمن هو « الإمام » المقصود في الآية الكريمة الأولى ؟
للإجابة يلزم الرجوع إلى المصطلح القرآني نفسه لمعرفة المعاني المرادة منه والاهتداء به لمعرفة المنسجم مع منطوق النص القرآني المتقدم .
لقد اطلق لفظ « الإمام » في القرآن الكريم على من يقتدى به من الأفراد ، وهو على نوعين لا ثالث لهما في الاستخدام القرآني وهما : الإمام المنصوب من قبل اللّه تبارك وتعالى لهداية الخلق إليه بأمره عزّ وجلّ ، كما في قوله عزّ وجلّ : وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا[3] ، وقوله : إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً[4] ، وقوله : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ[5] ، وقوله : وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً[6]. فيلاحظ في جميع هذه الموارد أنها تنسب جعل الإمامة إلى اللّه سبحانه مباشرة .
أما النوع الثاني فهو من يقتدى به للضلال كما في قوله تعالى : فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ[7] ، وقوله : وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ[8].
هذا في الأفراد أما في غير الأفراد فقد استخدم في معنيين وبصورة المفرد فقط ، في حين ورد بالمعاني السابقة بصيغة المفرد وصيغة الجمع ، والمعنى الأول هو التوراة كما في قوله تعالى : وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً[9] ، وربما يستفاد من هذا الاستخدام صدق وصف « الإمام » على الكتب السماوية الأخرى أو الرئيسة منها على الأقل . أما المعنى الثاني فهو اللوح المحفوظ كما في قوله تعالى : وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ[10].
الإمام المقصود في الآية
فمن هو « الإمام » المقصود في الآية والذي لا يخلو زمان من مصداق له ويدعى به أهل عصره يوم القيامة ؟ هل هو شخص معيّن ؟ أم هو أحد الكتب السماوية في كل عصر ؟ أم هو اللوح المحفوظ ؟
لا يمكن أن يكون المراد هنا الكتب السماوية ولا اللوح المحفوظ لأنّ الآية عامة وصريحة بأن مدلولها - وهو عدم خلو أي زمان ، وأيّ قوم من إمام - يشمل الأولين والآخرين ، في حين أن من الثابت قرآنيا وتاريخيا أن أول الكتب السماوية التشريعية هو كتاب نوح ( عليه السّلام ) ، فالقول بأن المراد بالإمام في الآية أحدها في كل عصر يعني إخراج الأزمنة التي سبقت نوحا ( عليه السّلام ) من حكم الآية وهذا خلاف صريح منطوقها بشمولية دلالتها لكل عصر كما يدلّ عليه قوله تعالى كُلُّ أُناسٍ . *
كما لا يمكن تفسير الإمام في الآية باللوح المحفوظ ؛ لأنه واحد لا يختص بأهل زمان معين دون غيرهم في حين أن الآية الكريمة تصرّح بأن لكل أناس إماما .
إذن لا يبقى إلّا القولان الأولان ، فالمتعين أن يكون المراد من الإمام في الآية من يأتمّ به أهل كل زمان في سبيلي الحق أو الباطل . أو أن يكون المراد فيها إمام الحق خاصة وهو الذي يجتبيه اللّه سبحانه في كل زمان لهداية الناس بأمره تبارك وتعالى ويكون حجة اللّه عزّ وجلّ عليهم يدعوهم به يوم القيامة للاحتجاج به عليهم سواء كان نبيّا كإبراهيم الخليل ومحمد - عليهما وآلهما الصلاة والسلام - أو غير نبي كأوصياء الأنبياء ( عليهم السّلام ) .
ويكون المراد بالدعوة في الآية هو الإحضار ، أي إن كل أناس - في كل عصر - محضرون بإمام عصرهم ، ثم يؤتى من اقتدى بإمام الحق كتابه بيمينه ويظهر عمى من عمي عن معرفة الإمام الحق في عصره وأعرض عن اتباعه .
وهذا ما يعطيه التدبر في الآيتين الكريمتين مورد البحث كما يقول العلامة الطباطبائي في تفسيرهما[11] « 1 » ، وقد عرض في بحثه لجميع أقوال المفسّرين في تفسير معنى الإمام هنا وبيّن عدم انسجامها مع الاستخدام القرآني وظاهر الآيتين ، وهي أقوال واضحة البطلان ، ولعل أهمها القول بأنّ المراد من الإمام : النبي العام لكل أمة ، كأن يدعى بأمة إبراهيم أو أمة موسى أو أمة عيسى أو أمة محمد - صلوات اللّه عليهم أجميعن - وهذا القول أيضا غير منسجم مع ظاهر الآيتين أيضا لأنه يخرج من حكمها العام الأمم التي لم يكن فيها نبي ، وهذا خلاف ظاهرهما ، كما أنه مدحوض بالآيات الأخرى التي سنتناولها لاحقا ، إن شاء اللّه تعالى .
الإمام المنقذ من الضلالة
وعليه يكون محصّل الآيتين الكريمتين هو الدلالة على حتمية وجود إمام حق يهتدى به في كل عصر ، يكون حجة اللّه عزّ وجلّ على أهل زمانه في الدنيا والآخرة ، فتكون معرفته وأتباعه في الدنيا وسيلة النجاة يوم الحشر ؛ فيما يكون العمى عن معرفته واتباعه في الدنيا سببا للعمى والضلال الأشد في الآخرة يوم يدعى كل أناس بإمام زمانهم الحق ، ويقال للضالين عنه : هذا إمامكم الذي كان بين أظهركم فلما ذا عميتم عنه ؟ وبذلك تتم الحجة البالغة عليهم ، وتتضح حكمة دعوتهم وإحضارهم به يوم القيامة .
ونصل الآن للسؤال المحوري المرتبط بما دلّت عليه هاتان الآيتان ، وهو :
- من هو الإمام الحق الذي يكون حجة اللّه على خلقه في عصرنا هذا ؟ فإنّه لا بد للإمام الحقّ من مصداق في كلّ العصور كما نصت عليه الآيتان المتقدمتان .
وللإجابة على هذا السؤال من خلال النصوص القرآنية وحدها - باعتبارها حجة على الجميع - ينبغي معرفة الصفات التي تحددها الآيات الكريمة للإمام الحق ، ثم البحث عمن تنطبق عليه في زماننا هذا .
المواصفات القرآنية لإمام الهدى
والمستفاد من تفسير الآيتين المتقدمتين أن الإمام المقصود يجب أن تتوفر فيه الصفات التي تؤهله للاحتجاج به على قومه يوم القيامة مثل القدرة على الهداية والأهلية لأن يكون اتّباعه موصلا للهدى وتكون طاعته معبّرة عن طاعة اللّه تبارك وتعالى ، وأن يكون قادرا على معرفة حقائق أعمال الناس وليس ظواهرها ، أي أن يكون هاديا لقومه وشهيدا على أعمالهم ، الأمر الذي يستلزم أن يكون قادرا على تلقي الهداية الإلهية وحفظها ونقلها للناس ، كما يجب أن يكون أهلا لأن يتفضل عليه اللّه عزّ وجلّ بعلم الكتاب والأسباب التي تؤهله لمعرفة حقائق أعمال الناس للشهادة بشأنها والاحتجاج به عليهم يوم القيامة . وسيأتي المزيد من التوضيح لذلك في الفقرتين اللاحقتين .
كما ينبغي أن يكون متحليا بأعلى درجات العدالة والتّقى لكي لا يخلّ بأمانة نقل الهداية الإلهية إلى قومه ، وكذلك لكي لا يحيف في شهادته عليهم يوم القيامة . أي أن يتحلى بدرجة عالية من العصمة ، وهذا ما صرّح به القرآن الكريم في قوله تعالى : وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ[12]. فالإمامة « عهد » من اللّه تبارك وتعالى لا ينال من تلبس بظلم مطلقا ، ومعلوم أن ارتكاب المعاصي مصداق من مصاديق الظلم ؛ لذا فالمؤهل للإمامة يجب أن يكون معصوما .
وحيث إن اللّه تبارك وتعالى قد أقرّ طلب خليله إبراهيم النبي ( عليه السّلام ) في جعل الإمامة في ذريته ولم يقيّدها إلّا بأنها لا تنال غير المعصومين ، نفهم أن الذرية الإبراهيمية لا تخلو من متأهل للإمامة إلى يوم القيامة ، وهذا ما يؤكده قوله عزّ وجلّ : وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[13].
ولما كانت الإمامة عهدا إلهيا ، كان الإمام مختارا لها من اللّه عزّ وجلّ - وهو الأعلم حيث يجعل رسالته - وهذا ما تؤكده الآيات الكريمة فقد نسبت جعل الإمام إلى اللّه مباشرة ولم تنسبه لغيره كما هو واضح في الآيتين المتقدمتين من سورتي الزخرف والبقرة وغيرهما . ويتحقق هذا الاختيار الإلهي لشخص معيّن للإمامة من خلال النص الصادر من ينابيع الوحي - القرآن والسنة - أو من ثبتت إمامته وعصمته ، أو ظهور المعجزات الخارقة للعادة على يديه حيث تثبت صحة ادعائه الإمامة .
إذن فإمام زماننا الذي دلّت آيتا سورة الإسراء على حتمية وجوده يجب أن يكون هاديا لقومه وشهيدا على أعمالهم ليصح الإحتجاج به يوم القيامة ، وأن يكون معصوما أو على الأقل متحليّا بدرجة عالية من العدالة تؤهله للقيام بمهمته في الهداية والشهادة ؛ ومن الذرية الإبراهيمية التي ثبت بقاء الإمامة فيها ، وأن يكون منصوصا عليه من قبل الرسول الأعظم ( صلّى اللّه عليه وآله ) أو من ثبتت إمامته ، أو أن يكون قد ظهرت على يديه من المعجزات وأثبتت ارتباطه بالسماء وصحة ادعائه الإمامة .
مصداق الإمام في عصرنا الحاضر
فمن الذي تتوفر فيه هذه الصفات في عصرنا الحاضر ؟ من الواضح أنه لا يوجد شخص ظاهر تنطبق عليه هذه الصفات وليس ثمة شخص ظاهر يدعيها أيضا ، فهل يكون عدم وجود شخص ظاهر تتوفر فيه هذه الصفات يعني خلو عصرنا من مثل هذا الإمام ؟
الجواب سلبي بالطبع ؛ لأنه يناقض صريح دلالة آيتي سورة الإسراء ، فلا يبقى أمامنا إلّا القول بوجوده وغيبته وقيامه بالمقدار اللازم للاحتجاج به على أهل زمانه يوم القيامة والذي هو من مهام الإمام ، حتى في غيبته .
وهذا ما تقوله مدرسة أهل البيت ( عليهم السّلام ) في المهدي المنتظر ( عليه السّلام ) وتتميز به ، وتقيم الأدلة النقلية والعقلية الدالة على توفر جميع الشروط والصفات المتقدمة فيه من العصمة والنص عليه من الرسول الأعظم ( صلّى اللّه عليه وآله ) ومن ثبتت إمامته من آبائه ( عليهم السّلام ) ، كما ثبت صدور المعجزات عنه في غيبته الصغرى بل والكبرى أيضا وقيامه عمليا بما يتيسّر له من مهام الإمامة في غيبته كي يتحقق الاحتجاج به على أهل زمانه ، كما هو مدوّن في الكتب التي صنّفها علماء هذه المدرسة[14].
وتكفي هنا الإشارة إلى أن بعض هذه الكتب قد دوّنت قبل ولادة الإمام المهدي ( عليه السّلام ) بفترة طويلة تفوق القرن وفيها أحاديث شريفة تضمّنت النص على إمامته والإخبار عن غيبته وطول هذه الغيبة قبل وقوعها وهذا أوضح شاهد على صحتها كما استدل بذلك العلماء إذ جاءت الغيبة مصدّقة لما أخبرت عنه النصوص المتقدمة عليها وفي ذلك دليل واضح على صدورها من ينابيع الوحي[15].
2 - في كل زمان إمام شهيد على أمته
قال تعالى : فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً[16].
وقال : وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ[17].
وقال : وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ . . .[18].
وقال : وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ[19].
إن هذه الآيات الكريمة تتحدث عن الاحتجاج الإلهي على البشر يوم القيامة ، وهو الاحتجاج نفسه الذي لاحظناه في آيتي سورة الإسراء المتقدمتين ، وهي تدعم وتؤكد دلالتهما على حتمية وجود إمام حق في كل عصر يحتج به اللّه جلّ وعلا على أهل كل عصر « كل أمة ، كل أناس » فيما يرتبط بالهداية والضلال وانطباق أعمالهم على الدين الإلهي القيم .
واضح أن مقتضى كونه حجة للّه على خلقه أن يكون عالما بالشريعة الإلهية من جهة لكي يكون قادرا على هداية الخلق إليها وأن يكون بين أظهرهم للقيام بذلك ، هذا أولا ، وثانيا أن يكون محيطا بأعمال قومه لكي يكون شهيدا عليهم ، أي يستطيع الشهادة يوم القيامة بشأن مواقفهم تجاه الدين القيم .
وواضح أن الشهادة المذكورة في هذه الآيات مطلقة ، « وظاهر الجميع على إطلاقها هو الشهادة على أعمال الأمم وعلى تبليغ الرسل أيضا »[20] وقد صرّح الزمخشري في الكشاف بذلك وقال : « لأن أنبياء الأمم شهداء يشهدون بما كانوا عليه »[21] ، وأن الشهيد : « يشهد لهم وعليهم بالايمان والتصديق والكفر والتكذيب »[22]. والشهيد يجب أن يكون حيا معاصرا لهم غير متوفى كما يشير لذلك قوله تعالى على لسان عيسى ( عليه السّلام ) : وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[23].
يستفاد من هذه الآية أن إعلان نتاج الشهادة يكون في يوم القيامة لكن الإحاطة بموضوعها أي أعمال القوم يكون في الدنيا وخلال معاصرة الشهيد لامته لقوله تعالى : وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي . . . ، لذلك يجب أن يكون الشهيد الذي يحتج به اللّه يوم القيامة معاصرا لمن يشهد عليهم ، لذلك لا يمكن حصر الشهداء على الأمم بالأنبياء ( عليهم السّلام ) كما فعل الزمخشري في تفسيره[24]، بل يجب القول بأن في كل عصر شهيد على أعمال معاصريه ، كما صرّح بذلك الفخر الرازي في تفسيره حيث قال : « أما قوله تعالى : وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ، فالمراد ميّزنا واحدا ليشهد عليهم ، ثم قال بعضهم هم الأنبياء يشهدون بأنهم بلّغوا القوم الدلائل وبلّغوا في إيضاحها كل غاية ليعلم أن التقصير منهم أي من الناس فيكون ذلك زائدا في غمهم .
وقال آخرون : بل هم الشهداء الذين يشهدون على الناس في كل زمان ، ويدخل في جملتهم الأنبياء ، وهذا أقرب لأنه تعالى عمّ كل أمة وكل جماعة بأن ينزع منهم الشهيد فيدخل فيه الأحوال التي لم يوجد فيها النبي وهي أزمنة الفترات والأزمنة التي حصلت بعد محمد ( صلّى اللّه عليه وآله ) فعلموا حينئذ أن الحق للّه ولرسوله . . . »[25].
إذن فلا بد من وجود شهيد على الأمة في هذا العصر كما هو الحال في كل عصر ، يؤيد ذلك استخدام آيتي سورة النساء والحج لاسم الإشارة « هؤلاء » في الحديث عن شهادة الرسول الأكرم محمد ( صلّى اللّه عليه وآله ) : وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ إشارة إلى معاصريه فيما يكون شهداء آخرون على الأجيال اللاحقة[26]. فمن هو الشهيد علينا في هذا العصر ؟ ! نعود إلى الآيات الكريمة لمتابعة ما تحدده من الصفات الهادية إلى معرفته والإجابة على هذا التساؤل .
صفات الشهيد الإمام
إن الآية ( 89 ) من سورة الحج تصرّح بأنه من البشر أنفسهم شهيدا من أنفسهم وهو المستفاد من الآيات الأخرى فهي تستخدم « من » التبعيضية فيقوله تعالى : مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ . *
فالشهيد هو كالأنبياء بشر ، لا هو من الملائكة ولا من الجن ولا من الكتب السماوية ولا اللوح المحفوظ ، وفي هذا تأييد لما تقدم في الحديث عن آيتي سورة الإسراء أن المقصود فيهما من الإمام شخص لا كتاب سماوي ، إذ أن الآيتين تتحدثان عن الاحتجاج الإلهي به على امّته وهذا هو دور الشهيد في هذه الآيات أيضا ، فالمقصود واحد في كلتا الحالتين ، فالإمام هو أيضا منهم .
والآيات الكريمة تستخدم صيغة المفرد في وصفه ، أي إنّ الشهيد على قومه واحد في زمانه الذي يعاصره حيا ، وهذا ينسجم مع استخدام آية سورة الإسراء المتقدمة لصيغة المفرد في ذكر الإمام كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ . الأمر الذي ينفي التفسير القائل بأن الأمة الاسلامية جمعاء أو جماعة المؤمنين الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر هي الشهيدة على أعمال قومها أو الأقوام الأخرى المعاصرة لها ، والأمر نفسه يصدق على نفي القول بأن مصداق هذه الآيات هم « الأبدال » الذين لا يخلو منهم زمان كما ورد في الروايات المروية من طريق الفريقين[27] « 1 » . بل شهيد الأعمال في زمانه واحد لا أكثر .
وحيث إن دوره هو الشهادة على أعمال أمته بالكفر والتكذيب أو الإيمان والتصديق كما تقدم القول عن الزمخشري وهذه حالات قلبية وحيث إن : « من الواضح أن هذه الحواس العادية فينا والقوى المتعلّقة بها منا لا تتحمّل إلّا صور الأفعال والأعمال فقط ، وذلك التحمل أيضا إنما يكون في شيء يكون موجودا حاضرا عند الحس لا معدوما ولا غائبا عنه ، وأما حقائق الأعمال والمعاني النفسانية من الكفر والإيمان والفوز والخسران ، وبالجملة كل خفي عن الحس ، ومستبطن عند الإنسان - وهي التي تكسب القلوب وعليه يدور حساب رب العالمين يوم تبلى السرائر كما قال تعالى : وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ[28] ، فهي مما ليس في وسع الإنسان إحصاؤها والإحاطة بها وتشخيصها من الحاضرين فضلا عن الغائبين إلّا رجل يتولى اللّه أمره ويكشف ذلك له بيده »[29].
لذلك يجب أن تكون للشهيد على أمته إحاطة علمية ربانية بحقائق أعمالهم لأن قيمة الأعمال في الميزان الإلهي هي لحقائقها الباطنية ودوافعها ونواياها كما هو واضح ، لذلك لا يمكن أن يكون هذا الشهيد على أمته شخصا عاديا بل من الذين يحظون بنعمة التسديد الإلهي المباشر ومن الذين ارتضاهم اللّه سبحانه فأطلعهم على غيبه إذ من مصاديق غيبه معرفة بواطن أعمال الناس .
ومن المعلوم أن هذه الكرامة ليست تنالها جميع الأمة ، إذ ليست [ هي ] إلّا كرامة خاصة للأولياء الطاهرين منهم ، وأما من دونهم من المتوسطين في السعادة والعدول من أهل الإيمان فليس لهم ذلك . . . إن أقل ما يتصف به الشهداء - وهم شهداء الأعمال - أنهم تحت ولاية اللّه ونعمته وأصحاب الصراط المستقيم »[30].
الشهيد عنده « علم الكتاب »
وواضح أن هذا الاطلاع على بواطن الناس غير ممكن بالأسباب الطبيعية المتعارفة بل يحتاج إلى نمط خاص من العلم يتفضل به اللّه تبارك وتعالى بحكمته على من يشاء من عباده - وهو عزّ وجلّ الأعلم حيث يجعل رسالته[31] - فيتمكن به العبد من تجاوز ما تعارف عليه الناس من الأسباب الطبيعية والقيام بما يمكن القيام به بواسطة هذه الأسباب فتكون له مرتبة من الولاية التكوينية وتجاوز الأسباب الطبيعية بإذن اللّه ، وهذا النمط الخاص من العلم هو ما سمّي في القرآن الكريم ب « علم الكتاب » .
كما نلاحظ ذلك في قصة إتيان آصف بن برخيا بعرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين في طرفة عين ؛ فقد علل القرآن قدرته على القيام بهذا العمل في زمن قصير للغاية بحيث لا يتصوّر تحققّه على وفق الأسباب الطبيعية ، بما كان لديه من علم الكتاب . لاحظ قوله عزّ وجلّ : قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي[32].
وكان آصف بن برخيا وصيّا لسليمان النبي ( عليه السّلام ) أراد أن يعرّف الناس بأنه الحجة من بعده بإبراز علمه المأخوذ من الكتاب[33] ، وكان عنده مقدار معيّن من علم الكتاب وليس كلّه كما هو واضح من استخدام « من » التبعيضية في الآية المتقدمة .
ومنه يتضح أن الذي لديه علم الكتاب كلّه تكون له مرتبة أعلى من هذه الولاية التكوينية والتصرف في الأسباب والقدرة على الإحاطة ببواطن أعمال الناس وتقديم الشهادة الكاملة بأحقية الرسالة الإلهية .
وعليه فالشهيد على قومه ينبغي أن يكون لديه علم من الكتاب – كلا أو بعضا - أو يمكن القول كحدّ أدنى بأن الذي عنده هذا النمط الخاص من العلم قادر على ذلك . يقول : عزّ من قائل في آخر سورة الرعد : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ[34].
وقد ثبت من طرق أهل السنة - كما نقل ذلك الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل[35] - ومن عدة طرق ، وكذلك ثبت من طرق مذهب أهل البيت ( عليهم السّلام )[36]: أن الآية الكريمة نزلت في الإمام علي ( عليه السّلام ) ، وإن علم الكتاب عنده وعند الأئمة من أولاده ( عليهم السّلام ) وليس هناك من يدعيه غيرهم وقد صدّقت سيرتهم ( عليهم السّلام ) ذلك والكثير مما نقله عنهم حفاظ أهل السنة والشيعة يشهد على صدق مدعاهم هذا .
إذن فالمتحصل من الآيات الكريمة المتقدمة :
1 - حتمية وجود من يجعله اللّه تبارك وتعالى شهيدا على أعمال العباد في كل عصر بحيث يحتج به على أهل عصره وأمته يوم القيامة ، فهو إمام زمانهم الذي يدعون به ، ويكون من أنفسهم .
2 - وهذا الإمام الشهيد قد يكون نبيا وقد يكون من الأوصياء في الفترات التي ليس فيها نبيّ كما هو حال عصرنا الحاضر والعصور التي تلت عصر خاتم الأنبياء محمد ( صلّى اللّه عليه وآله ) . إذ الآيات مطلقة تشمل كل الأزمان كما هو ظاهر . فالإمام الشهيد موجود إذن في عصرنا الحاضر .
3 - والإمام الشهيد في عصرنا الحاضر حيّ أيضا كما هو المستفاد مما حكاه القرآن الكريم على لسان عيسى ( عليه السّلام ) .
4 - ولا بدّ أن يكون هذا الإمام الشهيد على أهل زمانه مسدّدا بالعناية الإلهية ممن تفضّل اللّه عزّ وجلّ عليه بنمط من الولاية التكوينية التي يصل بها إلى حقائق أعمال من يشهد لهم أو عليهم يوم القيامة . ومظهر هذا التسديد والفضل الإلهي هو أن يكون لديه علم من الكتاب أو علم الكتاب كلّه .
5 - وحيث إن مثل هذا الشخص غير ظاهر فلا بد من القول بغيبته الظاهرية ، وقيامه بما يؤهله لأن يحتج اللّه تبارك وتعالى به يوم القيامة خلال غيبته .
6 - قد ثبت - من طرق أهل السنة والشيعة - أن لدى الإمام علي والأئمة من أولاده ( عليهم السّلام ) علم الكتاب حسب ما نص عليه القرآن الكريم بالوصف الذي لا ينطبق على غيره .
وقد أثبت المفسر الكبير العلّامة محمد حسين الطباطبائي ( رحمه اللّه ) في كتابه القيّم « الميزان في تفسير القرآن » ، عدم انسجام الأقوال الأخرى مع منطوق الآية الأخيرة من سوره الرعد لذلك فإن المواصفات المستفادة من الآيات الكريمة تنطبق عليهم ، وحيث لم يدّع غيرهم ذلك فانحصر الأمر بهم .
وقولهم في الإمام الثاني عشر منهم ، وهو محمّد بن الحسن العسكري - عليهم السلام جميعا - وقولهم بغيبته وقيامه بمهام الإمامة وما تقتضيه مهمة الشهادة على أهل زمانه يوم القيامة ؛ ينسجم بشكل كامل مع دلالات الآيات الكريمة المتقدّمة التي لا تنطبق على غيره كما هو واضح بالاستقراء لعقائد الفرق الأخرى .
إن هذه الطائفة من الآيات الكريمة تهدي إلى حتمية وجود مهدي آل البيت ( عليهم السّلام ) وغيبته وقيامه بما تقتضيه مسؤولية الشهادة الاحتجاجية يوم القيامة . وهذا ما تؤكده كما سوف نرى الآيات اللاحقة .
3 - لا يخلو زمان من هاد إلى اللّه بأمره
قال تعالى : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ[37].
تصرّح الآية الكريمة وعلى نحو الإطلاق بأن لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ . واستنادا إلى إطلاقها يستفاد أن ثمة هاد إلى الحق في كل عصر .
وهذه الحقيقة منسجمة مع ما تدل عليه الآيات الكريمة وصحاح الأحاديث الشريفة والبراهين العقلية من أن ربوبية اللّه لخلقه اقتضت أن يجعل سبحانه وتعالى لهم في كل عصر حجة له عليهم يهديهم إلى الحق ، طبقا لسنته الجارية في جميع مخلوقاته في هدايتهم إلى الغاية من خلقها فهو كما قال : الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى[38]. وهذه السنة جارية على بني الإنسان أيضا فهو تعالى الذي خلقهم وقدّر بأن يهديهم إلى كمالاتهم المقدّرة لهم ويدلهم على ما فيه صلاحهم في دنياهم وأخراهم .
معنى الآية الكريمة هو أن الكفار يقترحون عليك [ أيّها النبي الخاتم ( صلّى اللّه عليه وآله ) ] آية ؛ وعندهم القرآن أفضل آية ؛ وليس إليك شيء من ذلك ، وإنما أنت هاد تهديهم من طريق الإنذار ، وقد جرت سنة اللّه في عباده على أن يبعث في كل قوم هاديا يهديهم .
معنى « الهادي » في القرآن
والآية التي ذكرت أعلاه تدل على أن الأرض لا تخلو من هاد يهدي الناس إلى الحق ، « إما أن يكون نبيّا وإما أن يكون هاديا غير نبيّ يهدي بأمر اللّه »[39]. . وإطلاق الآية الكريمة ينفي حصر مصداق « الهادي » في الآية بالأنبياء ( عليهم السّلام ) كما ذهب لذلك الزمخشري في الكشاف في تفسير الآية . لأن هذا الحصر يخرج الفترات التي لم يكن فيها نبيّ من حكم الآية الكريمة العام وهذا خلاف ظاهرها المصرّح بوجود هاد في كل عصر لا تخلو الأرض منه .
فمن هو الهادي في عصرنا الحاضر ؟ نرجع إلى القرآن الكريم للحصول على الإجابة ، فنلاحظ الآيات الكريمة تحصر أمر الهداية إلى الحق على نحو الأصالة باللّه تبارك وتعالى ، ثم تثبتها للهادين بأمره على نحو التبعية ، يقول عزّ وجلّ : قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[40].
تلخّص الآية الكريمة وبلغة إحتجاجية الرؤية القرآنية لموضوع الهداية إلى الحق التي فصلتها العديد من الآيات الكريمة ، وهي حصر الهداية إلى الحق باللّه تبارك وتعالى على نحو الإطلاق : « قل اللّه يهدي إلى الحق » .
ثم قررت الآية الكريمة أن الذي يجب اتباعه من الخلق ليس الذي لا يستطيع أن يهدي إلّا أن يهتدي بغيره من البشر ، بل الذي يكون مهتديا بنفسه دون الحاجة إلى غيره من البشر ، فإن الكلام في الآية - كما يقول العلامة الطباطبائي ( رحمه اللّه ) في تفسيرها : « قد قوبل فيه قوله : يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ بقوله أَمَّنْ لا يَهِدِّي مع أن الهداية إلى الحق يقابلها عدم الهداية إلى الحق ، وعدم الاهتداء إلى الحق يقابله الاهتداء إلى الحق ، فلازم هذه المقابلة الملازمة بين الاهتداء بالغير وعدم الهداية إلى الحق ، وكذا الملازمة بين الهداية إلى الحق والاهتداء بالذات فالذي يهدي إلى الحق يجب أن يكون مهتديا بنفسه لا بهداية غيره والذي يهتدي بغيره ليس يهدي إلى الحق أبدا .
هذا ما تدل عليه الآية بحسب ظاهرها الذي لا ريب فيه وهو أعدل شاهد على أن الكلام موضوع فيها على الحقيقة دون التجوزات المبنية على المساهلة التي نبني عليها ونتداولها فيما بيننا معاشر أهل العرف فننسب الهداية إلى الحق إلى كل من تكلّم بكلمة حق ودعا إليها وإن لم يعتقد بها أو اعتقد ولم يعمل بها أو عمل ولم يتحقق بمعناها ، وسواء اهتدى إليها بنفسه أو هداه إليها غيره .
بل الهداية إلى الحق - التي هي الإيصال إلى صريح الحق ومتن الواقع - ليس إلّا للّه سبحانه أو لمن اهتدى بنفسه أي هداه اللّه سبحانه من غير واسطة تتخلل بينه وبينه ، فاهتدى باللّه وهدى غيره بأمر اللّه سبحانه . . . وقد تبيّن بما قدّمناه في معنى الآية أمور :
أحدها : أن المراد بالهداية إلى الحق ما هو بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون ما هو بمعنى إراءة الطريق المنتمي إلى الحق فإن وصف طريق الحق يتأتى من كل أحد سواء اهتدى إلى الحق بنفسه أو بغيره أو لم يهتد .
وثانيها : أن المراد بقوله : أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى هو من لا يهتدي بنفسه ، وهذا أعم من أن يكون ممّن يهتدي بغيره أو يكون ممن لا يهتدي أصلا لا بنفسه ولا بغيره . . .
وثالثها : أن الهداية إلى الحق - بمعنى الإيصال إليه - إنما هي شأن من يهتدي بنفسه : أي لا واسطة بينه وبين اللّه سبحانه في أمر الهداية إما من بادئ أمره أو بعناية خاصة من اللّه سبحانه كالأنبياء والأوصياء من الأئمة . وأما الهداية بمعنى إراءة الطريق ووصف السبيل فلا يختص به تعالى ولا بالأئمة من الأنبياء والأوصياء ، كما يحكيه اللّه تعالى عن مؤمن آل فرعون إذ يقول :
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ[41]. . .
وأما قوله تعالى خطابا للنبي ( صلّى اللّه عليه وآله ) وهو إمام : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ[42] وغيرها من الآيات فهي مسوقة لبيان الأصالة والتبع كما في آيات التوفي وعلم الغيب ونحو ذلك مما سبقت لبيان أن اللّه سبحانه هو المالك لها بالذات والحقيقة ، وغيره يملكها بتمليك اللّه ملكا تبعيا أو عرضيا ويكون سببا لها بإذن اللّه ، قال تعالى : وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا[43] ، وفي الأحاديث إشارة إلى ذلك وأن الهداية إلى الحق شأن النبي وأهل بيته - صلوات اللّه عليهم أجمعين . انتهى قول العلّامة الطباطبائي ( رحمه اللّه ) في تفسير الآية ملخصا وقد عرض الأقوال الأخرى الواردة في تفسير الآية وبيّن عدم انسجامها مع منطوق الآية نفسها[44].
والمتحصّل من التدبر فيها هو حصر الهداية إلى الحق بمعنى الايصال إلى صريحه باللّه تبارك وتعالى بالأصالة وبالتبع بمن كان مهديا بنفسه من قبل اللّه تبارك وتعالى إذ يتحلّى بدرجة عالية من الاستعداد الذاتي لتلقي المنح الخاصة بالهداية من اللّه تبارك وتعالى سواء عن طريق الوحي إذا كان نبيّا أو عن طريق الإلهام الإلهي الخاص إذا لم يكن نبيّا ؛ وكذلك للحصول على « أمر اللّه » للقيام بمهمة الهداية اليه عزّ وجلّ ، ومراجعة الآيات التي تتحدث عن « أمر اللّه » تقودنا - وبوضوح - إلى معرفة أنه يشمل الولاية التكوينية والتصرّف الخاص إذ لا تجد آية في القرآن الكريم تذكر « أمر اللّه » دون أن يقتصر معناه على ولايته التكوينية أو يشملها إلى جانب الولاية التشريعية « فالإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه ، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم »[45].
وبهذه الولاية التكوينية يستطيع الهادي إلى اللّه بأمره أن يتصرّف بالأسباب ويصل إلى حقائق وبواطن العباد فيعطيهم من حقائق الهداية ما يناسبهم ، وهذا التصرّف هو الذي ساقنا إليه التدبر في الآيات الناصة على وجود شهيد في كل زمان على أهل عصره .
الهادي منصوب من اللّه .
وبالرجوع ثانية إلى القرآن الكريم نجده يصرّح بأن الذي يكون هاديا للناس بأمر اللّه تبارك وتعالى هو الإمام المنصوب لذلك من قبل اللّه تعالى كما هو واضح من قوله تعالى : وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا[46].
وفي هذا تأكيد لما دلّت عليه آيات الإمامة وأنها عهد إلهي يجعله اللّه فيمن يختاره من عباده ، كما أشرنا لذلك في الحديث عن آيات سورة الإسراء وصفات الإمام .
نعود للآية مورد البحث من سورة الرعد فهي تصرّح بأنه لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ على نحو الإطلاق ومصداق الهادي المراد فيها لا يمكن أن يكون أحد الكتب السماوية للسبب نفسه الذي أوردناه في معرفة مصداق « الإمام » في آية سورة الإسراء ، كما لا يمكن حصر المصداق بالنبي لما قلنا من أنه يخرج الفترات التي ليس فيها نبي من حكم الآية وهذا خلاف ظاهر الآية العام الذي يشمل جميع الأزمان .
كما لا يمكن أن يكون المصداق المقصود في الآية هو اللّه سبحانه وتعالى ؛ لأن هدايته تشمل جميع الأزمنة دونما تخصيص بقوم دون قوم ، وهذا خلاف ظاهر الآية ، خاصة وأن لفظة « هاد » جاءت بصيغة النكرة ، الأمر الذي يفيد تعدد الهداة .
يضاف إلى كل ذلك أن الهداية الإلهية للناس تكون بواسطة هداة من أنفسهم مرتبطين به تبارك وتعالى يتلقون منه الهداية وينقلونها إلى عباده ، وهؤلاء هم المهتدون بأنفسهم منه تبارك وتعالى دونما واسطة كما تقدم في تفسير آية سورة يونس وهم الذين يهدون بأمره تعالى . وهم الأئمة المنصوبون للهداية بأمره تعالى كما تقدم حيث لم يرد في القرآن الكريم وصف الهداية بأمره إلّا في موردين اقترن فيهما بوصفي « الأئمة » واختيارهم لذلك من قبل اللّه تعالى ، والموردان هما آية سورة الأنبياء المتقدمة وآية سورة السجدة : وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا[47].
وتكون النتيجة المتحصلة من التدبر في الآية الكريمة مورد البحث هي حتمية وجود إمام هاد إلى اللّه بأمره تبارك وتعالى منصوب لذلك من قبله عزّ وجلّ في كل عصر فلا تخلو الأرض منه سواء أكان نبيّا أو غير نبي .
وحيث إن مثل هذا الشخص غير ظاهر في عصرنا الحاضر ؛ إذ لا يوجد بين المسلمين - من أي فرقة كانت - من يقول بوجود إمام ظاهر هاد بأمر اللّه منصوب من قبله تعالى ورد النص عليه ممّن قوله حجة إلهية كما تقدم في البحث عن آية سورة الإسراء ؛ لذا فلا مناص من القول بغيبته واستتاره ، وقيامه بمهام الإمامة والهداية مستترا بأستار الغيبة ، فيكون الانتفاع به مثل الانتفاع بالشمس إذا غيّبتها عن الأبصار السحاب كما ورد في الأحاديث الشريفة[48].
وهذا ما تقول به مدرسة أهل البيت ( عليهم السّلام ) في الإمام المهدي وغيبته .
[1] مثل رسائل الشيخ المفيد في الغيبة وهي خمس رسائل إضافة إلى كتاب الفصول العشرة في الغيبة ، وكتاب المقنع في الغيبة للسيد المرتضى ، وكتاب الغيبة للشيخ الطوسي ، وكتاب إكمال الدين للشيخ الصدوق ، وكتاب الغيبة للشيخ النعماني ، وعموم كتب الإمامة كالشافي وتلخيصه وغيرها فقد حفلت بأشكال الأدلة على هذا الموضوع وهي كثيرة للغاية .
[2] الاسراء ( 17 ) : 71 - 72 .
[3] الأنبياء ( 21 ) : 73 .
[4] البقرة ( 2 ) : 124 .
[5] القصص ( 28 ) : 5 .
[6] الفرقان ( 25 ) : 74 .
[7] التوبة : 9 / 12 .
[8] القصص ( 28 ) : 41 . والجعل هنا بمعنى « تصييرهم سابقين في الضلال يقتدي بهم اللاحقون » الميزان : 16 / 38 ، فليس هنا بمعنى النصب كما هو حال أئمة الهدى .
[9] هود ( 11 ) : 17 .
[10] يس ( 26 ) : 12 .
[11] تفسير الميزان : 13 / 165 - 169 ، وما أوردناه مستفاد من بحثه التفسيري لهما .
[12] البقرة ( 2 ) : 124 .
[13] الزخرف ( 43 ) : 28 ، ولاحظ قوله تعالى وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ العنكبوت ( 29 ) : 27 .
[14] راجع في هذا الباب مثلا كتاب منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر لآية اللّه الشيخ لطف اللّه الصافي فقد جمع الكثير من النصوص المروية من طرق أهل السنة والشيعة ، وراجع أيضا كتاب إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات للحر العاملي ، وفرائد السمطين للحمويني الشافعي ، وينابيع المودة للحافظ القندوزي الحنفي وغيرها كثير .
[15] راجع هذا الاستدلال في مقدمة كتاب كمال الدين للشيخ الصدوق : 12 ، والفصل الخامس من الفصول العشرة في الغيبة للشيخ المفيد ، وكذلك الرسالة الخامسة من رسائل الغيبة . وكتاب الغيبة للشيخ الطوسي : 101 وما بعدها ، وإعلام الورى للشيخ الطبرسي : 2 / 257 وما بعدها وكشف المحجة للسيد ابن طاووس : 104 ، وغيرها .
[16] النساء ( 4 ) : 41 .
[17] النحل ( 16 ) : 84 .
[18] النحل ( 16 ) : 89 .
[19] القصص ( 28 ) : 75 .
[20] تفسير الميزان : 1 / 32 .
[21] تفسير الكشاف : 3 / 429 .
[22] تفسير الكشاف : 2 / 626 .
[23] المائدة ( 5 ) : 117 .
[24] تفسير الكشاف : 3 / 429 .
[25] التفسير الكبير : 25 / 12 - 13 . راجع في ذلك مجمع البيان : في ذيل الآية .
[26] التفسير الكبير : 25 / 12 - 13 ، وتفسير الكشاف : 2 / 628 .
[27] راجع معجم أحاديث الإمام المهدي : 1 / 274 ، نقلا عن مسند أحمد وغيره من المجاميع الروائية لأهل السنة .
[28] البقرة ( 2 ) : 225 .
[29] تفسير الميزان : 1 / 320 - 321 .
[30] تفسير الميزان : 1 / 321 .
[31] إشارة إلى قوله تعالى : اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ الأنعام ( 6 ) : 124 .
[32] النمل ( 27 ) : 40 .
[33] قصص الأنبياء للسيد الجزائري : 428 نقلا عن تفسير العياشي .
[34] الرعد ( 13 ) : 43 .
[35] شواهد التنزيل : 1 / 400 وما بعدها .
[36] تفسير الميزان : 11 / 387 - 388 .
[37] الرعد ( 13 ) : 7 .
[38] الأعلى ( 87 ) : 2 - 3 وراجع تفسيرها في الجزء العشرين من تفسير الميزان .
[39] تفسير الميزان : 1 / 305 .
[40] يونس ( 10 ) : 35 .
[41] المؤمن ( 40 ) : 38 .
[42] القصص ( 28 ) : 56 .
[43] الأنبياء ( 21 ) : 73 .
[44] تفسير الميزان : 10 / 56 - 61 .
[45] تفسير الميزان : 1 / 272 .
[46] الأنبياء ( 21 ) : 73 .
[47] السجدة ( 32 ) : 24 .
[48] راجع الحديث الذي يرويه جابر بن عبد اللّه الأنصاري عن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) المروي في كمال الدين : 1 / 253 وكفاية الأثر : 53 وغيرهما .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|