المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

سيرة الرسول وآله
عدد المواضيع في هذا القسم 9111 موضوعاً
النبي الأعظم محمد بن عبد الله
الإمام علي بن أبي طالب
السيدة فاطمة الزهراء
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الإمام محمد بن علي الباقر
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الإمام علي بن موسى الرّضا
الإمام محمد بن علي الجواد
الإمام علي بن محمد الهادي
الإمام الحسن بن علي العسكري
الإمام محمد بن الحسن المهدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24



الإمام الهادي ( عليه السّلام ) والمتوكل العباسي  
  
3236   03:42 مساءً   التاريخ: 2023-04-17
المؤلف : المجمع العالمي لأهل البيت ( ع ) - لجنة التأليف
الكتاب أو المصدر : أعلام الهداية
الجزء والصفحة : ج 12، ص 89-112
القسم : سيرة الرسول وآله / الإمام علي بن محمد الهادي / قضايا عامة /

هو جعفر بن المعتصم بن الرشيد ، امّه أم ولد اسمها شجاع . أظهر الميل إلى السنّة ، ورفع المحنة وكتب بذلك إلى الآفاق سنة ( 234 ه ) ، واستقدم المحدّثين إلى سامرّاء وأجزل عطاياهم وأمرهم أن يحدّثوا بأحاديث الصفات والرؤية .

وقالوا عنه : انّه كان منهمكا في اللذات والشراب ، وكان له أربعة آلاف سرّيّة ( أمة يتسرّى بها ) . وقال علي بن الجهم : كان المتوكل مشغوفا بقبيحة أم المعتزّ ، والتي كانت أم ولد له ، ومن أجل شغفه بها أراد تقديم ابنها المعتزّ على ابنه المنتصر بعد أن كان قد بايع له بولاية العهد ، وسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى ، فكان يحضره مجلس العامّة ويحطّ منزلته ويتهدّده ويشتمه ويتوعّده[1].

وكان المتوكل مسرفا جدا في صرف بيت المال على الشعراء الذين يتقرّبون إليه بالمديح - في الوقت الذي كان عامة الناس يشتكون الفقر والحاجة - حتى قالوا : ما أعطى خليفة شاعرا ما أعطى المتوكّل ، وفيه قال مردان ابن أبي الجنوب :

فامسك ندى كفّيك عني ولا تزد * فقد خفت أن أطغى وأن اتجبّرا

فقال المتوكل : لا أمسك حتى يغرقك جودي ، وكان قد أجازه على قصيدة بمائة ألف وعشرين ألفا[2].

ولعلّ من وصف المتوكل بالجود سوف يتراجع عن وصفه إذا سمع أن المتوكّل قال للبحتري : قل فيّ شعرا وفي الفتح بن خاقان ، فإني أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي ولا يفقدني ، فقل في هذا المعنى ، فقال البحتري :

يا سيّدي كيف أخلفت وعدي * وتثاقلت عن وفاء بعهدي ؟

لا أرتني الأيام فقدك يا فت * ح ولا عرّقتك ما عشت فقدي

أعظم الرزء أن تقدّم قبلي * ومن الرزء أن تؤخّر بعدي

حذرا أن تكون إلفا لغيري * إذ تفرّدت بالهوى فيك وحدي

وقد قتل المتوكل والفتح بن خاقان في مجلس لهوهما في ساعة واحدة وفي جوف الليل في الخامس من شوّال سنة ( 247 ه ) كما سوف يأتي بيانه .

الإمام الهادي ( عليه السّلام ) والمتوكل العباسي

وقد عرف المتوكل ببغضه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولآل البيت ( عليهم السّلام ) وشيعتهم ، ففي سنة ( 236 ه ) أمر بهدم قبر الإمام الحسين ( عليه السّلام ) وهدم ما حوله من الدور . ومنع الناس من زيارته وأمر بمعاقبة من يتمرّد على المنع .

قال السيوطي : وكان المتوكّل معروفا بالتعصّب فتألّم المسلمون من ذلك ، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء . فمما قيل في ذلك :

باللّه إن كانت أمية قد أتت * قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله * هذا لعمري قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قتله فتتبّعوه رميما[3]

ولم يقف المتوكّل عند حدّ في عدائه ونصبه لأهل البيت ( عليهم السّلام ) وايذاء شيعتهم فقد قتل معلّم أولاده إمام العربية يعقوب ابن السكّيت حين سأله : من أحب إليك ؟ هما - يعني ولديه المعتز والمؤيد - أو الحسن والحسين ؟ فقال ابن السكّيت : قنبر - يعني مولى علي - خير منهما ، فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات ، وقيل أمر بسلّ لسانه فمات ، وذلك في سنة ( 244 ه )[4].

وأهم حدث في زمن المتوكّل فيما يخص حياة أهل البيت ( عليهم السّلام ) بحيث يكشف عمّا وصل إليه الرأي العام الإسلامي من التوجه إليهم والاهتمام بهم في الوقت الذي كان العباسيون يفقدون فيه موقعهم في النفوس هو حدث إشخاص المتوكّل للإمام علي الهادي ( عليه السّلام ) من مدينة جدّه ووطنه إلى سجون سرّ من رأى بعيدا عن حواضر العلم والدين والأدب .

ففي سنة ( 234 ه ) أي بعد سنتين[5] من سيطرته على كرسي الخلافة أمر المتوكل يحيى بن هرثمة بالذهاب إلى المدينة والشخوص بالإمام إلى سامراء ، وكانت للإمام ( عليه السّلام ) مكانة رفيعة بين أهل المدينة ، ولمّا همّ يحيى بإشخاصه اضطربت المدينة وضج أهلها كما ينقل يحيى نفسه ، حيث قال :

دخلت المدينة فضج أهلها ضجيجا عظيما ، ما سمع الناس بمثله خوفا على علي - اي الإمام الهادي ( عليه السّلام ) - وقامت الدنيا على ساق ، لأنه كان محسنا إليهم ملازما المسجد ، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا فجعلت أسكتهم ، وأحلف لهم أني لم أومر فيه بمكروه وأنه لا بأس عليه ثم فتّشت منزله فلم أجد إلّا مصاحف وأدعية ، وكتب علم ، فعظم في عيني[6].

ونستفيد من هذه الرواية أمورا منها :

1 - قوة تأثير الإمام الهادي ( عليه السّلام ) وانشداد الناس إليه وتعلقهم به لكثرة احسانه إليهم ، ولأنه يجسّد الرسول والرسالة في هديه وسلوكه .

2 - خشية السلطة العباسية من تعاظم أمر الإمام ( عليه السّلام ) ومن سهولة اتصال الجماعة الصالحة به ، وإشخاصه إلى سامراء يعتبر إبعادا له عنهم ومن ثم يمكن وضعه تحت المراقبة الشديدة .

3 - تأثر قائد الجيش العباسي - يحيى بن هرثمة - بالإمام ( عليه السّلام ) وتعظيمه له ؛ لكذب الاتهامات حوله بالنسبة لعدّ العدة والسلاح للإطاحة بالخليفة العباسي .

4 - عزوف الإمام ( عليه السّلام ) عن الدنيا وملازمة المسجد متخذا من سيرة آبائه نبراسا له ، ومن المسجد طريقا لبث علوم أهل البيت ( عليهم السّلام ) وتصحيح معتقدات الأمة .

5 - عزل الإمام ( عليه السّلام ) عن شيعته ومحبيه ، فسامراء مدينة أسسها المعتصم العباسي وكانت تسكنها غالبية تركية ( قوّاد وجنود ) ولم يكونوا يعبؤون بالدين والقيم قدر اهتمامهم بالسيطرة والسلطة .

الوشاية بالإمام ( عليه السّلام )

يبدو من بعض المصادر أن أحد أسباب إشخاص المتوكّل العباسي للإمام الهادي ( عليه السّلام ) إلى سامراء هو وشاية إمام الحرمين الذي كان معروفا بالنصب لأهل البيت ( عليهم السّلام ) وقد كانت هذه الوشايات متتابعة ومتكرّرة وهذا دليل على عدم الارتياح لتواجد الإمام الهادي ( عليه السّلام ) بالمدينة وتأثيره الكبير على الحرمين معا وهما مركز الثقل العلمي والديني في الحاضرة الإسلامية . ويشهد لذلك ما قالوا : من أنه كتب بريحة العباسي[7]  صاحب الصلاة بالحرمين إلى المتوكل :

« إن كان لك في الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منهما فإنه قد دعا إلى نفسه واتبعه خلق كثير » .

وتابع بريحة الكتب في هذا المعنى فوجّه المتوكل بيحيى بن هرثمة في سنة ( 234 ه ) وكتب معه إلى أبي الحسن ( عليه السّلام ) كتابا جميلا يعرفه انه قد اشتاقه ويسأله القدوم عليه وأمر يحيى بالمسير معه كما يحب ، وكتب إلى بريحة يعرّفه ذلك .

وإليك نصّ رسالة المتوكل إلى الإمام الهادي ( عليه السّلام ) ، حسبما رواه الشيخ محمد بن يعقوب الكليني :

عن محمد بن يحيى ، عن بعض أصحابنا قال : اخذت نسخة كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالث ( عليه السّلام ) من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين وهذه نسخته :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم ، أما بعد فإن أمير المؤمنين عارف بقدرك ، راع لقرابتك ، موجبا لحقّك يقدّر الأمور فيك وفي أهل بيتك ، ما اصلح اللّه به حالك وحالهم وثبت به عزّك وعزّهم ، وأدخل اليمن والأمن عليك وعليهم .

يبتغي بذلك رضى ربّه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم ، وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد اللّه بن محمد عما كان يتولاه من الحرب والصلاة بمدينة رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) . إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك ، وعندما قرفك[8] « 1 » به ، ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في ترك محاولته ، وأنّك لم تؤهل نفسك له ، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل ، وأمره بإكرامك وتبجيلك ، والانتهاء إلى أمرك ورأيك والتقرب إلى اللّه والى أمير المؤمنين بذلك ، وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحب إحداث العهد بك والنظر إليك .

فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما رأيت ، شخصت ومن أحببت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت ، وتسير كيف شئت ، وان أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند مشيعين لك ، يرحلون برحيلك ، ويسيرون بسيرك ، والأمر في ذلك إليك حتى توافي أمير المؤمنين .

فما أحد من اخوته وولده وأهل بيته وخاصته ألطف منه منزلة ولا أحد له أثرة ولا هو لهم أنظر وعليهم أشفق ، وبهم أبرّ وإليهم أسكن منه إليك إن شاء اللّه تعالى والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته »[9].

إنّ المتوكل قد كان يهدف في رسالته أمورا إعلامية ودعائية أولا تأثيرا في أهل المدينة ، محاولة منه لتغيير انطباعهم من جهة فالغالبية من أهل المدينة تعرف المتوكل وعداءه لأهل البيت ( عليهم السّلام ) وشيعتهم .

وحاول ثانيا أن يبدي للإمام الهادي ( عليه السّلام ) انه يحترم رأيه ويقدره ويعزه لذا فقد أبدل والي المدينة بغيره ومن ثم جعل له الحرية في الشخوص إلى الخليفة كيف يشاء الإمام ( عليه السّلام ) . وتلك أساليب إن كانت تغري العامة فالإمام ( عليه السّلام ) كان يدرك ما يرومه المتوكل ويهدف إليه في استدعائه .

وعلى أيّة حال فقد قدم يحيى بن هرثمة المدينة فأوصل الكتاب إلى بريحة ، وركبا جميعا إلى أبي الحسن ( عليه السّلام ) فأوصلا إليه كتاب المتوكل فاستأجلهما ثلاثا ، فلما كان بعد ثلاث عاد إلى داره فوجد الدواب مسرّجة والأثقال مشدودة قد فرغ منها .

ولا نغفل عن تفتيش يحيى لدار الإمام ( عليه السّلام ) ممّا يعني أنه كان مأمورا بذلك في الوقت الذي كان الكتاب ينفي عن الإمام أي اتّهام ضدّه .

ومن هنا نعلم أن استقدام الإمام ( عليه السّلام ) كان أمرا إلزاميا له وان كان بصيغة الاستدعاء وإلّا فلم هذا التفتيش الذي يكشف عن وجود سوء ظن بالإمام ( عليه السّلام ) بعد تلك الوشايات ؟ !

وخرج ( عليه السّلام ) بولده الإمام الحسن العسكري ( عليه السّلام ) وهو صبي مع يحيى ابن هرثمة متوجها نحو العراق واتبعه بريحة مشيّعا فلما صار في بعض الطريق قال له بريحة : قد علمت وقوفك على أني كنت السبب في حملك وعليّ حلف بأيمان مغلظة : لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو أحد من خاصته وأبنائه لأجمّرنّ نخلك ولا قتلنّ مواليك ولاعورنّ عيون ضيعتك ولأفعلنّ ولأصنعنّ ، فالتفت إليه أبو الحسن فقال له : ان أقرب عرضي إياك على اللّه البارحة وما كنت لأعرضنك عليه ثم لأشكوك إلى غيره من خلقه . قال : فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه فقال له : قد عفوت عنك[10].

وأهم الإشارات ذات الدلالة في هذه الرواية : أن المتوكل أمر يحيى بن هرثمة برعاية الإمام ( عليه السّلام ) وعدم التشديد عليه ، وقد بلغ ذلك بريحة وخشي ان يشتكيه الإمام للمتوكل ، فتوعد الإمام فعمد الإمام ( عليه السّلام ) إلى تركيز مفهوم اسلامي وهو مسألة الارتباط باللّه سبحانه ، فإنّه هو الذي ينفع ويضر ويدفع عن عباده ، لذا أجاب الإمام ( عليه السّلام ) بريحة بأنه قد شكاه إلى اللّه تعالى قبل يوم من سفره وان الإمام ( عليه السّلام ) ليس في نيته أن يشتكي بريحة عند الخليفة مما اضطر بريحة أن يعتذر من الإمام ( عليه السّلام ) ويطلب العفو منه ، فهو يعرف منزلة الإمام وآبائه ( عليهم السّلام ) وصلتهم الوثيقة باللّه سبحانه ، فأخبره الإمام ( عليه السّلام ) بأنه قد عفى عنه ، وكان الإمام يدرك أبعاد سلوك الخليفة إزاءه وما يرمي إليه من تفتيش داره وإشخاصه من المدينة إلى سامراء ، وإبعاده عن أهله ومواليه ومن ثم وضعه تحت الرقابة المشددة ومعرفة الداخلين على الإمام المرتبطين به وبالتالي ضبط كل حركات الإمام ( عليه السّلام ) وتحرّكات قواعده ، فوجوده ( عليه السّلام ) في المدينة يعني بالنسبة للخليفة تمتع الإمام ( عليه السّلام ) بحرية في التحرك ، فضلا عن سهولة وتيسر سبل الاتصال به من قبل القواعد الموالية للإمام ( عليه السّلام ) .

وقد كان الإمام ( عليه السّلام ) في كل تحرّكاته وحتى في كتبه ووصاياه إلى شيعته يتصف باليقظة والحذر ، ومن هنا كانت الوشايات به تبوء بالفشل ، وحينما كانت تكبس داره - كما حصل ذلك مرارا - لا يجد جلاوزة السلطان فيها غير كتب الأدعية والزيارات والقرآن الكريم ، حتى حينما تسوّروا عليه الدار لم يجدوه إلّا مصلّيا أو قارئا للقرآن .

وقال ابن الجوزي : ان السبب في اشخاص الإمام ( عليه السّلام ) من المدينة إلى سامراء - كما يقول علماء السّير - هو ان المتوكل كان يبغض عليا أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) وذريّته وخشي تأثيره في أهل المدينة وميلهم إليه[11].

وهذا التعليل ينسجم مع كل تحفّظات الإمام ( عليه السّلام ) تجاه السلطان .

الإمام في طريقه إلى سامراء

وحاول ابن هرثمة في الطريق إحسان عشرة الإمام ( عليه السّلام ) وكان يرى من الإمام ( عليه السّلام ) الكرامات التي ترشده إلى عظمة الإمام ومكانته وحقيقة أمره وتوضح له الجريمة التي يرتكبها في إزعاج الإمام ( عليه السّلام ) والتجسّس عليه .

عن يحيى بن هرثمة قال : رأيت من دلائل أبي الحسن الأعاجيب في طريقنا ، منها : انا نزلنا منزلا لا ماء فيه ، فأشفينا دوابنا وجمالنا من العطش على التلف وكان معنا جماعة وقوم قد تبعونا من أهل المدينة ، فقال أبو الحسن :

كأنّي أعرف على أميال موضع ماء . فقلنا له : ان نشطت وتفضلت عدلت بنا إليه وكنا معك فعدل بنا عن الطريق .

فسرنا نحو ستة أميال فأشرفنا على واد كأنه ز هو الرياض فيه عيون وأشجار وزروع وليس فيها زراع ولا فلاح ولا أحد من الناس ، فنزلنا وشربنا وسقينا دوابّنا وأقمنا إلى بعد العصر ، ثم تزودنا وارتوينا وما معنا من القرب ورحنا راحلين فلم نبعد أن عطشت .

وكان لي مع بعض غلماني كوز فضة يشده في منطقته وقد استسقيته فلجلج لسانه بالكلام ونظرت فإذا هو قد أنسى الكوز في المنزل الذي كنا فيه فرجعت اضرب بالسوط على فرس لي ، جواد سريع واغد السير حتى أشرفت على الوادي ، فرأيته جدبا يابسا قاعا محلا لا ماء ولا زرع ولا خضرة ورأيت موضع رحالنا ورؤث دوابنا وبعر الجمال ومناخاتهم والكوز موضوع في موضعه الذي تركه الغلام فأخذته وانصرفت ولم أعرفه شيئا من الخبر .

فلما قربت من القطر والعسكر وجدته ( عليه السّلام ) ينتظرني فتبسم ولم يقل لي شيئا ولا قلت له سوى ما سأل من وجود الكوز ، فأعلمته أني وجدته .

قال يحيى : وخرج في يوم صائف آخر ونحن في ضحو وشمس حامية تحرق فركب من مضربه وعليه ممطر وذنب دابته معقود وتحته لبد طويل .

فجعل كل من في العسكر وأهل القافلة يضحكون ويقولون هذا الحجازي ليس يعرف الري فسرنا أميالا حتى ارتفعت سحابة من ناحية القبلة واظلمت واضلتنا بسرعة وأتى من المطر الهاطل كأفواه القرب فكدنا نتلف وغرقنا حتى جرى الماء من ثيابنا إلى أبداننا وامتلأت خفافنا وكان أسرع وأعجل من أن يمكن أن نحط ونخرج اللبابيد ، فصرنا شهرة وما زال ( عليه السّلام ) تبسما ظاهرا تعجبا من أمرنا .

قال يحيى : وصارت إليه في بعض المنازل امرأة معها ابن لها أرمد العين ولم تزل تستذل وتقول معكم رجل علوي دلوني عليه حتى يرقى عين ابني هذا . فدللناها عليه ، ففتح عين الصبي حتى رأيتها ولم أشكّ انها ذاهبة فوضع يده عليها لحظة يحرك شفتيه ثم نحّاها فإذا عين الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علّة[12].

ومرّ الركب ببغداد - في طريقه إلى سامراء - فقابل ابن هرثمة وإليها إسحاق بن إبراهيم الطاهري فأوصاه بالإمام ( عليه السّلام ) خيرا واستوثق من حياته بقوله : يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) ، والمتوكل من تعلم ، وإن حرّضته على قتله كان رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) خصمك .

فأجابه يحيى : واللّه ما وقفت له إلّا على كل أمر جميل[13].

وحين وصل الركب إلى سامراء بدأ ابن هرثمة بمقابلة وصيف التركي - وهو ممّن كان يشارك في تنصيب الخليفة وعزله ومناقشته في أعماله - وممّا قاله وصيف ليحيى : واللّه لئن سقطت من رأس هذا الرجل - ويقصد به الإمام الهادي ( عليه السّلام ) - شعرة لا يكون المطالب بها غيري .

قال ابن هرثمة : فعجبت من قولهما وعرّفت المتوكّل ما وقفت عليه من حسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته وأني فتشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم وانّ أهل المدينة خافوا عليه ، فأحسن جائزته وأجزل برّه[14].

غير أن هذا الإكرام الذي ادّعاه ابن هرثمة يتنافى مع ما أمر به المتوكل من حجب الإمام ( عليه السّلام ) عنه في يوم وروده إلى سامراء ، ويزيد الأمر إبهاما وتساؤلا هو أمره بإنزال الإمام ( عليه السّلام ) في مكان متواضع جدّا يدعى بخان الصعاليك[15].

قال صالح بن سعيد : دخلت على أبي الحسن ( عليه السّلام ) فقلت له : جعلت فداك في كل الأمور أرادوا اطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع ، خان الصعاليك[16].

وليس ببعيد أن تكون الصورة التي نقلها يحيى للمتوكل عن الإمام ( عليه السّلام ) ومدى نفوذ شخصيّته حتى عند الولاة والقوّاد مدعاة للضغط على الإمام ( عليه السّلام ) والسعي للتضييق الحقيقي عليه من خلال الحيلولة بينه وبين ارتباطه بقواعده وإن كان ذلك بالتظاهر بالإكرام كما نراه في النص الذي نقل عن يحيى ، ولا يغيب عن مثل يحيى مدى كره المتوكل لآل أبي طالب بشكل عام وللإمام الهادي ( عليه السّلام ) بشكل خاص .

الإمام ( عليه السّلام ) في سامراء

إنّ حجب المتوكل للإمام الهادي ( عليه السّلام ) لدى وروده والأمر بإنزاله في خان الصعاليك لو لاحظناه مع ما جاء في رسالة المتوكل للإمام الهادي ( عليه السّلام ) يحمل بين طيّاته صورة واضحة من نظرة المتوكل إلى الإمام ( عليه السّلام ) . فهو لا يأبى من تحقير الإمام وإذلاله كلما سنحت له الفرصة . ولكنه كان يحاول التعتيم على ما يدور في قرارة نفسه ولهذا أمر بعد ذلك بإفراد دار له فانتقل العلم بأن المتوكل هو الذي كان قد استدعى الإمام ( عليه السّلام ) وكان يعلم بقدومه عليه ، ولا بد أن يكون قد استعد لذلك .

وعلى أية حال فالذي يبدو من سير الأحداث أن المتوكل حاول بكل جهده ليكسب ودّ الإمام ويورّطه فيما يشتهي من القبائح التي كان يرتكبها المتوكل .

وحاول المتوكل غير مرّة إفحام الإمام ( عليه السّلام ) بالرغم من أنه كان يضطر إلى الالتجاء إليه حين كان يعجز علماء البلاط أو وعّاظ السلاطين عن تقديم الأجوبة الشافية في الموارد الحرجة .

وإليك جملة من هذه الموارد :

1 - إنّ نصرانيا كان قد فجر بامرأة مسلمة فأراد المتوكل أن يقيم عليه الحد فأسلم . فقال ابن الأكثم : قد هدم ايمانه شركه وفعله . وقال بعضهم يضرب ثلاثة حدود . وقال آخرون غير ذلك ، فأمر المتوكل بأن يكتب إلى الإمام الهادي ( عليه السّلام ) وسؤاله عن ذلك فلما قرأ الكتاب ، كتب : يضرب حتى يموت .

فأنكر ابن الأكثم وسائر فقهاء العسكر وطالبوا الإمام بالحجة من الكتاب والسنة فكتب ( عليه السّلام ) : بسم اللّه الرحمن الرحيم : فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ . فأمر المتوكل فضرب حتى مات[17].

2 - وحين نذر المتوكل أن يتصدّق بمال كثير واختلف الفقهاء في تحديد المال الكثير ، أشار عليه أحد ندمائه بالسؤال من الإمام ( عليه السّلام ) قائلا : ألا تبعث إلى هذا الأسود فتسأله عنه ؟ فقال له المتوكل : من تعني ؟ ويحك ! فقال له : ابن الرضا . فقال له : وهو يحسن من هذا شيئا ؟ فقال : إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا وإلّا فاضربني مائة قرعة . فبعث من يسأل له ذلك من الإمام فأجاب الإمام بأن الكثير ثمانون . فلما سئل عن دليل ذلك أجاب قائلا : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ فعددناها فكانت ثمانين[18].

إنّ هذا التنكّر من المتوكّل للإمام ( عليه السّلام ) أو هذا التعجب من أنه قادر على الإجابة وقد عرفنا موارد منها ليشير إلى مدى حقد المتوكل وتعمّده في تسقيط الإمام ( عليه السّلام ) أمام الآخرين . ولكنه لم يفلح حتى أنه كان يبادر للتعتيم الإعلامي على فضائل الإمام ( عليه السّلام ) ومناقبه ، كما نرى ذلك بعد ردّه على أسئلة ابن الأكثم حيث قال ابن الأكثم للمتوكل : ما نحب أن تسأل هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه وانّه لا يرد عليه شيء بعدها إلّا دونها وفي ظهور علمه تقوية للرافضة[19].

3 - ومن جملة القضايا التي حاول إحراج الإمام فيها قضية زينب الكذّابة حيث أمر الإمام ( عليه السّلام ) بالنزول إلى بركة السباع .

قال أبو هاشم الجعفري : ظهرت في أيام المتوكل امرأة تدّعي أنها زينب بنت فاطمة بنت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) فقال المتوكّل : أنت امرأة شابة وقد مضى من وقت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) ما مضى من السنين ، فقالت : إنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) مسح عليّ وسأل اللّه أن يردّ عليّ شبابي في كل أربعين سنة ، ولم أظهر للناس إلى هذه الغاية فلحقتني الحاجة فصرت إليهم .

فدعا المتوكل مشايخ آل أبي طالب وولد العباس وقريش وعرّفهم حالها فروى جماعة وفاة زينب في سنة كذا ، فقال لها : ما تقولين في هذه الرواية ؟

فقالت : كذب وزور ، فإنّ أمري كان مستورا عن الناس ، فلم يعرف لي حياة ولا موت ، فقال لهم المتوكل : هل عندكم حجّة على هذه المرأة غير هذه الرواية ؟ فقالوا : لا ، فقال : هو بريء من العبّاس إن لا أنزلها عمّا ادّعت إلّا بحجة .

قالوا : فأحضر ابن الرضا ( عليه السّلام ) فلعلّ عنده شيئا من الحجة غير ما عندنا .

فبعث إليه فحضر فأخبره بخبر المرأة فقال : كذبت فإنّ زينب توفيت في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا ، قال : فإنّ هؤلاء قد رووا مثل هذه وقد حلفت أن لا أنزلها إلّا بحجّة تلزمها .

قال : ولا عليك فههنا حجّة تلزمها وتلزم غيرها ، قال : وما هي ؟ قال : لحوم بني فاطمة محرّمة على السباع فأنزلها إلى السباع فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرّها ، فقال لها : ما تقولين ؟ قالت : إنّه يريد قتلي ، قال : فههنا جماعة ولد الحسن والحسين ( عليهما السّلام ) فأنزل من شئت منهم ، قال : فو اللّه لقد تغيّرت وجوه الجميع ، فقال بعض المبغضين : هو يحيل على غيره لم لا يكون هو ؟

فمال المتوكل إلى ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع فقال : يا أبا الحسن لم لا تكون أنت ذلك ؟ قال : ذاك إليك قال : فافعل ، قال :

أفعل . فاتي بسلّم وفتح عن السباع وكانت ستة من الأسد فنزل أبو الحسن إليها فلما دخل وجلس صارت الأسود إليه فرمت بأنفسها بين يديه ، ومدّت بأيديها ، ووضعت رؤوسها بين يديه فجعل يمسح على رأس كل واحد منها ، ثم يشير اليه بيده إلى الاعتزال فتعتزل ناحية حتى اعتزلت كلّها وأقامت بإزائه .

فقال له الوزير : ما هذا صوابا فبادر بإخراجه من هناك ، قبل أن ينتشر خبره فقال له : يا أبا الحسن ما أردنا بك سوءا وإنّما أردنا أن نكون على يقين ممّا قلت فاحبّ أن تصعد ، فقام وصار إلى السلّم وهي حوله تتمسّح بثيابه .

فلمّا وضع رجله على أوّل درجة التفت إليها وأشار بيده أن ترجع ، فرجعت وصعد فقال : كلّ من زعم أنّه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس ، فقال لها المتوكّل : انزلي ، قالت : اللّه اللّه ادّعيت الباطل ، وأنا بنت فلان حملني الضرّ على ما قلت ، قال المتوكّل : ألقوها إلى السباع ، فاستوهبتها والدته[20].

إنّ هذه المواقف من الإمام ( عليه السّلام ) لم تكن لتثني المتوكل عما كان يراوده من الضغط على الإمام ( عليه السّلام ) ومحاولة تسقيطه وعزله عن عامة الناس وخواص أتباعه . وكان رصده للإمام ( عليه السّلام ) لا يشفي غليله فكان يفتش دار الإمام ( عليه السّلام ) بشكل مستمر وكان ذلك واحدا من أساليبه لإهانة الإمام ( عليه السّلام ) أو طريقا للعثور على مستمسك يسوّغ له الفتك بالإمام ( عليه السّلام ) .

تفتيش دار الإمام ( عليه السّلام )

لم تحقق وسائل السلطة - في التضييق على الإمام ومراقبته - أهدافها في ضبط بعض القضايا التي تؤكد صحة الوشايا بالإمام ، فكثيرا ما سعى بعض المتزلفين للخليفة بالإمام ( عليه السّلام ) وأوغروا صدره ضد الإمام ( عليه السّلام ) وأخبروا الخليفة كذبا وزورا بأن لديه السلاح وتجبى إليه الأموال من الأقاليم ، إلى غيرها من الأكاذيب التي كانت تدفع بالخليفة إلى ارسال جنده وبعض قواده إلى دار الإمام ( عليه السّلام ) وتفتيشها ، ثم استدعاء الإمام ( عليه السّلام ) إلى بلاط المتوكل الذي كان ثملا على مائدة شرابه ، حتى أنّ المتوكل الثمل بعد أن أعظم الإمام وأجلسه إلى جانبه ناوله الكأس .

فقال له الإمام ( عليه السّلام ) : يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط فأعفني فأعفاه .

ثم قال له المتوكل : أنشدني شعرا .

فأجابه الإمام ( عليه السّلام ) : اني لقليل الرواية للشعر .

فقال له المتوكل : لا بد من ذلك .

فأنشده الإمام ( عليه السّلام ) الأبيات التالية :

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل

واستنزلوا من بعد عز من معاقلهم * فاودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد ما قبروا * أين الأسرة والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الاستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

قد طال ما أكلوا دهرا وما شربوا * فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا

فبكى المتوكل ، ثم أمر برفع الشراب وقال : يا أبا الحسن أعليك دين ؟

قال : نعم أربعة آلاف دينار ، فدفعها إليه ورده إلى منزله مكرّما .

ومرّة أخرى حين مرض المتوكل من خرّاج خرج به وأشرف منه على الهلاك ، فلم يجسر أحد أن يمسّه بحديدة ، فنذرت امّه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن عليّ بن محمد مالا جليلا من مالها وقال له الفتح بن خاقان : لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنّه لا يخلو أن يكون عنده صفة يفرّج بها عنك .

فبعث إليه ووصف له علّته ، فرّد إليه الرّسول بأن يؤخذ كسب الشاة فيداف بماء ورد فيوضع عليه . فلمّا رجع الرّسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله ، فقال له الفتح : هو واللّه أعلم بما قال ، واحضر الكسب وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن ، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبشّرت أمه بعافيته ، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها .

ثم استقلّ من علّته فسعى إليه البطحائي العلوي بأنّ أموالا تحمل إليه وسلاحا ، فقال لسعيد الحاجب : اهجم عليه باللّيل وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح واحمله إليّ ، قال إبراهيم بن محمّد : فقال لي سعيد الحاجب : صرت إلى داره بالليل ومعي سلّم فصعدت السطح ، فلمّا نزلت على بعض الدرج في الظلمة لم أدر كيف أصل إلى الدار .

فناداني : يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة ، فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدته عليه جبّة صوف وقلنسوة منها وسجادة على حصير بين يديه ، فلم أشكّ أنه كان يصلي ، فقال لي : دونك البيوت ، فدخلتها وفتّشتها فلم أجد فيها شيئا ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم امّ المتوكل وكيسا مختوما وقال لي : دونك المصلّى ، فرفعته فوجدت سيفا في جفن غير ملبّس ، فأخذت ذلك وصرت إليه .

فلمّا نظر إلى خاتم امّه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه ، فأخبرني بعض خدم الخاصّة أنها قالت له : كنت قد نذرت في علّتك لمّا آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه وهذا خاتمي على الكيس وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار .

فضمّ إلى البدرة بدرة أخرى وأمرني بحمل ذلك إليه فحملته ورددت السيف والكيسين وقلت له : يا سيّدي عزّ عليّ ، فقال لي : سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ .

غير أنّ الإمام ( عليه السّلام ) لم يأبه لكل أدوات المراقبة والتضييق عليه بل كانت أساليبه أدقّ وكان نفوذه في جهاز السلطة يمكّنه من التحرّك بالشكل الذي يراه مناسبا مع تلك الظروف .

ومما يعزز ذلك ما رواه الشيخ الطوسي ( رضى اللّه عنه ) بإسناده عن محمد بن الفحام ، ان الفتح بن خاقان قال : قد ذكر الرجل - يعني المتوكل - خبر مال يجيء من قم ، وقد أمرني أن أرصده لأخبره ، فقلت له ، فقل لي : من أي طريق يجيء حتى أجيئه ؟ فجئت إلى الإمام علي بن محمد ( عليهما السّلام ) فصادفت عنده من احتشمه فتبسم وقال لي :

لا يكون إلّا خيرا يا ابا موسى ، لم لم تعد الرسالة الأولى ؟

فقلت : أجللتك يا سيدي . فقال لي : المال يجيء الليلة وليس يصلون إليه فبت عندي .

فلما كان من الليل وقام إلى ورده قطع الركوع بالسلام وقال لي : قد جاء الرجل ومعه المال ، وقد منعه الخادم الوصول إليّ فأخرج وخذ ما معه .

فخرجت فإذا معه زنفيلجه[21] فيها المال : فأخذته ودخلت به إليه ، فقال : قل له هات المحنقة التي قالت له القيمة انها ذخيرة جدتها ، فخرجت له فأعطانيها ، فدخلت بها إليه ، فقال لي : قل له الجبة التي أبدلتها منها ردّها إليها .

فخرجت إليه فقلت له ذلك ، فقال : نعم كانت ابنتي استحسنتها فأبدلتها بهذه الجبة وأنا أمضي فأجيء بها .

فقال : اخرج فقل له : ان اللّه يحفظ ما لنا وعلينا . هاتها من كتفك ، فخرجت إلى الرجل فأخرجها من كتفه فغشي عليه ، فخرج إليه ( عليه السّلام ) ، فقال له : قد كنت شاكا فتيقنت[22].

وفي الرواية دلالات كثيرة لكنّ أهمّ ما يلفت النظر فيها هو :

أولا : إن الإمام كان يعرف شك السلطة وهو آخذ حذره ومستيقظ ومتأهّب للأمر ؛ لذا أجاب من سأله عن المال بأنه سيصل ولا سبيل للمتوكل وجلاوزته عليه ، وفعلا وصل المال سالما .

ثانيا : إن حامل المال إلى الإمام ( عليه السّلام ) كان يريد ان يختبر الإمام ( عليه السّلام ) أو يبحث عن وسيلة لليقين بإمامته ( عليه السّلام ) لذا نجد الإمام يرشد مستلم المال إلى أمور لا يعرفها إلّا حامله كالجبة التي كان قد أخفاها تحت كتفه وزاد ( عليه السّلام ) الأمر وضوحا بقوله : أتيقنت ؟ مشيرا إلى ما كان يكنّه هذا الرجل في نفسه ، وما يروم أن يصل إليه وهو معرفة الإمام بهذه الأمور وقد أيقن واطمأن حينما أخبره رسول الإمام ( عليه السّلام ) بما كان يضمره .

ثالثا : إن أنصار الإمام ( عليه السّلام ) وأتباعه كان لهم حضور فاعل في البلاط وهم عيون الإمام بدل أن يكونوا عملاء السلطة . وفيما يلي من خبر اعتقال الإمام ( عليه السّلام ) أيضا شواهد أخرى على هذه الحقيقة .

اعتقال الإمام الهادي ( عليه السّلام )

إن المتوكّل بعد رصده الدائم للإمام وتفتيشه المستمر والمتكرّر لدار الإمام ( عليه السّلام ) أمر باعتقال الإمام ( عليه السّلام ) وزجّه في السجن ، فبقي فيه أياما وجاء لزيارته صقر بن أبي دلف فاستقبله الحاجب وكانت له معرفة به ، كما كان عالما بتشيّعه ، وبادر الحاجب قائلا : ما شأنك ؟ وفيم جئت ؟

قال صقر : بخير .

قال الحاجب : لعلك جئت تسأل عن خبر مولاك ؟

قال صقر : مولاي أمير المؤمنين - يعني المتوكل - .

فتبسم الحاجب وقال : اسكت مولاك هو الحق ( يعني الإمام الهادي ( عليه السّلام ) ) فلا تحتشمني فإني على مذهبك .

قال صقر : الحمد للّه .

فقال الحاجب : تحب أن تراه ؟

قال صقر : نعم .

فقال الحاجب : اجلس حتى يخرج صاحب البريد .

ولما خرج صاحب البريد ، التفت الحاجب إلى غلامه فقال له : خذ بيد الصقر حتى تدخله الحجرة التي فيها العلوي المحبوس ، وخلّ بينه وبينه .

فأخذه الغلام حتى أدخله الحجرة وأومأ إلى بيت فيه الإمام ، فدخل عليه الصقر ، وكان الإمام جالسا على حصير وبإزائه قبر محفور قد أمر به المتوكل لارهاب الإمام ، والتفت ( عليه السّلام ) قائلا بحنان ولطف :

يا صقر ما أتى بك ؟

قال صقر : جئت لأتعرّف على خبرك .

وأجهش الصقر بالبكاء رحمة بالإمام وخوفا عليه :

فقال ( عليه السّلام ) : « يا صقر لا عليك ، لن يصلوا إلينا بسوء . . .

فهدّأ روعه وحمد اللّه على ذلك ، ثم سأل الإمام عن بعض المسائل الشرعية فأجاب عنها ، وانصرف مودّعا للإمام[23] ، ولم يلبث الإمام في السجن إلّا قليلا ثمّ أطلق سراحه » .

محاولة اغتيال الإمام الهادي ( عليه السّلام )

وقد دبرت السلطة الحاكمة آنذاك مؤامرة لقتل الإمام ( عليه السّلام ) ولكنها لم تنجح فقد روي : أنّ أبا سعيد قال : حدثنا أبو العباس فضل بن أحمد بن إسرائيل الكاتب ونحن بداره بسر من رأى فجرى ذكر أبي الحسن ( عليه السّلام ) فقال : يا أبا سعيد أحدثك بشيء حدثني به أبي ؟

قال : كنا مع المنتصر وأبي كاتبه فدخلنا والمتوكل على سريره فسلّم المنتصر ووقف ووقفت خلفه وكان إذا دخل رحّب به وأجلسه فأطال القيام وجعل يرفع رجلا ويضع أخرى وهو لا يأذن له في القعود ورأيت وجهه يتغير ساعة بعد ساعة ويقول للفتح بن خاقان :

هذا الذي يقول فيه ما تقول ؟ ويرد عليه القول ، والفتح يسكته ويقول :

هو مكذوب عليه ، وهو يتلظى ويستشيط ويقول : واللّه لأقتلن هذا المرائي الزنديق وهو يدعي الكذب ويطعن في دولتي . ثم طلب أربعة من الخزر أجلافا ودفع إليهم أسيافا ، وأمرهم أن يقتلوا أبا الحسن إذا دخل وقال : واللّه لأحرقنه بعد قتله ، وأنا قائم خلف المنتصر من وراء الستر ، فدخل أبو الحسن وشفتاه تتحركان وهو غير مكترث ولا جازع ، فلما رآه المتوكل رمى بنفسه عن السرير إليه ، وانكب عليه يقبّل بين عينيه ويديه ، وسيفه شقه بيده وهو يقول :

يا سيدي يا ابن رسول اللّه يا خير خلق اللّه يا بن عمي يا مولاي يا أبا الحسن . وأبو الحسن ( عليه السّلام ) يقول : أعيذك يا أمير المؤمنين من هذا .

فقال : ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت ؟

قال : جاءني رسولك .

قال : كذب ابن الفاعلة .

فقال له : ارجع يا سيدي ، يا فتح يا عبيد اللّه يا منتصر شيعوا سيدكم وسيدي ، فلما بصر به الخزر خرّوا سجدا ، فدعاهم المتوكل وقال : لم لم تفعلوا ما أمرتكم به ؟

قالوا : شدة هيبته ، ورأينا حوله أكثر من مائة سيف لم نقدر أن نتأملهم ، وامتلأت قلوبنا من ذلك .

فقال : يا فتح هذا صاحبك وضحك في وجهه .

وقال : الحمد للّه الذي بيض وجهه وأنار حجته »[24].

إنّ هذا النص قد كشف لنا بوضوح عن كل نوازع المتوكل التي تدور حول القتل والحرق للإمام ( عليه السّلام ) فضلا عن الاتّهام بالزندقة والطعن في دولته .

والمتوكّل بعد كل هذه المحاولات التي باءت بالفشل لم يهدأ له بال وهو يريد إذلال الإمام ( عليه السّلام ) بأي نحو كان ، من هنا بادر في يوم الفطر - وفي السنة التي قتل فيها - إلى الأمر بالترجّل والمشي بين يديه قاصدا بذلك أن يترجّل الإمام الهادي ( عليه السّلام ) بين يديه ، فترجّل الإمام ( عليه السّلام ) كسائر بني هاشم واتكأ على رجل من مواليه فأقبل عليه الهاشميون وقالوا : يا سيدنا ما في هذا العالم أحد يستجاب دعاؤه ويكفينا اللّه به من تعزّر هذا ؟ قال لهم أبو الحسن ( عليه السّلام ) : في هذا العالم من قلامة ظفره أكرم على اللّه من ناقة ثمود ، لما عقرت الناقة صاح الفصيل إلى اللّه تعالى فقال اللّه سبحانه : تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ[25].

دعاء الإمام ( عليه السّلام ) على المتوكل

والتجأ الإمام أبو الحسن الهادي ( عليه السّلام ) إلى اللّه تعالى ، وانقطع إليه ، وقد دعاه بالدعاء الشريف الذي عرف ( بدعاء المظلوم على الظالم ) وهو من الكنوز المشرقة عند أهل البيت ( عليهم السّلام )[26]

هلاك المتوكل

واستجاب اللّه دعاء وليّه الإمام الهادي ( عليه السّلام ) ، فلم يلبث المتوكل بعد هذا الدعاء سوى ثلاثة أيام حتى هلك .

وتم ذلك باتفاق المنتصر ابن المتوكل مع مجموعة من الأتراك حيث هجم الأتراك على المتوكل ليلة الأربعاء المصادف لا ربع خلون من شوال ( 247 ه ) يتقدمهم باغر التركي وقد شهروا سيوفهم ، وكان المتوكل ثملا سكرانا ، وذعر الفتح بن خاقان فصاح بهم : ويلكم أمير المؤمنين ؟ !

فلم يعتنوا به ورمى بنفسه عليه ليكون كبش الفداء له إلّا انه لم يغن عن نفسه ولا عنه شيئا ، وأسرعوا إليهما ، فقطّعوهما إربا إربا ، بحيث لم يعرف لحم أحدهما من الآخر - كما يقول بعض المؤرخين - ودفنا معا .

وبذلك انطوت أيام المتوكّل الذي كان من أعدى الناس لأهل البيت ( عليهم السّلام ) .

وخرج الأتراك ، وكان المنتصر بانتظارهم فسلّموا عليه بالخلافة وأشاع المنتصر ان الفتح بن خاقان قد قتل أباه ، وانه أخذ بثأره فقتله ، ثم أخذ البيعة لنفسه من أبناء الأسرة العباسية وسائر قطعات الجيش .

واستقبل العلويون وشيعتهم النبأ بهلاك المتوكل بمزيد من الابتهاج والأفراح فقد هلك الطاغية الذي صيّر حياتهم إلى مآسي لا تطاق .[27].

 

[1] تاريخ الخلفاء : 349 - 350 .

[2] تاريخ الخلفاء : 349 - 350 .

[3] تاريخ الخلفاء ، السيوطي : 347 .

[4] تاريخ الخلفاء : 348 .

[5] أن تاريخ الرسالة التي استقدم بها المتوكل الإمام الهادي ( عليه السّلام ) على ما في جملة من المصادر هو سنة ( 244 ه ) وليس ( 234 ه ) ، ويشهد لذلك ما صرّح به الشيخ المفيد ( قدّس سرّه ) من أن مدّة إقامة الإمام الهادي بسرّ من رأى عشر سنين وأشهرا ، وحيث استشهد في سنة ( 254 ه ) فيظهر من ذلك أن استقدامه كان سنة ( 244 ه ) أي بعد اثنتي عشرة سنة من حكم المتوكّل ، وهو غير بعيد .

[6] تذكرة الخواص ، سبط ابن الجوزي : 203 .

[7] وقيل اسمه « تريخه » ، وعن الطريحي في مجمع البحرين : « بريمة » . بينما ذكر آخرون أن اسمه عبد اللّه بن محمد وكان يتولّى الحرب والصلاة بمدينة الرسول ( صلّى اللّه عليه واله ) ، انظر الارشاد : 2 / 309 .

[8] قرف : عابه أو اتّهمه .

[9] الكافي : 1 / 501 .

[10] اثبات الوصية : 196 - 197 .

[11] تذكرة الخواص : 322 .

[12] إثبات الوصية : 225 .

[13] مروج الذهب : 4 / 85 .

[14] مروج الذهب : 4 / 85 ، وتذكرة الخواص : 359 .

[15] الارشاد : 313 - 314 .

[16] الكافي : 1 / 498 .

[17] الكافي : 7 / 238 .

[18] الكافي : 7 / 463 .

[19] المناقب : 2 / 443 .

[20] بحار الأنوار : 50 / 149 .

[21] معرّب : زنبيلچه : زنبيل صغير .

[22] امالي الشيخ الطوسي : 276 ح 528 ، والمناقب : 4 / 444 .

[23] رواه الصدوق في الخصال : 394 ومعالي الأخبار : 135 وكمال الدين ط النجف الأشرف : 365 وط الغفاري : 382 ح 9 ب 37 وعنه الطبرسي في إعلام الورى : 2 / 245 . وعن الخصال وعلل الشرائع في بحار الأنوار : 50 / 194 .

[24] الخرائج والجرائح : 1 / 417 - 419 ح 1 ب 11 وعنه في كشف الغمة : 3 / 185 .

[25] بحار الأنوار : 50 / 209 .

[26] مهج الدعوات : 50 / 209 .

[27] الكامل في التاريخ : 10 / 349 .




يحفل التاريخ الاسلامي بمجموعة من القيم والاهداف الهامة على مستوى الصعيد الانساني العالمي، اذ يشكل الاسلام حضارة كبيرة لما يمتلك من مساحة كبيرة من الحب والتسامح واحترام الاخرين وتقدير البشر والاهتمام بالإنسان وقضيته الكبرى، وتوفير الحياة السليمة في ظل الرحمة الالهية برسم السلوك والنظام الصحيح للإنسان، كما يروي الانسان معنوياً من فيض العبادة الخالصة لله تعالى، كل ذلك بأساليب مختلفة وجميلة، مصدرها السماء لا غير حتى في كلمات النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) وتعاليمه الارتباط موجود لان اهل الاسلام يعتقدون بعصمته وهذا ما صرح به الكتاب العزيز بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، فصار اكثر ايام البشر عرفاناً وجمالاً (فقد كان عصرا مشعا بالمثاليات الرفيعة ، إذ قام على إنشائه أكبر المنشئين للعصور الإنسانية في تاريخ هذا الكوكب على الإطلاق ، وارتقت فيه العقيدة الإلهية إلى حيث لم ترتق إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم ، فقد عكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روحه في روح ذلك العصر ، فتأثر بها وطبع بطابعها الإلهي العظيم ، بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتجاه إلا نحو المبدع الأعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار الوجود)





اهل البيت (عليهم السلام) هم الائمة من ال محمد الطاهرين، اذ اخبر عنهم النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) باسمائهم وصرح بإمامتهم حسب ادلتنا الكثيرة وهذه عقيدة الشيعة الامامية، ويبدأ امتدادهم للنبي الاكرم (صلى الله عليه واله) من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) الى الامام الحجة الغائب(عجل الله فرجه) ، هذا الامتداد هو تاريخ حافل بالعطاء الانساني والاخلاقي والديني فكل امام من الائمة الكرام الطاهرين كان مدرسة من العلم والادب والاخلاق استطاع ان ينقذ امةً كاملة من الظلم والجور والفساد، رغم التهميش والظلم والابعاد الذي حصل تجاههم من الحكومات الظالمة، (ولو تتبّعنا تاريخ أهل البيت لما رأينا أنّهم ضلّوا في أي جانب من جوانب الحياة ، أو أنّهم ظلموا أحداً ، أو غضب الله عليهم ، أو أنّهم عبدوا وثناً ، أو شربوا خمراً ، أو عصوا الله ، أو أشركوا به طرفة عين أبداً . وقد شهد القرآن بطهارتهم ، وأنّهم المطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون ، كما أنعم الله عليهم بالاصطفاء للطهارة ، وبولاية الفيء في سورة الحشر ، وبولاية الخمس في سورة الأنفال ، وأوجب على الاُمّة مودّتهم)





الانسان في هذا الوجود خُلق لتحقيق غاية شريفة كاملة عبر عنها القرآن الحكيم بشكل صريح في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وتحقيق العبادة أمر ليس ميسوراً جداً، بل بحاجة الى جهد كبير، وافضل من حقق هذه الغاية هو الرسول الاعظم محمد(صلى الله عليه واله) اذ جمع الفضائل والمكرمات كلها حتى وصف القرآن الكريم اخلاقه بالعظمة(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، (الآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك) فقد جمعت الفضائل كلها في شخص النبي الاعظم (صلى الله عليه واله) حتى غدى المظهر الاولى لأخلاق رب السماء والارض فهو القائل (أدّبني ربي بمكارم الأخلاق) ، وقد حفلت مصادر المسلمين باحاديث وروايات تبين المقام الاخلاقي الرفيع لخاتم الانبياء والمرسلين(صلى الله عليه واله) فهو في الاخلاق نور يقصده الجميع فبه تكشف الظلمات ويزاح غبار.