المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
العربية الفصحى ولا بديل
2025-03-19
عربيّة الصّحافة هل تساوي سلامة اللغة؟
2025-03-19
لغة الإعلانات
2025-03-19
الفصحى والعاميّة: خيار أم فرض؟
2025-03-19
الطحالب Algae وألاشنات Lichens واصابتها للنباتات
2025-03-19
أسرة (تانوت آمون)
2025-03-19

ذكر أسماء ولد علي بن أبي طالب
1-12-2016
الملفات اللولبية
24-1-2016
احكام الخلل والشك في الصلاة
2025-02-17
أهميـة التغييـر التنظيمـي
2-8-2019
الأخلاق و الإدارة العامة
24-4-2016
طرَّاد بن علي بن عبد العزيز
26-06-2015


الأداء القصصي في الشعر  
  
19   11:24 صباحاً   التاريخ: 2025-03-19
المؤلف : د. محسن اطيمش
الكتاب أو المصدر : دير الملاك
الجزء والصفحة : ص: 15-72
القسم : الأدب الــعربــي / النقد / النقد الحديث /

الأداء القصصي في الشعر

لا يطمح هذا الفصل ولا البحث كله لأن يقدم تاريخا لحركة الشعر المعاصر في العراق وليس له أن يستفيض في الحديث عن المؤثرات السياسية أو الاجتماعية التي أسهمت في تطوير هذه الحركة الشعرية منذ نشأتها حتى آخر معطياتها ، وذلك لسبب مهم هو أننا أردنا لهذا البحث أن يكون دراسة الجماليات القصيدة العراقية الجديدة ، فاذا أراد الباحث أن يفيد من دراسة تاريخ هذه القصيدة ومن المؤثرات السياسية والاجتماعية التي قادتها الى التطور فستنحصر افادته بما يضيء ويغني بعضا من جوانب منهجه النقدي في دراسة هذه الجماليات وأظن أن تلك الافادة ستكون نافعة حينا ، وضرورة لا غنى عنها حينا آخر كانت الرومانسية العربية في أوج عنفوانها خلال السنوات السابقة على الحرب الكونية الثانية  وتمثلت تلك المرحلة بنتاج شعراء مدرسة الديوان وأبوللو وشعراء المهجر غير أن هذه النزعة بدأت تشهد ذبولها منذ سنوات الحرب الثانية ، ومع هذا فان نتاج الشعراء الرومانسيين كان يصل الى الشعراء الشباب في العراق ويؤثر فيهم ولذا بدا أغلب نتاج نازك الملائكة والسياب وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي في تلك السنوات نتاجا رومانسيا ، استلهم معطيات تلك المدرسة  لغة وصورا وتراكيب وموضوعات  وظلت القصيدة الغنائية القصيرة  ذات الهموم الشخصية هي السمة الطاغية لمعطيات مجموعات شعرية كأزهار ذابلة وخفقة الطين وملائكة وشياطين وشظايا ورماد والمساء الأخير (1)ولقد كان العراق والأمة العربية في سنوات الحرب الثانية وما تلاها تشهد تحولا ، وولادة جديدة  لأن هذه الحرب كانت الشرارة الفاعلة التي أوقدت الوعي السياسي بين مختلف طبقات الشعب العربي، التي أدركت أن طموحها في التحرر الوطني والاستقلال والتوق الى حياة أفضل لن يتم لها الا بالصدام المباشر مع الحاكمين ومن ورائهم أسيادهم البريطانيون وأول مظاهر هذا الطموح والتحرك

                                             15

هو ثورة مايس عام 1941 التي جاءت تحديا واضحا للانجليز وقواعدهم وقواتهم ، غير أن هذه الحركة لم يكتب لها النجاح، فأخفقت وأعدم قادتها  وكان أغلبهم من الوطنيين والقوميين العسكريين وكانت السنوات التالية لثورة مايس قد شهدت حركة سياسية مشتعلة بين الجماهير اتسمت باشتداد وتزايد التظاهرات دفاعا عن حقوقهم وانتصارا لأخوتهم في مصر وسوريا (2) واعلان الاحتجاج الشديد على ما كانت بريطانيا قد قدمته من وعود لاقامة اسرائيل وطنا قوميا لليهود، وتشددت الحكومة العراقية آنذاك في محاولة للامساك بزمام الأمور وكبح جماح الشعب الثائر وخاصة بعد أن حاول الحكام والبريطانيون ربط العراق بمعاهدة جديدة هي معاهدة  بورتسموث  فتمكنت الجماهير الشعبية الواسعة التي كانت تقودها أحزاب وطنية وقومية سرية وعلنية أن تحشد حشودها  وأن تتظاهر لتهز أركان الدولة بعنف في وثبة عرفت بتاريخ العراق باسم وثبة عام 1948 بعدها لجأ الحاكمون مرة أخرى الى الرصاص والقتل الذي ذهب ضحيته العديد من المواطنين في مذبحة رهيبة عرفت بـ  مذبحة الجسر  جسر الشهداء  غير أن الجماهير استمرت مواصلة نضالها حتى أرغمت الحكومة على الغاء تلك المعاهدة، وتبعها سقوط الوزارة - وزارة صالح جبر - (3) وتتابعت الأحداث سريعا  ونشبت أولى الحروب العربية الكيان الاسرائيلي الجديد  وأرسلت حكومة بغداد آنذاك وحدات من الجيش العراقي للاسهام في المعركة  محاولة بهذا أن تهدأ من ثورة الشعب ونضاله أو اشغاله بقضية تبدو أكثر أهمية ولكنها مع هذا فرضت الأحكام العسكرية العرفية  وسيق الآلاف من المواطنين مرة أخرى الى السجون وتمر سنوات قلائل  وتنتصر الثورة العربية عام 1952 ويتأكد لمصر انتماؤها العربي وارتباطها بكتلة عدم الانحياز وبحثها عن طريق لتحقيق العدل

                                        16

الاجتماعي  وانفتاحها على الكتلة الاشتراكية بحكم دورها الطبيعي المعادي للاستعمار والمشجع لحركات التحرر (4) تبع ثورة يوليو 1952 حدث وطني مثير هو تأميم قناة السويس ، وهبت الجماهير العربية  منتصرة للحدث  وأحس الحكام الذين ارتبطوا مع البريطانيين بأكثر من معاهدة ورابطة أن عروشهم بدأت تهتز  وأن غليان الثورة الشعبية أذن بزوالهم فلجأوا مجددا الى تكبيل العراق بأغلال جديدة كان أبرزها قيام حلف بغداد العسكري بين تركيا وايران والعراق وباكستان من جهة والغرب من جهة أخرى  وكان لهذا الحلف الذي سمي فيما بعد  بمنظمة الحلف المركزي  في هذه البلدان هدفان ، الأول منهما هو تكبيل حركات التحرر الوطني  والثاني هو احكام القبضة على منطقة الخليج العربي حيث منابع البترول والممرات الاستراتيجية التي كان الامبرياليون يحرصون على الامساك بها خشية تسرب النفوذ السوفييتي اليها (5)هذا جزء من حركة الواقع العربي الجديد، واقع ما بعد الحرب العالمية التي أكدت اندحار الفاشية وانتصار الكتلة الاشتراكية وتطور الوعي السياسي ونشاط الحياة الحزبية ، مما دفع بالتالي الى أن يكون العديد من المثقفين العراقيين والعرب منغمرين أو قريبين من الأحزاب الوطنية أو القومية التقدمية ، وبكلمة أدق نستطيع أن نقول ان السياسة صارت جزءا من هموم الشاعر العراقي واحتوت خيرة الوجوه الأدبية وأكثرها أهمية في تلك الحقبة أمثال السياب والبياتي وسعدي يوسف وشاذل طاقة وعلي الحلي والفريد سمعان وهلال ناجي وشفيق الكمالي وعبد الرزاق عبد الواحد وكاظم جواد وغيرهم، وأغلب هؤلاء شيوعيون أو بعثيون أو قوميون

                                              17

مستقلون يلتقون جميعا من أجل هدف واحد نبيل هو الثورة والخلاص من حكم العملاء الذين يكبلون الشعب وينهبون خيراته وكان نتيجة لهذا الواقع الجديد أن صار الأديب يتلقف ما يقع بين يديه من نتاج أدباء العالم  والمدافعين عن الانسان  فتعرف الشاعر في تلك الفترة على مكسيم جوركي  ومايكوفسي وناظم حكمت ونيرودا وأراغون ولوزكا مما كان يترجم في سوريا ومصر ويصل الى العراق سرا ولأن الشاعر المعاصر ملتزم عموما فهو اما أن يكون عضوا في حزب ، أو قريبا من ايدلوجية حزب آخر ، صار يدرك أن الخلاص ليس خلاصا فرديا وانما هو طريق جماعي ولقد انتقل هذا الوعي الجديد وتسرب الى العمل الأدبي نفسه من هنا صارت النزعة الرومانسية في الشعر أسرا وقيدا لا بد للشاعر أن يكسره  فالقصيدة الغنائية ، الطافحة بالحنين  وبالهرب من الواقع  والارتماء في أحضان الطبيعة ، عند جدول وريف وحبيبة  لم تعد هما شعريا  ولا ابداعا كبيرا وصار الشاعر يدرك ـ بوعيه الجديد - أن الشعر ليس تعبيرا عن حزن أو فرح فردي  وأن الفن ليس ضيقا الى هذا الحد، بل هو بما فيه من سعة ورحابة جدير بأن يعنى بقضايا الانسان والواقع والأحداث  وأن الشعر اذا أريد له أن يتجدد ويخلد  فان ذلك يتم بتجدد المضامين  اضافة الى الأشكال  وربما أدرك الشاعر أيضا أن من أهم السبل لاغناء الشعر هو افادته من الفنون الأدبية الأخرى كالقصة والمسرح والرواية ، حيث الحدث والمشكلة والأبطال والواقع واذا تبلور هذا الادراك الموضوعي لضرورة تطوير وتعميق القصيدة الغنائية ، في أواخر الستينات وعلى شكل كتابات نقدية (6) فاننا نلمس في الكثير من قصائد جيل الرواد ومنذ أوائل الخمسينات مثل هذه الرغبة في الانتقال بالقصيدة الغنائية الى مواقع أكثر غنى وافادة من فنون أدبية أخرى ، وانتقالا من الذات الى الموضوع

                                       18

ولا بد أن نتذكر أن الحياة الأدبية في السنوات 1950 ، وما قبلها ، كانت خلوا من النتاج الأدبي ذي القيمة الفنية العالية ، فليس ثمة حركة مسرحية متقدمة (7) والبناء الروائي الناجح كان أقرب الى العدم منه الى الوجود ، والقصة القصيرة كانت خطوات متعثرة توشك أن تنتمي الى الخاطرة أو المقالة التعليمية ، أكثر من انتمائها الى الفن المتكامل ، وغالبا ما اتسمت بسذاجة الموضوع وتهلهل البناء والمعالجة ، ولقد أفاض الدكتور عبد الاله أحمد في حديثه عن واقع القصة العراقية في فصل طويل من كتابه أسماه « القصة الساذجة » (8) فاذا أراد الشاعر - وسط حالة أدبية راكدة كهذه - أن يفيد من فنون الأدب الأخرى ، جاءت افادته على شكل تأثر بأكثر الأنماط شيوعا وأعني بها الأقصوصة  أو الحكاية الساذجة الملأى بالعيوب الفنية وليس الالتفات الى الحكاية  وجعلها مادة القصيدة أمرا مستحدثا في الشعر العربي الحديث ، فهناك العديد من المحاولات السابقة التي يلحظ القارىء اهتمام الشعراء فيها بايراد الحكاية  وشعر خليل مطران وايليا أبي ماضي والياس أبي شبكة ومعروف الرصافي دليل على هذا الاهتمام  ولعل أغلب تلك المحاولات تتصف بأنها سرد لواقعة سمع بها الشاعر  أو شهدها فعلا  وربما عمد بعضهم الى خلق حكايات شعرية عن كائنات طبيعية ، أو أشياء جامدة  بروح رومانسية باكية . ويتضح . هذا في شعر أبي ماضي فثمة قصائد قصصية صغيرة تتحدث عن « زهرة » وموتها أو تينة  أو عن ريح الشمال أو عن « الكمنجة المحطمة » (9)

                                        19

أن شعر خليل مطران - الشاعر الأكثر تكريسا للقصة في الشعر - لم يكن ومع ليخلو من مثل هذه الموضوعات الشعرية (10) الا أن أغلب قصائده القصصية ، كانت قد توزعت في اتجاهين ، الأول هو تقديم القصة ذات الحدث المستقى من التاريخ كما في قصيدتيه نيرون  و مقتل بزرجمهر  والثاني تتشكل مادته من الواقع أو الحياة المعاصرة (11)  كما في قصائده « فنجان قهوة » و « الجنين الشهيد » التي قال الدكتور محمد مندور عنها انها تعتبر من روائع شعره بل من روائع الشعر العربي الحديث » (12) أما قصيدته « حكاية عاشقين » التي يجمع النقاد على أنها قصة الشاعر الخاصة (13) فهي تتحدث عن حب جارف بين فتى وفتاة توفيت أثر مرض شديد ، ويلاحظ قارئ هذه القصيدة اهتمام الشاعر الكبير بالوصف ، فهو يصف الطبيعة بما فيها من كائنات ، وألوان وربما انصرف الى التحدث عن قضايا ليست لها ضرورة وفاعلية في نمو الحدث القصصي  ولعل هذا هو ما جعل الدكتور محمد مندور يصف حكاية عاشقين بأنها  سلسلة قصائد جمعها تحت عنوان واحد  (14) ان الشعر الذي يفيد من عنصر الحكاية أو يطمح الى خلق القصة في عدد غير قليل من القصائد ، والذي تميز بظاهرة الوصف الخارجي للأحداث والأبطال ونمو الحكايات الجانبية الى جانب الحدث الأساسي  واسترسال الشاعر بالتصوير تبعا لرغباته الذاتية وليس لمتطلبات موضوعه ، هذا النمط من القصائد قد ألقى بشيء من أثره في نتاج عدد من الشعراء العراقيين ولعل قارىء بعض قصائد السياب وبلند الحيدري ونازك الملائكة في السنوات الأولى لنشأتهم الشعرية سيلاحظ أن عنصر الحكاية في أشعارهم يحمل الكثير من صفات تلك القصائد  كما حصل في قصائد السياب « نهاية » و « السوق القديم (15) وقصيدة نازك الملائكة  الخيط المشدود الى شجرة السرو (16) ولعل قصيدة كاظم جواد مشهد التي كتبها في بداية الخمسينات هي النموذج المتفرد والمبكر أيضا، الذي يحاول أن يعتمد الحكاية  ويعبر عنها بشكل متماسك متكامل له بداية ونهاية وأبطال ذوو ملامح واضحة وأفعال مرسومة بدقة ثلاثة من حرس الليل السكارى سمعوا الشهيق وصيحة الخنجر في الطريق(17)وبداية القصيدة غاية في التكثيف  وموفقة جدا في تهيئة القارئ لتلقي النبأ المثير ومنذ البدء يضعنا الشاعر في مواجهة الحدث  ليل وشهقة  وقتل  في طرف الشارع صيحات مشاجرة وخنجر ملطخ بالطين والدماء وأخيرا يبدأ المقطع الثالث الذي هو نهاية القصيدة ، الحادثة ثلاثة من حرس الليل السكارى هبطوا الطريق كانوا يشاهدون ظل الصيحة الحمراء والخنجر والبريق مروا سراعا في زوايا الليل لا تبصرهم عيون كانوا يقهقهون أجل  أجل كانوا يقهقهون لقد كان كاظم جواد بارعا في تقديم الحدث - الحكاية - مختصرا الكثير من

                                   21

الجزئيات غير الضرورية  مكثفا لغته الى أبعد الحدود، وهو بعد هذا كمن يضع يده على الجرح ليقول تلك هي العلة ذلك أن القضية التي حاول الشاعر طرحها لم تكن مسألة رجل يقتل فحسب والا لما كان هناك شيء شديد الغرابة ، ولكنه طمح من خلال هذا الحدث الصغير الى ادانة الدولة الفاسدة ممثلة بحراسها السكارى الذين لا يعنيهم كثيرا أن يذبح انسان في الشارع

                                    (2)

واذا كانت المتغيرات السياسية « الأعوام 1952 وما بعدها » واشتداد الوعي الجماهيري بالمشكلات الاجتماعية والوطنية والقومية ، ونمو النشاط الحزبي نموا كبيرا ، وارتباط أغلب الشعراء العراقيين به ، ثم تطور الحياة الثقافية بفعل الاطلاع على الآداب الأجنبية ، ما وصل منها الى العراق ،مترجما ، أو قرأه الأديب بلغته الأصلية ، اذا كان هذا كله قد أسهم في وضوح رؤية الأديب للواقع ، ووقوفه موقفا منتميا وفاعلا من الأحداث ، وتحدد لذلك المسار الملتزم للقصيدة الجديدة (18) ، فاننا نری - وعلى صعيد التطبيق الفني - - ان تلك الحقبة من عمر الشعر العراقي الحديث كانت تشهد تنازعا واضحا بين اتجاهين في الأداء ، الاتجاه الرومانسي ، والاتجاه الواقعي الجديد ، وبالتأكيد فان أحدا لا يستطيع أن يقول أن تلك السنوات شهدت احتضار الحس الرومانسي وقيام حركة تحمل الجدة كلها كبديل عنه ، لكن الواضح من خلال المعطيات الشعرية آنذاك هو أن الرومانسية التي كانت طاغية ومتدفقة أخذت بالانحسار أو الوقوع في الظل (19) وبكلمة أدق فانها بدأت تختفي داخل بنية

                                 22

 

القصيدة الواقعية ، غير أن هذا الاختفاء كان يبدو في كثير من الأحيان آنيا لأننا نجد في عدد غير قليل من أشد القصائد واقعية وموضوعا حسا رومانسيا مما يؤكد أن شعراء تلك الفترة كانت تنتابهم بين الحين والحين تلك النزعة الرومانسية التي رافقتهم منذ النشأة الشعرية وصحب اهتمام الشاعر بالمضامين الجديدة ، خطوة متممة مطورة أخرى هي تلك اغناء التكنيك الشعري بعناصر جمالية لم تكن شائعة  اذ عرف الشاعر الافادة الجادة من معطيات فن المسرح والقصة لاغناء الشعر ، فاتجه لتوظيف عنصر الحوار  والحوار الداخلي وتعدد الأصوات ، وتقديم الصورة العامة للأجواء والمشاهد التي يدور فيها الموضوع الشعري  والاهتمام بتصوير ملامح الأشخاص وتقديمهم ضمن حدث أو موقف ، كما وظفوا الرمز والتفتوا الى الأساطير وأبطال التاريخ (20)  وتطور شكل القصيدة من دفقة شعورية صغيرة الى بناء ينمو على هيئة لوحات أو مقاطع يضيف الواحد منها للآخر فاذا القصيدة في النهاية موضوع متماسك مركب بينما نمت عناصر الحكاية الصغيرة العابرة  واتخذت شكل قصيدة تنهل من فن القصة حينا وتطمح لأن تكون قصة حينا آخر  لها ما يميزها من أجواء وحدث نام وأشخاص نعرفهم ونحيا مشكلاتهم في بعض من قصائد البياتي التي كتبها منذ أكثر من عشرين عاما يلمس الباحث اقتراب الشاعر من معطيات فن القصة ونراه يتوجه الى كتابة القصيدة التي تحاول أن ترسم الشخصية ( داخل القصيدة وتقدم شيئا من فعلها ومواقفها وسنكتفي من قصائد البياتي تلك بقصيدتين الأولى هي  مذكرات رجل مجهول والثانية  الرجل الذي كان يغني(21) و مذکرات رجل مجهول يمكن النظر اليها على أنها من بدايات البياتي الشعرية التي أراد فيها أن يرسم ملامح شخصية ، وفعلها  وهي تنمو على شكل مقاطع أو محاور غير أن ما يميز هذه المحاور هو أنها تتوالى على شكل امتدادات  وتكرار  أو هي تراكمات لفكرة واحدة غير متطورة كثيرا فاذا علمنا أن البطل في المقطع الأول كان قد فقد أباه  وعمره « آنذاك سنتين » فان المقطع الثاني لن يضيف الى الشخصية أبعادا ذات قيمة كبيرة ففيه نعرف أنه ذاق طعم اليتم والتسول فقط ، وفي المقطع الرابع مات جده  ولا شيء غير هذا ومات جدي كالغراب كالجرذ كالصرصور مات مع الخريف فدفنته في ظل نخلتنا(22) ان تكرار مثل هذه الأفكار التراكمات يوحي بأن شخصية البطل كما قدمها الشاعر « مسطحة » بلا أعماق  بلا ملامح واضحة  أو تكوين خاص أي أن الشاعر لم يستطع أن يتعمق ويتغلغل بداخل الشخصية ، هواجسها أحزانها وصراعها الداخلي ، وكيف نمت وتطورت  ليخلق منها نموذجا متفردا فاذا عرفنا أن البطل تيتم وجاع ودفن جده فان المقطع القادم ينبئنا بأنه هجر قريته في سنوات الحرب وكان عمري آنذاك عشرين عاما ان الملمح الوحيد والجديد الذي يخرجنا من مأزق متابعة حياة البطل الضيقة الموت والفقر ويعد اضافة الى مسار حياته هو انتماؤه الى طبقة الكادحين والمناضلين الذين يؤمنون بأن هذا العصر هو عصر الكادحين عصر المصانع والحقول وانه اختار الانتماء السياسي وهو الآن تواق الى سفك دم السلطان الطاغية

                                      24

ان المقاطع الثمانية التي كونت القصيدة هي في الحقيقة مقطع واحد ممتد ، فكرة واحدة بكلمة أدق  ولكن هذه الفكرة تتكرر باضافة جزئيات غير مهمة ، لا تسهم في نمو وتطور الحدث أو اضاءة ملامح الشخصية والسير بها نحو التكامل والوضوح أما قصيدته الرجل الذي كان يغني  (23) والتي كتبت بعد قصيدته مذكرات رجل مجهول » و « القرصان » فانها تنتمي أيضا الى تلك القصائد التي تعنى بالحكاية وتقديم الشخصية الشعرية وأفعالها  ولعل ما يميز هذه القصيدة هو أن الشاعر هنا أكثر التصاقا ببطله ، واحتواء له  أو توحدا به كما أنها قدمت صفات الشخصية ومواقفها من خلال جمل شعرية سريعة ومتلاحقة  دونما استفاضة أو استطراد غير مبرر ، واتصفت تلك الجمل بالاختصار والتكثيف الشديد في العبارة  وتحميلها طاقة ايحائية عالية على أبواب طهران رأيناه على جبهته جرح عميق فاغر فاه يغني ، أحمر العينين كالفجر بيمناه رغيف مصحف قنبلة كانت بيمناه  (24) ولا يكتفي البياتي بالحديث الخارجي عن بطله ، بل انه يلتقيه ، ويكلمه في اللحظة التي يكون فيها الموت قريبا جدا من البطل ، الذي لا يكف عن التغني بانتصار قضيته، وأخيرا يطلق عليه جند الشاه اطلاقة الموت فيخر البطل شهيدا وداعا قالها واختنقت في فمه الآه

                                          25

وداعا لك يا طهران  يا صاحبة الجاه ودوت طلقة ، واختنقت في فمه الآه على أبواب طهران رأيناه يغني الشمس في الليل (25) يغني الموت والله ان القارىء حين ينتهي من قراءة « الرجل الذي كان يغني » يدرك أن هناك بونا شاسعاً في تطور امكانات التعبير الشعري بين هذه القصيدة المكثفة الموحية وبين قصيدة البياتي السابقة مذكرات رجل مجهول ذات الاستطرادات غير المهمة ، واللهجة التقريرية الشارحة  وان هذا البون ليعد ظاهرة طبيعية بين مرحلتين من مراحل تطور الشاعر  هما مرحلة البدايات، ومرحلة النضج الشعري التي ستقود الشاعر فيما بعد الى كتابة قصائده المهمة كما ان قراءة جديدة لبعض من قصائد بدر شاكر السياب التي كتبت منذ أكثر من ربع قرن كـ « غريب على الخليج » و « أنشودة المطر » و « المخبر » لتقود القارئ الى تلمس البذور الأولى لتحقق الافادة المتطورة من فن القصة في القصيدة الغنائية الجديدة  فاذا أضفنا لتلك القصائد معطيات السياب في انجازات أخرى كـ « مدينة بلا مطر » و « المغرب العربي » و « المومس العمياء » و « حفار القبور » أدركنا مدى القيمة الفنية التي أسهم السياب في تقديمها الى مجمل حركة الشعر العربي المعاصر تبدأ القصيدة « غريب على الخليج » بهذا المدخل الريح تلهث بالهجيرة كالجثام على الأصيل وعلى القلوع تظل تطوى أو تنشر للرحيل زحم الخليج بهن مكتدحون جوابو بحار من كل حافٍ نصف عار(26)

                                       26

ثمة طريقتان يلجأ اليهما السياب في كتابة قصائده التي تقرب من فن القصة ، أو التي تحاول أن ترسم شخصية البطل الأولى أن هي يصع بطل قصيدته أمام القارئ مباشرة ، وينطقه بما يرسم صورته الشخصية دونما مقدمات مسبقة وستكون قصيدته » المخبر » نموذجا لهذه الطريقة في رسم الشخصية داخل القصيدة ، أما الثانية وهي الأكثر شيوعا فيعتمد فيها على مدخل تصويري يرسم فيه صورة الطبيعة أولا ، فاذا كانت الريح  تلهث بالهجيرة كالجثام على الأصيل  في غريب على الخليج فان الليل يطبق مرة أخرى فتشربه المدينة (27) في المومس العمياء  وتأتي صورة الطبيعة في «حفار القبور » على هذه الشاكلة ضوء الأصيل يغيم كالحلم الكتيب على القبور وحين يفرغ الشاعر من هذا الوصف الذي لا يفارق بدايات أهم أعماله ، ذات السمة القصصية يلتفت الى تصوير مكان الحدث في غريب على الخليج نرى عناية السياب بتصوير القلوع التي تطوى أو تنشر مشيرا بذلك الى المناخ العام الذي يعيشه بطل القصيدة أما في  المومس العمياء فان مكان الحدث هو تلك المدينة الكابية الحزينة التي تتفتح مصابيحها كأزاهر الدفلى  أو كعيون ميدوزا (28) وهو المدرج النهائي تهب عليه أسراب الطيور  في قصيدته القصصية الثالثة حفار القبور بعد هذه المداخل يضعنا السياب أمام بطل القصيدة  أو أبطالها ان هذه البدايات تجسد منهج الشاعر بشكل واضح وهو منهج لا نبعد كثيرا عن الحقيقة لو أننا قلنا انه ينتمي بصورة أو بأخرى الى معطيات الفن القصصي ، فرسم المكان الذي يدور فيه الحدث  ورسم صورة الطبيعة  وهذا الرصد المتتابع للجزئيات وتوليد الصور الشعرية من بعضها استكمالا لتقديم المناظر هو جزء من مهمات القاص أو أنها التقديم للأجواء العامة التي يدور فيها الحدث

                                           27

فاذا حاولنا الاستمرار في قراءة القصيدة ولتكن غريب على الخليج لنا مثالا زاد اكتشافنا لهذا المنهج الذي يحاول فيه الشاعر اثراء قصيدته بسمات العمل القصصي وعلى الرمال على الخليج جلس الغريب ، يسرح البصر المحير في الخليج ويهد أعمدة الضياء ، بما يصعد من نشيج .أعلى من العباب يهدر صوته ومن الضجيج صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى عراق(29)فبعد انتهاء السياب من تقديم الصورة العامة للمشهد والتي تنتهي بالعبارة من كل حاف نصف عار نراه يعمد الى تشكيل صورة البطل أو الشخصية الأولى في القصيدة فاذا هو غريب ناء عن وطنه مليء بالحيرة يفترش الرمال باكيا حالما بالعودة غير أن الشاعر بعد هذا يتخلى عن موقفه القريب من موقف القاص وينتقل الى حالة غنائية متفجرة  ويبرز صوته الداخلي المحتدم على شكل نشيج وصرخة أعلى من العباب يهدر رغوه ومن الضجيج  صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى عراق  كالمد يصعد  كالسحابة  كالدموع الى العيون الريح تصرخ بي عراق والموج يعول بي عراق عراق  ليس سوى عراق (30) لقد كان السياب يتحدث عن نفسه بضمير الغائب ، جاعلا منها شخصا مستقلا  بطلا يرصده ويرسم فعله وحيرته جلس الغريب  يسرح البصر  يهد أعمدة الضياء « بما يصعد » ولكنه لم يطل الوقوف عند رسم صورة البطل وانما

                            28                                            

 

تنقل بسرعة الى صوته الداخلي وأخذ يتحدث بضمير المتكلم ولعل هذه لانتقاله الى الصوت الداخلي تبدو طبيعية لأننا لا نطالب السياب بالاستمرار في توضيح ملامح البطل الجالس على الرمال ، وبطريقة قصصية فليست هذه الأمور من صلب مهامه  لأنه ليس قاصا  وانما هو شاعر غنائي من الطراز الأول وان لقصة بالنسبة له ليست الا وسيلة تعبير درامية كما يقول الدكتور عز الدين سماعيل(31) واذ تنتهي تلك الصرخة الغنائية الطافحة بالحنين  وتهدأ عواطف الشاعر لفائرة ويسترد أنفاسه  يبدأ بتأمل ما حوله وما يلقاه وهنا أيضا يأخذ بالاقتراب من موقف القاص فيكتب عدة مقاطع ذات صفات قصصية أو أنها تتمات تؤدي الى المزيد من توضيح ملامح البطل المغترب ونمو الموضوع لشعري الحدث والقضية، وهذه التتمات تأتي على نمطين من الأداء  الأول منهما حديث مباشر عن حياة البطل اليومية في الغربة ما زلت أضرب مترب القدمين ، أشعث في الدروب تحت الشموس الأجنبية متخافق الأطمار أبسط بالسؤال يدا نديه صفراء من ذل وحمى  ذل شحاذ غريب بين العيون الأجنبية بين احتقار وانتهار وازورار أو خطيه(32) وثانيهما ينمو عبر العودة الى الماضي » أو تسليط الضوء على أحداث شخصية ماضية  ينقل لنا فيه صورا عن طفولته  وعن معتقدات الطفولة تلك ، وما كان يسمع بها من أقاصيص ترويها العجائز في الليالي (33)

                                         29

وبانتهاء القارىء من غريب على الخليج  يلمس بوضوح أن بناء تلك القصيدة ونموها من خلال المقاطع ومفتتحها التصويري للجو العام ، ثم للبطل وهذان النهجان من التعبير عن الحكايات والأقاصيص  أسهمت كلها في تقديم قصيدة غنائية ناضجة تحاول أن ترسم الشخصية ، ضمن حالة معينة  ومن خلاله سيتعرف قارئها على ملامح البطل وما كان يمر به ويعانيه من أزمات ويحاول في قصيدته  المخبر  أن ينهج النهج الذي سلكه في « غريب على الخليج » أعني أن يكتب قصيدة لرسم شخصية انسان يعمل مخبرا للدولة ولذا فهو لا يكف عن اقتفاء خطى الآخرين الذين يعرف عنهم أن لهم علاقة بالسياسة  أو بالعمل ضد الدولة  وفي هذه القصيدة لا يعمد الشاعر الى مفتتح تصويري  بل يدلف إلى موضوعه مباشرة أنا من تشاء أنا الحقير صباغ أحذية الغزاة  وبائع الدم والضمير للظالمين أنا الغراب(34) كما أنه لا يحاول أن يورد قصصا أو حكايات تتوزع هنا أو هناك في القصيدة كما فعل في غريب على الخليج ولكنه يعمد الى طريقة بديلة أخرى هي أن يضع البطل أمام الآخرين  وجها لوجه  مانحا اياه موقفا خطابيا حادا  معلنا عن نفسه وشخصيته وتكوينه ، وربما أسقط السياب موقفه هو على بطله  فأخرج بذلك الشخصية عن مستواها الانساني الى المستوى الذي يريده هو لها  فانبثقت صورة البطل من أحاسيس الشاعر وشتائمه المقذعة له ، وسنرى ان حشر الكاتب لنفسه وانطاق بطله بارائه هو سيكون خطا عاما في قصائده القصصية أنا الغراب يقتات من جثث الفراخ  أنا الدمار أنا الخراب شفة البغى أعف من قلبي ، وأجنحة الذباب أنقى وأدفأ من يدي  كما تشاء  أنا الحقير (35)

                                     30

واذا كانت غريب على الخليج من بدايات السياب الشعرية التي حاول فيها رسم الشخصية من خلال قصيدة ذات سمة قصصية فان بينها وبين « المخبر » بونا في البناء وملامح مهارة ونضج قرب الشاعر من رسم شخصية البطل رسما يوشك أن يكون متكاملا لأن السياب هنا عمد الى بناء القصيدة من خلال محاور متعددة تسهم كلها في القاء الضوء على حياة هذا الكائن وفعله كما عمد الى نمطين من الأداء اللغوي الأول مباشر وتقريري والآخر يمكن أن يوصف بأنه تصويري فني كان قول الشاعر أنا من تشاء أنا الحقير والذي ينتهي بالعبارة  انقى وأدفأ من يدي  يشكل المحور الأول من محاور البناء ووظيفة هذا المحور هو تقديم موقف الشاعر من بطله ، سخطه عليه ، وكانت وسيلة السياب الى ذلك هذا السيل من الشتائم واختيار اللغة المباشرة والتقريرية وذات اللهجة الحادة التي تنتقي من المفردات كل ما يدل على الضعة والحقارة فاذا انتهى الشاعر من فورته الشخصية وأحس أنه كال لبطله ما يكفي من أقذع السباب انتقل الى المحور الثاني الذي يضيف الى القصيدة غنى ولرسم صورة البطل جزءا من وضوح الملامح لكن لي من مقلتي ـ اذا تتبعتا خطاك وتقرتا قسمات وجهك وارتعاشك - ابرتين  ستنسجان لك الشراك وحواشي الكفن الملطخ بالدماء ، وجمرتين تروعان رؤاك ان لم تحرقاك وتحول دونهما ودونك بين كفى الجريدة فتند آهتك المديدة وتقول أصبح لا يراني بيد أن دمي يراك اني أحسك في الهواء وفي عيون القارئين لم يقرأون

                                    31

هذا المقطع - المحور - يمكن للقارئ أن يصفه بأنه « أسلوب عمل » البطل وطريقته في تتبع ضحاياه ومراقبتهم ، اضافة الى تقديم الحالة العاطفية للمخبر . عندما يتمكن من فريسته ، ولعل القارئ يدرك مدى براعة السياب في ملاحقة الصورة الشعرية التي تعكس فرحة البطل بانتصاره  ثم أسلوب عمله ، هنا تتحول عينا المخبر الى ابرتين تنسجان الشراك ، واختيار الشاعر لـ « ابرتين » دليل مهارة وصنعة متقنة للمجاز الذي خلق الصورة لأن حركة. عيني المخبر المتكررة والمتلاحقة بينه وبين فريسته تحديقا بها  وابتعادا عنها هذه الحركة التي ستؤدي الى الموت والقتل تشبه حركة الابر التي تنسج الشراك  أو الكفن الملطخ بالدم ، وضروري هنا أن نشير الى أن هذه الصورة التي تقدم العين ناسجة شباكا أو خيوطا تتكرر في قصيدة الشاعر القصصية الطويلة المومس العمياء  وكأن الحاظ البغايا ابر تسل بها خيوط من وشائع في الحنايا وتظل تنسج بينهن وبين حشد العابرين شيئا كبيت العنكبوت(36) و « المومس العمياء » قصيدة حدث ، ورسم فيها الشاعر صورة البطلة أيضا فكأن هذه الصورة الشعرية التي ترددت في القصيدتين هي من أثر الموضوع الشعري على أداة التعبير على خلق الصورة الشعرية وتتضح وظيفة المحور الثاني أسلوب العمل  من خلال الأبيات التي تصور حيلة المخبر بالتخفي ، فهو يستر وجهه بالجريدة ، ولكن لماذا يستره بالجريدة ؟ ذلك لأن الضحية تقرأ ، والسياسي يقرأ ، فالمخبر اذن يحاول أن يخدع فريسته ، ويوهمه بأنه مثله ، قارئ ومعني بالمعرفة  وهذا المقطع - يدلل - ضمنيا ـ على أن الدولة ممثلة بالمخبر كانت تخاف من يقرأ  وكانت تخشى المعرفة وتحاربها أيضا  هنا يتضح أن لكل لفظة أو عبارة دلالة ووظيفة في نمو القصيدة واضاءة أفكار الشاعر ويتساءل المخبر  لم يقرأون  ومن هذا التساؤل يبدأ المحور الثالث

                                        32

لأن تونس تستفيق على النضال ولأن ثوار الجزائر ينسجون من الرمال كفن الطغاة وما تزال قذائف المتطوعين يصفون في غسق القتال يصفرن في غسق القتال هذه هي العقدة اذن هذا المحور يقدم لنا اضافة جديدة هي القضية والتهمة وعلاقة المناضل بالأحداث والثورة العربية في تونس والجزائر ومصر كما يبين لنا وجهة نظر المخبر بهذه الأمور لم يقرأون وينظرون الي حينا بعد حين كالشامتين سيعلمون من الذي هو في ضلال والى هذا الحد من القصيدة يكون القارئ قد تعرف على موقف الشاعر من بطله وأسلوب عمله وعلى القضية والتهمة غير أن ملامح الشخصية لم تكتمل بعد وهنا يلجأ الشاعر الى كتابة مونولوج يشكل المحور الرابع من محاور بناء القصيدة يقول المخبر في البدء كان يطيف بي شبح يقال له الضمير أنا من مثل اللص يسمع وقع أقدام الخفير شبح تنفس ثم مات واللص عاد هو الخفير في البدء لم أك في الصراع سوى أجير كالبائعات حليبهن كما تؤجر للبكاء ولندب موتى غير موتاهن في الهند النساء قد أمعن الباكي على مضض فعاد هو البكاء

 

                                            33

وما دام الشاعر حريصا على استكمال ملامح شخصيته فقد وجد التعرض لماضيها ضروريا ، فجاء هذا المقطع الذي يمكن وصفه بأنه « ماضي البطل » أو بدء الاشتغال بالمهنة  ومنه يتضح ان المخبر لم يكن في أول الأمر موغلا في الحقارة أو الاثم ، كان في داخله شيء أبيض بعض نقاء ضمير وكان يخشاه غير أن الاخلاص للمهنة ، وممارستها يوميا الى حد الاجادة التي وصفها الشاعر في المحور الثاني ، كفيل بأن يقتل ذاك الضمير تماما ، وبقتله يكون الستار قد أسدل على ، ويبدأ فعل البطل في الحاضر  موقفه من مهنته  ونظرته الى الجريمة وكل الماضي هذا يأتي عبر مونولوج جديد ، ومحور خامس مثقل بالمجازات الشعرية المتلاحقة ، بعيد عن المباشرة التي رأيناها في بداية المحور الأول الخوف والدم والصغار  فأي شيء أرتجيه فعلى يدي دم  وفي أذني وهوهة الدماء وبمقلتي دم وللدم في فمي طعم كريه أثقل ضميرك بالآثام فلا يحاسبك الضمير وانس الجريمة بالجريمة والضحية بالضحايا لا تمسح الدم عن يديك فلا تراه وتستطير لفرط رعبك أو لفرط أساك  واحتضن الخطايا بأشد ما وسع احتضان  تنج من وخز الخطايا ان هذا المحور الجديد الذي يصور الحاضر هو اضافة بالغة الأهمية للقصيدة  لأنه يقدم لنا البطل في مرحلة نضجه ووعيه فالرجل الذي كان يخشى بقية ضمير تدرب الآن وازداد خبرة بالجريمة  لا بل نراه يحاول أن يؤسس لفلسفة خاصة به هي فلسفة السفاحين والقتلة الذين تعلموا أن الخلاص من الاحساس بالاثم وتأنيب الضمير يتم بالامعان في الجريمة  واحتضان الخطيئة ، وزيادة الممارسة ، وفي نهاية هذا المحور يكون وعي المخبر قد تم  وتبلورت أفكاره واكتملت شخصيته سحقا لهذا الكون أجمع وليحل به الدمار مالي وما للناس لست أبا لكل الجائعين فلينزلوا بي ما استطاعوا من سباب واحتقار

 

 

                                    34

ومع كل ما يمكن أن يثار حول شخصية بطل القصيدة  ومدى نجاح السياب في خلقها متماسكة أو مهتزة أو الاعتراض على هذا التهويل الدرامي للمخبر الذي لا يبدو انسانا سويا على الاطلاق والذي قوته وقوت بنيه لحم آدمي  فان القصيدة تظل من أهم القصائد الغنائية في الشعر العراقي الحديث التي حاولت أن تستلهم شيئا من الفعل القصصي لغنائها ومن أجل تقديم الاشخاص واستكمال ملامحهم من خلال أفعال ومواقف ولا يكتفى محمود البريكان برسم شخصية البطل المنتمي الى الحياة المعاصرة (37) وانما يتجاوز ذلك  فيخلق من رؤاه الخاصة أبطالا وقد لا يكون هؤلاء الأبطال بشرا  ولكنهم يكتسبون داخل القصيدة صفات انسانية حية (38) هذا أنا مرتفع أواجه العيون أشلها انفض في نهاية السكون حوادث الدهر ورعب المائة التاسعة وبطل القصيدة تمثال أشوري، يروي حكايته، فلقد كان في يوم ما معبود نينوى وسيدها ، وكانت القبائل تنحر له الذبائح، وتتلو حوله التراتيل ، كما أنه شهد الليالي  وضجة الزلازل واقتحام الخيل في الحروب ، ورأى كيف ترتفع الرماح بالجماجم  وكيف تختلط الرؤوس والأسماء ان كل هذا يحتدم في ذاكرة التمثال الملك  وحين توالت عليه العصور ، بدأت بتغيير لونه  ونسج خيوط مأساته جردت من خواتمي ، جزت ذؤاباتي دحرجت من قاعدتي

                                              35

نقلت من مكان الى مكان حاورتني البوم والعقبان تسلقت أصابعي الصبيان جرب فأس ما في جسدي يوما ربطت بالحبال سحبت ممدودا على وجهي وراء زوجين من البغال حرست سورا مرة ومرة أخرى وضعت في مدخل قصر ما واذا كان البريكان قد اختار لهذه القصيدة أداءً مسترسلا يعتمد السرد لتصوير تحولات حياة البطل عبر رحلته في الزمن بسبب رغبته في انشاء حكاية وتقديم شخصية فان هذا النمط من وسائل التعبير والذي رأينا شيئا منه في بعض قصائد البياتي مذكرات رجل مجهول  قد يكون باعثا على اثارة ملل القارئ وهو يتابع الحكاية بأسلوب السرد وحده غير أن طرافة الحكاية وغرابة الشخصية، وذكاء التناول والالتفات الواعي الى رصد التناقضات، واضفاء تلك اللمسات الانسانية الدافئة التي جعلت من التمثال الحجري مخلوقا ينبض بالحياة والحركة وتحتدم في داخله الهواجس والأحزان لعل هذا كله يجعل القارئ يتقبل هذا النمط من الأداء بما فيه من سرد وتقرير                                 (3)

كانت الانجازات الشعرية التي مرت بنا خطى طيبة وجادة لإغناء القصيدة الحديثة وتطويرها والسير بها نحو مواقع الفن القصصي بشكل عام ولا نود أن نستفيض كثيرا في متابعة جزئيات المسيرة الشعرية لأن حديثا كهذا سوف يمتد بنا ويتشعب  وربما جاء فيه الكثير من التكرار  ولذا فسنقصر الحديث على مسألة مهمة ومتممة لتلك الانجازات  فالمحاولات الشعرية التي تعرضنا اليها كانت تفيد من بعض معطيات فن القصة القصيرة وتنتفع منها انتفاعا جزئيا  وها نحن الآن

                                       36

نقرأ قصائد تتقلص فيها المسافة بين الشعر والقصة  وهي تطمح الى تقديم الفن القصصي متكاملا وناضجا داخل البنية الشعرية ، واذا كان السياب رائد المحاولات الأولى لكتابة القصيدة القصصية فان سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر وفاضل العزاوي هم خير من كرس هذا المنهج الشعري تكريسا يوشك أن يكون تاما ، فاذا أضفنا اليهم انجازات سامي مهدي ويوسف الصائغ وعبد الرزاق عبد الواحد (39) وغيرهم في التقاط الأحداث الشعرية الصغيرة ومحاولة أدائها قصصيا أدركنا أن القصيدة العراقية الحديثة لدى نخبة ممتازة من شعرائها بدأت تسلك هذا المسلك في محاولة دائبة للتخلص من أسر الغنائية المباشرة واثراء القصيدة بأساليب تعبيرية تستقيها من الفنون الأخرى ان قصائد بدر شاكر السياب القصصية الطويلة كـ « المومس العمياء » و حفار القبور يمكن النظر اليها على أنها كانت البداية لكتابة القصيدة القصصية غير أن محاولات السياب تلك سرعان ما انتهت بشكل غريب وملفت للنظر انها أشبه بالشرارة التي اتقدت فجأة وانطفأت ، دون أن يضيف اليها أحد من الشعراء شيئا ايجابيا  بل ان السياب نفسه قد سكت بعد تلك المحاولات ، ولم بعد لذاك النمط من الكتابة الشعرية  ويحاول الدكتور احسان عباس أن يجد مبررا لانصراف السياب عن كتابة المطولات  قصصية كانت أو غير قصصية فيقول ان السياب وجد في الكويت متسعا من الوقت ليحقق أمنيته الكبرى  وهو أن يعرف بين الناس باسم صاحب القصيدة الطويلة  ولكنه وجد عند عودته الى العراق أن مثل هذه القصائد لا تتسع له صدور المجلات والجرائد ـ بسبب الحجم وأن العثور على ناشر يضطلع بنشر كل قصيدة على حدة في كراسة أمر عسير  ولهذا

                                         37

اضطر أن يعود الى الشكل المتوسط  أو القصير (40) ولنا على هذا الكلام بعض التحفظات ، لأننا لا نطمئن كثيرا الى أن الشاعر - أي شاعر - سينصرف عن الكتابة ، أو يتجاهل مهماته الشعرية لأن صدور المجلات لا تتسع لها أي أنه سيجعل من امكاناته وفنه وطموحه شيئا محددا تابعا للمساحات المتاحة في الجرائد أو للقبول من الناشرين  وليس عسيرا على السياب آنذاك أن يجد ناشرا وهو الذي نشر « المومس العمياء» على طولها البالغ في كراسة  وأعلن الناشرون عن . طبع قصائد جديدة له  واذا اتفقنا - حذرين - مع رأي الدكتور احسان عباس فلماذا لم - . يعد السياب الى محاولاته تلك بعد أن غدا شاعرا كبيرا تفتح له المجلات ودور النشر أبوابها وبترحاب بالغ ، وشيء من المال أيضا  ثم أيظن انسان أن السياب كتب تلك القصائد لأنه كان ينعم بمتسع من الوقت  في الكويت ؟ ومن أين يأتي هذا المتسع الهادىء المشجع على الكتابة اذا كان الشاعر دائم البحث عن عمل ليست المساحات غير المتاحة  ولا المتسع المفقود من الوقت هو الذي صرف الشاعر عن منهجه ذاك  ولكنه شيء آخر  أظنه ادراك السياب فيما بعد جملة عيوب فنية كانت ترافق أعماله الطويلة تلك فعدل عن منهجه القديم وربما أحس ـ وبخاصة في القصيدتين ( المومس العمياء » و « حفار القبور » أنه لم يستطع أن يحقق فيهما ما كان يصبو اليه تحقيقا تاما ، أعني التسامي بالقصة والشعر معا  ومن يدري فربما رأى أن القصة شيء والشعر شيء آخر وأن لا ضرورة لكتابة القصة شعرا ثمة صعوبة بالغة ومزلق خطير يواجه أي شاعر يتصدى لأن يجمع بين الشعر وفن آخر  وهذه الصعوبة هي القدرة على الامساك الواعي بمتطلبات الفنيين معا فلكي يكون الشاعر قاصا أو مسرحيا في الوقت ذاته فان عليه أن لا يجعل أي فن منهما يقوم على حساب الآخر وتلك مسألة ليست بالسهلة اطلاقا وربما كان ادراكها سببا في افتقاد الشعر العراقي الحديث الى قصائد قصصية طويلة محكمة ، أو شعر مسرحي رصين ومتكامل ولذا فان قصيدة المومس العمياء تبدو من هذا المنطلق قاصرة  لأن السياب لم يستطع أن يكون فيها شاعرا وقاصا في آن واحد  فهو ان كان قد ضيع القصة كبناء فني متماسك ومحكم ، وعذره في هذا أن علاقته بالقصة علاقة بداية ، ومحاولة تجريب ، فانه أوشك وهو الشاعر الغنائي المقتدر أن يخسر الكثير من معطيات شعره وأهمها القدرة على اثارة اعجاب القارئ باللحظة الشعرية  أو الموقف الداخلي المتفجر  ثم ذلك التكثيف باللغة والصورة  ولم نحصل من مادة الشعر العالي في القصيدة الا على مقاطع معدودة وقليلة قياسا الى حجم ا القصيدة الكبير كتب عن « المومس العمياء » كثيرون ، بل انها نالت من العناية والدرس ما لم تنله قصيدة أخرى ، ولذا فالاسترسال في الحديث عن موضوعاتها ضرب من التكرار  ومع هذا فلا بأس في اجمال الحدث الأساسي بسطور قليلة بطلة القصة فتاة عراقية من الجنوب قتل أبوها الفلاح متهما بالسرقة من حقل قمح الاقطاعي ، وبغيابه استدرجها آخرون الى المبغى  بالمال أو بالخداع أو بالوعود وكان الزبائن يعجبون بصباها وجمالها ولكنها في المبغى تصاب بالعمى ، ومن يدري فربما وضعت المومسات في أدوات زينتها ما سبب عماها . وأخيرا تذبل ويغادرها حسنها وبهاؤها فيصد عنها الزناة ، وتظل وحيدة لا تستطيع أن تكسب شيئا ، ولكي يزيد السياب الصورة تعتيما جعل المومس تلد في المبغى بنتا أسمتها ( رجاء ) (41) وكأنها الرجاء الأخير لتلك المرأة البائسة ، ولكن الطفلة تموت ، ومرة أخرى تظل المومس وحيدة تعاني الفقر والوحشة وتنتظر الموت تلك هي القصة كلها

                                          39

ان حدثا كهذا لا يبدو مميزا  أو شديد الغرابة ذلك أن وراء أية مومس قصة في جعة قد لا تختلف عن مجريات أحداث المومس العمياء  كثيرا كما أن أطراف القصة كما جمعها السياب تفتقر الى قدرتها على الاثارة أو الدهشة ، ولن نكون مغالين إذا قلنا إن هذه القصة لو جردت من الاضافات الجانبية فلن تعجب غير العجائز أو السذج أما لماذا اختار السياب هذا الموضوع، وقبله حفار القبور الذي يشتاق الى الموتى بل الى نشوب الحرب لتمزق اللحم البشري فيتلقى أفواجا من القتلى يدفنهم لكي يكون أكثر ثراء وانفاقا على ملذاته، فأظن أن هذا الاختيار كان بسبب تأثر السياب بذلك النمط من القصص الاجتماعية الشائعة في تلك الحقبة من حياة الأدب العراقي ولعل السياب عانى كثيراً في كيفية كتابة قصيدته  أو من أين يبدأ  لأنه ليس قاصا أصيلا  فالقاص أو الدرامي عموما يعرف بما يتملكه من قدرات النقطة التي يدلف منها الى موضوعه  أو الحدث الذي يتحتم أن لا يسبقه شيء (42) ولذا رأيناه يتخبط وليس له من منقذ غير منهجه في التداعي الذي هو عماد بنية القصيدة لديه ، لقد وصف المدينة وطرقاتها شعرا غنائيا وانتقل الى الليل والعابرين ذوي الأضلع المتقوسات ، (43) والأعين التعبي  وحشر أوديب وجوكست وميدوزا وابا الهول وطيبه ، وغيرها من الأسماء والأساطير ، ثم دخل المبغى « العلائي الأديم » وعرف بالحارس فالبغايا ووصفهن واسترسل ولم يفته شيء من رصده لهن وتطرق الى السكارى والحوذى والمسافر  ولم ينس أن يورد لسبب أو لآخر قصة ( غوته  عن فاوست ) وبعد مائة وثلاثين بيتا من الوصف المتلاحق يمر رجل يبيع الطير أو البط المذبوح  ونفاجأ بأن هنا في المبغى مومسا عمياء ستتذكر من

                                                 40

حلال نداء بائع البط حياة ماضية حافلة بالبراءة فأي كد وأية معاناة عاناها السياب لكي يصل الى هذا الجزء من قصته ؟ يقول الدكتور احسان عباس كان الشاعر يعتقد أن القصيدة الطويلة لا بد أن تكون ملحمية الطابع والملحمة تتطلب فاتحة تمهيدية فذهب يمهد للقصة بمقدمة طويلة زادت على ست صفحات (44) ثم قاد السياب تكوينه الغنائي من التعثر في الآداء القصصي اذ نراه معلقا حينا وراوية حينا آخر وناطقا بآراء وهواجس بطلته وصاحبتها مرة ثالثة ولا بد أن القارئ سيدرك وتلك مسألة أكثر أهمية ان القصيدة ستأخذ بالنمو والتطور تبعا لمشيئة الشاعر ورغباته الشخصية وليس لمتطلبات التكامل الموضوعي للحدث الذي ينبغي أن يتولد بعضه من بعض أو يؤدي جزء منه الى جزء آخر بالضرورة واضافة لهذا فإننا نجد الشاعر وكأنه امتلك حريته التامة في الوجود أينما يشاء وفي أي موضع من مواضع القصة وسيقول بصوته المنفرد الواضح كل ما يريد أن يقوله خواطر وآراء وفلسفة بل ذهب الى أبعد من هذا فانطق بطلته القروية الأمية بآرائه هو تقول الموس لا تتركوني فالضحى نسبي  من فاتح ومجاهد ونبي عربية أنا امتى دمها خير الدماء كما يقول أبي في موضع الارجاس من جسدي وفي الصدر المذال تجري دماء الفاتحين فلوثوها يا رجال من كل جنس للرجال فأمس عاث بها الجنود  الزاحفون من البحار كما يفور قطيع دود(45)

 

                                   41

ان كلاما مثل هذا يبدو هجينا  ولا يمكن أن يصدر عن امرأة بغى  أراد لها  أن تنحدر من طبقة تعاني الجهل والفقر وسيؤدي بالتالي الى تشويه صورة بطلة القصيدة  أو الى التناقض في الموقف الذي يجب أن يكون موحدا  وكمثال على هذا سنتساءل لأننا لا نعرف وربما كان السياب لا يعرف أيضا عن توقف بطلة الى الخلاص  أو على الأقل الخلاص بالتمني  فنحن نرى المومس وهي في خضم مأساتها تطمح لأن تتزوج - وتلك أمنية - بأية صورة كانت ومن أي شخص  فانهم هو أن تغادر هذا الكهف المبغى يا ليت حمالا تزوجها يعود مع المساء بالخبز في يده اليسار وبالمحبة في اليمين(1) انها أمنية نبيلة على ما فيها من تنازلات  لأن الزوج سيكون حمالا  وتلك أحقر المهن كما تظن بطلة السياب وكأن احتراف العمل الشريف أقل قيمة من البغاء ومع هذا فلا بأس أن ننتقل الى أمنية أخرى من أماني المومس كانت اذا جلست الى المرآة يفتنها صباها فتظل تعصر نهدها بيد  وتحملها رؤاها من مخدع الآثام في المنفى الى قصر الأمير تقتات بالعسل النقي وترتدي كسل الحرير(46) وغريب فعلا أن تحلم ابنة فلاح معدم ، حتى وان كانت طاهرة  شريفة قصور الأمراء  والعسل النقي  وبكسل الحرير ذلك ان التطلعات انما تكون على قدر الوعي  وفي حدود الممكن لا المستحيل  فكيف اذا كانت حاملة هذه رأسيات مومسا عمياء تقطن مبغى  ومن أين لها أن تعرف حياة الأمراء وزادهم يملاسهم  هذه أمنيات السياب  ونسج خياله ولغته التي أسقطها على بطلته ، عد هذا الحلم مجافيا لطبيعة تفكير البطلة وتكوينها  فانه مناقض لموقفها الأول الزواج من حمال

                                      42

وتكتظ « المومس العمياء » بقصص جانبية  أو أحداث تتعلق بأناس آخرين ه على هامش الحدث الأساسي  ومثل تلك القصص ستبعد القارئ عن متابعة دير الموضوع الرئيسي ، ولذا فان حذف هذه الأحداث الهامشية سيكثف القصة ، حصها من التهدل والاستطراد غير الضروري وبه لن تخسر القصيدة شيئا ذا تيمة (47) هذه بضع ملاحظات عن البناء القصصي لقصيدة « المومس العمياء » ولعلها نصح أن تطلق على القصيدة «حفار القبور » أيضا ، لأن القصيدتين وان اختلفتا في وضوع فهما توأمان في الأداء ويعكسان منهج السياب في كتابة القصة الشعرية ولعل هذا كله يقودنا الى القول بأن « المومس العمياء » لم تكن قصة ناضجة  .. يتوافر لها من الفن القصصي غير معطيات ضئيلة كتلك التي ترسم بعض جوانب شخصية البطلة  وهواجسها واحساسها بالألم والمعاناة ويرى عبد الجبار عباس القصيدة كأنها لوحات اجتماعية يقوم فيها الشاعر بعملية مسح اجتماعي شامل نموذج بشري معين ) (48)  ومن هنا تأتي قيمتها الموضوعية ، ذلك أن السياب د من خلال شخصية المومس أن يفضح زيف المدينة أو الدولة أو النظام الذي كان حكم العراق في الخمسينات  طارحا آراءه في السياسة والمجتمع وعلاقة الانسان انسان  وتوقه الى حياة مشرفة صافية غير معتمة أو ملوثة كتلك التي كانت تدور نبها وقائع قصته  هذه هي المهمة الأولى للقصيدة ، والتي تبدو حكاية المومس الى جانبها حدثا ثانويا لا يثير فينا غير السخط والاحتجاج على حكم ونظام معينين ولم يفلح الشعراء الآخرون بعد محاولات السياب في تقديم قصائد قصصية عويلة تعد اضافات ايجابية لما تحقق في  المومس العمياء  و  حفار القبور  (49)

                                    43

أما قصيدة راضي مهدي السعيد « بنت المبغى » المكتوبة عام 1953 (50) فتعتبر من المحاولات المبكرة في تقديم نموذج شعري يقترب اقترابا واضحا من القصة القصيرة كما عرفها الأدب العراقي في أوائل الخمسينات، وتثير هذه القصيدة جملة تساؤلات لعلاقتها الوطيدة بقصيدة السياب  المومس العمياء و « بنت المبغى » صورة تراجيدية لامرأة احترفت البغاء  أو أن الأيام ساقتها مرغمة لهذه الحرفة ، لقد كانت تلك المرأة قبل أن تأوى لبيت البغاء تعاني من وضع عائلي منكود لا يطاق، ويبدو أن البطلة كانت تحاول الهرب من تلك الحال فوقعت وهي في حيرة البحث عن البديل في حال أشد سوءا وسوادا وتنتهي حياتها كما تنتهي حياة أغلب هذا النوع من النساء بالذبول والشيخوخة ، وتحولها الى عظام يابسة ليس فيها ما يثير اشتهاء الزبائن من هنا تتضح الوشائج المتينة ، والصلات التي تربط بين هذه القصيدة وقصيدة السياب  وهذه الصلات لا يمكن أن تكون عفوية  أو من قبيل  وقع الحافر على الحافر  فالقصيدتان تتحدثان عن امرأة سقطت مرغمة في الوحل  وكان الباعث على هذا السقوط عوامل موضوعية متشابهة ، اذ أن مقتل أبي بطلة السياب كان سببا مهما لتلك الخطيئة ، كما ان قسوة الأب في قصيدة راضي السعيد سبب فعل في النهاية التي تردت اليها البطلة ، وكما انتهت حياة المومس العمياء الى جسد  لا يلتفت اليه أحد ، تنتهي كذلك بطلة قصيدة « بنت المبغى » ولنتذكر أن كلتا مرتين كانتا تحاولان الثورة على واقعهما المرير والتخلص منه ، اذ تقول بطلة السياب لو أستطيع قتلت نفسي » بينما يقول السعيد على لسان بطلته « عبثا تحاول أن تثور » لكنهم تيسان أخيرا اذ ليس بمقدورهما الخلاص من المحنة هذا هو الاطار العام لموضوع القصيدتين، اذا تجاوزنا قدرة السياب على خلق عالم واسع محتدم واكتفاء راضي السعيد بالحدث الضيق المحدد ، وحين نلتفت الى شيء من التفصيلات الداخلية فسنجد المزيد من تلك الوشائج التي تشد احدى القصيدتين الى ثانيتهما ، ومنها اننا نتذكر في قصيدة السياب صورة بعض السكارى

                                          44

الذين يجيئون في آخر الليل الى المبغى مثقلين بالسكر والاشتهاء يقول السياب يا أنت يا أحد السكارى يا من يريد من البغايا ما يريد من العذارى (51) هذه الصورة ترد عند راضي مهدي السعيد على هذه الشاكلة يا بؤسها ماذا يريد هذا الذي قد جاء يطرق بابها ماذا يريد ؟ أيريد منها ما يريد كل السكارى ؟ وهي ترغب لو تعيد (52) وحين تزول مسحة الشباب عن وجه المومس يتساءل السياب لم أصبحوا يتجنبون لقاءها ؟ أيضا جامعون عيونها؟ بالأمس اذ كانت بصيرة كان الزبائن بالمئات ولم يكونوا يقنعون بنظرة قمراء تغصبها من الروح الكسيرة (53) ولنتأمل ماذا يقول السعيد عن بطلته التي كانت بالأمس محط أنظار الزناة وهي الان شيء مهمل مرمي ولا ينظرون لها ولا يتلفتون وكأنهم لا يذكرون تلك الليالي حين كانوا يسألون عنها وهم يتحرقون

                                          45

لكنها ذبلت ودب بها الفناء (54) واذ نقرأ قول السعيد ستسير في هذا الطريق حتى تموت غدا فتحميها القبور ستموت حين يجف في أعراقها ماء الحياة ..(55) يتبادر الى أذهاننا قول السياب في قصيدته تلك وستسهرين ولا عيون وتصرخين ولا شفاه وغدا بحبلك تشنقين أو ستمص من ذاك المحيا كل ماء للحياء (56)وما قول السعيد وهي ترضع من فم الرجس الخطيئة (57) الا قول السياب التشرب اللبن  المرنق بالخطيئة (58) وبعد هذا كله فالقصيدتان تجريان على وزن شعري واحد هو الكامل وليس بين أيدينا ما يشير الى أن السياب كان قد قرأ قصيدة راضي مهدي السعيد حين كتبت عام 1953 ولو صح غير هذا لكانت بنت المبغى هي البذرة الاولى والمؤثرة في عمل السياب المومس العمياء الذي صدر عام 1954 كما أنه من غير المؤكد أن يكون راضي مهدي السعيد قد قرأ المومس العمياء قبل صدورها أو أثناء كتابه الشاعر لها والا لكان مقلدا تقليد الرداءة ويجب أن نقول هنا

                                   46

ان راضي السعيد قد تقدم بمجموعته رياح الدروب » وفيها قصيدته بنت المبغى  الى بدر شاكر السياب ليكتب لها مقدمة ، فكتب لها عام 1957 تلك المقدمة ان القارئ لا يمكن أن ينظر الى هذه القصيدة أو قصائد على الحلى « الابرياء » و « في الحان لاجئة ) وقصيدة حسين مردان  السلسلة  (59) الا بعين الرضا باعتبارها محاولات أولى لتقريب الشعر من دائرة فن أدبي آخر متناسيا المطالبة بتحقق القيمة الفنية العليا التي يتطلبها الأداء القصصي الناضج  واذا تذكرنا وضع القصة العراقية في تلك السنوات بما فيها من فقدان الحدث المتطور وتماسك الشخصيات ، ومتانة البناء ، ثم غياب حركة النقد القصصي الواعي كان لا بد لنا أن نقول ان تلك المحاولات كلها اسهامات طيبة ومؤشر مهم في حركة تطور الشعر العراقي الحديث في أشعار سعدي يوسف منذ صدور « الأخضر بن يوسف ومشاغله » (60) وحسب الشيخ جعفر منذ صدور زيارة السيدة السومرية (61) وفاضل العزاوي منذ أسفار(62) و الشجرة الشرقية تتكرس موضوعات القصة وبنائها في القصيدة وسيصير هؤلاء الشعراء قصاصين متمرنين  لا تفارق القصة مجمل أعمالهم لسنوات عديدة وربما كان سعدي يوسف مهيأ أكثر من زميليه لهذا النمط من الكتابة الشعرية ، فممارسته الفنية الطويلة وعنايته منذ « القرصان » و « 51 قصيدة » (63)

                                             47

ثم  النجم والرماد  (64) بالحدث والحكاية والأشخاص ستقوده الى تأكيد وترسيخ الأداء القصصي الذي صار نسیج شعره كله، فالسنوات التي تقضت بين صدور 51 قصيدة  عام 1958 وصدور  الأخضر بن يوسف كانت سنى خبرة شعرية عالية درجت بسعدي يوسف الى طريق الأحكام في الصنعة  والمهارة في الأداء حتى صارت مجموعته  الأخضر بن يوسف  احدى المجاميع القليلة والمؤثرة في مجمل حركة الشعر الحديث في العراق  وسيكون منهج الشاعر في الأداء القصصي أكثر نضجا نبي يقاسمني شقتي يسكن الغرفة المستطيلة وكل صباح يشاركني قهوتي والحليب. وسر الليالي الطويلة وحين يجالسني وهو يبحث عن موضع الكوب في المائدة وكانت فرنسية من زجاج ومعدن - أرى حول عينيه دائرتين من الزرقة الكامدة (65) هذه هي بداية القصة ، ويلاحظ القارئ ان سعدي يوسف دلف الى موضوعه مباشرة دونما استطراد غير ضروري  وكانت عنايته برصد جزئيات الحدث والمكان واضحة ، فبطل قصيدته يسكن الشقة معه  ولكنه يختار من الغرف الغرفة المستطيلة  وهو يفطر معه  كل صباح ، وبعناية رصد القاص لكل شيء يذكرنا بأن افطارهما  قهوة وحليب ومائدتهما فرنسية الصنع  ومادة صنعها زجاج ومعدن واذ نستمر بقراءة القصيدة ستتضح لنا مهارة الشاعر القاص من خلال هذه الأبيات

                                    48

وكانت ملابسنا في الخزانة واحدة كان يلبس يوما قميصي والبس يوما قميصه ولكنه حين يحتد يرفض أن يرتدي  غير برنسه الصوف يرفضني مرة واحدة(66) وهذا المقطع تتمة ضرورية  ونمو بالقصة الى حيث الاكتمال وتأكيد على ملامح البطل وعلاقته بالشاعر وفيه يكرس سعدي يوسف رصده لمزيد من الجزئيات برنسه الصوف ملابسنا واحدة وشيء من مزاج بطله وطباعه وأفعاله ولما التقينا على حافة البار أخرج من جيبه زهرة  وانحنى هامسا انها لي أتيت بها عبر أسوار «وجدة » حيث الحدود التي ما تزال معارك لكنها - ويقدم لي زهرة الآس - ملك لك الآن فافعل بها ما تشاء سوی أن أراها بجيبك ذابلة(67) ان الحياة المشتركة بين الشاعر وبطله هي « سر الليالي الطويلة » التي تبدأ من السكن بشقة واحدة ، وتمر بالحدود بين البلدان والتعرف على رجال شرطة الجوازات واثارة التهم وربما الملاحقة حقا ان الموضوع القصصي لا ينمو في هذه القصيدة طبقا لمواصفات تطور الحدث وقوانينه المعروفة ، كوجود المشكلة وبدايتها ثم تصاعدها  وحلها  وغير ذلك مما تتطلبه القصة أو الرواية التي غالبا ما تكون مادتها  منسقة محددة ترغم على

 

                                       49

الكد في اتجاه واحد (68)ولكنه في الشعر أقرب الى أن يكون لوحات قصصية متجمعة ترتكز كلها الى محور الشخصية وتفصح بالتالي عن ملامحها وجملة من قضايا وجوانب حركتها وسلوكها في قصيدته العمل اليومي يعمد الشاعر الى طرح حالتين متضادتين الأولى هي انغامره في العمل الوظيفي الذي أوكل اليه والثانية هي تصوير للحياة الخضراء التي عاشها الشاعر في المغرب العربي ويلجأ سعدي يوسف الى تكنيك شعري جديد هو انهاء كل مقطع من مقاطع الحدث بأغنية صغيرة مكثفة وهذه الاغنيات تجيء أشبه بالنقلة السريعة الى أجواء الحلم المفقود أي أنها البديل الملون والزاهي الذي يملأ خاطر الشاعر أثناء ممارسته عمله اليومي المتعب تبدأ القصيدة بمجيء الشاعر من المغرب العربي يهبط من مقهى بغرناطة يهبط من خرائط الكرم الفرنسية يهبط في البئر الخريفية في غرفة بالطابق الرابع من عمارة في ساحة التحرير مكتبان يمتلئان الان بعد الان بالغبرة والاعلان (69) هذا هو الواقع اليومي لحياته الجديدة ونوعية عمله الذي هو الكتابة والقراءة والذي تشير اليه لفظة دولابان ممتلئان بالإعلانات والورق أما مكان العمل فقط حظي من عناية الشاعر ورصده بما جعله واضحا واذا كان هذا المقطع

                                             50

بصورة حياة شخصية في الحاضر فان لحظات ماضيها ماضيها الضائع هي نسيج من الألفة والحب والتآخي مع الطبيعة والانسان يجلس بين الشعب والجندي في مزرعة أخرى يجلس بين صاحب الحانة والآنسة الواثبة النظرة يجلس بين الماء والأسماك يجلس ساعات الى عينين أو زهرة (70) ويقدم لنا الشاعر تفصيلات قصصية أخرى عن حياته في عمله اليومي اذ يعرف ان في غرفته بمبنى الوزارة كرسيين رماديين لا يبعد الواحد عن صاحبه مترا وهناك أسلاك وأجراس كهربائية وموظفون ودولابان منغلقان اليوم بعد يوم لا تدري بأسرارهما عينان وهما قديمان جدا فلقد تكدس فوقهما صيف وصيف آخر وأحقاب ان كل شيء في الغرفة يراه الشاعر كالحا يبعث على الضجر وفجأة تأتي فتاة تفتح الدولاب وتفتح الثاني وتغلق الدولاب وتغلق الثاني تأتي ولا زهر ولا أوراق وتحتفي فجأة عارية الكفين ولا زهر ولا أوراق (71) فإذا أضفنا الى قصيدة سعدي يوسف هذه قصديته تنويعات استوائية التي تحكي حياة الشاعر في المغرب العربي وعودته الى بغداد حيث العمل والوظيفة

                                      51

وها انت منهزم تدخل المصعد الساعة الثامنة تهبط المصعد الساعة الثانية(72) اذا أضفنا هذا نكون قد تعرفنا على قصة الشاعر بين زمنين مختلفين وبصدور مجموعته ( تحت جدارية فائق حسن ) سنجد المزيد من القصص والأداء القصصي ومنذ الصفحات الأولى نقرأ في أول آيار دخلت السجن الرسمي  حوکمت ـ كما يلزم في تلك الأيام  وكان قميص أسود ذا ربطة عنق صفراء خرجت من القاعة تتبعني صفعات الحراس ، وسخرية الحاكم  لي امرأة أعشقها  وكتاب من ورق النخل  قرأت به الأسماء الأولى  شاهدت مراكز توقيف يملؤها  القمل ، وأخرى يملؤها الرمل وأخرى فارغة الا من وجهي(73) ان العلاقة التي توطدت بين الشعر والقصة في قصائد سعدي يوسف قادته الى كتابة القصة النثرية فأصدر مجموعته القصصية الأولى التي أسماها « نافذة على المنزل المغربي » (74) ، ونراه منذ « تحت جدارية فائق حسن » و « الليالي كلها » يهتم بكتابة القصص الشعرية الصغيرة جدا - يشاركه بهذا الاهتمام يوسف الصائغ وسامي مهدي - (75) ذات الحدث الضيق أو اللمحة القصصية التي غالبا ما يكون أبطالها

                               52

أناسا عابرين لا تربطهم بالشاعر صلة صميمة ، وانما هم مراقبته ورصده لما حوله  أو ما يثير انتباهه  انه نمط من القصائد التي تنتمي الى القصة بشكل من الأشكال  كان يجلس في مشرب هو والكلب والشمس تلمع في الكأس في عيني الكلب في مفرق الرجل المتعدى الثلاثين كان الثلاثة الرجل المتعدى الثلاثين والكلب والكأس لا يبصرون الغصون الأخيرة وهي تسقط أوراقها في الرصيف المقابل ها هو ذا الباص يأتي ويتركهم في الجزيرة(76)أو ذات صباح لاحظتهما مسرعتين تسيران معا في الشارع شيء من رائحة اللوز أأختان هما لاحظت قليلا خطوات القطط اللائي هذبها التدريب لماذا أحسست بأن اللوز يلاحقني وبأني أعرف شيئا عن أختين تسيران صباحا مسرعتين(77) أما حسب الشيخ جعفر الذي لمسنا في أشعاره المبكرة هذا الاتجاه (78) فانه ومنذ صدور مجموعته الثالثة « زيارة السيدة السومرية » سيولي

                                         53

القصة في شعره مزيدا من العناية والتجويد ، واذا كان هذا الأداء يبدو سريعا يتخلل نسيج بعض قصائد  الطائر الخشبي  مجموعته الثانية ، فانه سيكون لباب شعره في ديوانيه الأخيرين ، وستكون تجربة الشاعر الحياتية التي عاشها في موسكو وتجربته القديمة التي تهب عليه كذكريات تحمل طعم الفقر والجوع والحرمان في ريف جنوب العراق هما المحوران الأساسيان لموضوعات المجموعتين واذا كان سعدي يوسف يميل لأن يجعل القصيدة تنمو من خلال أكثر من شخصية واحدة ، متوزعة على الشاعر حينا وعلى الآخرين وأشيائهم ومشكلاتهم حينا آخر ، فان حسب الشيخ جعفر سيكون هو البطل الذي يطل علينا دائما بعينين جائعتين محرومتين ، ترافقه حبيبته ، وذكرياته ، أما الآخرون فانهم نادرا ما يكونون أبطالا أو أشخاصا مؤثرين في العمل الشعري ، فباستثناء بطلة قصيدة « توقيع » وبطل « الاقامة على الارض  (79) يندر أن نلتقي بغير الشاعر والمرأة الكثيرة العناد والتمنع ولعل مرافقتنا الطويلة للبطل ( الشاعر ) وذكرياته وأجوائه المتكررة هي التي تولد فينا الاحساس بأننا نوشك أن نقرأ قصيدة واحدة طويلة، تتوزع على مجموعة من اللوحات وكأن كل لوحة فصل من ذلك الحدث الكبير الممتد الذي هو قصة حياة الشاعر لسنوات طويلة خلت ، وهي التي ستقودنا الى القول بأن تلك القصائد المتعاقبة انما تعد أوجها لتجربة حياتية واحدة ، وربما كان هذا الاحساس هو الباعث الذي حدا بالناقد مدني صالح لأن يستقرأ المجموعة الأخيرة للشاعر عبر الحائط في المرآة  في محاولة للبرهنة على أن تلك القصائد ليست الا جملا معدودة متكررة (80) متناسيا فكرة مهمة لم تكن غائبة عن ذهنه أو ذهن حسب الشيخ جعفر  وهي أن من الممكن للشاعر أن يكتب ديوانا كاملا عن تجربة حياتية واحدة ، تكون فيها القصائد منفردة

54

أشبه بموضوعات تشكل باكتمالها كافة جوانب الحدث المتشعب ، أي أن الشاعر يحاول أن يستنزف تلك التجربة كلها بعمل شعري موحد وشامل ، وفي هذه الحالة سيكون بعض التكرار مما يتطلبه العمل الشعري ، وليس حسب الشيخ جعفر وحده الذي فعل ذلك ، فمجموعة عبد الوهاب البياتي « عشرون قصيدة من برلين » دليل طيب ومبكر على ذلك بل يمكن القول بأن البياتي هو الوحيد بين شعرائنا الكبار الذي لا يكتفي بقصيدة واحدة عن تجربة معينة ، وانما تكتمل تجربته بكل أجزائها من خلال مجموعة شعرية ، « وسفر الفقر والثورة » ثم « الذي يأتي ولا يأتي » و « الموت في الحياة ) مجاميع شعرية ، وكل مجموعة تجربة واسعة وغنية واحدة ، ويمكن أن نضيف الى البياتي شعر سعدي يوسف في  النجم والرماد  وأغلب قصائد « 51 قصيدة » ، ومعظم شعر شفيق الكمالي ، وعلي الحلي ، وأخيرا جدا  الشجرة الشرقية  لفاضل العزاوي في قصائد حسب الشيخ جعفر تتحقق العناصر القصصية بشكل واضح ، فهو اضافة لتقديمه نبرة السرد القصصي يميل الى الوصف المتقن لكل ملامح الحدث الأجواء  وصور المدينة والحانات والشرب والدخان ، والنوافذ المضيئة وحلبات الرقص والمترو والمقاهي  وكثيرا ما يعنى بأدق التفاصيل التي تسهم في رسم صورة البطلة كملابسها ، ومعطفها المطري ومظلتها ، وسيتعرف القارئ من خلال قدرة الشاعر القصصية على كافة جوانب حياة الشاعر ومشكلاتها ، وعلاقته بالمدينة والناس ، ويفيد حسب الشيخ جعفر كثيرا من تداخل الأصوات في القصيدة لأننا غالبا ما نلاحق تطور الموضوع عبر صوتين هما صوت الشاعر وصوت المرأة ، وربما أصوات جانبية أخرى ولا يغفل عن توظيف عنصر الحوار وادارته ببراعة وتكثيف درامي ليرسم ملامح وموقف بطلته في لحظة قصصية العمارات تذبل أضواؤها في الأعالي ، وتخفت ملتفة بالضباب الشمالي سيدتي انني في المدينة هذا الثلاثاء لكنني أتذكر بابا وراء الحديقة

 

                                     55

يفضي الى حانة يتوزع فيها الموائد جمع من المتعبين اذا شئت نمضي اليها معا أنني الآن أبحث عن غرفة ، فالمحطات مكتظة لم أجد مقعدا واحدا اتجمع فيه الى الفجر هل أنت راحلة ؟ انني في المدينة منذ دقائق في الفجر أرحل(81) ان هذا النمط من الأداء الذي يختلط فيه السرد القصصي بالحوار ليشكلا نسيجا موحدا متماسكا يصعب فصله ، هو ميزة شعر حسب الشيخ جعفر التي أصلها فصارت ملمحا شخصيا لا يشاركه أحد فيه من الشعراء العراقيين ، وهو طريقة تعبير نجد بداياتها في  الطائر الخشبي  وتتطور كثيرا في  زيارة السيدة السومرية  وتكتمل اكتمالا تاما في عبر الحائط في المرآة  لتكون أسلوب القصائد كلها دونما استثناء أتبين ظلا في قدح مملوء حتى النصف أتشرب سيدتي ؟ شكرا لي أمكث غير دقائق  معذرة اني أتذكر وجهك  لكن أين رايتك قبل اليوم ؟ أتعرفني ؟ (82) أو ترتدي معطفا مطريا وتحمل شيئا من السوق مسرعة هل تعلمت في مدن الناطحات التقلب في الحب ؟

 

                                       56

عفوا ولكنني لم أعد أتذكر والموعد المتكرر ؟ تضحك دون اكتراث وتنشر فوقي مظلتها انني الآن غارقة في مشاغلي المنزلية لا وقت عندي(83) يشارك سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر اهتمامهما بالأداء القصصي في الشعر الشاعر فاضل العزاوي الذي تدرب ومارس الكتابة القصصية  فلقد أصدر اضافة الى مجاميعه الشعرية روايتين (84)  وهو شديد الاهتمام منذ بداياته الشعرية بالالتفات الى العديد من عناصر التعبير الدرامي ، فهناك حدث وحكاية ، صراع وحوار ولوحات نامية  أشخاص وأصوات متعددة تشكل بمجموعها موضوع القصيدة المتطور ومجموعته الأخيرة « الشجرة الشرقية » هي قصيدة واحدة بالغة الطول تؤكد تكامل منهجه القصصي  ويحاول فيها أن يقدم عملا جديدا ومتفردا تكون ركيزته الأساسية التكوين الفكري والفلسفي والجمالي للشاعر  وكأنه أراد أن يختزل تاريخه ومعرفته وآراءه كلها في عمل واحد  أو قصيدة طويلة تعنى برحلة الشاعر أو البطل الذي منحه اسم «عبد الله » ليكون رمزا للانسان وليس لفرد بعينه  عبر الماضي والحاضر للبحث عن الانسان كقيمة ثورية نقية  ثم الانتصار له وتقديسه  وهو كعادته في معظم أعماله الشعرية يغترف من مصادر عديدة ، ففي هذه القصيدة يوظف الشاعر قراءاته جميعها لخدمة عمله ، ناهلا من آراء اللاهوتيين ، والانجيل ، والتوراة والقرآن والحديث ، مستفيدا من الصوفيين والفلاسفة ، والشعراء والقصاصين والروائيين ، ومن الحكم والأمثال والمعارف ، والرموز والأساطير

                                      57

ولعل طريقة  نيتشه في كتابه  هكذا تكلم زرادشت ستكون مؤثرة بشكل واضح في أداء الشاعر القصصي هنا فاذا كنا نقرأ في كتاب نيتشه مثل هذه العبارات وهبط زارا من الجبل ورأى زارا وتعجب ، وحاور راهبا أو فلاحا ، وقال له قروي الخ : فاننا سنجد العزاوي يسلك السبيل نفسه في تصوير رحلة بطله واتى عبد الله الى قوم فرأى رجلا يشنق كان رجال ونساء محتشدون أمامه يبكون عليه ، فيضحك منهم  ضربوه وجروا شعره أعطوه هموما وعليه بكوا فتعجب عبد الله وقال غبطت المشنوق يكون كراية حرب(85)ورأى عبد الله على الضفة الأخرى جبلا من بلور قال لأذهب هو ذا بيت الانسان الساقط في العالم بين الأحياء فلما اقتربت قدماه من البلور اضطربت عيناه وضلت نفسه فبكى ان الدرب الى الانسان بعيد(86) تنمو  الشجرة الشرقية على شكل مقاطع بلغ مجموعها واحدا وخمسين مقطعا كل مقطع هو حكاية  أو رؤ يا من رؤى عبد الله ، عبر رحلته القصصية الممتدة ، وكل لوحة في القصيدة هي اضافة وتطوير للوحة سابقة ، ومؤشر مهم فيما يأتي من لوحات وأحداث ، وبهذا تكتمل البنية الموضوعية العامة للقصيدة التي أتت متماسكة جميلة لا يعيبها الا بعض من تكرار حينا او استرسال لا يتطلبه الموضوع حينا

 

                                    58

خر أو ورود بضعة مقاطع علاقتها بالحدث العام مضطربة وكأنها استطرادات غنائية شخصية ويشكل الحوار ركنا أساسيا من أركان التعبير الشعري في  الشجرة الشرقية ويختلط بالسرد بشكل متين يذكرنا بأسلوب حسب الشيخ جعفر وربما قرأنا مقاطع كاملة يكون فيها الحوار وسيلة التعبير الوحيدة كما جاء في عبد الله يدخل عام وراء قرية الأطفال  عبد الله يشحذ من البحر  أكتب اسمك في كل عذاب النهوض                                  

اذا كان ما مر في حديثنا عن تطور القصيدة الغنائية في الشعر العراقي الحديث وسيرها الحثيث للاقتراب من فن القصة ، هو اشارات الى بدايات هذا المسار  بدءا بالالتفات الى عناصر الحكاية ، ورسم الشخصيات وتوضيح فعلها ، وأخيرا القصيدة ذات الأداء القصصي الواضح والناضج فان سنوات الستينات ستطرح نماذج شعرية أخرى تنتمي الى دائرة القصة أيضا فبعد أن كان الشاعر يعمد الى موضوع ما محاولا نسجه قصصيا مجاهدا بكل ما تسعفه به امکاناته ووعيه الفني لخلق صورة البطل بطريقة مرضية  وتقديم الحدث بشكل أقرب الى الكمال والتماسك بعد هذا كله سنرى أن بعض الشعراء يتوجه الى نفسه بديلا عن الانسان الآخر ، أي أن بطل القصيدة - القصة - صار الشاعر نفسه ، ولم يعد الحدث يأتينا من الخارج، وانما صار ينبع من الداخل ، فالشاعر ومشكلاته ، وتجاربه الخاصة ، وآراؤه ، وما مر به، وربما سنوات تكوينه أيضا ، غدت موضوعا ينمو ويستطيل على شكل قصة حياة أو  سيرة ذاتية وضروري هنا أن نقول ان هذا الاتجاه ليس انكفاء أو ردة ذاتية ضيقة كما انه ليس انغلاقا شخصيا، لأننا ضمن هذه السيرة الذاتية سنكتشف - من خلال النماذج المطروحة - علاقة الشاعر بالمجتمع وتحولاته وما يحدث فيه ، وسنعرف أيضا تشخيصه الفكري أو الفلسفي الجملة قضايا لا تعنيه وحده ، وانما تعني الآخرين أيضا ، وسنختار لهذا الاتجاه قصيدتين للسياب وثالثة لحميد سعيد كأمثلة مختارة  تجنبا للافاضة غير الضرورية

                                      59

ربما يصح اعتبار شعر بدر شاكر السياب بعد مجموعتيه أنشودة المطر و المعبد الغريق  تجسيدا لمجمل سيرة حياة الشاعر منذ شب في « جيكور » الى أن عاد اليها رفاتا  مرورا برحلة المستشفيات بين البصرة وبغداد وبيروت ولندن وباريس والكويت أخيرا  قد يصح هذا بشكل من الأشكال لكن ثمة قصيدة واحدة احتوت تلك الرحلة المأساوية  ان قرابة ثلاثين عاما من الفقر والجوع والتشرد والمرض والملاحقة تتكثف وتتجسد في قصيدته الرائعة من ليالي السهاد  بشكل لا نظير له في الشعر العربي الحديث ، فاذا أضفنا لهذه القصيدة قصيدة أخرى هي أحبيني  (87) نكون قد تعرفنا على أهم معالم حياة الشاعر وسيرته تتوزع القصيدة من ليالي السهاد على ثلاثة أقسام ، لكل ليلة قسم  فليلة في لندن وأخرى في باريس  وثالثة في العراق ويبدو القسم الأول من القصيدة  ليلة في لندن  وكأنه مدخل للموضوع العام الذي تجسد في الليلتين الاخيرتين  ذلك لأنه لا يحمل من مواد السيرة الا الجزء القليل ومنه ذكريات الشاعر في ايران والكويت وبيروت  وتلك الذكريات تأتينا من خلال أبيات قليلة وتصطبغ في خياله بلون الأسى في ليال من عذاب من سقام  غالبا ما قضاها الشاعر ساهرا متيقظا يطرق سمعه صوت ديك الفجر في ايران أيام كان هاربا ، أو نداء ينثره المؤذن في صباح ما بالكويت أيام كان يبحث عن عمل ، وها هو يستقبل نهارا جديدا في لندن - رحلة المرض - فيتذكر أن الصبح لا بد أن يكون قد أشرق في العراق وتمتد به الرؤيا لتعبر بحارا وتطوى دروبا ، لقد تراجع عالم لندن وأطل عالم ثان في داخل الشاعر عالم يحيا على الأقمار تولد ثم تكمل ثم تندثر وما لبس الجديد بغير يوم العيد يدخر ويجمع ثم ينفق ، ثم يضحك وهو يفتخر هكذا الدنيا بأن الله يرزق حين يرزق هكذا الدنيا(88)

                                             60

وجيكور ولندن رمزا عالمين متصارعين في رأس السياب المريض المتعب ، لندن المال والحديد والصخر كما يسميها في مواضع أخرى من أشعاره ، وجيكور التي لا تعرف المصارف ولا رؤوس الأموال ولا الاحتكارات، وهي التي تستبدل صفات دنيا الحضارة هذه بالبراءة ، والبساطة ، والفقر أيضا ، انها القرية التي لا يلبس أبناؤها ثوبا جديدا الا في الأعياد  ومع هذا فهي حلم الشاعر وتوقه الى العودة وحين ننتقل الى القسم الثاني من القصيدة الذي هو ليلة في باريس  نلمس تزايد اهتمام الشاعر وحرصه على اكمال مواد السيرة في باريس يتعرف - وهو في أوج محنته المرضية - على امرأة جميلة ، وأن يتعرف الشاعر على امرأة جميلة فذلك يعني الكثير جدا وبخاصة لانسان كالسياب أضاع حياته كلها بحثا عن الحب أو لنقل ان اخفاقه الدائم في مسألة الحب ، واحباطاته المتلاحقة كانت من أهم العوامل المؤثرة في خلق ذلك الشرخ العميق في روحه ، والذي أدى مع غيره من الأسباب في النهاية الى تهديمه تماما ثم انهائه ، فاذا أضفنا إلى تلك المرأة صفات أخرى غير كونها جميلة وكاتبة ، كالرأفة والمودة ومنحها الشاعر العناية والاهتمام، أدركنا مدى تعلقه بها ، ثم مدى الخسارة الكبيرة والمأساوية التي سيسببها فقدانها ، أو ارتحالها وذهبت فانسحب الضياء أحسست بالليل الشتائي الحزين وبالبكاء ينثال كالشلال من أفق تحطمه الغيوم أحسست وخز الليل في باريس واختنق الهواء  لم يبق منك سوى عبير يبكي وغير صدى الوداع الى اللقاء  وتركت لي شفقا من الزهرات جمعها اناء(89) وهذا الموضع من القصيدة يقودنا لأن نقول ملاحظة مهمة ، وهي أن السياب من الشعراء القلائل في حركة الشعر العربي الحديث الذين يعتمد شعرهم بشكل

 

                                      61

واضح على فكرة  التداعي  التي توشك أن تكون عماد البنية الشعرية لديه ، والتي بدونها سيبدو أغلب شعر السياب وأحسنه مفككا  والأمثلة لهذه الفكرة يصعب عدها  ان ذلك ليعني حدة الذهن ، واتقاد الذاكرة التي يتصف بها السياب كانسان ومفكر  ومن يتأمل شعره طويلا سيدرك وبدون أي شك أن له ذاكرة عجيبة لا يفلت من رصدها شيء مهما تناهى في الصغر وسيرى أن الاشياء العابرة  بل حتى التافهة التي غالبا ما تمر بالانسان ضمن مسيرته الحياتية الطويلة دون أن يلتفت اليها  أو يعيرها أي نوع من الاهتمام  مثل هذه الأشياء ستعلق في ذهن الشاعر وستكبر  ثم لا بد لها أن تجد في يوم من الأيام طريقها المنسرب بهدوء نحو مكان ملائم في بنية قصيدة ففي القسم الأول الذي مر بنا ينسل نور صباحي الى غرفة الشاعر المظلمة في لندن ليعلن مقدم صباح جديد وبسبب هذا النور المنسل تنبثق في ذاكرة الشاعر ذكرى صباحات أخرى عاشها في الكويت وبيروت ولأن الصباح أطل على لندن  فلا بد أن يكون قد أطل على العراق أيضا وهذا ما سيقود الشاعر الى كتابة مقطع عن عراقه ، وقريته محاولا تشكيل لوحة مقارنة بين جيكور الدفء والبراءة ولندن الأموال والذهب ، ولأن تلك المرأة تركت للشاعر قبل أن تقول وداعا باقة من الزهرات جمعها اناء  فانه سيتذكر من خلال الباقة حياة أخرى كانت غائبة عن الذهن هي حياته في صباه حيث الورد والماء والفاكهة أرجعن لي عمر الطفولة ، يا محارا في غدير تتقارع الأقداح فيه  ترن أجراس كثار خوخ وأعناب ورمان وتمتلىء الجرار عند الغروب ، هو الخريف ونحن نسمر حول نار(90) وجدير بنا أن نقول ان هذه التداعيات المتلاحقة أسهمت اسهاما فعالا ولائقا في ابراز تلك الصور التي تضيء جانبا مهما من جوانب حياة الشاعر ، أعني تكوينه في طفولته وتحديد صفات عالمه وقريته ، ومثل هذه الأمور توشك أن تكون ضرورية

                                         62

ما دمنا بصدد كتابة قصيدة تحاول أن تستلهم سيرة حياة ويبدو أن تلك المرأة وهي كاتبة بلجيكية اسمها لوك نوران (91) كانت قد وعدت الشاعر بزيارته في وطنه  وربما في قريته ويصير ذلك الوعد العابر الذي لن يتحقق حلما في خيال السياب  ومستقبلا لا أزهى ولا أجمل لو صح وعدك يا صديقه لو صح وعدك آه لانبثقت وفيقه من قبرها، ولعاد عمري في السنين الى الوراء تأتين أنت الى العراق؟ أمد من قلبي طريقه فامشي عليه  كأنما هبطت عليه من السماء عشتار فانفجر الربيع لها  وبرعمت الغصون(92)تبوح هذه الأبيات بشيء ذي أهمية خاصة  وعميقة في حياة السياب هو علاقته بوفيقه  المعشوقة الأمثل التي تعلق بها وكتب فيها أجمل قصائد الحب ، لقد تلقفتها يد الموت  فتركت جرحا بعيد الغور في نفسه وتحولت فيها بعد الى دلالات ورموز لا تفارق قصائده  فلو أن لوك نوران قدمت الى البصرة لبعثت وفيقه  ان هذا من قبيل التداعي المضيء  ولكن أية منزلة استثنائية احتلتها تلك المرأة البلجيكية العابرة ؟ ويصف الشاعر لزائرته الخيالية صورة لطبيعة جيكور تكتظ فيها الغصون وشجر الدفلى والنخيل المثقل بالطلع وأصيل النهر المزدحم بالزوارق وبأغنيات أولئك الناس ويقول وهو الأصيل وأنت في جيكور تجتذب الرياح منك العباءة  فاخلعيها ليس يدثر الضياء(93)

                                        63 

ولعل القارئ سيتنبه لغرابة هذه الجملة تجتذب الرياح منك العباءة فأية عباءة يقصدها السياب حقا ان العباءة السوداء هي لبس العراقيات الشائع في الجنوب ، ولكن ما علاقة هذا اللباس بلوك نوران الكاتبة البلجيكية ؟ أكان السياب ينوي أن يلبس ضيفته عندما تزور جيكور عباءة عراقية ؟ لا أظن ومن الخطأ أن يتصور أحد ان الشاعر قصد الى هذا ولكن المؤكد وانسجاما مع منهجه في التداعي هو أنه أسقط على بطلته الجديدة موقفا ماضيا فقبل أكثر من ربع قرن كانت زميلة للشاعر في الكلية وله فيها قصائد حب باكية وهي مثله شاعرة قدمت اليه من بغداد زائرة قريته بالبصرة ، ولقد ارتدت حينها عباءة ورأت جيكور والماء والنخيل واستقلا زورقا ينشدان فيه أشعارهما ان تلك الصور كانت منسية الى حد ما في ذهن الشاعر وربما لم يكن ليتذكرها لولا كلمة عابرة نطقت بها لوك نوران عندما وعدته بزيارة وهنا تفتح الذهن الذي لا يفلت من رصده شيء  واتحدت المرأتان البلجيكية والعراقية وقبل هذا فقد بعثت ،وفيقه والى هذا الحد يقدم لنا القسمان الأول والثاني من القصيدة ، بعض ملامح سيرة الشاعر ، الصبا وتجارب الحب  والبيئة وسيقدم القسم الأخير البقية الباقية من قصة حياة الانسان والشاعر يبدأ القسم الثالث ليلة في العراق بصرخة الشاعر الباحث عن الماء والعافية في ليلة يلقي البرق فيها بظلاله على نافذة الغرفة التي يسكنها السياب ، فيتذكر ماضي حياته المليء بالألم ويتذكر أيضا طفولتي الشقية والصبا  وشبابي المفجوع تضطرم . مشاعري البريئة فيه كيف تجوع آلاف من الأطفال ملتفة بآلاف الخروق تعربد الريح الشتائية وتزحم كل درب من دروبي هذه الخوذ الحديدية وتتبعني عيون الموت من زمر البنادق نز بالشرر(94)

                                          64

وهذه هي المرة الأولى في القصيدة التي يشير فيها الشاعر الى احدى قضايا حياته المهمة وأعني بها قضية الانتماء السياسي واذا كان انتماؤه الى الحزب الشيوعي العراقي في فترة مبكرة من تاريخه هو (95) وتوشك أن تكون مبكرة أيضا من تاريخ الحزب ، قد جاء بتأثير بعض أقربائه ومعارفهم ، فانه من غير المشكوك فيه ان السياب كان مهيأ بأحاسيسه لقبول تلك الدعوة ، وان ما سمعه الشاعر الشاب عن الحزب ومبادئه وأهدافه قد لاقى صدى حسنا في داخله ، وعدد غير قليل من قصائده التي ضمتها مجموعته « أنشودة المطر » يشير بشكل أو بآخر الى التركيز على فكرة الصراع الطبقي ، كما ان هذا التساؤل الذي مر بنا قبل قليل كيف تجوع آلاف من الأطفال ملتفه بآلاف الخروق تعربد الريح الشمالية بها هذا التساؤل كان مدخلا مكثفا مختصرا لتلك الأحاسيس التي قادته لأن يكون مرصودا من قبل رجال الخوذ الحديدية ، وفوهات البنادق ، وكأن السياب أدرك أنه ما دام بصدد كتابه شعر سيرة حياة  فلا بأس أن يتعرض لقضية الانتماء السياسي بل ربما رأى أن التعرض لقضية من هذا النوع أمر ضروري لإتمام الموضوع والقصة ، فبدأ بها من الموقع الذي يفضله أي منذ الخطوات الأولى لمسألة الانتماء وان له أن يلاحق تلك الأفكار ونموها وما تعرض له بسببها ان تلك الخوذ الحديدية التي كانت تلاحق كل أبناء العراق السياسيين شيوعيين وغير شيوعيين أيام العهد الملكي أصابت شاعرنا في أكثر من موقع ، وحين يتخلى السياب عن حزبه ، ويكفر به ، ثم يكيل له أقذع الشتائم فان رجال البنادق سيظلون يلاحقونه ، فشرطة تلك الأيام لن تكف عن تتبع خطوات الحزبيين حتى وان أعلنوا انفصالهم عن الحزب ، وتركوا العمل السياسي

                                     65

واذ يتمرد الانسان في على العبودية أثور على الشيوعية ولكن البنادق ما تزال عيونها الغضبى تطاردني ثم ينجاب الليل ، ويشرق صباح ثورة الرابع عشر من تموز 1958 ، ويرتاح جبين الشاعر المحموم ، ويشيع الدفء في بيته ، ممنيا نفسه بأن لا فصل من وظيفة ، ولا سجن ولا ملاحقة أو تشريد بعد الآن ، ولكنه حين يطل من شباك داره ليرقب الدرب كما يقول سيرى ان كل ما تمناه صار هباء واذا الدرب تدفق بالحبال وبالعصى يشدها العار لتسحب أو تمزق جسم طفل ثغره المحروم من القبلات والغنوات والزاد فاصرخ « أيها الجبناء كفوا » ثم ترحم دربي الخوذ الحديدية وتخنق من فم التنور في داري فالهث في دروب الجوع أطحن في حصاها ثم أعجنه وأقذفه الى النار لأطعم منه زغبا يطلبون الزاد في قمر العشيات الشتائية  يشير هذا المقطع لسيرة حياة الشاعر فقط ، وانما لمسيرة الحياة السياسية في حيث ايضا  ولا شك أن السياب كان يعنى بتلك الحبال والعصى والخوذ حات حادة نشبت بين الأحزاب السياسية في سنوات 1959 وما بعدها وقوع حوادث عنف مباشر في مدن عديدة من العراق

 

                                           66

وخاب رجاؤه بالثورة ومرت عليه سنوات ، كبر فيها مرضه ، واشتدت أزمته النفسية والصحية واستحكمت ، وتلقفته المستشفيات وها هو يعود الى البصرة محمولا على نقالة اسعاف ليرى أهله وابنه غيلان ، وما هما غير أسبوعين ممتلئين بالأحزان  حتى ويفاجئني النذير بأن أعواما من الحرمان والفاقة هنا ترصد بي في غابة الخوذ الحديدية (96) ويرحل الشاعر أخيرا ، دون أن يجد من يرثيه سوى قصيدته الحزينة وأوراق الدفلى وشجر الصفصاف أما قصيدته الاخرى ( أحبيني ) (97) فلن نطيل الوقوف عندها ؛لأنها لا تحمل من عناصر السيرة الا قضية واحدة متكررة وهي تعداد الشاعر لكل حبيباته اللواتي تعلق بهن في مراحل مختلفة من حياته انهن سبع لم يحببنه ومنهن من ماتت أو شاخت أو تزوجت وآخرهن زوجته الوفية أي أنها تحدث عن السيرة العاطفية للشاعر ويتضح لمن قرأ القصيدتين تامتين أن صوت الشاعر فيهما كان أقرب الى صوت الراوية الذي يشرح باسترسال أزمته كلها ، وسبب ذلك أن كتابة السيرة تستدعي ضمن ما تستدعيه ذلك النفس الروائي أو الحس والنزعة الروائية ، حقا ان الشاعر الأكثر اقتدارا يستطيع أن يفيد من عناصر فنية أخرى لابعاد القارئ عن متابعة صوت الراوية الذي يبعث على الملل أحيانا ، كالافادة من الحوار ، وتداخل الأصوات وتعددها ، والمحاورات الداخلية وغيرها، وما كان السياب بعاجز عن شيء كهذا ، لكن الحالة الشعورية المتدفقة ، ورغبته بأن يسفح نفسه الثكلى على الورق مرة واحدة ، وبسرعة أيضا ، صرفه عن التأني والتأمل والاستغراق في اعادة وتصحيح ما كان يكتب ، وأحسب أن الشاعر في تلك الفترة كان يبدأ أعماله بهاجس عصبي ، وبمزاج غير متكامل من جميع الوجوه ، وكأن الكتابة المتلاحقة والقصائد

                                      67

المتتالية التي غالبا ما كانت تنجز بين يوم ويوم هي رد فعل نفسي غير مدرك تماما لمواجهة الموت ، أي أنها البديل عن الاستسلام الهادئ الذي يقود المرء لترقب الاغفاءة الأخيرة، ان تلك الحالة التي كان عليها الشاعر قد تكون هي السبب الأقوى الذي حدا به لأن يواصل الكتابة بعفوية شعرية هائلة ومتدربة وليس الكتابة الهادئة الرزينة التي يكون للفنان الكبير فيها عينا ناقد كبير أيضا ان من الوقائع الشعرية - وهي كثيرة جدا - التي تؤكد أن السياب كان يكتب وهو بهذا الهاجس العصبي المريض ، والحالة النفسية غير السوية ، الممزقة والقلقة تلك القصيدة التي كتبها للوك نوران والتي لا تدل على أمر غير تشبثه بالحياة ممثلة بالحب ، والا فما معنى ذلك التهويل الشعري الذي يحيل علاقة عابرة جدا بامرأة تمنحه الرأفة أكثر مما تمنحه الحب الى حلم أسطوري ودنيا من فردوس ، وأن وعدا مجاملا منها بأنها ستزوره في جيكور كفيل بأن يهبط عشتار الى الأرض لتفجرها عيونا وينابيع وغصونا هذا هو المنطق الذي كان يتلبس السياب في أيامه الأخيرة ، منطق التشبث بكل ما يتصل بالحياة وأهمه عند الشاعر الحب والتذكر كبديل عن الموت ويحاول حميد سعيد في قصيدته عودة الى مرفأ البداية (98) أن يكتب شعرا یعني برصد الأحداث الشخصية ، صورة العائلة ، الطفولة والصبا ، ثم سنوات التكوين والنضج واتخاذ القرارات ، وهو ينبه القارئ منذ بدء عمله الشعري الى أن الحديث سيكون طويلا  للشاعر فيه صوت الراوية الذي سيحكي سيرة حياة والقصيدة تنمو على شكل مقاطع ولوحات ، وهذا التجزؤ لا تتطلبه ضرورات فنية مهمة بقدر ما يتطلبه وعي الشاعر لتتابع الزمن ، بمعنى أن الموقف الحياتي في المقطع الأول هو وليد حقبة زمنية معينة ، بينما هو في المقطع الثاني نابع من ظروف تاريخية أخرى  والقصيدة بهذا المفهوم هي تحولات الشاعر ورحلته في الزمان

                                   68  

يبدأ المقطع الأول « النخل » بالنظر الى الماضي منذ عشرين عاما كان أبي لم يزل يزرع الحلم البكر بين شموخ دمي وانتظار القطار (99)ولعل هذا الجزء من القصيدة  لا يقدم شيئا مثيرا  أو مهما جدا  وكأن الشاعر هنا يمر بتاريخه مرورا عابرا  ملمحا إلى أحداث غامضة لا تفصح عن شيء محدد بعدها خبروني عن الموت في صحوة لم تزوق أناملها رعشات الدوار(100)ان منهج حميد سعيد في الأداء الشعري سيبتعد جدا عن منهج السياب فذلك البوح الذي كان يهب علينا متلاحقا بوضوح سيأتينا من شاعر « عودة الى مرفأ البداية » - شأنه في هذا شأن شعراء جيله كلهم - مكثفا ومغلفا برموز شخصية لا تعين القارئ على استجلاء المعنى بصورة تامة ، انه يريد ان ينقل لنا حالات وأحاسيس مجملة عن مسيرة حياته ، وليس الأحداث والوقائع المباشرة  ومع هذا فأن القصيدة ستبوح فيما بعد بشيء من ملامح السيرة وبشكل غير مغلف تماما ويأتي الجزء الثاني ( حديث العشية) أكثر تصريحا فاذا كان المقطع الأول هو ذكريات الشاعر التي تكونت في الطفولة فان هذا الجزء هو رصد الشاعر ومراقبته وادراكه لما كان يدور حوله ، وأهمه الأحاديث العائلية التي كانت تجمع الشمل صيفا على شرفات سطوح المنازل، وهذه هي بداية التكوين البداية والنار تصحو على شرفات المنازل والأحاديث بعد العشية صوت الأحاديث صوت وباب(101)

 

                                      69

يدلف منه الصبي الى عالم المعرفة الذي يتوق اليه ، والشاعر يصور تلك حسيت على أنها كانت تلهب في نفسه « الظمأ » الى فهم ما كان يتفوه به الكبار من الصعب الاحاطة به ، لقد كانوا يتحدثون عن فلسطين ولكن فلسطين ماذا ؟ فلسطين لو يستطيع الصغير افتضاض البكارة سحست تراب أحاديثهم عن فلسطين شاركتهم طعمها حديث الشاعر ويحار حيرة كبيرة حين يرى النساء تبكي من أجل وحرارة دم الرجال هي فلسطين أيضا، فيكبر فيه شغفه وتوقه الى حب يقتنع اقتناعاً طفوليا طريفا ، بأن فلسطين ليسب الا واحدة من بنات سبيات في كربلاء  وللصبي الحق في هذا التصور والا فلماذا تبكي  حيث وهو الذي اعتاد أن يراهن باكيات في أيام شهر عاشوراء  وفي  وقبل هذا فان للصبي معرفة حسنة بشيء من التاريخ المتناقل عرف الشمر مزق من شره راية للحسين عرف الحر عاد الى جنة عرضها الأرض منع الركب - ورد الفرات- هما لقضية ، فلسطين ، يبني الشاعر قصيدته ، لقد جاءت مدخلا مهما وبسببه تعلم الشيء الكثير ، وهو الذي بينه  وبين السؤال فيما بعد عندما يتلقى الاجابات المقنعة عن مواقفه وآرائه فاذا هي بدء المعرفة  فانها ستكون بدء نمو فكر الشاعر واحساسه

                                        70

بدأ الحلم الغر يحمل طعم المياه الشوارع في. لحظة الاستعار تبارك لون الشتاء مرغتني على ضفة البدء أخبار قومي(102) لن نستفيض بشرح الأحداث المتتالية ، وأخيرا ينتمي الشاعر سياسيا ويتحد صوته بأصوات الآخرين ، ويتم تكوينه ، غير أنه سيرى أن ما أتعبه فهمه في الطفولة سيظل جرحا ملاصقا له ، وهما من همومه الدائمة تلك هي قصيدة حميد سعيد وهي وان لم تقدم لنا سيرة حياة تكاد تكون تامة كما في قصائد السياب الا أنها تطمح الى تقديم جزء عريض ومهم من حياة الشاعر وهي بقدر ما تلتقي قصيدة السياب في تصوير الخاص والعام تنأى عنها في الأداء ، وتجنح الى التكثيف ورسم الرموز الشخصية وتقديم الحالات دون البوح التام بالمعاني ، لشدة تعلقه باستخدام المجازات الشعرية المضببة ، ولعل هذا هو الذي جعل صوت الرواية خافتا ، وهادئا وبعيدا عن الشروح والتقارير التي ترافق أغلب شعر الشعراء الذين يميلون لإنشاء قصيدة سيرة هذه بعض ملامح القصيدة العراقية الحديثة، توضح لنا توق الشاعر المعاصر الى اغناء قصيدته واثرائها بعناصر جديدة ، وتكنيك يستقيه من فن القصة في محاولة لجعل القصيدة أكثر أهمية وغنى وقدرة على حمل أفكاره الموضوعية والتعبير عن تجاربه ، وتجارب الآخرين من حوله ، تلك التجارب التي تعقدت وتنوعت وتعمقت الى الحد الذي لم تستطع فيه تلك القصيدة الغنائية القصيرة أن تحتويها ، أو تنهض بمهمة تقديمها ولا شك أن حركة الشعر العراقي قد طرحت نماذج شعرية أخرى تطمح الى الافادة من معطيات الفن الدرامي بشكل عام، وتلتفت لتوظيف العديد من عناصر أدائه ، كالقصيدة ذات البناء الطويل وكقصيدة القناع ، وسيكون هذا مجال حديثنا في الفصل القادم من بحثنا

 

                                     71

                                          (1)

كان اهتمامنا في الجزء الذي تقدم من بحثنا متابعة القصيدة الغنائية وتلمس مدى افادتها واقترابها من فن القصة ونحاول هنا التوجه الى رصد استلهام القصيدة للظواهر الدرامية، وتكريسها في الشعر عبر نمطين من القصائد الأول هو البناء الطويل ، والثاني قصيدة القناع واذا كان جوهر الفن الدرامي هو رؤية الانسان فاعلا ومتحركا كما يقول أشلى ديوكس . (103) فان القصيدة التي يتعمق فيها وعي الشاعر الغنائي بمعطيات الفن الدرامي ومحاولة توظيفها في شعره ، سوف تستند الى هذين الأساسين  الفعل والحركة والفعل في المسرح يعني  الحدث  النامي تدريجيا ؛ والذي يتطور باستمرار حتى ينتهي ، والحركة تعني بلورة موقف البطل من خلال « الصراع والتضاد » في المواقف بينه وبين الآخرين أو بينه وبين ذاته وما دام ثمة صراع فلا بد من توافر أصوات غير صوت البطل ، لأن الصراع يعني وجود قوى أخرى تقف موقف الضد، وتتجلى هذه القوى في المسرح بالشخصيات ، أما المسرحية التي يقدمها بطل واحد فقط فغالبا ما ينوب عن الشخصيات فيها أصوات داخلية متضادة تنهض بمهمات الصراع وتطور الحدث فاذا عرفنا ان الدراما هي حدث نام وصراع وتقابل مواقف وشخصيات فان القصيدة الدرامية ، أو القصيدة الغنائية التي تحاول أن تستلهم الفن الدرامي هي تلك التي تستطيع احتواء هذه الخصائص  أو الاقتراب منها بشكل واضح ، وتفيد - اضافة الى هذا - من عناصر التعبير في المسرح  كتوظيف عنصر الحوار المركز والمكثف الناتج عن الحدث  أو الحوار الداخلي  والابتعاد قدر الممكن عن نبرة السرد  وملاحقة الجزئيات التي لا تسهم كثيرا في نمو الحدث  والالتفات الى تعدد الأصوات وتقابلها

 

 

________________

(1) المجموعات - على التوالي - للشعراء بدر شاكر السياب بلند الحيدري عبد الوهاب البياتي  نازك الملائكة شاذل طاقه

(2) ينظر من تاريخ الحركة الثورية المعاصرة في العراق، سعاد خيري ، بغداد 1974 ، الجزء الأول  ص 160 – 182

  (3) نفسه 170 - 182

(4) د عبد المحسن طه بدر في حركات التجديد في الأدب العربي  دار الثقافة للطباعة والنشر  القاهرة 1976/1975  ص 186 وينظر أيضا قضية الشعر الجديد  د محمد النويهي، مكتبة الخانجي ودار الفكر ، بيروت 1971 ، الطبعة الثانية ص 172

(5) ينظر الحرب الحقيقية، لرتشارد نيكسون، ترجمة جريدة الأهرام العدد 12 / 4 / 1985  ص 5

(6) ينظر الشعر والزمن  د جلال الخياط  دار الحرية للطباعة  بغداد 1975  ص 114 وندوة مجلة السينما والمسرح العراقية ، العدد السادس لسنة 1970

 (7) ينظر الشعر الحر في العراق ، يوسف الصائغ ، رسالة جامعية لنيل درجة الماجستير باشراف الدكتور علي جواد الطاهر ، بغداد 1975 ، ص27.  

(8) ينظر الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية ، د عبد الاله أحمد ، دار الحرية للطباعة بغداد 1977  ص 117 .

 (9) ينظر الجداول ، لايليا أبي ماضي ، دار العلم للملايين ، بيروت 1979 ص 16 وما بعدها  والخمائل 27.

(10) دیوان الخليل ، مطبعة دار الهلال مصر 1949 9/1 و 73/4

(11) ينظر ديوان الخليل 25/1 ، 49 ، 55 ، 124

 (12) محاضرات عن خليل مطران ، د محمد مندور  مطبعة دار الهنا ، مصر 1954، ص 14

 (13) نفسه ، ص 24

 (14) نفسه ص 6                                      20

(15) دیوان السياب  دار العودة  بيروت 1971

(16) دیوان نازك الملائكة ، دار العودة ، بيروت 1971

90/1 ، 26 22/2

(17) من أغاني الحرية  دار العلم للملايين  بيروت 1960  ص 139

18- ينظر معالم جديدة في أدبنا المعاصر فاضل تامر  دار الحرية للطباعة  بغداد  1979 ص 188

19- ينظر لتطور الشعراء وتحولاتهم - على سبيل المثال - السياب من أزهار ذابلة » و « أساطير » ن مجموعته ( أنشودة المطر » والبياتي من ملائكة وشياطين » الى «أباريق مهشمة : وحسب مردن من قصائد عارية الى قصائد من نوع « الحديد » « السلسلة » الشحي ، في مجموعته : طراز خاص » وسعدي يوسف من « أغنيات ليست للآخرين » ولند الحيدري من « خفقة الطين » الى قصائده : عشرون الف قتيل » حثتم مع الفجر وعلى الحلي الى قصائده  الشهاب الدامي 

(20) لكل هذه العناصر الفنية في الشعر مكان آت في هذه الدراسة

 (21) القصيدتان في مجموعة الشاعرأباريق مهشمة  ديوان البياتي دار العودة بيروت 1972   1/ 270 وما بعدها                           23

(22) ديوان البياتي 1/272

 (23) ديوان البياتي 406/1

(24) نفسه 406/1

(25) نفسه  407/1

 (26) أنشودة المطر دار مجلة شعر بيروت 1960 ، ص 11

(27) نفسه 197

(28) أنشودة المطر 231

(29) و (30) أنشودة المطر  11

(31) ينظر الشعر العربي المعاصر  دار العودة بيروت ، ط 2

(32) أنشودة المطر  14 ، 15

(33) نفسه  12

(34) أنشودة المطر ، 32

(35) نفسه

(36) أنشودة المطر  204

(37) تنظر قصائده هواجس عيسى بن الأزرق في الطريق الى الأشغال الشاقة وارتسام مجلة شعر 69 عدد تموز لسنة 1969 ص 76

(38) تنظر مجلة «المثقف العربي» عدد حزيران لسنة 1970 ص 61 قصيدة قصة التمثال في أشور

(39) ينظر رماد الفجيعة لسامي مهدي، مطبعة دار البصري، بغداد 1966 ، ص 15 – 40 وأسفار الملك العاشق له أيضا ، دار العودة ، بيروت 1971 ، ص 55 ، وسيدة التفاحات الأربع ليوسف الصائغ ، مطبعة الأديب ، بغداد 1976 ص 11 37 ، 39 ، 55 والخيمة الثانية لعبد الرزاق عبد الواحد  دار الحرية للطباعة ، بغداد 1975 ، ص 43

(40) بدر شاكر السياب  دراسة في حياته وشعره د احسان عباس  دار الثقافة ، بيروت  1972  ص 181                             38

(41) لقد وهم د جليل كمال الدين في كتابه الشعر العربي الحديث وروح العصر  دار العلم للملايين ، بيروت ، 1964  ص 180 حين ظن أن ( رجاء ) هي صديقة المومس والقريبة اليها وأمينة أسرارها

 (42) نظرية الدراما من أرسطو حتى الآن  د رشاد رشدي مكتبة الأنجلو أميركية ، القاهرة د ت ، ص 18

(43) أنشودة المطر ، 198

44- بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره 196

45- أنشودة المطر 222     

(46) انشودة المطر ، 209

 (47) ينظر لتلك القصص والقضايا الجانبية أنشودة المطر  209 ،210، 216، 223، 226

(48) السياب ، عبد الجبار عباس ، دار الحرية للطباعة ، بغداد 1972 ، ص 74

(49) أما محاولة موسى النقدي في قصيدته » محمود والقمر » منشورات مطبعة الجامعة ، بغداد 1958 فتعتبر انكفاءة شعرية اذا قيست بأعمال السياب ، وهي تفتقر الى مقومات الفنيين معا  الشعر والقصة

(50) تنظر مجموعته » رياح الدروب » الصادرة ببغداد عام 1957

51- أنشودة المطر 202

52- رياح الدروب 22

53- أنشودة المطر 218

54- رياح الدروب 24

55- نفسه

56- أنشودة المطر 201

57- رياح الدروب 22

58- أنشودة المطر 226

(59) طراز خاص ، المكتبة العصرية ، بيروت  ص 75

(60) صدرت ببغداد عن مطبعة الأديب 1972

(61) صدرت ببغداد عن دار الحرية للطباعة 1974

(62) صدرت ببغداد 1976 والشجرة الشرقية عن دار الحرية للطباعة ، بغداد 1976

(63) تنظر قصائده اغتيال محمد عبد الحسين ، حادثة في الدواسر ، الليل أزرق  ميت في بلد السلامة

 (64) قصائده محيسن ، رزوقي  الاعتداء تلفيق الى زميل موقوف

(65) الأخضر بن يوسف  13

(66) الأخضر بن يوسف ، 14

(67) نفسه ، 15

68- الاتجاهات الادبية في القرن العشرين ر م  البيريس  ترجمة جورج طرابيشي منشورات عويدات بيروت 1965 ص131

69- الاخضر بن يوسف ومشاغله 100

70- نفسه 102

71- نفسه 106

(72) نفسه  115

(73) تحت جدارية فائق حسن ، دار الفارابي ، بيروت 1974 ، ص 15

(74) صدرت ببغداد عام 1975 عن دار الأديب البغدادية للطباعة

(75) تنظر لسامي مهدي مجموعتيه أسفار الملك العاشق » و « أسفار جديدة » وليوسف الصائغ » سيدة التفاحات الأربع

(76) تحت جدارية فائق حسن ، 96 ، وتنظر ص 98

(77) الليالي كلها ، مطبعة الأديب ، بغداد ،1976 ، ص ،13، وتنظر الصفحات 39، 67 590

(78) تنظر قصيدته  تيتيانا الكسندروفا في مجموعته الأولى « نخلة الله »  دار الآداب ، بيروت

(79) في مجموعته « زيارة السيدة السومرية »  دار الحرية للطباعة  بغداد 1974  ص 7 ،25

(80) مجلة « ألف باء » الأعداد 437 ، 439، 441 ، تموز 1978                 

(81) زيارة السيدة السومرية 94 - 95

(82) عبر الحائط في المرآة ، دار الحرية للطباعة ، بغداد 1977 ، ص

11

(83) عبر الحائط في المرآة ، 22 - 23

(84) هما  مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة  بغداد 1970 و القلعة الخامسة دمشق 1975

(85) الشجرة الشرقية دار الحرية للطباعة ، بغداد 1976  ص 21

(86) نفسه 15

 (87) القصيدتان في مجموعته ( شناشيل ابنة الجلبي وفي الديوان 1/ 618 - 630 ، 639

(88) الديوان 620/1

 (89) دیوان السياب 1/621

(90) دیوان السياب 1/622

(91) ينظر بدر شاكر السياب الرجل والشاعر ، لسيمون جارجي ولآخرين ، منشورات أضواء  بيروت 1966 ص 133

(92) ديوان السياب 1/623

 (93) نفسه

(94) دیوان السياب 1/641

(95) المرجح ان السياب انتمى الى الحزب عام 1945

ينظر : بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره

د- احسان عباس ، ص 89 وما بعدها

(96) ديوان السياب 1/629

(97) نفسه  1/ 639

(98) لغة الأبراج الطينية ، دار الآداب ، بیروت 1970 ، ص 25

(99) نفسه  26

(100) لغة الأبراج الطينية 26

(101) نفسه  27

(102) لغة الأبراج الطينية ، 33

(103) ينظر الدراما ، أشلى ديوكس ، ترجمة محمد خيري، وزارة الثقافة

والارشاد القومي  القاهرة ، ص 1

 

                                         





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.