أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-03-2015
1979
التاريخ: 25-09-2015
2190
التاريخ: 24-09-2015
2402
التاريخ: 23-09-2015
1373
|
وهو
أن يتناول الشاعر معنى فيستقصيه إلى أن لا يترك فيه شيئاً، كقول ابن الرومي في صفة
الحديث [كامل]:
وحديثها
السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن
طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز
شرك
العقول ونزهة ما مثلها ... للمطمئن وعقله
المستوفز
فانظر
إلى كون هذا الشاعر وصف حديث هذه المحبوبة بنهاية الوصف الحسن اللائق بمثله، حيث
قال: وحديثها السحر الحلال، لفعله في العقول فعل السحر، وجعله حلالاً لصدق الوصف،
وليضمن كلامه في صفته معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم إن من البيان
لسحراً، فإن سحر البيان سحر حلال، ثم رجع فاستدرك فيه فقال:
... ... ... ...
... لو أنه ... لم
يجن قتل المسلم المتحرز
لكون
قتل المسلم بغير حق حرام، فحصل في البيت طباق معنوي، فكأنه قال سحر حلال لو لم يجن
حرام، فطابق بين الحلال والحرام وأحدث براءة المسلم المقتول بالحديث من الإيغال
الذي في قافية البيت، وهو قوله: المتحرز لأن المتحرز لا يقع في شيء من موجبات
القتل، وفي ذلك مبالغة في وصف الحديث بإفراط الالتذاذ الذي يزهق حبه النفس، ثم فكر
فيما يعرض من الملل بسبب، طول الحديث فاحترس عن تلك بقوله: إن طال لم يملل ثم رأى
أنه متى اقتصر على وصفه بالحسن حالة الإطالة دون الإيجاز كان مقصراً، فقال: وإن هي
أوجزت إلى آخر البيت، ثم أراد وصفه بميل النفوس إليه إما اضطراراً أو اختياراً
فقال، في الميل الاضطراري: شرك العقول، فأخبر أنه يصيد العقول قنصاً، ثم قال في
الميل الاختياري مقسماً له قسمين حاصرين في حالتي الريث والعَجل [كامل]:
.. ... ... ونزهة ما مثلها ... للمطمئن
وعقلة المستوفز
وليس
للمختار حالة زائدة على هاتين الحالتين إما أن يكون مطمئناً، أو مستوفزاً، فإن كان
مطمئنا كان هذا الحديث نزهته، وإن كان مستوفزاً كان عقلته، فلم يبق في هذا المعنى
مقالاً لمن بعده، ولقد أحسن ابن مناذر في استقصائه معنى من معاني الغزل حيث قال [طويل]:
فوالله
ما أدري أيغلبني الهوى ... إذا جحد جد البين أم أنا
غلبه
فإن
أستطع أغلب وإن يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب
صاحبه
فإنه
لما علم أنه متى اقتصر على البيت الأول لا يكون مستقصياً للمعنى أتى بتفصيل ما
أجمله في البيت الأول بما جاء به في البيت الثاني، ليكون قد أتى على جميع ما يجب
ذكره من المعنى الذي قصده: وإذا وصلت في هذا الباب إلى قول البحتري في صفة إنضاء
الإبل [خفيف]:
كالقسي
المعطفات بل الأسـ ... ـهم مبرية بل الأوتار
وصلت
إلى الغاية في الشعر، لأنه جمع مع الاستقصاء المبالغة والرمي على الترتيب، على
مقتضى البلاغة، والتتميم في موضعين، في قوله: المعطفات، وقوله: مبرية والإيغال في
القافية، وقد جاء في الكتاب العزيز من ذلك ما لا يلحق سبقاً، وهو قوله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ
ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) فانظر
إلى استقصاء هذا المعنى حين لم يبق فيه بقية لأحد، وذلك أنه بعد قوله: ( جَنَّةٌ
مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) قال: ( وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ ) وكمل الوصف بقوله: ( لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) فأتى
بكل ما في الجنان ليشتد الأسف على إفسادها ثم قال: ( وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ ) ثم
استقصى المعنى الذي يوجب تعظيم المصاب بقوله بعد وصفه بالكبر: ( وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ
) ولم يقتصر على كونه له ذرية حتى قال: ( ضُعَفَاءُ ) ثم ذكر استئصالها بالهلاك في
أسرع وقت حيث قال: ( فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ ) فلو اقتصر على ذكر
الإعصار لكان كافياً، لكن لما علم الله سبحانه: (فِيهِ نَارٌ) ثم أخبر باحتراقها
لاحتمال أن تكون النار ضعيفة لا يقوم إحراقها بإطفاء أنهارها وتجفيف كل أوراقها
وثمارها، فأخبر بإحراقها احتراساً من ذلك، وهذا أحسن استقصاء وأتمه، بحيث لم يبق
في المعنى المقصود موضع استدراك، والفرق بين الاستقصاء والتتميم، والتكميل كون
التتميم يرد على معنى ناقص فيتمم بعضه، والتكميل يرد على التام فيكمل وصفه،
والاستقصاء له مرتبة ثالثة، فإنه يرد على الكامل فيستوعب كل ما تقع عليه الخواطر
من لوازمه، بحيث لا يترك لآخذه مجالاً لاستحقاقه من هذه الجملة، والله أعلم.