أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-09-2015
2663
التاريخ: 30-09-2015
1766
التاريخ: 29-09-2015
1522
التاريخ: 29-09-2015
1639
|
وتسمى
أيضاً الواقعية الأوربيّة أو المتشائمة أو الناقدة. والمقصود بها المذهب الواقعيّ
الأصليّ الذي ساد في فرنسا وبلاد أوربا لدى معظم الكتّاب بشكله العام مع الاحتفاظ
بالاختلافات المحليّة والفردية وتعدُّد الألوان ضمن التيار الواحد؛ وبشكل أكثر
تحديداً الواقعية قبل أن تتفرع منها الواقعية الطبيعية والواقعية الاشتراكية
الجديدة.
وللواقعية
الأمّ خصائص تميزها عن المدرستين الكلاسيكية والرومانسية وتجعلُ منها نهجاً أدبيّاً
ذا معالم خاصة وماهيّة مستقلّة شملت الآداب الأوربية أكثر من نصف قرن. ولا تزال
آثارها باقية ومستمرةً في القرن العشرين. ويمكن إجمال هذه الخصائص فيما يلي:
1-النزول
إلى الواقع الطبيعي والاجتماعي والانطلاق منه، أي الارتباط بالإنسان في محيطه
البيئيّ وتفاعله وصراعه مع المحيط الطبيعي والاجتماعي. من هنا يستمد الكاتب
موضوعاته وحوادثه وأشخاصه وكلّ تفصيلاته. إنه ينزل إلى الأرض والبشر، ويصرف نظره
عما عدا ذلك من المثاليات والخياليات، وما يهمُّه هو الأمور الواقعة التي يعيشها
الناس ويعانونها. وكلمة (الناس) أو (الإنسان) يقصد بها هنا الإنسان المشخّص الحيّ
الذي يضطرب في سبل الحياة والمعيشة، والذي له وجود حقيقيّ إنه المحور في الأدب
الواقعيّ، وليس الإنسان المثاليّ العام المجردّ الذي كان محور الأدب الكلاسيكي.
ولا الإنسان المنعزل المنفرد، الهارب من المجتمع الذي كان محور الأدب الرومانسيّ،
إنّ إنسان الواقعية هو الفرد في تعامله وتفاعله ضمن تيار المجتمع والتاريخ المؤثر
فيه والمتأثر به، الصانع والمصنوع في آنٍ واحد وقد ألمحنا فيما سبق إلى الدواعي
التي سببت هذه النّقلة الجوهرية. وقد يكون الفرد في المذهب الواقعي نموذجاً، لكنه
نموذج نوعيّ وليس عامّاً. إنه نموذجٌ يضم كل الأفراد الذين هم على شاكلته،
والمجتمع يتكوّن من نماذج كثيرة منها الإقطاعي والرأسمالي والعامل والفلاح
والبورجوازي والتاجر والمرابي ورجل السلطة والمرأة الطيّبة... الخ. وقد حرص كتاب الرواية والمسرحية الواقعيون على رسم هذه
النماذج وخلقها لا من العدم والخيال بل من خلال الواقع. وقد عزفت الواقعية عن
التعامل مع العالم الغيبي كالجنّ والأرواح والأشباح والملائكة والتشخّص والتجسّد
الألّيغوريّ والأساطير والأحلام والمصادفات والخوارق...
لأن هذه
الأمور كلها لا تعنيها في شيء، والذي يعنيها فقط هو الإنسان بلحمه ودمه وأعصابه
وغرائزه ومشاعره وحاجاته ومطامحه وآلامه وأفراحه المرتبط بالأرض وما حوله من الناس
وما يحيط به من الظروف الموضوعيّة.
... ولهذا السبب سمَّى بلزاك مجموعة رواياته المئة (الملهاة
البشرية) في مقابل (الملهاة الإلهية) لدانتي.
إن
الواقعية تنطلق من جميع طبقات المجتمع وأصنافه، من أدنى الطبقات الفقيرة والمعذبة
والمسحوقة إلى أعلى الطبقات النبيلة والثريّة والمسيطرة. هنالك العمال والفلاحون
والأجراء والمالكون والتجار والمرابون واللصوص والشحاذون والمحتالون والمجرمون
والمنحرفون والسجناء والعواهر والسكّيرون واليائسون ورجال السلطة والحاكمون
والعلماء والفنانون والنساء والأطفال وذوو العاهات...
هنالك المجتمع بكامله، وبكل أعضائه وأجزائه. إليه ينزل الكاتب وفي أرجائه يتجوّل،
ومنه ينطلق، ولأجله يكتب؛ لا لأجل فئة معيّنة يبتغي رضاها ونوالها. إن الشعب أصبح
هو السيّد المحترم وليس البلاط أو الحامي النبيل. وقد أسهم في هذا الانقلاب
الكوبرنيكيّ التطوّر الديمقراطيّ الذي أسفرت عنه الدراسات الاجتماعية والآداب
والثورات وما حمله من مبادئ الحرية والعدالة والأخوة والمساواة والديمقراطية وقيمة
الفرد ودوره في المجتمع الذي يناضل للتحرّر من كل سلطان مستبد أو أي متحكم سابق
سواءٌ أكان متمثلاً في السلطة الملكية أو الامبراطورية أو الكنيسة أو الإطار
الاقطاعي والرأسماليّ... وقد
ساعد على الاتجاه نحو الشعب انتشارٌ الطباعة والصحافة على نطاق جماهيري واسع
يستطيع الكاتب من خلاله الوصول مباشرة إلى كلّ القراء، ويقيس نجاحه بمقدار إقبالهم
على قراءة نتاجه وتعاطفهم مع أطروحاته التي هي أطروحاتهم في الوقت نفسه.
ولا
بدّ من الإشارة إلى أمرين هما من لوازم الواقعيّة أوّلهما: العناية بالتفصيلات
الدقيقة والثانويَّة حتى التافه منها مما يتعلَّق بوصف الملامح والأصوات والألبسة
والألوان والحركات والأشياء... إمعاناً في تصوير الواقع
وكأنّه حاضر. والثاني: التركيز على الجوانب السلبيَّة من المجتمع كالأخلاق الفاسدة
والاستغلال والظلم والإجرام والإدمان.. حتى لقد دُعيت بالمتشائمة، وفي الحقيقة لم
يكن هذا ناشئاً عن التشاؤم بقدر نشوئه عن الرغبة في الرّصد والمعالجة. إن أبرز
مخازي ذلك المجتمع المصطخب يصدر عن غاية خفيَّة وظاهرة في آن معاً، فهي خفيَّة لأن
الكاتب لا يريد إيجاد الحلّ بنفسه ولكنه يصوّر الأمور تاركاً القارئ يبحث عن
الحلّ. وهي ظاهرة لأن من طبيعة المذهب الواقعيّ الاهتمام بمصير الإنسان والأخذ
بيده إلى مستقبل أفضل...
2- حياديّة
المؤلف: وهي تعني العَرْضَ والتحليل وفق واقع الشخصيّة وطبيعة الأمور وبشكلٍ
موضوعيٍ لا وفق معتقدات الكاتب ومواقفه السياسيّة أو الدينية أو المزاجية أو
الفكرية أو القيميّة. الكاتب هنا شاهدٌ أمين. يدلي بشهادته حسب منطق الحوادث ومبدأ
السببيّة والضرورة الحتميّة وليس كما يهوى ويريد. وهذا لا يعني أنه غير مبالٍ بما
يجري حوله، بل يعني أنه لا يريد أن يفرض رأيه وميوله على القارئ. وكما أسلفنا إن
الأدب الواقعيّ ليس مجانياً ولا عابثاً بل له غاية نبيلة غير مباشرة إذا تجرّد
منها سقط في الفراغ والتفاهة والعبث والخلب الخادع الذي يقصد منه تزجية الوقت
والتسلية وهذا النوع من الأدب هو أرخص الآداب وأدناها.
إن الكاتب
الواقعيّ يبدو حيادياً، ولكن براعته في أنه يقود القارئ إلى موقف بحسب القوانين
السيكولوجية في المؤثرات وردود الفعل. فالقصة تغدو مؤثراً يستثير عفوياً موقفاً من
القارئ نفسياً أو سلوكياً. فالكاتب لا يأمر ولا ينهى ولكنه يضع القارئ مثلاً في
موقف رفض أو قرف، فينتهي من تلقاء ذاته؛ ويثير إعجابه بأمرٍ إيجابي فيقبل عليه،
ويخلق عنده نوعاً من التعاطف مع النموذج البشري فإذا به يحبّه ويقدّر فيه فضائله
أو يكرهه ويمقت مخازيه.
إن الكاتب
الواقعي لا يخاطب القارئ مباشرة بل من وراء حجاب يثير المشكلة وينسحب تاركاً الحكم
للقارئ بعيداً عن الخطابة والوعظ وأسلوب المحاضرة والتربية... وحين يعمد الكاتب إلى التقرير والهيمنة تهبط قيمة أدبه. إن من
أهم مزيا الأدب الواقعي تحريض الفكر وشحذ الإرادة وتقوية الشخصيّة وإشعار القارئ
بأنه مسؤول عن مصيره ومصير مجتمعه ومشارك للكاتب في البحث عن الأسباب والدوافع
وإيجاد الحلول. نعم، قد يوحي الكاتب ويمهّد ويرهص ولكن من خلال اختياراته ووصفه
وسرده.... وهذا لا يتنافى والحياد.
3-التحليل: أي
البحث عن العلل والأسباب والدوافع والنتائج فلكل ظاهرة اجتماعية سبب والظاهرة
الاجتماعية كالظاهرة الطبيعيّة تخضع لمبدأ السببيّة. وللظواهر المتماثلة أسباب
متماثلة، وإذن فهنالك قانون يختفي وراء الظواهر والأسباب. والأديب الواقعيّ لا
يعرض الظاهرة أو المشكلة مجرّدة. بل يبحث عن سببها ويوجّه النظر إليه ليصل بالقارئ
إلى القوانين المحركة للمجتمع التي تكون من طبيعة اقتصادية أو سياسية أو دينيّة أو
سلطويّة... وبهذا يزداد وعي القارئ واستبصاره
وقدرته على التحليل والتأمّل والملاحظة والاستقراء ويصبح مؤهّلاً لوعي الواقع وتفسيره
وقادراً على تغييره. ولكنْ.. كيف؟ وفي أيّ اتجاه؟ هذا ما لا يقوله الكاتب.
4-الفنيّة الواقعيّة: قال بعض النقاد:
إن الواقعية علميّة وليست جماليّة ولئن صحّ الشطر الأول من هذه
المقولة فعلى الشطر الثاني اعتراض. إن النصّ الواقعيّ ليس كتابة لبحثٍ علمي أو تقرير
صحفي، إنه الأدب، والأدب فنّ، وكل فن يبتغي الجمال...! ويتفاوت الكتاب في درجات الفن، كما هو الأمر في بقية الفنون،
بين الشعوذة والعبقرية، ولا جدال في أن للواقعية جماليتها التي تتلخص خصائصها فيما
يلي:
أولاً-فضّل
الواقعيون النثر على الشعر لأنه اللغة الطبيعية للناس أما الشعر فبالرومانسية أشبه
ولها أنسب. فاختاروا جنسي الرواية والمسرحيّة، ونالت الرواية النصيب الأوفى من
أدبهم لأنها تتيح مجالاً واسعاً ومرناً للوصف والإفاضة والتحليل، وتستوعب أزماناً
طويلة وتغطي أمكنة كثيرة وتتضمّن شخصياتٍ غير محدودة. وأتت المسرحية في المقام
الثاني ثم جاء الشعر في وقتٍ متأخر مع المدّ الاشتراكيّ. وهذا لا يعني أن النثر
الواقعي مجرّد من عنصر الشعريّة بصرف النظر عن الوزن والقافية. لقد استفاد كتاب
كثيرون من اللمسات الشعرية المستحبّة ولا سيما في تصوير العواطف والتصوير الخيالي
الفنّي. كما فعل بلزاك الذي عرف كيف يستفيد من الرومانسية في إبائها فأكسب أسلوبه
الحيوية والحرارة وبراعة الصورة وموسيقا العبارة، فأقبل الناس على كتاباته بشغف
بخلاف زميله ستندال الذي جاءت كتاباته خلواً من الشاعريّة فأعرض عنها الناس لعدم
إرضائها لديهم هذه الحاجة الفنيّة وإذا قلنا الرواية والمسرحية فإننا نعني كل
مقوماتهما وتقنّياتهما الفنيّة. من حيث المداخل والمقدمات والأبواب والفصول
والمشاهد وبراعة القصّ والحوار وجمال السردّ والحيوية والحركة والحبكة والتعقيد
والمفاجأة والمماطلة بالحلّ والمعالجة غير المباشرة، والإبتعاد عن الثرثرة والحشو
وما إلى ذلك مما يطلب توافره في القصّة والمسرح. أمّا الشعر فلا يسمّى شعراً إلاّ
بمقوَّماته المعهودة في عالم الأدب والنقد.
ثانياً:
اللغة المأنوسة الواضحة البعيدة عن التوعرّ والتكلف من جهة وعن الإسفاف والابتذال
من جهة أخرى، المراعية لقواعد اللغة مع شيءٍ من المرونة والتسامح حين يتعلق الأمر
بالطبقات الشعبية العادية البعيدة عن جواء العلم والثقافة... فآنذاك يجد الكاتب نفسه مضطراً لاستعمال مفرداتهم وتعبيراتهم
الشائعة وأمثالهم وتسمياتهم الشعبية وطرائقهم في الحوار والمجاملة والمخاصمة.. وقد
عُدَّ هذا من مقومات الواقع، وكان له تأثيره في إغناء اللغة الفصيحة وتطويرها.
ثالثاً:
الإبداع والخلق، أي تركيب عالمٍ شبيهٍ بالواقع وليس نسخة أمينة عنه.. وقد سبق
الكلام في هذه الخصيصة الفنيّة.
رابعاً:
البعد عن التقرير والمباشرة والخطابة والوعظ.
خامساً:
تجنّب الإكثار من التفصيلات والدقائق التافهة المربكة ولا سيما إذا كانت غير موظفة
توظيفاً جيداً.
سادساً:
التحليل والنفوذ وعدم التسطّح، والوصول إلى خفايا النفس والعلل والأسباب
سابعاً:
براعة الوصف والتصوير على المستويين الداخلي والخارجيّ ونقل القارئ إلى عوالم
جذابة ممتعة مثيرة للدهشة وحب الاطلاع.
ثامناً:
براعة النمذجة؛ أي رسم النماذج الإنسانية المختلفة.
تاسعاً:
مسّ الأوتار العاطفية في النفس الإنسانية مع إرضاء الحاجات الفكريّة والخيالية
وعدم الاكتفاء بالإثارة الحسيّة...
عاشراً:
تلاحم الشكل والمضمون، بأن يكون الشكل الفني تابعاً للمضمون وخادماً له. وبمقدار ما
تتوافر هذه الخصائص الفنية في النصّ الواقعي يرقى ويرتفع ويشهد لصاحبه بالعبقرية
والبراعة. وبها تتفاوت أقدار الأدباء. وشتّان -مثلاً-ما بين عباقرة مثل بلزاك
وفلوبير ودوستويفسكي وبين كاتب بهلوانيّ مثل والترسكوت أو كاتبٍ مغامراتٍ ومبارزاتٍ
مثل دوماس الأب...!