أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-10-2015
3110
التاريخ: 16-10-2015
7712
التاريخ: 10-8-2016
3394
التاريخ: 7-8-2016
3136
|
نستعرض في هذه المقالة مظاهر الانحراف المختلفة في العهد العباسي وفي فترة حكومة هارون وابنه محمد حتى قتله من قبل جيش أخيه المأمون سنة ( 198 ه ) وهي الفترة الواقعة بين سنة ( 183 ه ) و ( 198 ه ) ، ثم نتبعه في فصل آخر ببيان دور الإمام الرضا ( عليه السّلام ) لمعالجة أنواع الانحراف في هذه الفترة .
الانحراف الفكري
لقد راجت التيارات الفكرية المنحرفة في عهد العباسيين ، ووجدت لها اتباعا وأنصارا ، وكثر الجدل والمراء وانشغلت الأمة بذلك ، وهذا ان دلّ على شيء فإنّما يدل على منهج الحكّام العباسيين في الترويج لها وتشجيع القائمين عليها ؛ لاشغال الأمة عن الأحداث والمواقف التي يتخذونها في السياسة والاقتصاد والحياة العامة ، وإبعادهم عن ما يثيرهم اتخاذ الموقف المعارض للسياسات القائمة .
فعلى مستوى أصحاب الديانات نجد اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة وهكذا الملحدين والدهرية وباقي أصناف الزنادقة كان لهم مطلق الحرية في التعبير عن أفكارهم وعقائدهم .
وتعددت المذاهب الإسلامية بتعدد أربابها ، وانتشرت الافكار العقلية الصرفة والفلسفية المثالية ، وكثر الجدل في الجبر والتفويض والارجاء والتجسيم والتشبيه ، وتحوّلت المذاهب السياسية إلى مذاهب عقائدية .
فالزيدية والإسماعيلية كانتا من الحركات والمذاهب السياسية التي تتبنى الجهاد المسلّح فتحوّلت إلى مذاهب عقائدية وفكرية ، وانتشرت الادّعاءات الباطلة والمزيّفة ، كادّعاء النبوة ، وكادّعاء أحد الأفراد انه إبراهيم الخليل . ولولا تشجيع الحكّام ومنح الحرية للتيارات والمذاهب المنحرفة لما انتشرت ولما استشرت هذه المذاهب في أوساط المسلمين .
وكان الحكّام يفتعلون الآراء والنظريات أو يتبنونها لاشغال المسلمين بالجدال والنقاش وكثرة القيل والقال ، وكانوا يعاقبون المخالفين لآرائهم المتبنّاة بالسجن والقتل على الرغم من عدم وجود تأثير واقعي لتلك الآراء ، فقد شجّع هارون على القول بانّ القرآن قديم ، وقام بقتل من يخالف رأيه .
فحينما سئل عن رجل مقتول بين يديه أجاب : قتلته لانّه قال القرآن مخلوق[1].
وتغيّر الرأي في عهد ابنه المأمون وناقض قرار والده والتزم بالقول بخلق القرآن وانه ليس قديما ، وكان يمتحن العلماء في ذلك[2].
وكان هارون يشجّع على الروايات والأحاديث الكاذبة المنسوبة إلى رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) وخصوصا روايات وأحاديث الخرافة ويعاقب كل من يعارض الترويج لهذه الروايات ، ومن الأمثلة على ذلك : انه دخل أبو معاوية الضرير على هارون وعنده رجل من وجوه قريش ، فجرى الحديث إلى أن ذكر أبو معاوية حديث أبي هريرة المنسوب إلى رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) : « انّ موسى لقي آدم فقال : أنت آدم الذي أخرجتنا من الجنة » ، فقال القرشي : أين لقي آدم موسى ؟ ! فغضب هارون ، وقال : النطع والسيف ، زنديق واللّه ! يطعن في حديث رسول اللّه » ، فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول : كانت منه بادرة ، ولم يفهم يا أمير المؤمنين حتى سكّنه[3].
وكان هارون يشجّع ويكرّم العلماء الذين ينسجمون مع آرائه وأهوائه ، في الوقت الذي كان يسجن العلماء العظام ، والأئمة من أهل البيت ( عليهم السّلام ) ويحاصرهم . ومن تشجيعه في هذا المجال انه صبّ الماء على يد أبي معاوية ، وقال له : أتدري من يصبّ على يديك ؟ قال : لا ، قال : انا ، قال أبو معاوية : أنت يا أمير المؤمنين ، قال : نعم اجلالا للعلم[4].
وكان هارون يشجّع الافكار والآراء والأقوال التي تلبس حكمه لباسا مقدسا ، فقد انشده أحد الشعراء أربعة أبيات لقّب فيها هارون بأمين اللّه ، فأمر له لكل بيت بألف دينار ، وقال : لو زدتنا لزدناك[5] ، فانساق الشعراء وراء الأموال واخذوا يروّجون لقدسية الحكّام حتى قال أحدهم مادحا هارون :
حب الخليفة حبّ لا يدين له * عاصي الاله وشار يلقح الفتنا[6]
وقال سلم الخاسر يمدح الأمين وهارون :
قد بايع الثقلان مهديّ الهدى * لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر
قد وفق اللّه الخليفة إذ بنى * بيت الخلافة للهجان الأزهر
فأعطته زبيدة جوهرا باعه بعشرين ألف دينار[7].
ومن أجل إبعاد المسلمين عن نهج أهل البيت ( عليهم السّلام ) قام العباسيون بمحاصرة الفقهاء المؤيّدين لهم ، وشجّعوا على نشوء التيارات الهدّامة ، وهذا واضح من خلال عدم ملاحقتهم لاتباعها وأنصارها .
فقد نشأ تيار الواقفة وتيار الغلاة ، ولم يبادر العباسيون إلى تطويقهما في بداية نشوئهما ، سعيا منهم لتشويه منهج أهل البيت ( عليهم السّلام ) وتفتيت كيانهم .
وقام المأمون بترجمة كتب الفلسفة من اليونانية إلى العربية[8] وبطبيعة الحال تؤدّي الترجمة إلى انتشار الأفكار والمصطلحات المنطقية والفروض الذهنية البعيدة عن الواقع .
وفي عهدهم كثر الافتاء بالرأي ، وتفسير القرآن بالرأي ، وراج القياس الباطل القائم على أساس قياس حكم فرعي بحكم فرعي آخر ، وأصبحت الفتاوى تابعة لأهواء الحكّام وشهواتهم ، فعن ابن المبارك انّه قال : لما أفضت الخلافة إلى الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي ، فراودها عن نفسها ، فقالت : لا أصلح لك ، إنّ أباك قد طاف بي ، فشغف بها ، فأرسل إلى أبي يوسف ، فسأله : أعندك في هذا شيء ؟ فقال : يا أمير المؤمنين أو كلّما ادّعت أمة شيئا ينبغي أن تصدّق ؟
لا تصدّقها فإنّها ليست بمأمونة ، قال ابن المبارك : فلم أدر ممن أعجب : من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرج عن حرمة أبيه ؟ ! أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين ؟ ! أو من هذا فقيه الأرض وقاضيها ؟ ! قال : اهتك حرمة أبيك ، واقض شهوتك ، وصيره في رقبتي[9].
وعن عبد اللّه بن يوسف قال : قال الرشيد لأبي يوسف : اني اشتريت جارية وأريد أن أطأها قبل الاستبراء ، فهل عندك حيلة ؟ قال : نعم ، تهبها لبعض ولدك ، ثم تتزوّجها[10].
وهكذا أصبح الفقهاء تبعا للحكّام يفتون بما ينسجم مع أهوائهم ورغباتهم باستثناء الفقهاء من أتباع أهل البيت ( عليهم السّلام ) ممن كانت لديهم شجاعة لمقارعة الظالمين فإنهم كانوا مطاردين وملاحقين من قبل الحكّام وأعوانهم .
ونشر فقهاء البلاط مفاهيم خاطئة عن الزهد ومفاهيم التصوّف المنحرف لابعاد المسلمين عن التدخل في السياسة أو الاعتراض على مواقف الحكّام ، فانتشر التصوّف وانزوى الكثير واعتزلوا الحياة ، ولم يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
التلاعب بأموال المسلمين
خالف العباسيون أسس النظام الاقتصادي الاسلامي التي تنصّ على أنّ الأموال هي وديعة عند الحاكم وليست ملكا خاصا له ، وانّ انفاقها يجب ان يكون مقيدا بقيود شرعية ، فكانوا يتصرّفون بالأموال حسب رغباتهم وشهواتهم ، فكانوا ينفقونه لشراء الذمم من أجل تثبيت سلطانهم ، وكانوا يعيشون أعلى درجات البذخ والترف ، وكان للجواري والمغنيين والمتملّقين نصيب كبير في بيت المال ، وقد جيء إلى هارون بخراج عظيم وأموال طائلة من الموصل ، فامر بصرف المال إلى بعض جواريه ، فاستعظم الناس ذلك وتحدّثوا به ، فقال أبو العتاهية : ايدفع هذا المال الجليل إلى امرأة ، ولا تتعلق كفّي بشيء منه ، ثم دخل على هارون فأنشده ثلاثة ابيات ، فأعطاه عشرين ألف درهم ، وزاده الفضل بن الربيع خمسة آلاف[11].
وأسمعه إبراهيم بن المهدي أغنية فأمر له بألف ألف درهم[12].
واشترى هارون جارية بسبعين ألف درهم ، واشترى لها جوهرا باثني عشر ألف دينار ، ثم حلف ألا تسأله يومه ذلك شيئا الّا أعطاها[13].
وفي مقابل ذلك نجد ان كثيرا من المسلمين كانوا يعيشون الفقر والحرمان ، كما هو ظاهر من حوار رجلين من قريش مع هارون إذ قالا له :
نهكتنا النوائب ، وأجحفت بأموالنا المصائب[14].
وكان الترف والبذخ من نصيب الحكّام والمقربين لهم ، من وزراء وولاة حتى بلغت أموال والي هارون على خراسان ثمانين ألف ألف[15].
وقد وصلت ملكية هارون حدا غير متصور فقد خلّف مائة ألف ألف دينار ، ومن الأثاث والجوهر والورق والدواب ما قيمته مائة ألف ألف دينار ، وخمسة وعشرون ألف دينار[16].
وسار أولاده على نهجه في البذخ والترف والتلاعب بأموال المسلمين ، فقد بنى محمد الأمين قبة اتخذ لها فراشا مبطنا بأنواع الحرير والديباج المنسوج بالذهب الأحمر وغير ذلك من أنواع الإبريسم . . .[17].
وفي الوقت الذي يعيش فيه المسلمون أجواء الفقر والحرمان نجد الأمين يتلاعب بالأموال دون قيود ، فقد صيدت له سمكة وهي صغيرة فقرّطها حلقتين من ذهب فيهما حبتا درّ ، وقيل ياقوت[18] ، وكان ينفق الأموال على لهوه وعلى جلسائه والخصيان[19].
وانفق المأمون في زواجه أموالا طائلة لا حصر لها ، وأمر باعطاء خراج فارس والأهواز إلى والد زوجته يجبى اليه لمدة سنة[20] ، وكان بطانة والي بغداد في عهده ينهبون أموال الناس وممتلكاتهم ولا أحد يمنعهم من ذلك[21].
الانحراف الأخلاقي
لعبت أجواء الترف والرفاهية دورا كبيرا في انتشار وتفشي الانحراف الأخلاقي ، عند الحاكم ومؤسساته الحكومية وعند الامّة ، فكان الحاكم يعيش مظاهر اللهو واللعب والانسياق وراء الشهوات ، فهارون أول خليفة لعب بالصوالجة والكرة ورمي النشاب في البرجاس ، وأول خليفة لعب الشطرنج من بني العباس[22].
وكان يجري سباق الخيل فجاء في أحد الأيام فرسه سابقا فأمر الشعراء ان يقولوا فيه شعرا فسبقهم أبو العتاهية ، فاجزل صلته[23].
وبعض هذه الأمور وان كانت مباحة إلّا انها لا تليق بالحاكم الذي يحكم دولة إسلامية مترامية الأطراف ، ومعرضة لمخاطر ومؤامرات من قبل أعداء الإسلام .
وكان مولعا بالغناء ، ومن اهتمامه وتشجيعه للغناء ان جعل للمغنين مراتب وطبقات[24].
وكان ينفق الأموال والهدايا على المغنين - كما تقدّم - وكان مولعا بحب ثلاث من الجواري المغنيات حتى انشد شعرا في ذلك قال فيه :
ملك الثلاث الآنسات عناني * وحللن من قلبي بكلّ مكان
مالي تطاوعني البرية كلها * وأطيعهنّ وهنّ في عصياني
ما ذاك الّا ان سلطان الهوى * وبه غلبت غرزن من سلطاني[25]
وفي الوقت الذي يذهب آلاف الجنود ضحايا في الغزوات تجده لا يكترث من كثرة القتلى والمعوّقين وإنّما يؤلمه موت جارية من جواريه تسمى هيلانة ، فيرثيها بأبيات شعر :
فلها تبكي البواكي * ولها تشجي المراثي
خلقت سقما طويلا * جعلت ذاك تراثي[26]
وكان مدمنا على شرب الخمر وربما كان يتولّى بنفسه سقاية ندمائه[27].
وكان من حبّه للضحك والفكاهة ان اختص بابن أبي مريم المدني ، وكان لا يصبر عن فراقه ولا يملّ من محادثته ، وبلغ من خاصته به أن بوّأه منزلا في قصره ، وخلطه بحريمه وبطانته ومواليه وغلمانه[28].
وكان لا يتحرّج من سماع ألفاظ الفحش والبذاء في مجلسه ، فحينما اهدى له العباس بن محمد اناء من خزف فيه مسك وعنبر وهبه هارون إلى ابن أبي مريم ، فتألم العباس وقال لابن أبي مريم : أمه فاعلة ان دهن به الّا استه ، فضحك هارون ، ثم وثب ابن أبي مريم ، وأدخل يده في الاناء ثم دهن بها عورته وجميع جوارحه ثم أمر غلامه ان يذهب بما تبقى إلى زوجته وان يقول لها : ادهني بها حرك إلى أن انصرف فأ . . . وهارون يضحك وهو يسمع ألفاظ الفحش ، ولم يكتف بذلك وإنّما وهب لابن أبي مريم مائة ألف درهم[29].
ولما وصل الأمين إلى منصبه في رئاسة الحكومة طلب الخصيان وابتاعهم وغالى فيهم ، فصيّرهم لخلوته ليله ونهاره . . . وفرض لهم فرضا ، ثم وجّه إلى جميع البلدان في طلب الملهّين ، وضمّهم البه ، وأجرى عليهم الأرزاق ، واحتجب عن أخويه وأهل بيته ، واستخف بهم وبقوّاده ، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجواهر في خصيانه ، وجلسائه ، ومحدثيه ، وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ، ومواضع خلواته ولهوه ولعبه ، وعمل خمس حرّاقات في دجلة على صورة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس ، وأنفق في عملها مالا عظيما[30].
وأمر ان يفرش له على دكان في ساحة مفتوحة ، ففرش عليها أفخر الفراش ، وهيّئ من آنية الذهب والفضة والجواهر أمر عظيم ، وأمر قيّمة جواريه أن تهيّئ له مائة جارية صانعة فتصعد اليه عشرا عشرا بأيديهن العيدان ، يغنّين بصوت واحد . . .[31].
وذكر الأمين عند الفضل بن سهل بخراسان فقال : كيف لا يستحل قتل محمد وشاعره يقول في مجلسه :
الا فاسقني خمرا * وقل لي هي الخمر
ولا تسقني سرّا * إذا أمكن الجهر[32]
وقال ابن الأثير واصفا له : ولم نجد في سيرته ما يستحسن ذكره من حلم ، أو معدلة ، أو تجربة ، حتى نذكرها[33].
وتابع المأمون أباه وأخاه في اللهو واللعب وحب الغناء والطرب ، قال إسحاق بن إبراهيم بن ميمون : وكان المأمون من أشغف خلق اللّه بالنساء ، وأشدّهم ميلا اليهنّ واستهتارا بهنّ[34].
وكان يشرب الشراب مع ندمائه فيأخذ الشراب منهم مأخذا[35].
وأخرج من طرق عدة أن المأمون كان يشرب النبيذ[36].
وكان يسهر الليالي مع الجواري والمغنيين في شراب وغناء حتى الصباح ، ففي ليلة من الليالي كان محمد بن حامد واقفا على رأس المأمون وهو يشرب ، فاندفعت عريب فغنّت . . . فأنكر المأمون أن لا تكون ابتدأت بشيء . . . فقال محمد بن حامد : أنا يا سيدي أو مأت إليها بقبلة . . . فقال المأمون : . . .
لقد زوجت محمد بن حامد عريب مولاتي ، ومهرتها عنه أربعمائة درهم . . . فلم تزل تغنّيه إلى السحر وابن حامد على الباب[37].
ومن مصاديق الانحراف الأخلاقي ان أحد قضاة الأمين ثم المأمون كان يمارس اللواط حتى اشتهر به ، فاشتكى المسلمون إلى المأمون منه فأجابهم :
لو طعنوا عليه في أحكامه قبل ذلك منهم ، وبعد ازدياد الشكاوي عليه عزله ، ثم أصبح فيما بعد من ندمائه ورخّص له في أمور كثيرة[38].
وكان الانحراف واضحا لدى المقربين من الحكام ، ففي بداية عهد المأمون كان بعض الجنود والشرطة في بغداد والكرخ يجهرون بالفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق . . . وكانوا يجتمعون فيأتون القرى . . . ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك ، لا سلطان يمنعهم ، ولا يقدر على ذلك منهم ، لان السلطان كان يعتزّ بهم ، وكانوا بطانته[39].
الانحراف السياسي
1 - الأوضاع السياسية في عهد هارون
عاصر الإمام الرضا ( عليه السّلام ) في مرحلة إمامته حكومة هارون عشر سنين من سنة ( 183 ه ) إلى سنة ( 193 ه ) ، ولم تختلف سياسة هارون عن سياسة من سبقه من الحكّام ، ولا عن سياسته السابقة في مرحلة الإمام الكاظم ( عليه السّلام ) إلّا انه لم يتعرض تعرضا مباشرا للإمام الرضا ( عليه السّلام ) ؛ لأن الظروف والأوضاع السياسية لم تساعده على ذلك ، فاغتيال الإمام الكاظم ( عليه السّلام ) مسموما لا زال يثير هواجسه خوفا من ردود فعل الحركات المسلّحة المرتبطة بأهل البيت ( عليهم السّلام ) ، ولذا نجده في بداية استشهاد الإمام ( عليه السّلام ) أحضر القوّاد والكتّاب والهاشميين والقضاة ، ثم كشف عن وجهه ، وقال : أترون به اثرا أو ما يدل على اغتيال ؟[40].
ولهذا لم يقدم على اتخاذ نفس الأسلوب مع الإمام الرضا ( عليه السّلام ) ورفض الاستجابة لمن حرّضه على قتله - كما تقدّم - وإضافة إلى ذلك فإن الإمام الرضا ( عليه السّلام ) اتخذ أسلوبا واعيا في التحرك السياسي ، ولم يعط لهارون أيّ مبرّر للتخوف من تحركه ، على أنّ أغلب الرسائل التي رفعت إليه لم تتطرق إلى نشاط سياسي ملحوظ للإمام الرضا ( عليه السّلام ) .
إذن كان حكم هارون أكثر هدوء وسلاما مع الإمام الرضا ( عليه السّلام ) ، وإن كان قد اتّسم بالمظاهر التالية :
أولا : الارهاب
إن وصول هارون للحكم كغيره من بني أمية وبني العبّاس لم يكن بنص من رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) ولا باختيار من المسلمين ، ولم يختاره أهل الحل والعقد طبقا للنظريات السائدة آنذاك . وإنّما وصل عن طريق العهد والاستخلاف من قبل من سبقه ، وهذا الشعور دفعه للتشبث بالحكم بأيّ أسلوب أمكن ، ولهذا استخدم الارهاب إلى جانب الاغراء في تثبيت حكمه ، فلم يسمح لأي معارضة وان كانت سلمية كما لم يسمح لأيّ نصح أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، ففي أحد خطبه قام اليه رجل فقال : كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ[41] ، فأمر بضربه مائة سوط[42].
وفي سنة ( 188 ه ) أخذ هارون أحد المقرّبين إلى أحمد بن عيسى العلوي ، وضربه حتى مات - على الرغم من تجاوزه التسعين من عمره - لأنه لم يعلمه بمكان العلوي[43].
وطارد هارون يحيى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن ، ثم آمنه ، وحينما حمل اليه ، سجنه وبقي في السجن إلى أن مات فيه ، وقيل إن الموكل به منعه من الطعام أياما فمات جوعا[44].
وفي عهده قتل حميد بن قحطبة الطائي ستين علويا ورماهم في البئر بأمر من هارون حينما كان بطوس[45].
وعلى الرغم من ممارساته للارهاب وقتله للعلويين إلّا انه لم يقدم على قتل الإمام ( عليه السّلام ) ، وإنّما كان يكتفي بالتهديد أو التخطيط لقتله دون تنفيذ ، ففي أحد المواقف قال : لاخرجنّ العام إلى مكة ولآخذنّ علي ابن موسى ولأوردنّه حياض أبيه ، وحينما وصل الخبر إلى الإمام ( عليه السّلام ) قال :
« ليس عليّ منه بأس »[46].
وحينما طلبه هارون للمثول أمامه قال ( عليه السّلام ) لمن معه : « انه لا يدعوني في هذا الوقت إلّا لداهية ، فو اللّه لا يمكنه أن يعمل بي شيئا أكرهه » ولما دخل على هارون أكرمه وطلب منه ان يكتب حوائج أهله ، وحينما خرج ( عليه السّلام ) قال هارون :
أردت وأراد اللّه وما أراد اللّه خير[47].
وبقي الإمام ( عليه السّلام ) تحت رقابة شديدة من قبل عيون وجواسيس هارون ، وكانوا ينقلون له كل ما يقوله ، وكل ما يفعله ، ويحصون عليه لقاءاته وزياراته ، إلّا انه كان شديد الحذر من أجل ان يأمن هارون جانبه .
ثانيا : الاستبداد
لقد استبد هارون بالحكم وجعله موروثا لأولاده الثلاث من بعده ، واختار ابنه محمدا بن زبيدة ارضاء لها على الرغم من اعترافه بعدم أهلية محمد للخلافة ، حيث اعترف بذلك قائلا : وقد قدمت محمدا . . . واني لأعلم انّه منقاد إلى هواه مبذر لما حوته يداه ، يشارك في رأيه الإماء والنساء ، ولولا امّ جعفر - يعني زبيدة - وميل بني هاشم اليه لقدمت عبد اللّه عليه[48].
فاختار ابن زبيدة لهواها فيه ، ولم يكترث ممّا سيحل بالمسلمين من كوارث جراء التنافس بين ولديه الذي ذهب ضحيته آلاف المسلمين في قتال دموي وإنفاق لأموال المسلمين في ذلك القتال .
ومن مظاهر الاستبداد هو اسناد المناصب الحكومية والعسكرية إلى أقربائه وخواصّه والمتملّقين اليه دون النظر إلى مؤهلاتهم الدينية والخلقية والإدارية .
ثالثا : الأخطار الخارجية
كانت الدولة والحكومة محاطة بمخاطر خارجية ففي بداية عهد الإمام الرضا ( عليه السّلام ) أوقع الخزر بالمسلمين وقعة شديدة الوطأة ، قتل فيها الآلاف وأسر فيها من النساء والرجال أكثر من مائة ألف ، وكما يقول المؤرخون :
جرى على الإسلام أمر عظيم لم يسمع قبله بمثله أبدا[49] .
وكان الروم يتحيّنون الفرص للوثوب على المسلمين ، وكانوا ينقضون الصلح بين فترة وأخرى ، ولا يرجعون إليه إلّا بمعارك طاحنة ، وكان الغزو غير قائم على أسس نشر الإسلام وتوسيع رقعة الدولة الاسلامية ، وإنّما الدافع إليه هوى الحاكم ورغبته في السيطرة على أكبر مساحة وأكثر عدد من الناس ، وإضافة إلى اشغال المسلمين وابعادهم عن السياسة والمعارضة وسلوك هارون خير شاهد على هذه الحقيقة ، فالحريص على الإسلام والمسلمين لا ينشغل بالجواري والأمسيات الفكاهية ، ولا ينشغل بالترف والملذات .
رابعا : اختلال الجبهة الداخلية
بسبب السياسات الخاطئة التي مارسها هارون في مرحلة حكمه ، ظهر الخلل والاضطراب في الجبهة الداخلية ، ففي سنة ( 184 ه ) خرج أبو عمرو حمزة الشاري ، واستمر في خروجه إلى سنة ( 185 ه ) ، وقمع هارون حركته بعد مقتل عشرة آلاف من أنصاره والخارجين معه .
وفي نفس السنة قتل أهل طبرستان والي هارون .
وفي السنة نفسها خرج أبو الخصيب للمرّة الثانية وسيطر على نسا وأبيورد وطوس ونيسابور وزحف إلى مرو وسرخس وقوي أمره ، ولم تنته حركته إلّا بمقتل الآلاف من الطرفين سنة ( 186 ه )[50].
وتوسع الخلل في الجبهة الداخلية سنة ( 187 ه ) حينما قام هارون بقتل البرامكة وهم أركان الحكم والمشيدون له[51] ، وقد كان لهم دور كبير في القضاء على خصوم العباسيين ومخالفيهم .
وفي السنة نفسها سجن هارون بن عبد الملك بن صالح بن علي العباسي ، لسعي ابنه به وادعائه بأنه يطلب الخلافة[52] .
وقتل إبراهيم بن عثمان بن نهيك لطلبه بثأر البرامكة[53].
وفي سنة ( 189 ه ) توجه هارون إلى الري بعد ما وصلته الاخبار بأنّ علي بن عيسى بن ماهان - والي خراسان - قد أجمع على خلافه ، إضافة إلى القطيعة بينه وبين أهل خراسان ، وعاد بعد أربعة اشهر إلى بغداد دون أن يعزله[54].
وكان هارون كثير العزل والاقصاء لقادة الأجهزة الحسّاسة في الحكومة ، فمنصب قائد الشرطة قد تناوب عليه ثمانية اشخاص يعزل أحدهم ويستبد له بثان وهكذا[55].
والسياسة الخاطئة أدّت إلى ضعف العلاقة بين هارون والأمة ، والتي وصلت إلى حد الكراهية والبغضاء ، فعند مرور هارون على فضيل بن عياض بمكة قال فضيل : الناس يكرهون هذا[56].
وخلاصة القول انّ الأوضاع السياسية التي كان يمرّ بها حكم هارون جعلته يستثني من قتل الإمام الرضا ( عليه السّلام ) لقرب العهد بمقتل والده مسجونا ، إضافة إلى انّ عهد الإمام كان خاليا من الثورات العلوية التي قد تنسب مسؤوليتها إلى الإمام ( عليه السّلام ) لو كانت قائمة .
وكان دور الإمام ( عليه السّلام ) في هذه المرحلة هو الاصلاح الهادئ لجميع الأوضاع ، ومن اعماله القيام بتوضيح المفاهيم السياسية السليمة دون اعلان المعارضة الصريحة .
2 - الأوضاع السياسية في عهد محمد ( الأمين )
عاصر الإمام ( عليه السّلام ) حكومة محمد بن هارون خمس سنين ، من سنة ( 193 ه ) إلى سنة ( 198 ه ) ، وفي هذه المرحلة لم تظهر من محمد بن هارون أي مبادرة إرهابية باتجاه الإمام ( عليه السّلام ) وباتجاه أهل البيت عموما ، فلم يهدّد بقتله وقتل بقية العلويين ، ولم يذكر لنا التأريخ تصريحا منه بالتفكير في ذلك ، ولعلّ الظروف والأوضاع التي أحاطت به لم تساعده على ذلك ، ففي بداية حكومته بدأ الخلاف بينه وبين أخيه عبد اللّه المأمون ، وانقسمت الدولة الاسلامية في الحكم إلى قسمين ، فلكل منهما أنصار وأتباع ومصادر قوة من أموال وسلاح .
وفي سنة ( 194 ه ) تمرّد أهل حمص على الحكومة العباسية فقام قائد جيش محمد الأمين بقتل وجوه أهالي حمص وسجن أهاليها والقاء النار في نواحيها ، ولم ينته التمرّد الّا بعد مزيد من القتلى والخراب الاقتصادي .
وفي السنة نفسها أمر الأمين بالدعاء على المنابر لابنه موسى بولاية العهد من بعده ، ثم أمر أخاه المأمون أن يقدم ابنه موسى عليه فرفض .
وفي سنة ( 195 ه ) أرسل جيشا إلى خراسان لقتال أخيه المأمون ولكن مني جيشه بالهزيمة ، واستمر بارسال الجيوش تباعا إلى سنة ( 197 ه ) ولم تفلح جيوشه بالسيطرة على خراسان بل عادت متقهقرة ، ولاحقتها جيوش المأمون إلى أن حاصرت بغداد حصارا شديدا دام سنة كاملة .
وفي سنة ( 198 ه ) سيطرت جيوش المأمون على بغداد بعد قتال دام ذهب ضحيته عشرات الآلاف من الطرفين ، وقتل الأمين ومن بقي معه من أصحابه ، وأصبح المأمون هو الحاكم الوحيد الذي لا ينازعه منازع بعد مقتل أخيه[57].
وهذه الظروف أدّت إلى عدم توفر فرصة لملاحقة الإمام الرضا ( عليه السّلام ) وغيره من العلويين . وبطبيعة الحال ، كان الإمام ( عليه السّلام ) يستثمر هذه الظروف لاصلاح ما أمكن إصلاحه مما فسد في المجتمع الاسلامي والقيام بتوسيع القاعدة الشعبية الشيعية ، ونشر المفاهيم والافكار السليمة . وكان العلويون يقومون بإعادة بناء تنظيماتهم العسكرية ، والإعداد لمرحلة مقبلة تبعا للظروف التي تمر بها الحكومة والأمة الإسلامية معا .
[1] البداية والنهاية : 10 / 215 .
[2] تاريخ الخميس : 2 / 334 .
[3] تاريخ بغداد : 14 / 8 .
[4] تاريخ بغداد : 14 / 8 .
[5] مروج الذهب : 3 / 365 .
[6] تاريخ الخلفاء : 233 .
[7] تاريخ الخلفاء : 233 .
[8] مآثر الإنافة في معالم الخلافة : 1 / 209 .
[9] تاريخ الخلفاء : 233 .
[10] تاريخ الخلفاء : 233 .
[11] الأغاني : 4 / 67 .
[12] الأغاني : 10 / 99
[13] الأغاني : 16 / 342 - 343 .
[14] الأغاني : 16 / 261 .
[15] تاريخ الطبري : 8 / 324 .
[16] تاريخ الخلفاء : 237 .
[17] مروج الذهب : 3 / 392 .
[18] مروج الذهب : 3 / 394 .
[19] الكامل في التاريخ : 6 / 294 .
[20] مروج الذهب : 3 / 443 .
[21] تاريخ الطبري : 8 / 551 .
[22] تاريخ الخلفاء : 237 .
[23] الأغاني : 4 / 43 .
[24] تاريخ الخلفاء : 237 .
[25] الأغاني : 16 / 345 ، فوات الوفيات : 4 / 226
[26] فوات الوفيات : 4 / 226 .
[27] حياة الإمام علي بن موسى الرضا : 2 / 224 .
[28] تاريخ الطبري : 8 / 349 .
[29] تاريخ الطبري 8 / 349 - 350 .
[30] الكامل في التاريخ : 6 / 293 - 294 .
[31] الكامل في التاريخ : 6 / 295 .
[32] الكامل في التاريخ : 6 / 295 .
[33] الكامل في التاريخ : 6 / 295 .
[34] العقد الفريد : 8 / 156 .
[35] الكامل في التاريخ : 6 / 437 .
[36] تاريخ الخلفاء : 260 .
[37] تاريخ الخلفاء : 260 .
[38] مروج الذهب : 3 / 435 .
[39] تاريخ الطبري : 8 / 551 .
[40] تاريخ اليعقوبي : 2 / 414 .
[41] سورة الصف ( 61 ) : 3 .
[42] العقد الفريد : 1 / 51 .
[43] تاريخ اليعقوبي : 2 / 423 .
[44] تاريخ اليعقوبي : 2 / 408 .
[45] عيون أخبار الرضا : 1 / 109 .
[46] اثبات الوصية : 174 .
[47] بحار الأنوار : 49 / 116 ، عن مهج الدعوات .
[48] تاريخ الخميس 26 / 334 .
[49] تاريخ الاسلام للذهبي حوادث سنة ( 181 ، 191 ) : 12 .
[50] تاريخ الطبري : 8 / 272 - 273 .
[51] تاريخ الطبري : 8 / 287 .
[52] الكامل في التاريخ : 6 / 180 .
[53] الكامل في التاريخ : 6 / 186 .
[54] الكامل في التاريخ : 6 / 191 ، 192 .
[55] تاريخ اليعقوبي : 2 / 429
[56] تاريخ بغداد : 14 / 12 .
[57] الكامل في التاريخ : 6 / 222 - 282 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|