أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-03-20
946
التاريخ: 12-8-2020
1391
التاريخ: 16-1-2020
1331
التاريخ: 2023-03-09
792
|
افترض نيوتن أن هذا الكون غير المحدود لا بد أن يكون ساكنا، بحيث لا يتمدد أو ينكمش. وفي هذا الكون «تتجمع» الأجسام بفعل قوى الجاذبية؛ أي الجذب الذي يمارسه كل جسم ذي كتلة على غيره من الأجسام. إن استنتاج نيوتن الخاص بدور الجاذبية المحوري في تكوين البنى يظل صحيحًا إلى اليوم، مع أن علماء الكونيات يواجهون مهمة أصعب بكثير من تلك التي كان بصددها. فنحن لا نملك ترف التمتع بفوائد الكون الساكن، وعلينا أن نضع في الحسبان حقيقة أن الكون في تمدد متواصل منذ الانفجار العظيم، وهو ما يقاوم بطبيعته أي ميل لدى المادة للتكتل بفعل الجاذبية. تصير مشكلة التغلب على طبيعة الكون المتمدد المقاوم لتجميع المادة أصعب حين نأخذ بعين الاعتبار أيضًا حقيقة تمدد الكون بسرعة كبيرة عقب الانفجار العظيم مباشرة، وهي الفترة التي بدأت فيها البنى في التكون من الوهلة الأولى لن يسعنا الاعتماد على الجاذبية في تكوين أجسام ضخمة من الغازات الرقيقة بأكثر مما يمكننا الاعتماد على استخدام الجاروف في نقل مجموعة من البراغيث عبر فناء مزرعة. ومع ذلك فقد نجحت الجاذبية في عمل هذا. خلال الأيام الأولى من عمر الكون تمدد الكون بسرعة كبيرة حتى إنه لو كان الكون متطابقا ومتوحد الخصائص على جميع مستويات الحجم، لم تكن الجاذبية لتحظى بأدنى فرصة للنجاح في عملها، ولم يكن للمجرات أو النجوم أو الكواكب أو البشر أي وجود اليوم، وإنما كانت ستوجد فقط مجموعة من الذرات الموزعة في كل مكان من الكون؛ كون كئيب ممل، خالٍ من المعجبين ومن أي شيء يثير الإعجاب. لكن كوننا كون مسل مثير للاهتمام؛ هذا بسبب انعدام التطابق والاتساق الذي ظهر خلال هذه اللحظات الأولى من عمر الكون، الذي عمل كحساء كوني فاتح للشهية لكل تركيزات المادة والطاقة التي ستظهر لاحقا. ودون هذه البداية كان الكون سريع التمدد سيمنع الجاذبية من تجميع المادة في البنى المألوفة التي نأخذها كأمور مسلم بها في كوننا اليوم.
ما الذي سبب هذه الانحرافات؟ انعدام التطابق والاتساق الذي أمد الكون ببذور كافة البنى الموجودة فيه؟ تأتينا الإجابة من عالم ميكانيكا الكم، الذي لم يحلم إسحاق نيوتن بوجوده لكن يتحتم علينا الاستعانة به لو كنا نأمل في فهم من أين أتينا. تخبرنا ميكانيكا الكم بأنه على أصغر مستويات الحجم لا يمكن لأي توزيع للمادة أن يظل متطابقا ومتوحد الخصائص. بدلا من ذلك ستظهر تفاوتات عشوائية في توزيع المادة ثم تختفي ثم تظهر مجددًا بكميات مختلفة، بينما تصير المادة كتلة مرتجفة من الجسيمات التي تختفي ثم تولد من جديد وفي أي وقت بعينه ستحوي بعض مناطق الفضاء جسيمات أكثر، ومن ثم ستكون كثافتها أعلى من المناطق الأخرى. وانطلاقا من هذا المفهوم الخيالي المعارض للبديهة يمكننا اشتقاق كل شيء موجود. سنحت للمناطق الأعلى كثافة بقليل الفرصة لجذب المزيد من الجسيمات بفعل الجاذبية، ومع الوقت تحولت هذه المناطق الكونية الأعلى كثافة إلى بنى.
في مسعانا لتتبع نمو البنية الكونية بعد الانفجار العظيم بقليل يمكننا الحصول على بعض الرؤى من فترتين من الفترات الزمنية التي قابلناها من قبل؛ «فترة «التضخم»، التي تمدد فيها الكون بمعدل مذهل، و «وقت الانفصال»، حوالي 380 ألف عام بعد الانفجار العظيم حين توقف إشعاع الخلفية الكوني عن التفاعل مع المادة.
استمرت فترة التضخم ما بين 10-37ثانية و10-33 ثانية بعد الانفجار العظيم. وخلال هذه الفترة الوجيزة تمدد نسيج الزمان والمكان أسرع من الضوء؛ إذ نما في غضون واحد على مليار تريليون تريليون من الثانية من حجم أصغر من حجم البروتون بمائة مليار مليار مرة إلى ما يقارب الأربع بوصات. أجل، كان الكون القابل للرصد لا يزيد في الحجم عن ثمرة الجريب فروت لكن ما الذي سبب هذا التضخم الكوني؟ حدد علماء الكونيات المتهم الرئيسي المتسبب في هذا عملية تحول طوري تركت بصمتها المحددة القابلة للرصد في إشعاع الخلفية الكوني.
لا يقتصر التحول الطوري على علم الكونيات وحسب، بل كثيرًا ما يحدث في منازلنا. فنحن نجمد الماء السائل لنصنع مكعبات من الثلج، كما نغلي الماء لننتج البخار. والماء المحلى بالسكر ينتج بلورات من السكر تتجمع على الخيط المدلى داخله. كما يتحول المخيض الطري الثخين إلى كعكة عند خبزه في الفرن. هناك نمط شائع في كل هذه العمليات؛ ففي كل حالة تبدو الأمور مختلفة قبل حدوث عملية التحول الطوري عن الحال بعدها يؤكد نموذج التضخم الكوني على أنه حين كان الكون وليدا، مر مجال الطاقة العام بمرحلة تحول طوري، وهي مرحلة واحدة من المراحل المتعددة التي كان بالإمكان حدوثها في تلك الأوقات المبكرة من عمر الكون هذه المرحلة بعينها لم تتسبب في انطلاق عملية التمدد السريع المبكر للكون وحسب، بل خصبت الكون بنمط خاص من التفاوت بين المناطق ذات الكثافة العالية والمنخفضة. هذه التفاوتات تجمدت بعد ذلك في نسيج الفضاء المتمدد، تاركة مخططاً تمهيديًا بالأماكن التي ستتكون فيها المجرات في نهاية المطاف. وهكذا صار بمقدورنا، على غرار شخصية بوه-باه، إحدي شخصيات أوبرا «ميكادو» لجيلبرت وسوليفان الذي تمكن بفخر من تتبع شجرة عائلته وصولاً إلى «كرية ذرية بدائية»، أن نعزو أصلنا، وبداية البنية الكونية كلها، إلى التفاوتات التي وقعت على المستوى دون النووي إبان فترة التضخم.
ما الحقائق التي يمكننا الاستشهاد بها لدعم هذا التأكيد الجريء؟ بما أن علماء الكونيات لا يملكون سبيلا لرؤية ما كانت عليه الأمور في أول 10-37 ثانية من عمر الكون، فهم يفعلون ثاني أفضل شيء ممكن، وهو استخدام المنطق العلمي لربط هذه الفترة المبكرة بأوقات أخرى يمكننا رصدها. إذا كانت نظرية التضخم صحيحة، فإن التفاوتات الأولية المنتجة إبان هذه الفترة، النتيجة التي تحتم ميكانيكا الكم حدوثها - والتي تخبرنا بأن الانحرافات الطفيفة من مكان لآخر لا بد أن تظهر داخل أي سائل متطابق متوحد الخصائص – ستسنح لها الفرصة كي تكون مناطق من التركيزات المرتفعة والمنخفضة من المادة والطاقة. ويمكننا أن نأمل في العثور على دليل على هذه التفاوتات من مكان لآخر في إشعاع الخلفية الكوني، الذي يمكن تشبيهه بالجزء الأمامي من خشبة المسرح، والذي يفصل فترتنا الحالية عن اللحظات الأولى من عمر الكون الوليد، ويصلنا بها في الوقت ذاته.
كما رأينا من قبل، فإشعاع الخلفية الكوني يتكون من الفوتونات المولدة خلال الدقائق الأولى التي تلت الانفجار العظيم. في فترة مبكرة من تاريخ الكون، تفاعلت هذه الفوتونات مع المادة مرتطمة بعنف بأي ذرة تحاول التكون حتى إنه لم تتكون أي ذرات على الإطلاق. بيد أن التمدد المستمر للكون جرد الفوتونات من طاقتها، وفي نهاية المطاف، في وقت الانفصال، لم يعد أي فوتون يملك طاقة تكفيه لمنع الإلكترونات من الدوران حول البروتونات وأنوية الهيليوم. منذ ذلك الوقت، 380 ألف عام عقب الانفجار العظيم استمرت الذرات في الوجود - ما لم تتسبب بعض الاضطرابات الموضعية، على غرار الإشعاع الصادر عن نجم قريب في تمزيقها - بينما الفوتونات، وكل واحد منها محمل بقدر متناقص من الطاقة مستمرة في التجول عبر الكون مكونة معًا ما يسمى بإشعاع الخلفية الكوني.
بهذا يحمل إشعاع الخلفية الكوني سجلا تاريخيًّا؛ لقطة فوتوغرافية لما كان الكون عليه في وقت الانفصال عرف الفيزيائيون الفلكيون كيف يفحصون هذه اللقطة بدقة كبيرة. أولا، تؤكد حقيقة وجود إشعاع الخلفية الكوني أن فهمهم الأساسي لتاريخ الكون صحيح ولاحقًا بعد سنوات من تحسين قدراتهم على قياس إشعاع الخلفية الكوني، مكنتهم المعدات المعقدة المحمولة على مناطيد وأقمار صناعية من وضع خريطة للانحرافات الدقيقة في إشعاع الخلفية الكوني عن مستوى التجانس العام. تعد هذه الخريطة سجلا للتفاوتات الدقيقة التي زاد حجمها مع تمدد الكون عبر مئات الآلاف من الأعوام التي تلت فترة التضخم والتي نمت بعد ذلك خلال المليار عام التالية أو نحو ذلك، إلى توزيع واسع النطاق للمادة على مستوى الكون.
الأمر المثير للإعجاب هنا هو أن إشعاع الخلفية الكوني لا يوفر لنا فقط وسيلة لرسم. آثار الكون المبكر للغاية، الذي اختفى منذ زمن بعيد، بل يمكننا أيضًا من تحديد المناطق ذات الكثافة الأعلى بقليل على بعد 14 مليار سنة ضوئية في الاتجاهات جميع التي صارت لاحقًا عناقيد مجرية وعناقيد مجرية فائقة. فالمناطق ذات الكثافة الأعلى من المتوسط خلفت وراءها فوتونات أكثر من المناطق ذات الكثافة الأقل. وحين صار الكون شفافًا بفضل فقدان الطاقة الذي جعل الفوتونات عاجزة عن التفاعل مع الذرات المتكونة حديثًا - انطلق كل فوتون في رحلة تحمله بعيدًا عن نقطة منشئه. إن الفوتونات التي ولدت في منطقتنا سافرت لمسافة 14 مليار سنة ضوئية في جميع الاتجاهات، مكونة جزءا من إشعاع الخلفية الكوني الذي ربما ترصده حضارة أخرى بعيدة في الطرف القصي من الكون، أما «فوتوناتهم» التي ستصل لمعداتنا فستخبرنا عما كان عليه الحال منذ زمن بعيد للغاية، في الوقت الذي بدأت فيه البنى الكونية في التكون.
على مدار الربع قرن الذي تلا الاكتشاف الأول لإشعاع الخلفية الكوني في عام 1965، بحث الفيزيائيون الفلكيون عن أي تفاوت في تجانس إشعاع الخلفية الكوني. من الناحية النظرية كانوا بحاجة ماسة للعثور عليه؛ لأنه دون هذا التفاوت في إشعاع الخلفية الكوني على مستوى بضعة أجزاء من مائة ألف سيفقد نموذجهم الخاص بكيفية ظهور البني الكونية صحته. وبدون بذور المادة التي يكشف عنها هذا الإشعاع لن يكون لدينا أي تفسير لوجودنا. لحسن الحظ ظهرت هذه التفاوتات في الوقت المناسب. وفور أن بنى علماء الكونيات أجهزة قادرة على الكشف عن هذه التفاوتات على مستوى ملائم وجدوها بالفعل، في البداية بواسطة القمر الصناعي مستكشف الخلفية الكونية في عام 1992، ثم لاحقا بواسطة المعدات الأكثر دقة المحمولة على المناطيد وعلى المسبار WMAP الذي تحدثنا عنه في الفصل الثالث إن التفاوتات الدقيقة من مكان لآخر في مقدار الفوتونات الميكروية المكونة لإشعاع الخلفية الكوني، والمصورة بدقة مذهلة بواسطة المسبار WMAP، تجسد سجلا للتفاوتات الكونية بعد مرور 380 ألف عام على الانفجار العظيم. إن التفاوتات المعتادة لا تزيد عن بضعة أجزاء في المائة ألف من الدرجة أعلى أو أدنى من متوسط حرارة إشعاع الخلفية الكوني، لهذا يشبه الكشف عن هذه التفاوتات العثور على نقاط خافتة من الزيت الطافي على سطح بحيرة عرضها ميل يكون فيها الماء المخلوط بالزيت ذا ظل أقل كثافة بقليل من المتوسط. ومع ضآلة هذه التفاوتات فإنها كانت كافية كبداية.
في خريطة إشعاع الخلفية الكوني التي رسمها المسبار WMAP، تخبرنا النقاط الحارة الأكبر حجمًا بالأماكن التي تغلبت فيها الجاذبية على نزعات التمدد الكوني وتمكنت من تجميع ما يكفي من المادة لتكوين العناقيد الفائقة. هذه المناطق اليوم نمت لتحوي حوالي ألف مجرة، كل واحدة منها تحوي 100 مليار نجم. وإذا أضفنا المادة المظلمة الموجودة في هذه العناقيد فستصل كتلتها الإجمالية لما يعادل كتلة 1016 شموس. وعلى العكس تطورت المناطق الباردة الكبيرة، التي لم يكن بيدها حيلة أمام تمدد الكون، لتكون خاوية من البنى الكبيرة. يسمي الفيزيائيون الفلكيون هذه المناطق بـ «الفراغ»، وهو المصطلح الذي يكتسب معناه من وجود أشياء أخرى محيطة به. وهكذا فإن خيوط وألواح المجرات العملاقة التي يمكننا رصدها على السماء لا تشكل عناقيد مجرية في نقاط التقائها وحسب، بل تشكل جدرانًا وأشكالا هندسية أخرى تمنح شكلًا للمناطق الخاوية من الكون.
بطبيعة الحال لم تظهر المجرات بكل بساطة، بصورتها الكاملة من تركيزات المادة الأعلى كثافة بشكل طفيف عن المتوسط، فمنذ 380 ألف عام بعد الانفجار العظيم، وعلى مدار حوالي 200مليون عام، تال استمرت المادة في تجميع نفسها، لكن دون أن يسطع أي شيء في الكون بعد؛ إذ إن النجوم لم تكن قد ولدت بعد إبان هذه الحقبة الكونية المظلمة احتوى الكون فقط على ما تم تكوينه خلال الدقائق القليلة الأولى؛ الهيدروجين والهيليوم وكميات طفيفة من الليثيوم. وفي غياب العناصر الأثقل - كالكربون والنيتروجين والأكسجين والصوديوم والكالسيوم وغيرها من العناصر الأثقل - لم يحتو الكون على أي من الذرات أو الجزيئات الشائعة الآن، التي يمكنها امتصاص الضوء عندما يبدأ أي نجم في السطوع. أما اليوم، في وجود هذه الذرات والجزيئات، فإن الضوء الصادر عن أي نجم مكون حديثًا سيتعين عليه الضغط على هذه الجزيئات بحيث يدفع بعيدا كميات هائلة من الغازات التي لولا وجوده لانجذبت إلى النجم وسقطت فيه. هذا الطرد يحد من الكتلة العظمى للنجوم الوليدة إلى أقل من مائة ضعف كتلة الشمس. لكن حين تكونت النجوم الأولى في الكون، وفي غياب الذرات والجزيئات التي تمتص الضوء، تكونت الغازات المنجذبة إليها بالكامل من الهيدروجين والهيليوم، مسببة مقاومة طفيفة للغاية لمقدار الطاقة المندفع من النجم مكن هذا النجوم من تكوين كتل أكبر بكثير، تصل إلى عدة مئات - بل ربما بضعة آلاف - المرات قدر كتلة الشمس.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|