أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-10-2016
2306
التاريخ: 29-9-2020
1889
التاريخ: 22-2-2019
1946
التاريخ: 26-3-2022
1935
|
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): «يا علي مَن لم يحسن وصيّة عند موته، كان نقصاً في مروته، ولم يملك الشفاعة» (1).
الوصيّة في ظلال القرآن:
الوصيّة من الأمور التي شرّعها الإسلام بنصّ القرآن الحكيم كما في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180].
ومعنى ذلك كما جاء في بعض التفاسير:
«ثمّ بين سبحانه شريعة أخرى وهي الوصية فقال: {كتب عليكم} أي فرض عليكم {إذا حضر أحدكم الموت} أي أسباب الموت من مرض ونحوه من الهرم ولم يروِ إذا عاين البأس وملك الموت لأنّ تلك الحالة تشغله عن الوصيّة وقيل: فرض عليكم الوصيّة في حال الصحة أن تقولوا إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا {إن ترك خيراً} أي مالاً واختلف في المقدار الذي يجب الوصيّة عنده فقال الزهري: في القليل والكثير ممّا يقع عليه اسم المال وقال إبراهيم النخعي: من ألف درهم إلى خمسمائة وقال ابن عباس: إلى ثمانمائة درهم. ورُوي عن علي (عليه السلام) أنّه دخل على مولى له في مرضه وله سبعمائة أو ستمائة درهم فقال: ألا أوصي: فقال: لا، إنّ الله سبحانه قال: {إن ترك خيراً} وليس لك كثير مال وهذا هو المأخوذ به عندنا لأنّ قوله حجّة {الوصيّة للوالدين والأقربين} أي الوصيّة لوالديه وقرابته {بالمعروف} أي: بالشيء الذي يعرف أهل التمييز أنه لا جور فيه ولا حيف ويحتمل أن يرجع ذلك إلى قدر ما يوصي لأنّ من يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوصِ بالمعروف ويحتمل أن يرجع إلى الموصى لهم فكأنّه أمر بالطريقة الجميلة في الوصيّة فليس من المعروف أن يوصي للغني ويترك الفقير ويوصي للقريب ويترك الأقرب منه ويجب حمله على كلا الوجهين {حقاً على المتّقين} أي حقّاً واجباً على من آثر التقوى وهذا تأكيد في الوجوب.
وقد روى أصحابنا عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه سُئل هل تجوز الوصيّة للوارث؟ فقال: نعم وتلا هذه الآية.
وروى السكونيّ عن أبي عبد الله عن أبيه عن علي (عليهم السلام) قال: من لم يوصِ عند موته لذوي قرابته ممّن لا يرث فقد ختم عمله بمعصيّة وممّا يؤيّد ما ذكرناه ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: مَن مات بغير وصيّة مات ميتة جاهليّة. وعنه (عليه السلام) أنّه قال: مَن لم يحسن وصيّته عند موته كان نقصاً في مروءته وعقله. ورُوي عن أبي جعفر عن أبي عبد الله (عليهما السلام) أنّه قال: ما ينبغي لامرئٍ مسلمٍ أن يبيت إلّا ووصيّته تحت رأسه (2).
الملكية الاعتباريّة:
ولذا فإنّ الوصيّة بالمال للوالدين أو الأقربين تعني قطع العلاقة بين الموصي وأمواله كما أنّ الموت قطع لعلاقة الإنسان بالحياة الدنيا ولا يبقى له منها سوى عمله الصالح ولذا فإنّ علاقة الإنسان بالدنيا إنّما هي علاقة عمل وامتحان وابتلاء كما أنّ علاقة الإنسان بالأموال والثروات علاقة غير حقيقيّة وإنّما هي علاقة اعتباريّة لا رصيد لها من الواقع، وقد عبّر بعض الأعلام عن الملكيّة الاعتباريّة بقوله: فالملكيّة الاعتباريّة مثل ملكيّتك لدارك التي تسكن فيها وأموالك المودعة في البنك باسمك وعقاراتك المتناثرة هنا وهناك. فلا توجد هناك أيّة علاقة حقيقيّة بينك وبين ما تملكه، إذاً ليس ما تملكه قائماً بك، وليس وجوده تبعاً لوجودك، بل هو مستقلّ في وجوده عنك، قائم بغيرك، وإنّما (الاعتبار) هو الذي منحك هذا العنوان (عنوان الملكيّة) وهو بذاته يستطيع أن يسلبك هذا العنوان.
فحدوث العنوان الاعتباريّ منوط بالاعتبار وبقاؤه منوط ببقاء الاعتبار ومتى ما سلب المعتبر اعتباره زال العنوان الاعتباري وقد يختلف الاعتبار بحسب اختلاف المعتبرين، فقد يجعل قانون ما عنوانه (الملكيّة) لحركة الميّت مرتبطاً بأقربائه بينما يجعل قانون آخر ذلك مرتبطاً بالدولة الحاكمة (3). وبموت الإنسان إذن تنقطع علاقته بأمواله وثرواته ليرثه أبناؤه وأهله ولكن الدين تفضّل على الإنسان فأعطاه إمكانيّة صرف الثلث من ممتلكاته التي ستنتهي صلته بها بعد موته في موارد الخيرات والبرّ والتفضّل على الفقراء وقضاء ما فاته من الواجبات وهذا التفضّل من الشريعة هو تفضّل على المؤمنين؛ لأنّ المؤمن عادّة يفضّل الأعمال الإيمانيّة والخيريّة فيضع الثلث في موضعه اللائق ولأجل مصلحة المجتمع الإسلامي، لذا فإنّ من المستحب للإنسان المؤمن أن يوصي بثلث أمواله في مجال الصدقات الجارية لأنّ الإرث في أموال المالك يذهب إلى أرحامه وأّما الوصيّة فقد تذهب إلى أبعد من الأرحام في الصدقات الجارية وقد أعطاها الإسلام أهمّيّة بالغة واحترم إرادة المالك بالنسبة إلى ما يملكه في حياته لأجل إدامة الخيرات والمبرّات ومنافعها لسدّ حوائج الفقراء والمساكين وقضاء الحوائج وغير ذلك من وجوه الخير.
الوصيّة الواجبة:
أمّا الواجب من الوصيّة فهو قضاء الفوائت من العبادات وأداء حقوق الناس الواجبة كالديون والودائع والأمانات وقد ذكر صاحب العروة الوثقى السيد محمد كاظم اليزدي (ره) في أحكام الأموات مسائل عديدة منها: "يجب عند ظهور أمارات الموت أداء حقوق الناس الواجبة ورد الودائع والأمانات التي عنده مع إمكان الوصيّة بها ومع عدمه مع الاستحكام على وجه لا يعتريها الخلل بعد موته".
ومنها: "إذا كان عليه الواجبات التي لا تقبل النيابة حال الحياة كالصلاة والصوم والحج ونحوها وجب الوصيّة بها إذا كان له مال بل مطلقاً إذا احتمل وجود متبرّع وفيما على الولي كالصلاة والصوم التي فاتته لعذر يجب إعلامه أو الوصيّة باستئجارها أيضاً (4).
"الذي يشاهد في نفسه علائم الموت وفي ذمته صلوات فائتة وصوم فائت يجب أن يوصي بأن يستأجروا لقضائها من أمواله بل إذا لم يكن عنده مال ولكن يحتمل أن يتبرّع بأدائها أحد دون الأجرة وجبت الوصيّة بها أيضاً، وإذا وجب قضاء تلك الفوائت حسب الشروط على ولده الأكبر يجب أن يعلمه بذلك، أو يوصي بأدائها عنه" (5).
ولا شكّ أنَّ أداء الواجبات كقضاء الصلاة الفائتة أو الصوم من قبل نفس الإنسان في حياته، مقدّم على قضائها بعد وفاته وسيأتي بيان ذلك وهناك أيضاً مأثورات وأذكار يفضّل ذكرها في كتابة الوصيّة نذكرها هنا لغرض تعلّمها وبثّها بين الناس.
هكذا تكون الوصية:
عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن آبائه قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) مَن لم يحسن الوصيّة عند موته كان نقصاً في عقله ومروته، قالوا: يا رسول الله وكيف الوصيّة؟ قال: إذا حضرته الوفاة واجتمع الناس إليه قال: اللّهُمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم إنّي أعهد إليك أنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك، وأنّ محمّداً عبدك ورسولك، وأنّ الحساب حق، وأنّ الجنّة حق، وما وعد الله فيها من النعيم ومن المأكل والمشرب والنكاح حقّ، وأنّ النار حق، وأنّ الإيمان حق، وأنّ الدين كما وصفت وأنّ الإسلام كما شرعت، وأنّ القول كما أنزلت وأنّك أنت الله الحقّ المبين وإنّي أعهد إليك في دار الدنيا أنّي رضيت بك ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد (صلى الله عليه وآله) نبيّاً وبعلي (عليه السلام) إماماً وبالقرآن كتاباً، وأنّ أهل بيت نبيّك (عليه وعليهم السلام) أئمتي، اللّهُمّ أنت ثقتي عند شدّتي ورجائي عند كربتي وعدّتي عند الأمور التي تنزل بي وأنت ولييّ في نعمتي، وإلهي وإله آبائي، صلّ على محمد وآله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً وآنس في قبري وحشتي واجعل لي عندك عهداً يوم ألقاك منشوراً. فهذا عهد الميّت يوم يوصي بحاجته والوصيّة حقّ على كلّ مسلم.
قال أبو عبد الله (عليه السلام): «وتصديق هذا في سورة مريم قول الله تبارك وتعالى: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87] وهذا هو العهد» (6).
وفي مجمع البيان قال: «فهذا عهد الميّت والوصيّة حقّ على كلّ مسلم وحقّ عليه أن يحفظ هذه الوصيّة ويعلّمها».
وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): علّمنيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال علّمنيها جبرائيل (عليه السلام) (7) وبالإضافة إلى كون الوصيّة حقّ على كلّ مسلم فإنّ مَن لم يحسن الوصيّة كان ذلك نقصاً في مروته ولم يملك الشفاعة يوم القيامة كما جاء في الحديث عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): «يا علي مَن لم يحسن وصيّة عند موته، كان نقصاً في مروته، ولم يملك الشفاعة» (8).
الوصيّة من المروءة:
المروءة: اسم جامع لسائر الفضائل والمحاسن كالعدل في الإمرة، والعفو مع القدرة، والمواساة في العشرة، وإكرام الضيف، وغض الطرف، وغض الصوت، والقصد في المشي، وحفظ الود، وجود مع قلة، وتعفف عن المسألة، فكلّ فضيلة يمكن أن تقع تحت اسم المروءة وتعتبر المروءة جمال الرجل كما أنّ ميزة الرجل في عقله وقد جاء عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في المروءة قوله: "أوّل المروءة طاعة الله وآخرها التنزه عن الدنيا" (9).
وعنه أيضاً (عليه السلام): «أوّل المروءة طلاقة الوجه وآخرها التودد إلى الناس"(10).
وعنه أيضاً (عليه السلام): «أوّل المروءة البشر وآخرها استدامة البر» (11).
ولذا فإنّ الوصية بالمنفعة والبرّ من قبل صاحب الثروة لأجل الفقراء والمساكين من المروءة كما أنّ بناء المستشفيات ودور العجزة وملاجئ الأيتام يعتبر من المروءة وإنشاء المؤسسات العلمية والمدارس الدينية ونشر الكتب الإسلامية من المروءة لأنّها جميعها من الفضائل والمحاسن ووجوه البر ومن مروءة الرجل الوصية في هذه الأمور.
الوصيّة تشدّ المجتمع:
من الأمور المهمّة والتي منحها الإسلام الأهميّة الكبيرة إزالة الفوارق الطبقية والمساواة وحسن العشرة بين الناس والوصية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع إذ إنّ صاحب الثروة كما قلنا آنفاً علاقته اعتباريّة بثروته وتنتهي بموته ولا يأخذ الميّت معه شيئاً من المال إذ إنّ في ذلك العالم {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 88، 89] فهي إمّا أن تذهب لورثته من أولاده أو زوجاته أو آبائه أو أقربائه فيما إذا لم يوصِ أو يوصي بها من غير أن يكون مريضاً أو سفيهاً أو مجنوناً فإذا أوصى بها هنا تظهر أهميّة الوصيّة في المجتمع إذ إنّ الإنسان المؤمن يصرفها في موارد الخير والإحسان ويساهم في بناء المؤسّسات والمشاريع ومن هنا جاء في الحديث الشريف «من أفضل الدين المروة، ولا خير في دين ليس له مروة» (12).
وكما أنّ الوصيّة جاءت لتُصرَف في وجوه البر والإحسان وهي من الدين ولكنّها قد تفقد أهميّتها لو ترك الموصي أهله وعياله بدون مال ولذا حثّت الروايات الشريفة على العدل في الوصيّة وهذا ما يدخل أيضاً في تحسين الوصيّة فإنّ مَن يترك عيالاً بلا مأوى من أجل نيل فضيلة ما يعتبر أيضاً نقصاً في مروّته وكما جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال: «مَن عدل في وصيته كان بمنزلة مَن تصدّق بها في حياته، ومَن جار في وصيّته لقي الله يوم القيامة وهو عنه معرض» (13).
وبهذا الإسناد قال: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلغه أنّ رجلاً من الأنصار تُوفّي وله صبية صغار وليس لهم مبيت ليلة تركهم يتكفّفون النّاس وقد كان له ستّة من الرقيق ليس له غيرهم وإنّه أعتقهم عند موته فقال لقومه ما صنعتم به؟ قال: دفنّاه، فقال: أما إنّي لو علمته ما تركتكم تدفنونه مع أهل الإسلام ترك ولده صغاراً يتكفّفون النّاس» (14).
بين الوصيّة والشفاعة:
إنّ مَن لم يحسن وصيته في فعل الخيرات والمبرات فإنّه لم يملك الشفاعة فما المراد من الشفاعة؟
قال الراغب في المفردات: «والشفاعة الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى مَن هو أدنى. ومنه الشفاعة في يوم القيامة قال تعالى: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87] و {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] و {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85] أي مَن انضمّ إلى غيره وعاونه وصار شفيعاً له أو شفيعاً في فعل الخير والشر فعاونه وقواه وشاركه في نفعه وضرّه وقيل: الشفاعة ههنا أن يشرع الإنسان للآخر طريق خير أو طريق شر فيقتدي به فصار كأنّه شفع له وذلك كما قال (صلى الله عليه وآله): "مَن سنَّ سُنّة حسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها ومَن سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها.." (15).
إذن للشفاعة معنيان: أحدهما الانضمام إلى آخر ناصر له وهي الشفاعة في يوم القيامة ومن الأعلى مرتبة إلى الأدنى. وثانيهما المعاونة على فعل الخير أو فعل الشر.
الشفاعة في القيامة:
لا خلاف عندنا في ثبوت الشفاعة لسيّد المرسلين في أمّته بل في سائر الأمم الماضين بل ذلك من ضروريّات الدين قال الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
وقال الصدوق: في العقائد اعتقادنا في الشفاعة أنّها لمَن ارتضى دينه من أهل الكبائر والضمائر فأمّا التائبون من الذنوب فغير محتاجين إلى الشفاعة وقال النبي (صلى الله عليه وآله): مَن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي. وقال (صلى الله عليه وآله): لا شفيع أنجح من التوبة والشفاعة للأنبياء والأوصياء والمؤمنين والملائكة وفي المؤمنين مَن يشفع في مثل ربيعة ومضر وأقلّ المؤمنين شفاعة مَن يشفع في ثلاثين إنساناً والشفاعة لا تكون لأهل الشكّ والشرك ولا لأهل الكفر والجحود بل تكون للمؤمنين من أهل التوحيد انتهى.
وفي الخصال من طرق المخالفين عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لكلّ نبيّ دعوة قد دعا بها - وقد سئل سؤالاً- وقد أخبأت دعوتى لشفاعتى لأمتي يوم القيامة.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه عنه (صلى الله عليه وآله): قال ثلاثة يشفعون إلى الله عزّ وجلّ فيشفعون الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء، وقال الطبرسي (ره) في المجمع وهي - يعني الشفاعة - ثابتة عندنا للنبي ولأصحابه المنتجبين والأئمة من أهل بيته الطاهرين ولصالح المؤمنين وينجي الله تعالى بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين.
ويؤيّده الخبر الذي تلقّته الأمّة بالقبول وهو قوله ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي (16).
الوصية بين الحُسنين:
إذن فإنّ الشفاعة يوم القيامة موجودة لمَن ارتضى الله تعالى له أن يشفع
في غيره كالأنبياء والأئمة المطهّرين والعلماء والشهداء، فلعلّ مراد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بأنّ مَن يحسن الوصيّة كان من المؤمنين أو العلماء الذين يعرفون أهميّة الوصيّة في المجتمع ويوصون بأموالهم في سبيل الخير والبرّ والإحسان وكما أنّ الشفاعة على وجهين: أحدهما أن يشفع للغير وثانيهما أن يستدعي الشفاعة من غيره لنفسه وإذا لم نقل بشفاعة المحسن في الوصية لغيره لا بد وأنّه ينال الشفاعة لنفسه من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أو الأئمة المطهّرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
وإذا احتملنا المعنى الثاني للشفاعة وهو المعاونة على الفعل خيراً أو شراً فإنّ مَن يحسن الوصيّة ملك الشفاعة أي المعاونة على فعل الخير في صرف ثروته وأمواله في سبيل الخير والبرّ ومساعدة الفقراء والمحتاجين مع ملاحظة سدّ احتياج عياله وأهله من الثروة، ولو لم يحسن الوصيّة فإنّه لم يملك فعل الخير وإنّما انتخب غير طريق الشفاعة كما أنّ مَن يأمر بذلك في وصيّته فإنّه لم يملك الشفاعة في يوم القيامة أيضاً أي أنّه فاقد للكمالين معاً.
كن وصيّ نفسك:
على كلّ تقدير فإنّ الوصيّة بالخيرات والمبرّات والإحسان ومساعدة الفقراء والمحتاجين مع سدّ احتياج الأهل والعيال من الفضائل والمروة وكما أنّ على الإنسان أن يؤدّي الواجبات والحقوق المترتّبة عليه في حياته هو بنفسه قبل دنوّ أجله كذلك عليه أن يضع الواجبات والحقوق نصب عينه دائماً فلا يتماهل في أداء ما فاته من الصلوات وسائر العبادات جراء الغفلة في زمن ما وعليه أن يؤدّيها بنفسه في حياته وكما أنّ مَن الأفضل أن يعمل بالمندوبات أي المستحبّات في حياته لا أن يكلها إلى غيره بعد وفاته كأداء النوافل اليوميّة وزيارة قبور الأئمة المطهّرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وقراءة القرآن الحكيم.
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "يا ابن آدم كن وصيّ نفسك واعمل في مالك ما تؤثر أن يعمل فيه من بعدك" (17).
العمل طبق الوصيّة:
أشرنا إلى أنّ الوصيّة فيها واجب وفيها مستحبّ فالواجب كأداء الديون وقضاء العبادات الفائتة، مراعاة لحقوق الناس وحقوق الله تعالى وهذا باب رحمة فتحه الإسلام للإنسان لكي يعوّض ما فاته في دار الدنيا بعد أن يسعى سعيه لأدائها بنفسه أثناء حياته ليكون وصيّ نفسه كما تقدّم انفاً.
يقّدم الواجب على المستحب:
وفي حال قبول الوصية تجب على الوصي إلا إذا تراجع عنها في أثناء حياة الموصي أمّا بعد موته فلا يجوز تراجعه عنها كما أنّ الوصي إذا كان ابن الموصي فهناك خلاف بين العلماء فيها والمشهور عدم وجوبها على الابن وظاهر قول البعض الوجوب وقد حملها البعض الآخر على الاستحباب (18) ويشترط في الوصي البلوغ والعقل والإسلام على وجه والحرية والعدالة حال الإيصاء من الأقارب أو المعروفين والحاكم الشرعيّ وصي من لا وصي له (19) لذا فهي واجبة التنفيذ على الموصى له لأداء حقوق الناس وحقوق الله تعالى ولا يبدّل منها شيئاً وفي قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 181] أي بدل الوصية وغيرها، عن علي بن فرقد صاحب السابريّ قال: أوصى إلى رجل بتركته وأمرني أن يحجّ بها عنه فنظرت في ذلك فإذا شيء يسير لا يكون للحج سألت أبا حنيفة وغيره فقالوا: تصدّق، فلمّا حججت لقيت عبد الله بن الحسن في الطواف فقلت له ذلك، فقال لي: هذا جعفر بن محمد في الحجر فاسأله، قال فدخلت الحجر فإذا أبو عبد الله (عليه السلام) تحت الميزاب مقبل بوجهه على البيت يدعو. ثم التفت فرآني فقال: ما حاجتك، فقلت: جعلت فداك إنّي رجل من أهل الكوفة من مواليكم فقال: دع ذا عنك ما حاجتك، قال: قلت رجل مات وأوصى بتركته إليّ وأمرني أن أحجّ بها عنه فنظرت في ذلك فوجدته يسيراً لا يكون للحج فسألت من قبلنا فقالوا لي: تصدّق به فقال لي: ما صنعت؟ فقلت: تصدقت به قال: ضمنت الا أن لا يكون يبلغ أن يحجّ به من مكة فإن كان يبلغ أن يحجّ به من مكّة فأنت ضامن، وإن لم يكن يبلغ ذلك فليس عليك ضمان (20).
الوصيّة بين النبوّة والإمامة:
هناك وصيّة أخرى في الإسلام تعدّ من مقومات الإيمان والعقيدة وهي غير الوصية المعهودة التي تقدّم الكلام عنها فقد أوصى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) باستخلافه فنصّبه مضافاً إلى إنجاز وعده وقضاء دينه فجمع (صلى الله عليه وآله) له (عليه السلام) بين الوصيّة الفقهيّة والوصيّة بالمقام ومن بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) ولداه الحسن والحسين (عليهما السلام) ومن بعدهما أولاد الحسين (عليهم السلام) إلى القائم المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ولنا في ذلك أدلّة عقليّة ونقليّة يحتاج استقصاؤها إلى مجلدات عديدة.
وقد ألّف علماؤنا الأعاظم المتقدّمون منهم والمتأخّرون (رضوان الله تعالى عليهم) في ذلك كتباً مبسوطة ومختصرة مشتملة على الأدلة العقلية والنقلية وأنهى ذلك بعض علمائنا إلى ألفي دليل ألف من العقل وألف من النقل (21).
ونكتفي هنا بذكر آية شريفة وبعض الأخبار قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13]
وفي معنى الآية جاء عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال: كتب أبو الحسن الرضا ع وسأله أقرءنيها قال علي بن الحسين (عليه السلام): إنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) كان أمين الله في أرضه، فلمّا قبض محمد (صلى الله عليه وآله) كنّا أهل البيت ورثته فنحن أمناء الله في أرضه إلى قوله: ونحن الذين شرع الله لنا دينه، فقال في كتابه: {شرع لكم} يا آل محمد {من الدين ما وصّى به نوحاً} قد وصّينا بما وصّى به نوحاً {والذي أوحينا إليك} يا محمّد {وما وصّينا به إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى} فقد علّمنا وبلّغنا ما علّمنا واستودعنا علمهم ونحن ورثة الأنبياء ونحن ورثة أولي العزم من الرسل {أن أقيموا الدين} يا آل محمد {ولا تتفرقوا فيه} وكونوا على جماعة {كبر على المشركين} من أشرك بولاية علي (عليه السلام) {ما تدعوهم إليه} من ولاية علي {إنّ الله} يا محمد {يهدي إليه من ينيب} مَن يجيبك إلى ولاية علي (عليه السلام) (22).
وقد وردت أحاديث كثيرة جداً في مصادرنا عن الوصيّة بل هي متواترة معنى حتّى عند العامّة، منها ما رواه العلّامة الحلّيّ (ره) في نهج الحق عن مسند ابن حنبل عن سلمان (ره) أنّه قال: يا رسول الله ومن وصيّك قال: يا سلمان من كان وصيّ أخي موسى قال: يوشع بن نون قال: فإنّ وصيّي ووارثي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب (23).
وما رواه العلّامة الحلّيّ (ره) أيضاً عن كتاب ابن المغازليّ الشافعيّ بإسناده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "لكلّ نبيّ وصيّ ووارث وإنّ وصييّ ووارثيّ علي بن أبي طالب" (24).
ومن الواضح أن تنصيب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وصيّاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من قبل الله تعالى كان من الواجبات العقليّة حسب مقتضى اللطف الإلهيّ بالعباد كما قرّره علماؤنا الأعلام في الكتب الكلاميّة بما لا مجال لشرحه هنا، كما أنّه كان من الواجبات على الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) من باب اللطف أيضاً امتثالاً لأمر الله تعالى الوارد في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] حيث جعل كلّ خدمات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتبليغه وإرشاده الناس في كفّة وتنصيب الخليفة والإمام وإظهار الولاية والخلافة في كفّة.
روى العيّاشي في تفسيره، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا:
أمر الله محمداً (صلى الله عليه وآله) أن ينصّب عليّاً (عليه السلام) للناس فيخبرهم بولايته، فقام بولايته يوم غدير خم.
والمعنى إن تركت تبليغ ما أنزل إليك وكتمته كنت كأنّك لم تبلّغ شيئاً من رسالات ربّك (25).
ولذا فإنّ ولاية مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) وقبول وصايته والعمل بمقتضاها من التولّي والتبرّي وهو من أهم الواجبات عقلاً وشرعاً على النّاس وإذا لم يقبلوا بذلك صاروا من العاصين الذين لم يقبلوا بتمام الإسلام ولم يعملوا بمقتضى الإيمان الكامل.
روي عن سلمان الفارسي (رضي الله عنه) قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ جاء أعرابي من بني عامر فوقف وسلم فقال: يا رسول الله جاء منك رسول يدعونا إلى الإسلام فأسلمنا، ثم إلى الصلاة والصيام والجهاد فرأيناه حسناً ثم نهيتنا عن الزنا والسرقة والغيبة والمنكر فانتهينا، فقال لنا رسولك: علينا أن نحبّ صهرك علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فما السرّ في ذلك وما نراه عبادة!
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لخمس خصال: أوّلها أنّي كنت يوم بدر جالساً بعد أن غزونا إذ هبط جبرائيل (عليه السلام) وقال: إنّ الله يقرئك السلام ويقول: باهيت اليوم بعلي ملائكتي وهو يجول بين الصفوف ويقول: الله أكبر، والملائكة تكبّر معه، وعزتي وجلالي لا ألهم حبه إلّا من أحبه، ولا ألهم بغضه إلا من أبغضه.
والثانية: أنّي كنت يوم أحد جالساً وقد فرغنا من جهاز عمي حمزة إذ أتاني جبرائيل (عليه السلام) وقال: يا محمد إنّ الله يقول: فرضت الصلاة ووضعتها عن المريض، وفرضت الصوم ووضعته عن المريض والمسافر، وفرضت الحج ووضعته عن المقل المدقع (26)، وفرضت الزكاة ووضعتها عمّن لا يملك النصاب، وجعلت حبّ علي بن أبي طالب ليس فيه رخصة.
الثالثة: أنّه ما أنزل الله كتاباً ولا خلق خلقاً إلّا جعل له سيّداً، فالقرآن سيد الكتب المنزلة، وجبرائيل سيد الملائكة - أو قال: إسرافيل - وأنا سيّد الأنبياء وعليّ سيّد الأوصياء ولكلّ أمر سيّد، وحبّي وحبّ علي سيّد ما تقرّب به المتقرّبون من طاعة ربّهم.
الرابعة: أنّ الله تعالى ألقى في روعي أنّ حبّه شجرة طوبى التي غرسها الله تعالى بيده.
الخامسة: أنّ جبرائيل (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة نصب لك منبر عن يمين العرش والنبيّون كلّهم عن يسار العرش وبين يديه، ونصب لعلي ع كرسي إلى جانبك إكراماً له فمن هذه خصائصه يجب عليكم أن تحبوه، فقال الأعرابي: سمعاً وطاعة (27).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كلمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): ص 151.
(2) تفسير مجمع البيان: المجلّد الأول، ص 482.
(3) التدبّر في القرآن: ج 1، ص 228.
(4) راجع العروة الوثقى: أحكام الأموات.
(5) المسائل الإسلاميّة: ص 672، مسألة 3025.
(6) البحار: ج 100، ص 193، باب 54 ح 1، ط ـ بيروت.
(7) مجمع البيان: المجلّد الثالث، ص 531.
(8) كلمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): ص 151.
(9) غرر الحكم: ط 1.
(10) المصدر نفسه.
(11) المصدر نفسه.
(12) غرر الحكم: ص 258، ط 1.
(13) البحار: ج 100، ص 197، باب 54 ح 17.
(14) البحار: ج 100، ص 197، باب 54 ح 19.
(15) مفردات ألفاظ القرآن: ص 270 "شفع".
(16) للمزيد راجع حقّ اليقين في معرفة أصول الدين: ج 2، ص 134 ـ 140.
(17) نهج البلاغة: حكم 24.
(18) الفقه: ج 61، كتاب الوصية ص 414.
(19) راجع اللمعة الدمشقيّة: ج 5، كتاب الوصايا.
(20) البحار: ج100، ص208، باب 2، ح 31.
(21) كتاب الألفين.
(22) تفسير نور الثقلين: ج 4، ص 562، ح 32.
(23) نهج الحقّ وكشف الصدق: ص 214، ط 1 ـ إيران.
(24) المصدر نفسه.
(25) مجمع البيان: المجلّد الثاني، ص 223.
(26) المقل: الفقير. المدقع: الملصق بالتراب والذليل والهارب والمهزول ولعلّ لمراد هنا المعنى الرابع وهو المريض.
(27) البحار: ج27، ص 128، ح 119.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|