المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4870 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تربية الماشية في روسيا الفيدرالية
2024-11-06
تربية ماشية اللبن في البلاد الأفريقية
2024-11-06
تربية الماشية في جمهورية مصر العربية
2024-11-06
The structure of the tone-unit
2024-11-06
IIntonation The tone-unit
2024-11-06
Tones on other words
2024-11-06

Ernest Barnes
15-4-2017
إشكاليات اقتصاد المعرفة وتحدياته
11-6-2022
الانشطار المتسلسل
28-12-2021
التطور التاريخي للتوريق
31-10-2016
Frederico Commandino
12-1-2016
الاقرار بوجود الله تعالى
4-08-2015


مذهب شيخ الاشراق في كيفية علمه تعالى بالأشياء قبل وجودها  
  
2347   09:11 صباحاً   التاريخ: 5-08-2015
المؤلف : مهدي النراقي
الكتاب أو المصدر : جامع الأفكار وناقد الأنظار
الجزء والصفحة : ص191.ج2
القسم : العقائد الاسلامية / التوحيد / صفات الله تعالى / الصفات الثبوتية / العلم و الحكمة /

ذهب إلى هذا المذهب بالإضافة الى  شيخ الاشراق متابعوه ـ كشارح التلويحات ، والعلاّمة الشهرزوري ، بل أكثر من تأخّر عنه ، وهو : انّ علمه ـ تعالى ـ بجميع الأشياء بحضور نفس الأشياء له ـ تعالى ـ وانكشاف ذواتها عنده بدون حاجة إلى حضور صور زائدة على ذواتها ، فعلمه بها نفس وجوداتها العينية.

والفرق بين هذا المذهب والمذهب (المختار) للمحقّق الطوسي ـ انّه على هذا المذهب يكون العلم بجميع الأشياء حضوريا، وعلى مذهب المحقّق يكون العلم بالمعلولات القريبة حضوريا وبالمعلولات البعيدة حصوليا ...

وتوضيحه : انّ علمه ـ تعالى ـ بذاته هو كونه نورا لذاته وعلمه بالأشياء الصادرة عنه هو كونها ظاهرة له ، إمّا بذواتها ـ كالجواهر والاعراض الخارجية ـ أو بمتعلّقاتها الّتي هي مواضع الشعور للأشياء المدركة لها ، سواء كانت مستمرّة ـ كالمدبّرات العلوية من العقول والنفوس الفلكية ـ أو غير مستمرّة ـ كما في القوى الحيوانية النطقية والخيالية والحسّية ـ. فانّ حضور تلك الأشياء المدركة ـ أعني : العقول والنفوس والقوى ـ عند الواجب ـ تعالى ـ وظهورها لديه يقتضي انكشاف جميع الأشياء المتعلّقة بها المنكشفة لها للواجب ـ تعالى ـ أيضا ، فعلمه ـ تعالى ـ عند الشيخ الالهي محض اضافة اشراقية. فواجب الوجود حينئذ مستغن في علمه بالاشياء عن الصورة وله الاشراق التامّ والتسلّط المطلق ، فلا يحجبه شيء عن شيء.

هذا حاصل ما ذهب إليه هذا الشيخ ؛ فانّه قال بعد ابطال مذهب المشائين : « فاذن الحقّ في العلم قاعدة الاشراق ، وهو : انّ علمه بذاته هو كونه نورا لذاته وظاهرا لذاته ، وعلمه بالاشياء كونها ظاهرة له على سبيل الحضور الاشراقي ، إمّا بأنفسها أو بمتعلّقاتها الّتي هي مواضع الشعور المستمرّة للمدبّرات العلوية ، وذلك اضافة عدم الحجاب سلبي. والّذي يدلّ على انّ هذا القدر كافّ في علمه بها هو انّ الابصار لمّا كان بمجرّد اضافة ظهور الشيء للبصر مع عدم الحجاب فاضافته إلى كلّ ظاهر له ابصار وادراك له وتعدّد الاضافات العقلية لا يوجب تكثّرا في ذاته » ؛ انتهى.

قيل : بيان هذا المذهب ووضوحه يتوقّف على أن يبحث الانسان أوّلا عن علمه بذاته وعلمه بقواه وآلاته ، ثمّ يرتقى إلى علم ما هو أشدّ تجرّدا عن النفس الانسانية بذاته وبالاشياء الصادرة عن ذاته ، فيعلم منه انّ علم الأوّل ليس بالصور مطلقا ، بل بالمشاهدة الحضورية ، إذ قد تحقّق أنّ النفس غير غائبة عن ذاتها وادراكها لذاتها لا يزيد على ذاتها وإلاّ لم تشر إلى ذاتها « بأنا»، إذ كلّ صورة زائدة عليها وإن كانت قائمة بها فهي ليست عينها حتّى يشير إليها بأنا. وأيضا لو كان ادراكها لذاتها بصورة لم يكن هذا الادراك على الوجه الجزئي ، إذ كلّ صورة ذهنية وإن تخصّصت بكلّيات كثيرة لم يخرج عن الكلّية المطابقة للكثيرة. ثمّ ادراك النفس لبدنها ووهمها وخيالها إنّما يكون بنفس هذا الأشياء لا بصور زائدة عليها مرتسمة في النفس ، لانّ الصور المرتسمة فيها كلّية فيلزم أن تكون النفس محرّكة لبدن كلّي ومستعملة لقوى كلّية ولم يكن لها ادراك بدنها الخاصّ وقواها الخاصّة ، وهو ليس بصحيح ، فانّه ما من انسان إلاّ ويدرك بدنه الجزئي وقواه الجزئية. والنفس يستخدم المتفكّرة في تفصيل الصورة الجزئية وتركيبها حتّى ينتزع الطبائع الكلّية عن الشخصيات الجزئية ويستنبط النتائج من المقدّمات. ولا ريب في أنّ المدرك لجميع ذلك هو النفس ، إذ ليس للقوّة الجسمانية سبيل إلى مشاهدة ذاتها لعدم حضورها عند نفسها ، فانّ وجودها في نفسها هو وجودها لمحلّها لا لنفسها ـ كما مرّ ـ ، كيف والوهم ينكر نفسه وينكر القوى الباطنة وان لم ينكر آثارها ، فاذا لم يكن للوهم ـ الّذي هو رئيس جميع القوى الجسمية الحسّية ـ سبيل إلى ادراك نفسه وادراك سائر القوى الباطنة على سبيل المشاهدة فكذلك حال ساير القوى الجسمية بطريق أولى ، فالمدرك للقوى الخادمة والجزئيات المرتسمة فيها والكلّيات المنتزعة عن تلك الجزئيات إنّما هى النفس الناطقة بنفس تلك الأمور ، لا بصور اخرى. وذلك لاستقلالها وتجرّدها وحصول ربط مصحّح للعلم بينها وبين تلك الأمور لتسلّطها على البدن وقواه ، لكونها مؤثّرة فيه بالتحريك والتربية. وكلّما كانت أشدّ تجرّدا وأقوى سلطة على البدن وقواها كان إدراكها اتمّ وحضور قواها عندها أشدّ وظهور الصور الإدراكية لها أقوى ؛ ولو كانت ذات سلطة على غير بدنها كما على بدنها لأدركته أيضا بمجرّد الاضافة الاشراقية القهرية من دون احتياج إلى ارتسام صورة ذلك الغير فيها وانفعالها عنها ، فانّ القبول والانفعال نقص كما انّ القهر كمال. ونحن انّما احتجنا في ادراك بعض الأشياء ـ كالسماء والكواكب وغيرها ـ إلى الصورة لانّ ذواتها كانت غائبة عنّا فاستحضرنا صورها ، ولو كانت هي حاضرة لنا ـ كحضور الأبدان ـ لما احتجنا إلى صورة. وإذا تبين وتحقّق إنّ النفس غير غائبة عن ذاتها وليست قواها والصورة المتمثّلة في قواها محجوبة عنها ظهر انّ بدنها الخاصّ منكشف لديها لكونها نورا لذاتها ولارتباط تلك الأمور بها وتحقّق نوع علاقة بينها فواجب الوجود لمّا كان في أعلى مراتب النورية والتجرّد وله اضافة الجاعلية التامّة إلى ما سواه وله السلطنة العظمى والقهر الأتمّ والجلال الأرفع بالنسبة إلى جميع الأشياء وهذه الاضافة أقوى العلاقات والارتباطات المصحّحة للعلم ـ كما مرّ ـ ، فلا جرم يعلم ذاته ويعلم العقول والنفوس والاجرام وقواها وما يحلّها ويرتسم ، فهو بمجرّد اضافة المبدئيّة والاحاطة الشهودية. فكما انّ علمه بذاته لا يزيد على ذاته كذلك علمه بالاشياء لا يزيد على حضور ذواته. وجميع الأشياء حاضرة عنده على نحو واحد ، فالعقول القادسة والأجسام الهيولانية متساوية في الحضور عنده والانكشاف لديه بذواتها وأعيانها حضورا عقليا وانكشافا نوريا.

وقد استدلّ عليه الشيخ الالهي ـ كما تقدّم ـ في كلامه بأنّ الابصار انّما هو بمجرّد اضافة ظهور الشيء للبصر مع عدم الحجاب ، فانّ من لم تكن الروية عنده بانطباع اشباح المقادير في الجلديّة ولا بخروج الشعاع عنها يلزمه أن يعترف بأنّ الابصار مجرّد مقابلة المستنير للعضو الباصر ، فيقع به اشراق حضوري للنفس ؛ لا غير. وإذا كفى مجرّد الاشراق وعدم الحجاب في الابصار فيكفى ذلك في العلم أيضا ، فانّ اضافته لكلّ ظاهر ابصار وادراك وعلمه وبصره واحد ، إلاّ انّ علمه يرجع إلى بصره ، لا أنّ بصره يرجع إلى علمه كما في غير قاعدة الاشراق ، فانّه على قاعدة الاشراق يكون العلم عبارة عن الانكشاف وعدم الاحتجاب وهو حقيقة الابصار ، فيرجع العلم إليه ؛ وعلى غير هذه القاعدة يقال : البصر هو العلم بالمبصرات ، فيرجع البصر الى العلم.

ثمّ تعدّد الاضافات لا يوجب تكثّرا في ذاته وكذا تجدّدها لا يوجب تغيّرا في ذاته ، فـ {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 3].

وممّا يدلّ على صحّة هذا المذهب انّه قد سبق أنّ كلّ ما هو كمال مطلق للموجود بما هو موجود يجب تحقّقه للواجب ـ سبحانه ـ ، وإذا أمكن ثبوت العلم الاشراقي الوجودي لا بصور ذاته بل بمجرّد اضافة خاصّة كانت للنفس فيجب ثبوته لواجب الوجود بطريق أولى وأتمّ ، فيدرك ذاته لا بأمر زائد على ذاته ويعلم مصنوعاته بظهور ذواتها ، وهو العلم الشهودي الاشراقى.

ثمّ انّ هذه الطريقة في العلم قد ظهرت للشيخ الالهي من بيان المعلّم الأوّل له في بعض الخلسات ـ كما اشار إليه في التلويحات حيث قال : « انّي رأيت المعلّم الاول في بعض خلساتي ، فشكوت إليه من صعوبة مسئلة العلم ، فقال لي : ارجع الى نفسك ينجلى لك! ؛ فقلت : وكيف ذلك؟ ؛

قال : انّك تدرك نفسك فادراكك لنفسك انما هو بذاتك لا بغير ذاتك حتى تكون اذن قوّة اخرى او ذات اخرى بها تدرك ذاتك ـ إذ لو كان كذلك يلزم التسلسل ـ ؛ فاذن تدرك ذاتك باعتبار اثر في ذاتك ، وهذا الاثر ان لم يطابق ذاتك فلا يكون صورتها وحينئذ ما ادركتها ؛ قلت : ولعلّ (1) الأثر صورة ذاتي! ؛ فقال : هذه الصورة هل هي مطلقة أو مخصّصة بصفات أخرى؟ ؛ فاخترت الثاني ؛

فقال : كلّ صورة في النفس هي كلّية وإن تركّبت من كلّيات كثيرة ، فهي لا يمنع الشركة لنفسها، وأنت تدرك ذاتك وهي مانعة للشركة بذاتها فليس هذا الادراك بالصور ؛

قلت : لعلّ المدرك في مفهوم « أنا » ؛ فقال : مفهوم « أنا » من حيث هو مفهوم « أنا » لا يمنع وقوع الشركة فيه ، وقد علمت انّ الجزئي من حيث هو جزئي يمنع وقوع الشركة فيه ، فهو لا يكون كلّيا مع أنّ « هذا » و « انا » و « نحن » و « هو » لها معان كلّية من حيث مفهوماتها المجرّدة من دون اشارة جزئية ؛ فقلت : فكيف اذن؟ ؛

فقال : فلمّا لم يكن علمك بذاتك غير ذاتك ـ بل كان عين ذاتك ـ فأنت تعلم أنت المدرك لذاتك لا غير ولا تأثير غير مطابق ، فذاتك هي العقل والعاقل والمعقول.

فقلت : زدنى! ؛ فقال : ألست تدرك بذلك الّذي تتصرّف فيه إدراكا مستمرّا لا تغيب عنه؟ ؛

فقلت : بلى! ؛ فقال : هذا الادراك لا يجوز أن يكون بحصول صورة شخصية في ذاتك ـ لما تقدّم من استحالته ـ ؛

فقلت : لعلّ يكون هذا الادراك بأحد صفات كلّية ؛ فقال : ذاتك غير بدنك الخاصّ وأنت بذاتك تعرف بدنا خاصّا جزئيا وما أحدث من الشعور والصفات لا يمنع لنفسها وقوع الشركة فيها ، فليس ادراكك لها إدراكا لبدنك الّذي لا يتصوّر أن يكون مفهومه ثابتا لغيره. ثمّ قال أما قرأت من كتبنا انّ النفس يتفكّر باستخدام المتفكّرة وهي تفصّل وتركّب الجزئيات وترتّب الحدود الوسطى ، والمتخيلة لا سبيل لها إلى ادراك الكلّيات لأنّها جزئية ، فان لم يكن للنفس اطّلاع على الجزئيات فكيف تركّب مقدّماتها؟! ، وكيف ينتزع الجزئيات من الكليّات؟! ، وفي أيّ شيء يستعمل المفكّرة؟! ، وكيف يأخذ الخيال؟! ، وما ذا يفيد تفصيل المتخيلة؟! ، وكيف يستعدّ بالفكر للعلم بالنتيجة؟!.

ثمّ المتخيلة جزئية فكيف يدرك نفسها والصورة المأخوذة عنها في النفس كلّية وأنت عالم بتخيلك ووهمك الشخصين الموجودين ودريت انّ الوهم ينكرهما.

قلت : فارشدني ـ جزاك الله عن زمرة العلم خيرا! ـ ؛ قال : وإذا رأيت أنّها تدرك لا باثر مطابق ولا بصورة فاعلم! : أنّ التعقّل حضور الشيء للذات المجرّدة عن المادّة ـ وإن شئت قلت عدم غيبته عنها ـ ، وهذا أتمّ ، لانّه يعلم ادراك الشيء لذاته وغير الشيء لا ينحصر لنفسه ، ولكن لا يغيب عنها. وأمّا النفس فهي مجرّدة غير غائبة عن ذاتها ، فبقدر تجرّدها ادركت ذاتها ، وما غاب عنها ، إذ لم يكن لها استحضار عينه ـ كالسماء والارض ونحوهما ـ فاستحضرت صورته. وامّا الجزئيات ففي قوى حاضرة لها فاستحضرت ، وامّا الكلّيات ففي ذاتها ، إذ المدركات الكلّية لا ينطبع في الأوهام ، والمدرك هو نفس الصورة لا ما خرج عن التصوّر ، وإن قيل للخارج انّه مدرك فذلك بقصد ثان ، وذاتها غير غائبة عن ذاتها ولا بدنها جملة ما ولا قوى لبدنها جملة ما وكان الخيال غير غائب عنها. وكذلك الصور الخيالية فتدركها النفس بحضورها لا لتمثّلها في ذات النفس ، ولو كان تجرّدها أكثر لكان الادراك بذاتها أكثر وأشدّ ، ولو كان تسلّطها على البدن أشدّ كان حضور قواها وأجزائها أشدّ.

ثمّ قال : اعلم! ؛ انّ العلم كمال للموجود من حيث هو موجود ولا يوجب تكثرا ولا يمتنع. وما يمكن للواجب بالامكان العامّ يجب أن يكون له بالفعل ، إذ لا يمكن له ـ تعالى ـ شيء بالامكان الخاصّ ، إذ ذلك يوجب أن يتحقّق فيه جهة امكانية ، فيلزم التكثّر فيه.

ثمّ قال : فواجب الوجود ذاته مجرّدة عن المادّة وهو الوجود البحت ، والأشياء حاضرة له على اضافة مبدئيته وسلطنته ، لأنّ الكلّ لازم ذاته ، فلا يغيب عنه ذاته ولا لازم ذاته. وعدم غيبته عن ذاته ولوازمه مع التجرّد عن المادّة هو ادراكه ـ كما قرّرناه في النفس ـ. ويرجع الحاصل في العلم كلّه إلى عدم غيبته عن المجرّد عن المادّة ـ صورة كانت أو غيرها ـ ، فالاضافة جائزة في حقّه ـ تعالى ـ ، وكذا السلوب ، ولا تخلّ بوحدانيته. وتكثّر أسمائه بهذا السلوب والاضافات ، ولو كانت لنا على غير بدننا سلطنة ـ كما على بدننا ـ لأدركناه كادراك البدن من غير حاجة إلى صورة ، فتعيّن بهذا انّه على كلّ شيء محيط. وادراك اعداد الوجود نفس الحضور له من غير صورة ومثال.

ثمّ قال لي : كفاك في العلم هذا » (2) ؛ انتهى ما افاده المعلم الأوّل بأدنى تغيير.

وانّما تعرّضنا لنقل هذا الكلام بطوله مع سبق ذكر ما هو حاصله أيضا تيمّنا بذكر عباراته وزيادة للتوضيح وبعض الفوائد.

وإذا عرفت ذلك فاعلم! ، انّ الحقّ في كيفية علم الواجب ـ سبحانه ـ انّه ـ تعالى ـ عالم بذاته ـ تعالى ـ وبجميع الأشياء بالعلم الحضوري الاشراقي التفصيلي قبل ايجاد الاشياء وبعده على نهج واحد ، وحقيقة علمه ـ تعالى ـ هو الاضافة الاشراقية الّتي لا توجب تكثّرا ولا تركّبا ، فلا فرق بين انكشاف شيء واحد وأشياء متكثّرة في عدم لزوم الكثرة في ذاته. ومصحّح هذا الانكشاف وموجبه أمّا بالنسبة إلى ذاته الحقّة فتجرّده التامّ مع عينية المعلوم للعالم ـ كما في علم النفس بذاتها ـ ؛ وأمّا بالنسبة إلى الأشياء المعلومة له ـ تعالى ـ فتجرّده أيضا مع تحقّق علاقة قوية هي علاقة المبدئية بينه ـ تعالى ـ وبينها ـ كما في علم النفس بقواها الجزئية المرتبطة بها نحو ارتباط ـ.

وهذا المذهب هو الّذي ثبت عندنا حقّيته واخترناه ، فإضافة المبدئية والفعالية الثابتة له ـ تعالى ـ بالنسبة إلى الجميع مصحّحة لجميع الاضافات ـ كالعالمية وغيرها ـ ، وتلك الاضافات متغايرة تغايرا اوجب اختلاف الآثار ، إلاّ أنّها لا توجب تركّبا وتكثّرا في ذاته ، كما انّ واحدة منها مع كثرة متعلّقاتها ـ كانكشاف الأشياء الكثير ـ لا توجب تكثّرا في ذاته ـ تعالى ـ. والسرّ انّ مبدأ جميع تلك الاضافات ذات واحدة بسيطة مجرّدة هي صرف الوجود ، وهي من لوازم التجرّد ، فكلّما كانت أشدّ كان التجرّد والبساطة أقوى ، فلا يوجب زيادة أمر في الذات حتّى يلزم التكثّر. فمقتضى الكلّ ليس إلاّ واحد صرف وإن كان حقيقة الانكشاف غير حقيقة الايجاد ، كما انّ وجود الأشياء عنه ـ تعالى ـ غير حضورها بمعنى الانكشاف وإن كان الجميع راجعا إلى واحد. ثمّ أنت تعلم بما ذكرناه انّ (3) كلام الشيخ الالهي لا ينافي حمله على ما ذكرناه ، ولكن قد نسب إليه في كتب القوم القول بأنّ مناط علمه ـ تعالى ـ بالأشياء ليس مجرّد ذاته الحقّة ، بل نفس وجوداتها أيضا حتّى لو لم يكن شيء لم يكن حاضرا عنده ـ تعالى ـ لعدم تعقّل حضور الشيء عند آخر مع كونه معدوما. وعلى هذا يكون علمه بالاشياء مقارنا لوجودها ، فلا يكون له ـ تعالى ـ علم كمالي لشيء ثابت له ـ تعالى ـ في حدّ ذاته ، بل يكون ذوات المعقولات صورا علمية له ـ تعالى ـ في حدّ ذاته ، بل تكون ذوات المعقولات صورا علمية له ـ تعالى ـ وعالميته ـ تعالى ـ اضافة شهودية. ولا ريب في أنّ وجود الممكنات واضافة الأوّل ـ تعالى ـ إليها انّما يكون بعد مرتبة ذاته ـ تعالى ـ ، فلا يكون الواجب ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته عالما بشيء غير ذاته ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. ـ فان كان الثابت عنده ما ذكرناه من التفصيل المختار عندنا فنعم الوفاق! ؛ وإن كان الثابت عنده ما نسب إليه في المشهور ـ من تحقّق المقارنة بين علمه وبين وجودات الأشياء وعدم تحقق علمه بها في مرتبة ذاته ـ ، فنحن نخالفه في هذا الجزء ، والحقّ عندنا سبق علمه ـ تعالى ـ على وجودات الأشياء وتحقّقه في مرتبة ذاته ؛ وسنشير إن شاء الله الى ما يحقّق الحضور الانكشافي والظهور الاشراقى للأشياء مع عدم كونها موجودة.

والحقّ انّ مذهبه هو ما نسب إليه المشهور لدلالة بعض كلماته عليه ـ كما سنشير الى بعضها ـ.

ثمّ إنّ الشيخ الالهي ذهب إلى أنّ علم غيره ـ سبحانه ـ من المجرّدات أيضا حضوري اشراقي ، وقال : انّ الجواهر العقلية تعرف كلّ واحد منها ذاتها بذاتها وتدرك جميع الموجودات الباقية الّتي دونها بالإضافة الاشراقية من غير احتياج إلى أن يكون فيها صورة وأثر. فارتسام الصور مطلقا ـ جزئية كانت أو كلية ـ في العقول الفعّالة والقوى العالية عنده باطل ؛ وهذا أيضا من البواعث له على جعل علم الواجب بالأمور المادّية أيضا بالاشراق الحضوري ، لعدم جواز ارتسام صورة في مجرّد حتّى يلاحظها منه ـ كما ذهب إليه العلاّمة الطوسي من جعل الصور المرتسمة في الجواهر العقلية مناطا لعلم الله تعالى بالأشخاص المادّية والحوادث الكونية ـ. ولا ريب في انّ ارتسام صور المادّيات في الجواهر العقلية لا ينافي القول بالعلم الحضوري الانكشافي بالنسبة إلى الجميع ، فانّه يجوز أن تكون صور المادّيات مرتسمة في الجواهر العقلية ومع ذلك تكون ذوات الصور منكشفة عنده بالعلم الحضوري ؛ كما انّ صورها أيضا كذلك.

ثمّ شيخ الاشراقي استدلّ على عدم جواز ارتسام الصور في الجواهر العقلية بأنّ انتقاش المجرّدات بصور ما تحتها إمّا يحصل ممّا تحتها ، فيلزم انفعال العالي من السافل ، وهو غير جائز ؛ أو عمّا فوقها بأن تكون الصور العارضة في بعضها حاصلة عن صور عارضه في بعض آخر ، فينتهى إلى أن تكون الصور المتكثّرة حاصلة في ذات الحقّ ـ تعالى ـ ، بل إلى أن يتكثّر في ذاته ـ تعالى عنه علوّا كبيرا ؛ ـ انتهى حاصل ما ذكره.

وأنت خبير بأنّ افاضة الصور من بعض المجرّدات إلى بعض اخر لا يستلزم تحقّقها في المفيض ، فيجوز أن تحصل الصور المرتسمة في بعض المجرّدات عمّا فوقه من دون لزوم حصول الصور في ذاته ـ سبحانه ـ.

وبالجملة فالحقّ في كيفية العلم هو ما ذكرناه ، سواء كان مطابقا لمذهب الشيخ الالهي او خالفه في جزء واحد.

ثمّ انّه أورد على المذهب المختار اشكالات كلّها مندفعة ؛ فلا بدّ لنا من ذكرها والاشارة إلى دفعها حتّى لا تبقى لأحد شبهة :

منها : ما أورده شيخ الاشراق على نفسه ثمّ أجاب عنه ، وهو : إنّا إذا علمنا شيئا إن لم يحصل فينا منه أثر فحالنا قبل ذلك العلم وبعده واحد ، وحينئذ لا معنى لادراكنا له ؛ وإن حصل فينا شيء فلا بدّ من مطابقته لذلك المدرك ، فيكون صورة ؛ وحاصل جوابه : انّ ذلك انّما هو في العلم الارتسامي ، وأمّا العلم الحضوري الشهودي فاذا حصل فينا فلا بدّ من حصول شيء للمدرك ممّا لم يكن حاصلا له قبل ذلك ـ وهو الاضافة الاشراقية فقط ـ من غير افتقار إلى المطابقة الواجبة حصولها في العلوم الصورية. وتقسيم العلوم في اوائل المنطق إلى التصوّر والتصديق إنّما هو في غير علوم المجرّدات بذواتها وغير العلم بالأشياء الّتي يكتفي في العلم بها مجرّد الاشراق الحضوري ، فانّها ليست من المدركات التصورية والتصديقية.

ومنها : ما أورده الشيخ الإلهي أيضا وأجاب عنه ، وهو : انّ النظام العجيب الواقع مقتض للعلم السابق ، إذ لو لم يكن مسبوقا بالعلم لم يمكن صدوره عن الباري الحقّ ، وقد امتنع أن يكون على مجرّد البخت والاتفاق.

وحاصل جوابه : انّ وقوع النظام الأصلح الأتمّ عنه ـ تعالى ـ بسبب جودة ترتيبه الأسبق الواقع بين المجرّدات العقلية والنسب اللازمة عنها ، فانّ للعقول كثرة وافرة غير محصورة ، بل هى على وفق تكثّر الأنواع الجسمانية ، فانّ هذه الأصنام مع هيئاتها اللازمة ونسبها الوصفية ظلال لتلك الأرباب النورية ونسبها المعنوية.

وأنت خبير بأنّ حاصل هذا الايراد انّ النظام الأتمّ إنّما يجب أن يكون مسبوقا بالعلم ويكون صدوره عنه ـ تعالى ـ لأجل علمه به ، والعلم السابق لا يمكن أن يكون حضوريا ـ لعدم تعقّل حضور الشيء وانكشافه مع كونه معدوما ـ ، فيلزم أن يكون حضوريا. وحاصل الجواب المذكور : انّ وقوع النظام العجيب لا يلزم أن يكون مسبوقا بالعلم ولا يجب أن يكون صدوره معلّلا له ، بل صدوره عنه ـ تعالى ـ إنّما هو لأجل حسنه وترتيبه الأنيق في الواقع.

وغير خفيّ بأنّ في هذا الجواب الزام كون مناط علمه بالاشياء الممكنة هو نفس حضور تلك الأشياء المناسبة وجودها عن وجوده ومقارنة علمه ـ تعالى ـ بالاشياء لوجوداتها وعدم تقدّمه عليها وكون علمه ـ تعالى ـ بها في حال ايجادها ، لا ترتيب ايجادها على علمه بها ، فهذا من الشواهد على ذهابه إلى أنّ مناط علم الله ـ سبحانه ـ بالأشياء هو نفس وجوداتها وظهوراتها وعدم ثبوت علم كمالي له في مرتبة ذاته. فهذا من كلماته الدالّة على أنّ مذهبه هو ما نسب إليه في المشهور ـ كما وعدناك مجيئه ـ. فهذا الجواب على ما اخترناه غير صحيح.

وما صرّح به من كثرة العقول وكونها غير محصورة عددا ممّا استقرّ عليه رأيه وتفرّد به ؛ والمشهور خلافه.

ثمّ على ما اخترناه فالحقّ في الجواب عن الايراد المذكور أن يقال : نحن نسلّم انّ هذا النظام العجيب صادر عن العلم السابق ، إلاّ أنّ العلم السابق لا يلزم أن يكون صوريا ، بل يجوز أن يكون حضوريا انكشافيا ، فكما أنّ القائلين بالعلم الحصولي يقولون : انّ تمثّل نظام الخير وارتسام صورته في ذاته ـ سبحانه ـ من لوازم ذاته ثمّ يصير هذا التمثل سببا لصدور النظام ، فنحن نقول : إنّ اصل النظام من لوازم ذاته ومن معلولاته اللازم فيضانه وترشحه عنه ، وهذه المعلولية واللازمية سبب لانكشافه عنده وظهوره لديه وإن لم يوجد بعده ، كما أنّ كون ذاته بذاته سبب لانكشاف ذاته عند ذاته ، فانّ مجرّد المعلولية كافّ للانكشاف مع قطع النظر عن الوجود العيني ، فانّ وجود الشيء في الخارج وحضوره عند المجرّد كما يكون مصحّحا للانكشاف فكذا وجود علّته وحضورها عنده يكون مصحّحا له أيضا ، بل هذا أقوى منه في باب الانكشاف. وسيجيء ـ إن شاء الله ـ لذلك زيادة بيان.

ومنها : انّه يلزم على القول بالعلم الحضوري أن لا يكون علمه ـ تعالى ـ بالأشياء فعليا ، ولا يكون صدورها عنه بالاختيار.

وأجاب عنه بعض أعاظم العرفاء : بأنّ للعلم الفعلي عندهم صورتين :

إحديها : أن يكون سببا للمعلوم بالعرض ومقدّما عليه بالتقدّم الذاتي ، كما إذا اراد البنّاء أن يبنى بيتا فتصوّر أوّلا صورته وأحدثها في ذهنه ، ثمّ اوجد البيت المطابق للصورة المحدثة في ذهنه في الخارج ؛

وثانيهما : أن يكون العالم بما هو عالم علّة بالذات للمعلوم من حيث هو معلوم ـ سواء كان أمرا ذهنيا أو عينيا ـ ، والفاعل بما هو فاعل عالما بالذات بما هو مفعول من حيث هو مفعول كذلك. فكما انّ العالم في الصورة الأولى يعلم الصورة الذهنية بنفس اختراعها وليست معلومة بصورة أخرى ـ بل نفس حصولها عنده في ذهنه نفس معلوميتها له ـ ، فكذلك العالم في الصورة الثانية يعلم العين الخارجي بايجاده وعلمه بالصورة العينية الخارجية نفس ايجاده لها. ففي الصورة الاولى العلم بالصورة حصولي فعلي والمعلوم ـ أعني : الصورة ـ معلوم بالذات والعلم بالعين الخارجى أيضا فعلي ولكن المعلوم ـ أعني : هذا العين ـ معلوم بالعرض ؛ وفي الصورة الثانية العلم بالعين الخارجى حضوري فعلي والمعلوم ـ أي : هذا العين ـ معلوم بالذات أيضا ، ففي الصورة الاولى الفاعل يصدر عنه فعله عن ذاته مع علم مكتسب زائد على ذاته ، وفي الصورة الثانية يصدر الفعل عن نفس ذاته العالمة بما هو ذات عالمة. وعلى هذا فالأوّل ـ تعالى ـ أوجد المعلول الأوّل وفي حال ايجاده علمه ، لا انّه ـ تعالى ـ علمه فأوجده حتّى يلزم تكرّر التعقّلات الموجب للتسلسل في الارتسامات ـ إن كان العلم السابق ارتساميا ـ ؛ أو في الموجودات الخارجية ـ إن كان حضوريا ـ لاقتضاء العلم الحضوري وجود المعلوم في الخارج ، ولا انّه ـ تعالى ـ أوجده فعلمه حتّى يلزم أن يكون علمه انفعاليا مستفادا من المعلوم ، بل أوجده عاقلا له ، أي نفس وجوده نفس معقوليته ، فإيجاد المبدأ الاعلى له عين العلم به. وكذلك حال الثواني من المعلولات. فعلمه ـ تعالى ـ بالأشياء حضوري فعلي ولا يلزم أن يكون موجبا لأنّ اقتضاء الشيء للشيء إن كان مع شعور للشيء الأوّل بالشيء الثاني فهو إرادة وان كان بلا شعور فهو ميل طبيعي. ولا فرق بين الإرادة والميل الطبيعي الّذي هو الايجاب إلاّ بأنّ الأوّل يقارن الشعور والثاني لا يقارنه.

والحاصل : انّ مقارنة الشعور للفعل الناشئ من ذات الفاعل كافّ في كونه اراديا وبمجرّده يتحقّق الاختيار ولا يلزم السبق الذاتي للشعور على الفعل ، كما لا يلزم السبق الزمانى له عليه ـ كما يدعيه المتكلّمون ـ ؛ انتهى.

أقول : وقد تقدّم انّ للعلم الفعلي تفسيرين :

احدهما : انّه ما كان سببا لوجود المعلوم في الخارج ، وهذا هو الصورة الاولى. ولا يكون العلم المقارن للايجاد على هذا التفسير علما فعليا ؛

وثانيهما : ما يكون نفس الايجاد بأن يكون جهة وجود المعلوم وصدوره عن فاعله بعينها هي جهة حضوره لمدركه ، وهذا هو الصورة الثانية. وعلى هذا التفسير يكون العلم المقارن للايجاد ـ أي : الّذي يكون فيه نفس وجود المعلوم نفس معلوميته ـ علما فعليا. وعلى هذا فلا يرد اشكال من جهة عدم كون علمه فعليا ولزوم كونه انفعاليا ، نظرا إلى هذا الاصطلاح. إلاّ أنّ القول بمقارنة علمه ـ تعالى ـ للايجاد وكون نفس وجود المعلوم نفس معقوليته باطل لما أشير إليه من لزوم عدم كونه ـ تعالى ـ عالما في مرتبته ولزوم جهله ـ سبحانه ـ بكلّ ممكن قبل ايجاده ، وهو كفر وزندقة.

وأيضا : نحن نعلم بديهة إنّ المعقولية الّتي هو الانكشاف مغاير للوجود الخارجي ـ كما أشير إليه سابقا ـ.

وعلى ما اخترناه من استلزام فعله ـ تعالى ـ بذاته لعلمه بالاشياء قبل وجودها الخارجي علما حضوريا تفصيليا ـ نظرا إلى أنّ ذاته بمنزلة المحل للأشياء لكون جميعها لوازم ذاته ومعلولاته الفائضة المترشّحة عنه فيضانا ذاتيا ، وجواز كون المعلولية والانطواء في العلّة مصحّحا للانكشاف وإن لم يتحقّق الوجود العيني بعد ـ نقول في الجواب عن ايراد لزوم عدم كون علمه ـ تعالى ـ فعليا : لا ريب في أنّ هذا الانكشاف لوجوب تقدّمه على وجود الأشياء في الخارج وامتناع صدورها عن فاعله الحقّ بدون سبق الانكشاف يكون هذا الانكشاف سببا لوجودها ، فيكون هذا الانكشاف علما فعليا بالتفسير الأوّل ، ولكون جهة هذا الانكشاف الاشراقي هو بعينه جهة وجود المنكشف ـ أعني : لزوم الأشياء المعلولة لجاعلها وانطوائها في ذاته ، لأنّ كونها لازمة له مترشّحة عنه ـ هو بعينه كونها منكشفة عنده ظاهرة لديه ، فيكون علما فعليا على التفسير الثاني. وهذا أيضا بناء على ما قالوا من أنّ الصور المعقولة جهة معقوليتها هي بعينها جهة صدورها عن فاعلها ووجودها له ، وعلى ما سبق منّا من أنّ وجود الصور المعقولة مغاير لمعقوليتها ـ لأنّ انكشافها لمحلّها غير وجودها فيه ، لكون هذا الوجود وجودا خارجيا نظرا إلى كون المحلّ موجودا في الخارج والوجود الخارجي للشيء غير انكشافه عند آخر ـ يكون انكشاف الأشياء للواجب قبل وجودها مغايرا للزومها ومعلوليتها له ، وإن ثبت الاستلزام بينهما، كما هو ثابت بين وجود الصور المعقولة للشيء ومعقوليتها له. والظاهر انّ قولهم باتّحاد الجهتين أعمّ من الاستلزام ، وحينئذ فلا اشكال.

وبالجملة : على ما اخترناه يكون علمه فعليا على التفسيرين.

ثمّ القول بالعلم الحصولي وإن كانت نفس الصور المعقولة علما فعليا بالنسبة إلى الأعيان الخارجية ولكن تلك الصور أمور زائدة على ذاته معلولة له ـ تعالى ـ ، فصدورها عنه ـ تعالى ـ يتوقّف على العلم. فان قيل انّ معقوليتها نفس صدورها وايجادها حتّى كان علما فعليا بالتفسير الثّاني لزم ما ذكره من عدم علمه ـ تعالى ـ بتلك الصور في مرتبة ذاته ـ تعالى ـ ؛ وإن لم يكن معقوليتها نفس ايجادها بل كانت معقولة بصور معقولة أخرى لزم التسلسل في الصور المعقولة؛ وأمّا على ما اخترناه فيكون العلم السابق على الأشياء علما حضوريا فعليا ولكونه مجرّد اضافة اشراقية يكون عين ذاته ـ تعالى ـ ، ولا يكون شيئا زائدا على ذاته معلولا له ـ تعالى ـ حتّى يتوقّف على العلم السابق.

ثمّ مع كون العلم سابقا لا مجال لتوهّم نفي الاختيار ، لأنّه إذا كان الفعل مسبوقا بالعلم فلا ينافي ثبوت الاختيار بأيّ معنى كان ؛ وأمّا مع مقارنته له وعدم تقدّمه عليه مطلقا فلا يعقل تحقّق الاختيار. وما ذكره بعض العرفاء من أنّه لا يلزم في الاختيار السبق (4) الذاتي ولا الزماني للشعور والعلم على الفعل فلا يخفى ضعفه.

ومنها : انّه لو كان علم الواجب بجميع الأشياء حضوريا لكانت المادّيات من الاشخاص الجسمانية والصور الجرمانية حاضرة بالحضور الانكشافي عنده ـ سبحانه ـ ، وهذا ليس بجائز؛ لوجهين :

أحدهما : انّ المادّي مع مادّيته واختلاطه بالغواشي المادّية وتخصيصه بموضع معين وحدّ خاصّ واختصاصه بزمان وجوه كيف يكون حاضرا عند المجرّد المتقدّس عن العوارض المذكورة؟! ؛ وقد صرّح الشيخ الرئيس في الشفا بعدم جواز ذلك.

وثانيهما : انّ مدار المعقولية والعاقلية عندهم على التجريد عن المادّة ـ ولذا قالوا : العلم حضور مجرّد عند مجرّد قائم بالذات ـ ، وحينئذ كيف يجوز أن يصير الاشخاص الجسمانية معقولة بأنفسها لا بالصور المنتزعة عن موادّها؟!.

والجواب : انّه كما يجوز أن يكون المادّي معلولا للمجرّد فكذا يجوز أن يكون حاضرا عنده منكشفا لديه بالإضافة الاشراقية نظرا إلى تحقّق ربط خاصّ وعلاقة وجودية بينهما ، فانّ ذلك لا يستلزم اجتماعهما في مكان أو وضع ؛ وإنّما يتحقّق ذلك إذا كان كلّ من المدرك والمدرك أو المؤثّر والمتأثّر مادّيا مكانيا. على أنّ مادّية المادّي وكونه مكانيا وزمانيا ذات وضع انّما هو بالنظر إلى مادّي آخر لا بالنظر إلى المجرّد ؛ وإلى هذا أشار بعضهم حيث قال : إنّ الشيء المادّي والزماني بالنسبة إلى المادي غير مادّي ولا زماني ؛ يعنى به : انّ أثر المادّة وأثر الزمان ـ من المكان والوضع والعينية والخفاء ـ يرتفع منه بالنسبة إلى المجرّد.

ثمّ كون مدار العاقلية والمعقولية على تجريد الصورة انّما هو بالنسبة إلى الأشياء الّتي لم يتحقّق للعاقل بالنسبة إليها علاقة وجودية وتسلّط قهري وعدم الحجاب ، فاذا تحقّق ذلك يكفي للعاقلية مجرّد الاضافة الشهودية الاشراقية. وإلى ما ذكرناه مجملا أشار إليه بعض المحقّقين مفصّلا حيث قال : فان قلت : ما تقول في المعلولات البعيدة من الأمور المادّية والجزئيات الكائنة الفاسدة؟ ، وكيف يمكن حضوره عنده ـ تعالى ـ مع كونها مادّية ومختصّة بأزمنة وجوداتها وكونه ـ تعالى ـ مجرّدا ازليا أبديا؟ ؛

قلت : أمّا المادّية فقد عرفت انّ التجرّد عن المادّة ليس شرطا لمطلق التعقّل ، بل انّما هو شرط للتعقّل الارتسامي والحضوري ، ولا امتناع في حضور المادّي عند المجرّد كما أن لا امتناع في كونه معلولا له والعلّة واجبة الحصول مع المعلول. إلاّ انّه ليس المراد هو الحصول المكاني الوضعي ، بل المراد الحصول له بنفس الذات ـ كحصول المعلول عند العلّة ـ. وأمّا في الأمور الكائنة الفاسدة والزمانية ، فنقول : نسبة كافّة الزمانيات إليه ـ تعالى ـ نسبة واحدة كنسبة قاطبة الامكانيات ، وليس له ـ تعالى ـ بالنسبة إلى شيء من الزمانيات قبلية ذاتية ولا بعدية ولا مقارنة لعدم اختصاصه ـ تعالى ـ بشيء من الأزمنة ، بل وجوده محيط بكلّية الزمان ، كما ليس له بالنسبة إلى شيء من المكانيات فوقية ولا تحتية ولا مفارقة مكانية لعدم اختصاص وجوده ـ تعالى ـ بشيء من الأمكنة ، بل هو محيط بكلّية المكان. فالامتداد الزماني بطوله بالنسبة إليه ـ تعالى ـ كان واحدا كما أنّ الامتداد المكاني بفسحته بالنسبة إليه كنقطة واحدة. ولا يتوهّم انّ فيما ذكرناه التزام عدم كلّ حادث ، فانّا لا نقول : انّ كلّ حادث فهو في الازل موجود حاضر عنده ـ تعالى ـ ، بل نقول : إنّ الحادث في وقت وجوده حاضر لديه منكشف عنده مع كونه ـ تعالى ـ في الازل. وهذا الّذي ذكرت وإن كان منقولا من الحكماء إلاّ انّهم قالوا : كذلك في الشهود العلمي الّذي هو بحسب الارتسام في ذاته ، أو في شيء آخر ـ على اختلاف المذهبين ـ لا بحسب الوجود العينى ، وأنا أقول : انّه كذلك بحسب الوجود العيني. ولو تفطّنوا لذلك لاستراحوا من تجشّم التكلّفات في تصحيح علمه ـ تعالى ـ بالاشياء. والدليل على أنّهم لم يتفطّنوا لذلك انّ المحقّق الطوسي مع كونه معلّقا على هذا الكلام من الحكماء وتشديد المبالغة في تقريره (5) وتصحيحه في شرح رسالة العلم ، جعل ادراكه ـ تعالى ـ لمعلولاته البعيدة من المادّيات والمعدومات الّتي من شأنها أن يوجد في وقت بارتسام صورها في معلولاته القريبة ؛ وهذا أوّل دليل على أنّ المقرّر لهذا المطلب انّما قرّره باعتبار الشهود العلمي الارتسامى ، لا بحسب الوجود العيني. وممّا يدلّ على عدم تفطّنهم أيضا لما ذكر قول الشيخ في الشفا حيث قال ما حاصله : ولا تظنّ أنّ الاضافة العقلية إلى الاشياء حين وجودها ، بل يلزم هذا الاضافة إليها وهي بحال معقولة ، ولو كانت من حيث وجودها في الاعيان لكان انّما يعقل ما يوجد في كلّ وقت ولا يعقل المعدوم منها في الاعيان إلى أن يوجد.

ومنها : انّه لو كان جميع الأشياء حاضرا عند الواجب لزم تناهى عدد الموجودات ، واللازم باطل من جانب الأزل عند الحكيم ـ لا من جانب الأبد عند الكلّ ، لخلود الجنّة والنار وأهلهما عند قاطبة المليين ـ. بيان الملازمة : انّ الاوضاع الفلكية وحركاتها بجميعها وأجزاء الزمان بأسرها مترتبة متحقّقة في الوجود بالنظر الى الواجب وان لم تكن مجتمعة إذا قيس بعضها إلى بعض ، فانّ الامتدادات والأوضاع الآتية من جانب الأبد وإن كان ما يحصل منها في الوجود متناهيا إلاّ انّها لمّا كانت بحيث لا تقف إلى حدّ ومن شأنها الذهاب إلى غير النهاية فالواجب ـ تعالى ـ محيط بجميع ما حصل في الوجود وما من شأنه أن يحصل في الوجود إلى غير النهاية ـ لاستواء نسبة الماضى والمستقبل إليه سبحانه ـ ، فتكون الجميع حاضرة عنده ـ سبحانه ـ ؛ فيجري فيها براهين ابطال التسلسل لترتّبها واجتماعها في الوجود حينئذ ، فيلزم التناهي.

والجواب : انّ ترتّب الحوادث إنّما هو في ظرف الزمان ، لانّ حصول الترتّب إنّما هو لأجل العدد وهو انّما يكون في الزمان ، فما هو متعال عن الزمان والزمانيات ـ كالواجب تعالى ـ لا يتصوّر عدد ولا ترتيب بالنسبة إليه. فالحوادث الغير المتناهية في الطرف الّذي مترتّب فيه ـ أعني : الزمان ـ غير مجتمعة فيه ، وفي الطرف الّذي مجتمعة فيه ـ أعني : في علم الواجب تعالى ـ غير مترتبة فيه ، فلا يلزم التناهي. والحاصل : انّ احاطة الواجب بغير المتناهي لا ضير فيه ولا يجري فيه ادلّة ابطال غير المتناهي.

ومنها : الاشكال المشهور الّذي استصعبوه ، وهو عمدة الاشكالات الموردة على العلم الحضوري. وهو : انّ حضور الأشياء عند الواجب قبل وجودها لا معنى له ـ لأنّه لا يتصوّر حضور المعدومات واحداثها حين عدمها في الخارج ، لأنّه لا حقائق لها ثابتة حتّى يمكن انكشافها وحضورها عنده تعالى قبل أزمنة وجودها ـ ، مع انّه على القول بالعلم الحضوري يجب أن يكون الواجب ـ تعالى ـ عالما بها في الأزل. والاشكال يصير أصعب في علمه الحضوري بالممتنعات ، لانّه لا يمكن القول بحضورها عنده ـ تعالى ـ مع امتناع وجودها في الخارج.

وقد أجيب عن هذا الاشكال بوجوه :

أوّلها : ما ظهر من كلام شيخ الاشراق ، وهو : انّ مناط علمه ـ تعالى ـ بالأشياء نفس حضور تلك الأشياء المباينة وجودها عن وجوده ، بمعنى انّ معقوليتها نفس وجودها ، فما لم يتحقّق وجوداتها العينية لم يتعلّق بها العلم ولم يكن منكشفة عند الأوّل ـ تعالى ـ. وإلى هذا يشير كلام بعض الأفاضل حيث قال : إنّ علمه ـ تعالى ـ عين ذاته بمعنى انّه بذاته مبدأ للانكشاف التامّ بالنسبة إلى ما يصحّ أن يكون معلوما ، والمصحّح للمعلومية هو الشيئية في ظرف ما ، فما لم تتحقّق الشيئية لم تتحقّق المعلومية ولا يكون علم بمعنى الانكشاف ولا معلوم ، فالمعدومات الخارجية والحوادث قبل حدوثها إن كان لها ثبوت في المدارك كان ذلك الثبوت مصحّحا للمعلومية كافيا في تعلّق علمه ـ تعالى ـ بها ، وإن لم يكن لها ثبوت فيها بل كانت معدومات مطلقة وليسيات صرفة ، فلا يمكن تعلّق العلم بها. ولا يلزم من ذلك نقص في حقّه ـ تعالى ـ ، لانّ المعدوم المطلق من حيث انّه معدوم مطلق لا يصحّ للمعلومية ، بل انّما النقص في المعدوم ـ كما قالوا في القدرة بالنسبة إلى الممتنع ـ. ثمّ إذا وجدت الحوادث في الخارج يتعلّق بها علمه ـ تعالى ـ ، فعلمه الّذي هو مبدأ الانكشاف وعين ذاته أزلي وتعلّقاته حادثة.

وأنت تعلم انّ هذا الجواب يجعل الاشكال أصعب!.

أمّا أوّلا فلانّه لو كان مناط علمه ـ تعالى ـ بالأشياء نفس وجوداتها وظهوراتها ولم يكن له علم كمالي بشيء قبل وجوده بل كانت ذوات الأشياء العينية صورا علمية له وعالميته اضافية اشراقية شهودية لزم أن يكون الواجب الحقّ جاهلا بالاشياء في مرتبة ذاته. لانّ وجود الممكنات واضافة الأوّل ـ تعالى ـ إليها بعد مرتبة ذاته والتزام عدم عالميته بشيء غير ذاته في مرتبة ذاته نقص عظيم وكفر بالله الكريم ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّه يلزم أن لا يكون صدور الأشياء عنه ـ تعالى ـ بالاختيار ، لما تقرّر عندهم من أنّ الفاعل بالاختيار يتوقّف فعله على انكشاف المعلول عنده حتّى يمكن تعلّق التأثير به.

فان قيل : انّ صور الحوادث قبل حدوثها يمكن أن تكون حاصلة في بعض المدارك ، فيتعلّق علمه الازلي بها قبل الايجاد بحسب ذلك الثبوت ؛

قلت : هذا مع استلزامه لبعض المفاسد ـ كما أشير إليه ـ لا يدفع الاشكال عن علمه ـ تعالى ـ بالمعلول الأوّل ، فانّه لا يتقدّمه مدرك حتّى يحصل صورته فيه.

وأيضا : يشكل الأمر في تعلّق علم تلك المدارك بالحوادث ، فانّه إذا كان تعلّق العلم بالمعدوم الصرف محالا لزم أن يكون تعلّق علم تلك المدارك بالحوادث مسبوقا بنحو ثبوت لها ؛ فذلك الثبوت إمّا أن يكون في تلك المدارك أيضا ، فننقل الكلام إلى ذلك الثبوت ونقول لكونه علما يتوقّف على ثبوت آخر ... وهكذا ، فيلزم التسلسل في الثبوتات المترتّبة ؛ وإمّا أن يكون في مدرك آخر غير تلك المدارك ، فاذا نقلنا الكلام إليه يلزم التسلسل في الثبوتات وفي المدرك أيضا.

ثمّ الجواب عن لزوم نفي الاختيار ـ بأنّ مقارنة العلم للفعل كافية لكونه اختياريا ولا يلزم تقدّمه عليه ـ لا يخفى ضعفه!.

وقال بعضهم : انّ ذات العلم ـ يعنى الواجب سبحانه ـ لمّا كان تامّا فهو يكفي لايجاد المعلول من غير احتياج إلى تعقّل المعلول قبل الايجاد ـ كما في الفاعل بالاختيار منّا ـ ، بل ما يترتّب على تصوّر المعلول على الوجه الجزئي قبل الايجاد يترتّب على أصل علمه ـ تعالى ـ الّذي هو عين ذاته ـ تعالى ـ ، فذات العلم هاهنا مقدّم على الايجاد دون تعقّله.

ولا يخفى ضعف هذا الكلام أيضا! ، لانّه لو سلّم إنّ ذات العلم الّذي هو الواجب من دون انكشاف المعلول عنده يكفي في ايجاد المعلول فمن أين يندفع حديث لزوم جهله ـ تعالى ـ بالمعلول في مرتبة ذاته ولزوم نفى اختياره ـ تعالى ـ بالنسبة الى ما يصدر عنه ـ تعالى ـ؟! ؛ ومن البديهيات العقلية انّ عدم علمه ـ تعالى ـ بالمعلول في مرتبة ذاته وصيرورته عالما به إذا وجد نقص في حقه ـ تعالى ـ. على أنّه مستلزم للتجدّد والتغيّر في صفة العلم لحدوث الانكشاف بعد ما لم يكن ، بل في ذاته ـ لكون العلم من الصفات الحقيقية الّتي هي عين الذات ـ.

فان قيل : العلم بمعنى الانكشاف اضافة عقلية ولزوم التجدّد فيه لا يوجب التجدّد في العلم الّذي هو عين الذات ـ أعني : كون الذات بحيث لو وجد شيء منكشفا عنده ـ ، والتجدّد والتغيّر في مجرّد الاضافة العارضة بعد وجود المعلوم لا منع فيه ؛

قلنا : لو سلّم انّ تجدّد الحضور والانكشاف وإن لم يوجب التجدّد في حقيقة العلم الّذي هو عين الواجب إلاّ انّه يوجب تجدّد نسب الأوقات واجزاء الزمان بالنسبة إلى الواجب الحقّ مع انّه ـ سبحانه ـ مجرّد منزّه عن الزمان والزمانيات ، ونسبته إلى جميع الأوقات والأزمنة واحدة كما أنّ نسبته إلى جميع الأحياز والأمكنة متساوية.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم قد أتى بكلام طويل لبيان أنّ عدم تقدّم الاضافة الاشراقية على وجودات الأشياء ومقارنتها معها وعدم كون الأشياء منكشفة لديه في مرتبة ذاته لا يوجب أيضا نقض في حقّه ؛ فقال : انّ الواجب ـ تعالى ـ لمّا كان مجرّدا عن المادّة والقوّة غاية التجرّد فيكون عقلا وعاقلا ومعقولا ، ولمّا كانت الممكنات بأسرها مستندة إليه ـ تعالى ـ بحيث لا يقدح صدور هذه الكثرة عنه في وحدته الحقّة فذاته علّة تامّة لجميعها ونسبته إلى جميعها ـ سواء كانت مفارقات أو مادّيات ـ نسبة واحدة ايجابية عقلية ، وليست فيه جهة امكانية ، فلكلّ شيء وإن كان من الحوادث الزمانية نسبة وجودية إلى ذاته ـ تعالى ـ ، وامكانه انّما هو بالنسبة إلى نفسه وإلى قابل ذاته. وبالجملة ففاعليته وقيوميته لا تكون في شيء من المراتب بحسب القوّة وكذا علمه بشيء من الأمور الّتي يمكن وقوعها ليس ظنّا ، بل أشدّ العلوم ظهورا واشرافا ، لانّ اسباب وجود الممكن يرتقى إليه وهو يعرف الممكن بأسبابه الّتي بها يجب وجوده. وفي كلامهم تنبيهات على ذلك ، قال الشيخ في التعليقات : « الأشياء كلّها عند الاوائل واجبات (6) ليس هناك امكان البتة ، فاذا كان شيء لم يكن في وقت فانّما يكون من جهة القابل لا من جهة الفاعل ، فانّه كلّما حدث استعداد من المادّة حدثت فيها صورة من هناك ـ إذ ليس هناك منع وبخل ـ ، فالاشياء كلّها هناك واجبات لا تحدث وقتا ويمتنع وقتا ولا يكون هناك كما يكون عندنا ».

وإذ عرفت ذلك عرفت أيضا انّ الواجب ـ تعالى ـ يعلم ذاته بذاته ويعلم ذوات المجعولات العينية بذواتها وبنفس وجوداتها ، وانّ اضافته القيومية إلى الأشياء هى بعينها اضافته الاشراقية النورية ـ على ما هو مذهب شيخ الاشراق ـ ؛ فاعلم انّه كما انّ كماله ـ تعالى ـ في ايجاده للاشياء هو كونه من تمامية الوجود وفرط التحصّل على نحو يفيض عنه جميع الموجودات وليس كماله فيه بانتساب الموجودات إليه وافاضته لها ـ أي : هذا المعنى السلبى ، إذ هي في مرتبة متأخّرة عن مرتبة وجوده وكماله ـ بل الغاية والكمال في الافاضة منه والايجاد هي نفس ذاته المقدّسة وليس شيء سوى ذاته كماله ـ سبحانه ، لانّه غني عما سواه ـ ، فكذلك كماله في علمه بالأشياء ليس بنفس حضور الأشياء أو صورها عنده حتّى يكون بحيث لو لم تكن ذواتها العينية أو صورها العلمية أو انكشافها الشهودية في مرتبة ذاته بل تكون في مرتبة متأخّرة عن ذاته ـ كما هي في الواقع ـ لزم كونه فاقدا لكمال في مرتبة ذاته واجدا له في مرتبة متأخّرة عنها ويلزم منه استكماله بغيره بعد نقصه في حدّ ذاته ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ ؛ بل كماله في العلم أن يكون ذاته بذاته منشأ لانكشاف الأشياء بذواتها وكان في العاقلية إلى غاية يستتبع له انكشاف ذاته بذاته على ذاته انكشاف ذوات الاشياء بذواتها على ذاته ، بناء على انّ معلولاته من حيث أنّها معلولاته معقولاته وبالعكس بلا تفاوت بالذات أو بالاعتبار ؛ وانّما التفاوت في مجرّد اللفظ. فاذا كان معقولية ذاته مبدأ لمعقولية سائر الأشياء وانكشافها لديه ـ كما أنّ وجوده مبدأ لوجودها مرتبطة به منتسبة إليه على الترتيب السببي والمسببي وكان ترتّبها الوجودي الصدوري هو بعينه ترتّبها العقلي الشهودي ـ كان ذاته ـ تعالى ـ علما بجميع الموجودات وكان ذاته أولى بان يسمّى علما بالموجودات العينية من الصور الحاصلة عنها في الأذهان ، لانّ معلوميتها بالصور معلومية بالعرض ـ كما سبق ـ ، ومعلوميتها بسبب معلومية ذاته بذاته الّذي هو مبدأ لوجودها على نعت الانكشاف والظهور لديه ومنشأ لصدورها على وصف الحضور والمنقول بين يديه معلومية بالذات. ولا شكّ في أنّ ما يعلم به الشيء بالذات أولى بأن يسمّى علما بذلك الشيء ممّا يعلم به ذلك الشيء بالعرض ففي علمه بالكلّ كثرة حاصلة بعد الذات والكلّ بكثرته منكشف له بوحدته ، وبذاته يعلم جميع الموجودات لا بغيره ، فذاته علم بجميع الأشياء ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ حاصل كلامه انّ العلم بمعنى انكشاف الأشياء بالفعل ليس كمالا له ـ تعالى ـ حتّى يجب تحقّقه في مرتبة ذاته ، فلا مانع من تحقّقه بعد ذاته ـ أعني : عند وجودات الأشياء ـ ، والعلم الّذي هو كمال له ـ تعالى ـ هو كون ذاته في مرتبة ذاته بحيث ينكشف له المعلومات من غير افتقار إلى شيء آخر بمعنى انّه متمكّن من ايجادها منكشفة عنده ظاهرا لديه ، فكما أنّ ذاته وعلمه بذاته علّة لعلمه بها بل كما انّ ذاته عين علمه بذاته فكذا وجودات الأشياء عين علمه ـ تعالى ـ بها. وعلى هذا فكما يجب تأخّر وجودات الأشياء عن وجوده ـ سبحانه ـ فكذا يجب تأخّر علمه بها عن ذاته ؛ هذا كلامه.

ويرد عليه : انّ انكشاف الأشياء عنده ـ تعالى ـ كمال مطلق للموجود بما هو موجود ، فعدم تحقّقها في مرتبة ذاته نقص في حقّه ـ كما مرّ ـ.

وأيضا : يلزم تجدّد الانكشاف وتغيّره ، وهو وان لم يوجب التجدّد والتغير في الذات ـ لكونه صفة اضافية ـ إلاّ انّه ـ كما تقدّم ـ يوجب تجدّد نسب الأوقات والازمان إلى الله ـ سبحانه ـ مع كونه مجرّدا مقدّسا عن الأوقات متعاليا عن الزمان والزمانيات.

وأيضا : قد تقدّم انّ حقيقة الانكشاف مغاير للوجود الخارجي ، فلا معنى للحكم بأنّ التعقّل عين الوجود الخارجي. وبذلك يظهر ضعف ما قال بعد ذلك : انّ عدم كون الوجودات العينية للأشياء وصورها العلمية وظهوراتها الخارجية له ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته ووجوده وعدم كونها داخلة في قوام ذاته لا بأس به بل لا يصحّ غير ذلك. لانّ كل ما هو معقول له فهو معلول له سوى نفس ذاته المقدّسة ، والمعلول كيف يساوي العلّة في مرتبة الوجود أو يتقدّم عليها؟!. وكما انّه لا يلزم من ايجاده ـ تعالى ـ للأشياء كون وجودها في مرتبة ذاته بل اللازم كونه بحيث يتبع وجوده وايجاده وجود الأشياء وصدورها عنه ، فكذلك لا يلزم من عاقليته لها كون صورها العقلية وانكشافاتها في مرتبة ذاته ، بل اللازم في مرتبة ذاته كونه بحيث يلزمه اضافة العالمية وهو متحقّق ، لانّ ذاته في مرتبة ذاته بحيث ينكشف له المعلومات ويظهر له ما يصحّ أن يكون معلوما.

ووجه الضعف ما علمت من الفرق بين الايجاد والانكشاف ، فانّ الأوّل ليس كمالا مطلقا للموجود بخلاف الثاني ؛ والايجاد لا يمكن تحقّقه بدون الوجود الخارجي بخلاف الانكشاف ، وليس هو شيئا زائدا عن ذاته داخلا فيه حتّى يلزم أن يكون غيره ـ سبحانه ـ داخلا في قوام ذاته، بل هو صفة اضافية لازمة للتجرّد مؤكّد له ولا يوجب كونه في مرتبة ذاته تركّبا ولا تكثّرا.

ثمّ غير خفي بأنّ ما ذكره هذا المحقّق من العلم الكمالي هو بعينه العلم الاجمالي على الاحتمال الثاني من دون تفاوت أصلا ، وما ذكره من الاضافة الّتي هي بعد الذات هو العلم التفصيلي ، فكلامه راجع إلى ما ذكره العلامة الخفري ـ ; ـ بعينه ، فيرد عليه ما أوردناه عليه. وقد تفطّن هو بذلك حيث قال بعد كلامه المذكور : وإذا حقّق الأمر على ما ذكرنا فلا بأس بأن يسمّى ذاته ـ تعالى ـ علما إجماليا بجميع الموجودات على ما يوجد من كلامهم من انّه ـ تعالى ـ يعلم الأشياء بعلم واحد اجمالي قياسا على العلم الاجمالي ، والعقل البسيط المذكور في كتاب النفس ـ أي : الّذي يكون مبدأ للمعقولات المفصّلة النفسانية الكثيرة بعد محافظة تقدّسه تعالى عن شوب القوّة ومراعات الفرق بينهما من وجوه الملابسة ـ انّما هي باعتبار كون العقل البسيط والعلم الاجمالي مبدأ للمعقولات الكثيرة التفصيلية مع عدم ايجاده بها ، ـ كما ظنّه فرفوريوس ـ ، إلاّ أنّ العقل البسيط الّذي عندنا موجود في عقولنا وهناك نفس وجوده ومعقولاتنا المفصلة متجدّدة زمانية واردة علينا شيئا بعد شيء بعدية على التراخي ، وهناك مرتبة ذاته مجتمعة دهرية والمعقول البسيط هاهنا ليس علّة تامّة ، بل معدّة لهذه التفاصيل والنفس قابلة لها ، بخلاف ما هناك. فعلى هذه الطريقة صور المعقولات عنده على وجه بسيط مقدّس عن شوب القوّة والكثرة. وأشبه الأمثلة في هذا الباب قول بعض الحكماء : لو كان للأوّليات وجود في الاعيان لا في النفس ـ لأنّها معان مجرّدة عن المادّة ـ لكانت نسبتها إلى لوازمها كنسبة الأوّل إلى معلولاته ؛ انتهى.

وغير خفي بانّه كان المناسب على ما ذكره ـ من جعل العلم الكمالي هو العلم الاجمالي على الوجه الثاني ـ أن يمثّل له بالملكة لا بالمعقول البسيط ـ كما تقدّم من أنّ المعقول البسيط انّما يناسب الاجمالي على الوجه الأوّل ـ.

ثمّ ما ذكره من قوله : « فعلى هذه الطريقة صور المعقولات عنده ـ ... إلى آخره ـ » يناسب ظاهر العلم الاجمالي على الوجه الأوّل ، لانّ الاجمالي بمعنى المنشئية للانكشاف والتمكّن عليه لا يستلزم تحقّق صور المعقولات عنده في مرتبة ذاته ؛ فتأمّل.

وثانيهما ـ أي : ثانى الوجوه للجواب عن الاشكال المشهور الّذي ورد على العلم الحضوري ـ : ما صرّح به بعض الأعاظم من العرفاء ، وهو : انّ ذاته ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته مظهر لجميع صفاته وأسمائه كلّها ، وهي أيضا مجلاة يرى بها وفيها صور جميع الممكنات من غير حلول ولا اتحاد ـ إذ الحلول يقتضي وجود شيئين لكلّ منهما وجود مغاير لوجود صاحبه ، والايجاد يستدعي ثبوت أمرين يشتركان في وجود واحد ينسب ذلك الوجود إلى كلّ منهما بالذات ـ ، وهناك ليس كذلك ، بل ذاته بمنزلة مرآة يرى فيها صور الموجودات كلّها وليس وجود المرأة وجود ما يتراءى فيها أصلا. ثمّ صرّح بأنّ ما يظهر في المرأة ويتراءى من الصور ليست هي بعينها الأشخاص الخارجية ـ كما ذهب إليه الرياضيون القائلون بخروج الشعاع ـ ، ولا هي صور منطبعة فيها ـ كما اختاره الطبيعيون ـ ، ولا هي من موجودات عالم المثالى ـ كما زعمه الاشراقيون ـ ، بل الحقّ انّ تلك الصور موجودات لا بالذات بل بالعرض بتبعية وجود الأشخاص المقترنة بجسم مشفّ وسطح صيقل على شرائط مخصوصة ، فوجودها في الخارج وجود الحكاية بما هي حكاية ، وهكذا يكون وجود المهيات والطبائع الكلّية عندنا في الخارج ، فالكلّى الطبيعي ـ أي : الماهية من حيث هي ـ موجود بالعرض لأنّه حكاية الوجود وليس معدوما مطلقا ـ كما عليه المتكلّمون ـ ، ولا موجودا أصيلا ـ كما عليه الحكماء ـ ، بل له وجود كلّي. وإذا كان جميع صور الأشياء مترائية من ذات الواجب ـ كما يتراءى الصور من المرآة من غير لزوم تكثّر وتركّب ـ فمشاهدة الواجب لذاته يقتضي مشاهدته ـ تعالى ـ لتلك الصور المترائية. وأنت خبير بأنّ هذا الوجه لا يناسب أسلوب المباحثة والنظر ، ولا يوافق القواعد العقلية الّتي لنا إلى دركها سبيل ، فالاعراض عنه حقيق!.

وثالثها : ما اختاره جماعة من محقّقي الحكماء والعرفاء ، وهو : انّه لمّا ثبت استواء نسبة جميع اجزاء الزمان والمكان إليه ـ سبحانه ، لكونه تعالى مجرّدا غاية التجرّد ومنزّها عن الوقوع في شيء من الأزمنة والأمكنة ومن أن يتجدّد بالنسبة إليه شيء دون شيء ـ فالأشياء الكلّية والجزئية حاضرة عنده ومنكشفة لديه في الأزل ، لا بمعنى أنّها موجودة في الأزل والأزل ظرفها حتّى يلزم قدم كلّ حادث ، بل بمعنى انّ كلّ حادث في وقت وجوده حاضر عنده ـ تعالى ـ منكشف لديه مع كونه في الأزل ، فهو عالم بجميعها بالعلم الحضوري الانكشافي ، ويرى في الأزل الأشياء في الأبد بانكشاف ذواتها لديه وان كان بعضها بالنسبة إلى بعض غير موجود بعد وغائبا عنه. وليس علمه بشيء من الأشياء بارتسام صورة لا في ذاته ولا في غيره. نعم! ، جميع الصور الإدراكية الحاصلة في المدارك العالية والسافلة ـ تصورية أو تصديقية صادقة أو كاذبة بل جميع الأوهام والخيالات لكلّ متوهّم ومتخيل ـ حاضرة عنده ـ تعالى ـ مع مداركها الّتي هي محالّها ومعلومة له ـ تعالى ـ بنفس تلك الصور. وليس تلك الصور علما له ـ تعالى ـ بما سوى ذوات تلك الصور ، والمعلومات بتلك الصور للمدارك المذكورة معلومة له ـ تعالى ـ بنفس ذواتها لا بتلك الصور. والحاصل : انّ جميع الأشياء الممكنة من المجرّدات والمادّيات بالقياس إلى ذات الواجب في درجة واحدة لا يتجدّد ولا يتصرّم ، بل التجدّد والتصرّم والحضور والغيبة إنّما يتحقّق للمسجونين في سجن الزمان ، وأمّا المتعالي عن الزمان والزمانيات والمتقدّس عن المكان والمكانيات فذاته منزّه عن علوق هذه الأمور به ووجوده أعلى من أن يقع في التغيّر والتجدّد ، فنسبة الواجب ـ تعالى ـ إلى زمان عدم الحادث عين نسبته إلى زمان وجوده. وما يرى في أجزاء الزمان من التقدّم والتأخّر وما يشاهد بين الحوادث من الاختلاف والتفاوت بالقياس إلى اجزاء الزمان إنّما هو مخصوص بظرف الزمان وما يقع فيه من الزمانيات ؛ وأمّا في الخارج عن ظرف الزمان فلا يتحقّق بالنسبة إليه اختلاف وتجدّد أصلا. فما يكون موجودا في وقت من الأوقات يكون حاضرا منكشفا عند الواجب أزلا وأبدا ولا يكون عدمه ـ سواء كان عدما سابقا أو لاحقا ـ متحقّقا إلاّ بالنسبة إلى موجود آخر مثله في كونه زمانيا وواقعا في جزء آخر من الزمان موصوفا بالقبلية أو البعدية الزمانيتين.

ولمّا كان درك هذا المطلب عسرا فلا بأس بأن نذيّل ما ذكرناه بتوضيح للمقام ذكره بعض العرفاء الأعلام ؛ قال : قد ثبت وتبين انّ الله ـ سبحانه ـ عالم بالموجودات كلّها في الأزل على ما هي عليه فيما لا يزال علما ثابتا لا يتغيّر بتغيّر المعلوم ولا يتفاوت بحدوث وجودات الأشياء فيما لا يزال بعد فقدانها في الأزل على ما هي عندنا. وذلك لأنّه لا ينافي فقدانها في الأزل على ما هي عليه بالفعل علمه ـ تعالى ـ بها في الأزل على ما هي عليه بالفعل ، لانّه إنّما يعلمها في الأزل على ما هي عليه بالفعل بوجوهها الّتي عنده وبجميع احوالها الثابتة لها في نفس الأمر. ومن جملة احوالها الثابتة لها في نفس الأمر انّها فيما لا يزال دون أن يكون في الأزل ، وذلك لاحاطته ـ تعالى ـ في الأزل بما لا يزال وما فيه ، كاحاطته بالأزل وما فيه ، فانّه ـ جلّ وعزّ ـ محيط بجميع الأزمنة والأمكنة وما فيها من الزمانيات والمكانيات ، كما انّه محيط بما خرج عنها.

فان قلت : انّها لم تكن موجودة في الأزل ، فكيف أحاط بها في الأزل؟ ؛

قلت : انّها وإن لم تكن موجودة في الأزل لانفسها وبقياس بعضها على أن يكون الأزل ظرفا لوجوداتها كذلك إلاّ أنّها موجودة فيه للواجب ـ تعالى ـ وجودا جميعا وحدانيا غير متغيّر بمعنى أنّ وجوداتها الفائضة إليه الحادثة ثابتة له ـ سبحانه ـ في الأزل ، وهذا كما أنّ الموجودات الذهنية موجودة في الخارج إذا فقدت بقيامها بالذهن وإذا اطلقت من هذا القيد فلا وجود لها إلاّ في الذهن. فالاشياء الموجودة فيما لا يزال إذا قيدت بوجودها لله ـ سبحانه ـ كانت موجودة في الأزل ، فيكون كالموجودات الذهنية من حيث أنّها اعيان خارجية لا من حيث أنّها أمور ذهنية. وإذا اطلقت من هذا القيد لا تكون موجودة في الأزل فقط ، بل فيما لا يزال ؛ فيكون كالموجودات الذهنية من حيث أنّها أمور ذهنية فقط ، فالأزل يسع القديم والحادث والأزمنة وما فيها وما خرج عنها. وليس الأزل كالزمان واجزائه محصورا مضيقا يغيب بعضه عن بعض ويتقدّم جزء ويتأخّر ، فإنّ الحصر والضيق والغلبة من خواصّ الزمان والمكان وما يتعلّق بهما، والأزل عبارة عن الزمان واللازمان السابق على الأزمان سبقا غير زماني وليس بين الله وبين العالم بعد مقدّر لانّه إن كان موجودا يكون من العالم وإلاّ لم يكن شيئا ولا ينسب أحدهما إلى الآخر من حيث الزمان بقبلية ولا بعدية ولا معية ـ لانتفاء الزمان عن الحقّ وعن ابتداء العالم ـ. فسقط السؤال بمتى عن العالم كما هو ساقط عن وجود الحقّ ، لانّ متى سؤال عن الزمان ولا زمان قبل العالم ، فليس إلاّ وجود خالص من العدم وهو وجود الحقّ ، ووجود من العدم وهو وجود العالم ، فالعالم حادث من غير زمان.

وإنّما يتعسّر فهم ذلك على الأكثرين لتوهّمهم الأزل جزء من الزمان يتقدّم سائر الأجزاء وان لم يسمّوه بالزمان ، فانّهم اثبتوا له معناه وتوهّموا أنّ الله ـ سبحانه ـ موجود فيه ولا موجود فيه سواه ، ثمّ أخذ يوجد الأشياء شيئا فشيئا في أجزاء آخر منه. وهذا توهّم باطل وأمر محال ، فانّه ـ سبحانه ـ ليس في زمان ولا في مكان ، بل هو محيط بهما وبما فيهما وبما معهما وما تقدّمها.

والتحقيق التامّ في ذلك يقتضي نمطا آخر من الكلام لا يسعه العقول المشوبة بالأوهام ، ونشير إلى لمعة منه لمن كان أهله ؛ فنقول :

انّ نسبة ذاته ـ سبحانه ـ إلى مخلوقاته يمتنع أن يختلف بالمعية واللامعية وإلاّ فيكون بالفعل مع بعض وبالقوّة مع بعض اخر ، فيتركّب ذاته من جهتي فعل وقوّة ويتغيّر صفاته حسب تغيّر المتجدّدات المتعاقبات ـ تعالى عن ذلك ـ ، بل نسبة ذاته الّتي هي فعلية صرفة وغناء محض من جميع ، الوجوه إلى الجميع وان كان من الحوادث الزمانية نسبة واحدة ومعية قيومية ثابتة غير زمانية ولا متغيّرة أصلا ، والكلّ بفنائه يقدر استعداداتها مستغنيات كلّ في محلّه ووقته وعلى حسب طاقته ؛ وانّما فقرها وفقدها ونقصها بالقياس إلى ذواتها وقوابل ذواتها وليس هناك امكان وقوّة البتّة ، فالمكان والمكانيات بأسرها بالنسبة إليه ـ سبحانه ـ كنقطة واحدة في معية الوجود {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] والزمان والزمانيات بآزالها وآبادها كان واحدا عنده في ذلك ؛ جفّ القلم بما هو كائن. ما من نسمة كائنه إلاّ وهو كائنة عنده. والموجودات كلّها ـ شهادياتها وغيبياتها ـ كموجود واحد في الفيضان عنه ؛ {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] وانّما التقدّم والتأخّر والتجدّد والتصرّم والحضور والغيبة في هذه كلها بقياس بعضها إلى بعض ، وفي مدارك المحبوسين في سيطرة الزمان المسجونين في سجن الامكان ، لا غير. وامّا قوله ـ عزّ وجلّ ـ : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] فهو كما قال بعض أهل العلم : انّها شئون يبديها لا شئون يبتديها. ولعلّ من لم يفهم بعض هذه المعاني يقول : كيف يكون وجود الحادث في الأزل؟ ، أم كيف يكون المتغيّر في نفسه ثابتا عند ربّه أم كيف يكون الأمر المتكثّر المتفرّق وجدانيا جميعا؟ ، أم كيف يكون الأمر الممتدّ ـ أعني : الزمان ـ واقعا في غير الممتدّ ـ أعني : اللازمان ـ مع التقابل الظاهر بين هذه الأمور؟. فلنمثّل له بمثال حتّى يكسر سورة استبعاده ، فانّ مثل هذا المعترض لم يتجاوز بعد درجة الحسّ والمحسوس.

قلنا : خذ أمرا ممتدا كحبل أو خشب مختلف الأجزاء في اللون ثمّ ليمرره في محاذات نملة أو نحوها ممّا يضيق حدقته عن الاحاطة بجميع ذلك الامتداد ، فتكون تلك الألوان المختلفة متعاقبة في الحضور لديها يظهر لها شيئا فشيئا واحدا بعد آخر لضيق نظرها ، ومتساوية في الحضور عند من يراها كلّها دفعة لقوّة احاطة نظره وسعة حدقته ؛ {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف: 76]. فهو ـ سبحانه ـ ادرك الأشياء جميعها في الأزل ادراكا تامّا واحاطة كاملة ، فهو عالم فيه بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ زمان من الأزمنة وكم يكون بينه وبين الحادث الّذي بعده أو قبله من المدّة. ولا يحكم بالعدم على شيء من ذلك بل بدل ما يحكم بان الماضي ليس موجودا في الحال يحكم بأنّ كلّ موجود في زمان معيّن لا يكون موجودا في غير ذلك الزمان من الأزمنة الّتي تكون قبله أو بعده ، وهو عالم بأنّ كلّ شخص في أيّ جزء يوجد من المكان وأيّ نسبة تكون بينه وبين ما عداه ممّا يقع في جميع جهاته ، وكم الأبعاد بينهما على الوجه المطابق للحكم. ولا يحكم على شيء بانّه موجود الآن أو معدوم أو موجود هناك أو معدوم أو حاضر أو غائب ، لانّه ـ سبحانه ـ ليس بزماني ولا مكانى ، بل هو بكلّ شيء محيط ازلا وأبدا {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]؛ انتهى.

أقول : لا ريب في انّ هذا الوجه ـ أعني : عدم كونه تعالى زمانيا واستواء نسبة جميع الأوقات والأزمان إليه تعالى وكون نسبته إلى جميع الأمور المتحدة المتعاقبة نسبة واحدة ومعية قيومية غير زمانية ـ ممّا صرّح به سلف الحكماء ، وهو صحيح في نفسه المتعالي عن الزمان والزمانيات والمحيط بهما ؛ لا يكون بالنسبة إلى ذاته وعلمه حال ومضيّ واستقبال ولا غيبة ولا حضور ـ كما قال بعض العرفاء : ليس عند ربّك صباح ولا مساء ـ ، كما انّ المتقدّس عن المكان والمكانيات لا يتحقّق له بالنسبة إلى مكان قرب ولا بعد ، بل نسبته إلى الكلّ نسبة واحدة غير متغيرة ولا متجدّدة. وعلى هذا يلزم أن يكون الواجب ـ سبحانه ـ في الأزل عالما بالأشياء على ما هي عليه كما يكون عالما بها فيما لا يزال ، ويكون انكشاف جميع الأشياء ـ من المجرّدات والمادّيات والحوادث الزمانية ـ في جميع الأوقات عنده على نهج واحد.

فان قيل : هذا الوجه لا يدفع الاشكال المذكور ـ أعني : عدم تصوّر حضور المعدوم وانكشافه عند الواجب ـ ، فانّ هذا الاشكال كما يرد على أصل المدّعى ـ أعني : كون علم الواجب بجميع الأشياء حضوريا سابقا على وجوداتها ـ يرد على هذا الوجه الّذي قيل جوابا عن الاشكال المذكور المورد على المدّعى ؛ إذ لقائل أن يقول : كيف يعقل استواء نسبة الأشياء إلى الواجب ظهورا وانكشافا في حالتي الوجود والعدم وعدم اختلافها بالنسبة إليه أزلا وأبدا في الغيبة والحضور مع كونها في الأزل معدومة صرفة وفي الأبد موجودة في الخارج؟! ؛ وما المصحّح لكون الأشياء منكشفة عند الواجب في الأزل مع كونها معدومة فيه؟ ؛ وكيف يكفي وجوداتها اللايزالية لوجوداتها في الأزل للواجب ـ سبحانه ـ؟ ؛ فانّ وجوداتها اللايزالية الخارجية لو اقتضت كونها موجودة في الأزل أيضا لزم أن يكون موجودة خارجية في مرتبة ذات الواجب ؛

قلنا : المراد ـ كما تقدّم ـ انّ كلّ حادث في وقت وجوده منكشف عنده ـ تعالى ـ مع كونه في الأزل ، لا انّه موجود في الأزل.

فان قيل : ما مصحّح هذا الانكشاف مع كون الحادث معدوما في الأزل؟ ؛

قلنا : المصحح هو وجوده الخارجي اللايزالى بملاحظة استواء نسبة جميع الموجودات ـ أزلية كانت أو ابدية ، مجرّدة كانت أو مادية وجميع الأزمنة والحوادث الواقعة فيها ـ إلى الواجب ـ سبحانه ـ ، فالوجود الخارجي بعد تحقّقه في أيّ وقت كان يكون حاضرا عنده ـ تعالى ـ في الأزل والأبد على نحو واحد ، لانّ المحيط بالزمان والدهر والمتقدّس عن الوقوع في الامتداد والتغيّر يكون نسبته إلى الأمور المتحقّقة الثابتة في أيّ وعاء كان وفي أيّ جزء من هذا الوعاء كان نسبة واحدة ثابتة مستمرّة من الأزل إلى الأبد ، واستواء هذا النسبة المقتضي لكون الموجود فيما لا يزال منكشفا عنده ـ تعالى ـ بمقتضى وجود هذا الحادث للواجب ـ سبحانه ـ في الأزل وان لم يكن موجودا فيه لو قطع النظر عن كون الواجب ـ سبحانه ـ بمعنى انّ وجوده اللايزالى ثابت للواجب في الأزل وإن لم يكن ثابتا لنفسه فيه. وهذا أمر جائز يعطى التأمّل صحّته ووقوعه. فانّ في مثال الحبل المذكور لا ريب في أنّ كلاّ من الجزء المتحقّق فيه في آخره وجد فيه العلّة الّتي محاذية بهذا الجزء لا يكون متحقّقا في أوّله ولا عند حدقة الحبلة المحاذية لأوّله ولا متحقّقا في البعد المنفصل عن ابتداء الحبل ، ومع ذلك متحقّق لمن اتسعت حدقته ويرى جميع الحبل وما هو منفصل عنه دفعة فكذا الحال بعينه فيما نحن فيه ؛ فانّ الوجود اللايزالي لكلّ حادث ـ سواء كان جزء من الزمان أو أمرا متحقّقا فيه ـ لا يكون موجودا في جزء آخرمن الزمان ولا في الوعاء المتقدم على الزمان ، ومع ذلك يكون موجودا لمن هو خارج عن الزمان محيط به ويلاحظ الجميع على نهج واحد ويكون الكلّ موجودا له بوجود جمعي وحداني غير متغيّر ؛ لا في الشهود العلمى الانكشافي فقط ، بل في الشهود الخارجي أيضا ، لما علمت أنّ الجميع بالنسبة إليه موجود في الخارج فيكون لجميع الأشياء وجود خارجي وحداني جمعى للواجب ـ تعالى ـ أزلا وأبدا ووجود خارجي تكثيري تفصيلي لأنفسها.

فان قيل : الحبل لمّا كان جميعه موجودا فمن اتسع حدقته يري جميع اجزائه ولو فرض ايجاده تدريجا لم ير جميعه ، بل يرى ما يوجد ؛ وحينئذ فالزمان لو كان جميعه موجودا فنحن نسلّم انّ الواجب يلاحظ جميع اجزائه ملاحظة عقلية على نسبة واحدة ويشاهد الحوادث الواقعة فيه أيضا كذلك ، وأمّا إذا لم يكن موجودا ـ كما في الأزل ـ فلا يعقل ظهوره وظهور ما فيه لديه وانكشافهما عنده ؛

قلنا : نحن قد بيّنا انّه موجود في الأزل للواجب ـ سبحانه ـ وإن لم يكن موجودا لنفسه نظرا إلى استواء نسبته ـ تعالى ـ إلى جميع الأوعية من الدهر والزمان واجزائه ، وهذا كما انّ الحبل المذكور أيضا بجميع اجزائه موجود في البعد الّذي تحقّق فيه وليس موجودا في البعد المحقّق لمن يراه دفعة ؛ هذا غاية الكلام في تصحيح هذا الوجه.

والحقّ كما قرّرناه انّه صحيح في نفسه ويمكن أن يصحّح به العلم الحضوري ، إلاّ انّه لمّا كان مناط علمه ـ تعالى ـ بالأشياء مجرّد ذاته ـ سبحانه ـ من غير افتقار إلى نفس وجوداتها فيجب أن يكون للواجب ـ سبحانه ـ بالنسبة إلى الأشياء شهود علمي مع قطع النظر عن وجوداتها الخارجية بمعنى أن لا يكون لوجوداتها الخارجية مدخلية في الانكشاف أصلا. ولذا ترى أنّ سلف الحكماء مع تصريحهم بالوجه المذكور وقولهم بأنّ نسبة جميع الأوقات والأزمان والحوادث وغيرها من الموجودات إليه ـ سبحانه ـ نسبة واحدة لم يصحّحوا العلم الحضوري به، ولم يعترفوا بأنّ للأشياء شهودا خارجيا ووجودا جمعيا وحدانيا عينيا للواجب ، بل صرّحوا بأنّ لها شهودا علميا ووجودا جمعيا وحدانيا ذهنيا له ـ سبحانه ـ فالأصوب في الجواب عن الايراد المذكور هو الوجه الّذي نذكره بعد ونختاره ، وإن كان هذا الوجه أيضا صحيحا في نفسه. بل الحقّ انّ الوجهين متحقّقان في الواقع ونفس الأمر وكلّ منهما يصلح لأن يصحّح به العلم الحضوري.

ثمّ هذا الوجه ممّا يدلّ على حقّيته الاخبار الكثيرة الواردة عن ائمّتنا الراشدين ؛ كقول علي ـ صلوات الله عليه ـ : لم يسبق له حال حالا فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا (7).

وكقوله ـ عليه السلام  ـ : علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين ، وعلمه بما في السموات العلى كعلمه بما في الأرضين السفلى (8).

وكقول الباقر ـ عليه السلام  ـ : كان الله ولا شيء غيره ولم يزل عالما بما كوّن ، فعلمه بها قبل كونه كعلمه بها بعد كونه (9).

وكقوله ـ  عليه السلام  ـ : ما كان خلوا من الملك قبل انشائه ولا يكون منه خلوا بعد ذهابه (10).

وكقول أبي عبد الله ـ عليه السلام  ـ : لم يزل الله ـ جلّ وعزّ ـ ربنا والعلم ذاته ولا معلوم والسمع ذاته ولا مسموع والبصر ذاته ولا مبصر والقدرة ذاته ولا مقدور ، فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع والبصر على المبصر والقدرة على المقدور (11).

وكقول الكاظم ـ عليه السلام  ـ : لم يزل الله ـ تعالى ـ عالما بالأشياء قبل أن يخلق الاشياء كعلمه بالاشياء بعد ما خلق الأشياء (12).

وكقول الرضا ـ عليه السلام  ـ : له معنى الربوبية إذ لا مربوب وحقيقة الالهية إذ لا مألوه ومعنى العالم ولا معلوم ومعنى الخالق ولا مخلوق ، وتأويل السمع على المسموع ؛ ليس منذ خلق استحقّ معنى الخالق ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البارئية ، كيف ولا تغيّبه « مذ » ولا تدنيه « قد » ولا تحجبه « لعلّ » ولا توقّته « متى » ولا تشمله « حين » ولا تقاربه « مع » (13).

منها ـ وهو الّذي ذكرنا آنفا انّه المختار الاصوب من سابقه ـ ، وتقريره : انّه قد ظهر ممّا سبق انّ الواجب ـ سبحانه ـ بمنزلة مجمل الأشياء بمعنى انّه لمّا كان علّة للكلّ ومقتضيا تامّا له وكان الأشياء بأسرها لوازم ذاته ورشحات وجوده فكان الجميع منطو فيه ، وإذا كان الأشياء بجميعها مندمجة منطوية في ذاته بالمعنى المذكور فيكون هو بمنزلة مجمل الأشياء ، وحينئذ إذا علم ذاته علم الأشياء جميعا لا اجمالا ـ كما هو مذهب القائلين بالعلم الاجمالي ـ ، بل تفصيلا ـ أي : بعلمها بخصوصياتها اللازمة والعارضة واحكامها الكلّية والجزئية ـ ، وتكون عنده ممتازة بجميع تعيّناتها وخصوصياتها واحكامها ، فانّ كون الكلّ لوازم وجوده ورشحات فيضه وجوده يصلح أن يكون مصحّحا لانكشافه لديه وظهوره بين يديه ، فانّ ذلك كما يصلح أن يكون مصحّحا للانكشاف الاجمالي يصلح أن يكون مصحّحا للانكشاف التفصيلي من دون تفاوت أصلا ، فأيّ حاجة مع ذلك إلى القول بالعلم الاجمالي مع استلزامه للمفاسد الكثيرة المتقدّمة؟! ؛ وكيف لا يصلح معلولية الكلّ وانطوائه في ذاته ـ سبحانه ـ مصحّحا للعلم به تفصيلا مع أنّ حضور العلّة أقوى في باب الانكشاف من حضور المعلوم؟ ؛ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. فحضور الواجب ـ جلّ وعزّ ـ عند ذاته أقوى في انكشاف الأشياء عنده من حضور الأشياء عنده. فالعلم الحضوري هو حضور عين المعلوم عند العالم أو حضور ما هو أقوى من حضور المعلوم ، والعلم الحضوري بالنسبة إلى الواجب ـ تعالى ـ انّما هو بالاعتبار الثاني ـ أي : حضور ما هو أقوى من حضور المعلوم ، أعني : حضور ذاته المقدّسة ـ ؛ فمناط العلم بجميع الأشياء ليس سوى ذاته المقدّسة البسيطة من جميع الجهات. فذاته ـ تعالى ـ صورة علمية بجميع المجعولات ولجميعها شهود علمي ووجود جمعي وجداني عقلي في ذاته ـ سبحانه ـ ، وحضور ذاته بذاته عند ذاته هو حضور جميع الأشياء ؛ فالكلّ يصدر عنه منكشفا عنده. وعلمه بالاشياء بعد كونها ، كعلمه بها قبل كونها ولا تفاوت في ذلك أصلا ، لانّ مناط العلم إذا كان ذاته بذاته بلا مدخلية أمر آخر أصلا فلا يكون اختلاف في انكشاف الأشياء في حالتي الوجود والعدم ، ولا يكون العلم ببعضها متقدّما على العلم ببعض آخر. فالعلم بالعقل الأوّل مثلا ليس مقدّما على العلم بالعقل الثاني ، لانّ جميع كمالاته ـ تعالى ـ يجب أن يكون في مرتبة واحدة هى مرتبة الذات ، وإلاّ يلزم أن يكون ـ جلّ وعزّ ـ فاقدا لبعض الكمالات في مرتبة من المراتب ، وهو محال. نعم! ، يجوز أن يكون بعض المعلومات مقدّما على بعض آخر باعتبار الوجود لا باعتبار المعلومية ، وإلى هذا أشار بعض الأعلام حيث قال : لمّا كان الواجب ـ تعالى ـ علّة لجميع ما عدا ذاته ومفيدا للوجود كله فيكون علّة مقتضية لجميع الموجودات ، ولمّا كان عالما بذاته أتمّ العلوم فيجب أن يعلم انّ ذاته علّة للكلّ ومفيدا لوجود الكلّ بوجود الكلّ وإلاّ لم يعلم ذاته أتمّ العلوم ولم يعلم ذاته من جميع الوجوه ؛ ولزم من هذا أن يعلم جميع الموجودات من العلم بذاته. كيف ولو لم يعلم الواجب ـ تعالى ـ الأشياء إلى أن يوجد يلزم أن لا يعلم الاشياء من ذاته ، وإذا لم يعلم الأشياء من ذاته علما تامّا غاب عنه بعض وجوه العلم بذاته ـ وهو انّه من شأنه أن يفيض جميع الأشياء الممكنة ـ.

وممّا يؤيّد انّ حضور ذاته ـ تعالى ـ عند ذاته هو بعينه حضور الأشياء بل أقوى من حضور الأشياء هو أنّ نسبة الأشياء الى جنابه كنسبة الظلّ إلى ذي الظلّ ، وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية ؛ فالواجب بمنزلة الأصل والأشياء بمنزلة العكس ، ولا ريب في أنّ الأصل أتمّ في شبهة العكس من العكس نفسه في ذلك ، كما يظهر من نسبة الأمر الخارجي إلى ما في المرات منه. وإذا حصل العلم من العكس بشبيه يحصل من الأصل بطريق أولى ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ قوله : « نسبة الأشياء إلى جنابه كنسبة الظلّ ـ .. الى اخر كلامه ـ » خارج عن القواعد العقلية ولا يطابق طريقة البحث والنظر ، وليس لنا في اثبات المطلوب حاجة إليه ولا لنا طريق إلى ادراكه ، إلاّ أن يحمل كلامه على ما يرجع إلى ما ذكرناه من أنّ مراده من كون الأشياء أظلالا وعكوسا : انّها من لوازمه ـ تعالى ـ المترشّحة عنه الفائضة منه. وقد ظهر ممّا ذكرناه انّ مناط علمه بذاته هو حضور ذاته لذاته المجرّدة من جميع الجهات ، ومناط علمه بمعلولاته هو حضور علّتها عند ذاته المجرّدة البسيطة. ثمّ لما كان علّيته ـ تعالى ـ للأشياء ثابتة له في مرتبة ذاته فيكون استهلاك الأشياء واندراجها في شعاع ذاته واحاطته بها ـ إحاطة معنوية ـ ثابتا له أيضا في مرتبة ذاته ، لانّه معنى المعلولية بعينه ؛ وحينئذ يكون شهوداتها العلمية وظهوراتها الانكشافية أيضا ثابتة له في مرتبة ذاته. وهذا الظهور والانكشاف لكونه اضافة اشراقية لا يوجب تكثرا في ذاته ، وهو ـ أي : انكشاف الاشياء واشراقها عند ذاته ـ عين اشراق ذاته لذاته أو لازمه ، نظرا إلى أنّ ذاته الحقّة كما هو علّة (14) لذوات الأشياء ووجوداتها العينية فكذا اشراقه لذاته علّة لاشراق الأشياء وانكشافها لديه ، وعلى التقديرين لا يلزم تكثّر وتعدّد في ذاته ، لانّ الاشراق والانكشاف ولو كان بالنسبة إلى غير المتناهي من الأشياء أمر واحد من جميع الجهات بسيط من كلّ الحيثيات ولا يوجب تركّبا ولا تكثّرا لأنّه ممّا يزداد بازدياد التجرّد، فزيادته من حيث الشدّة أو من حيث زيادة المتعلّق يوجب زيادة الوحدة والبساطة.

ثمّ هذا الانكشاف وإن كان تفصيليا يعلم به الأشياء بتفاصيلها (15) وخصوصياتها إلاّ أنّه لمّا كان أمرا بسيطا وحدانيا علّة ومنشأ لصدور الأشياء المتكثّرة منه ـ تعالى ـ فيمكن أن يكون اطلاق العلم الاجمالي عليه في كلام بعض الأكابر من الحكماء ـ وتصريحهم بأنّ نسبة هذا العلم إلى الممكنات الّتي هى صور علمية مفصّلة للواجب كنسبة الاجمال إلى التفصيل ـ مسامحة لم يكن قصدهم منه إلاّ التمثيل والتشبيه ، بأن يكون مرادهم انّ هذا الانكشاف شأنه العلم الاجمالي في كونه بسيطا وحدانيا غير متكثّر وفي كونه مبدأ للتكثر. وكذا الحال فيما يقال : انّ نسبة هذا العلم إلى الممكنات وعلومها الّتي هي علوم تفصيلية للواجب كنسبة الاكسير إلى الذهب أو كنسبة حروف الهجاء إلى المركّبات أو كنسبة النوى إلى النخلة الباسقة أو كنسبة الوحدة إلى العدد أو البحر إلى الموج وغير ذلك ، فانّ جميع ذلك تمثيلات وتشبيهات لو كانت مقرّبة من وجه لكانت مبعّدة من وجه آخر.

وممّا يدلّ على ما ذكرناه انّ العلاّمة الخفري مع قوله بالعلم الاجمالي ـ كما نقلنا كلامه ـ قال في آخر كلامه : وخلاصة ما حصل من الأبحاث المذكورة انّ علم واجب الوجود الاجمالي الّذي هو عين الذات يعلم به جميع خصوصيات الجزئيات وأحكامها كما يعلم به جميع الصور الكلّية ، ولا دخل للزمان فيه ولا يعتبر فيه أصلا. وأمّا العلم التفصيلي الّذي بعده فهو عين الموجودات عند المحقّق الطوسي ، ويعبّر عنه عند البعض بتعلّق العلم القديم وعند البعض بالرؤية العينية. وهو انّما يكون باعتبار الزمان وفيه تغيّر ما بحيث لا يوجب نقصا ، فانّ ذلك التغيّر ليس في العلم بالذات ، بل إنّما يكون في العلوم من حيث هي معلومات ، فالتغيّر بالحقيقة وبالذات انّما هو في المعلومات ؛ انتهى.

وهذا الكلام كما ترى صريح في أنّ العلم الّذي يوصف بالاجمالي يعلم به الاشياء مفصّلة وإنّ علم الواجب ـ تعالى ـ منحصر بهذا العلم وهو غير متغيّر أصلا ، وما هو متغيّر ليس بعلم. والعلم الّذي يوصف بالتفصيلي هو المعلوم التفصيلي ولذا يكون حادثا متغيّرا وليس علما للواجب ـ تعالى ـ. وعلى هذا لا يكون ما هو علمه حقيقة وما هو مناط علمه على قسمين عنده ـ كما ظهر ذلك من كلامه السابق ـ إلاّ أنّ كثيرا من كلماته الأخر أيضا يدلّ على ذلك ـ أي : على انّ للواجب علمين ـ ، فلعلّ كلامه لا يخلو عن مسامحة ؛ هذا وأورد على هذا الوجه منه ما أورد على العلم الاجمالي ووعدناك بانّا نجيب عنه هناك ؛ وهو : انّه كيف يكون لشيء واحد بسيط غاية الوحدة والبساطة صورا علمية مختلفة متكثّرة؟ ، وكيف يكون انكشافه انكشافا لأشياء متكثّرة متباينة الحقائق؟ ، وحديث الانطواء والاندراج ليس المراد منه إلاّ مجرّد المعلولية واللازمية ، فكيف يتميز الاشياء بمجرّد هذا الانكشاف وانّها لم توجد ماهياتها بعد؟ ، وهل هذا إلاّ تمايز المعدومات الصرفة؟!.

والجواب ـ على ما سبق ـ : انّه كما انّ حضور الشيء عند المجرّد القائم بالذات مصحّح لانكشافه عنده فكذا حضور علّته عنده مصحّح لذلك ، كيف لا وهو أقوى في باب الانكشاف من حضور المعلوم بنفسه. وكما أنّ الصورة العلمية المخصوصة بشيء غير ذلك الشيء كذلك المقتضي لخصوصية شيء غير ذلك الشيء ، لانّ المقتضي باقتضائه غير ذات المقتضي وصفاته بحيث لا يشاركه غيره ، وكما انّ الصورة الّتي بها يتميّز الشيء إذا حصل عند المدرك كان علما به كذلك المقتضي الّذي به يتميّز الشيء إذا حصل عند المدرك كان علما ظاهرا به. فاذا كان المقتضى لاشياء كثيرة متباينة الحقائق أمرا واحدا لتميز باقتضائه كلّ واحد منها ، فذاته ـ تعالى ـ لمّا كان علّة مقتضية لجميع الأشياء إمّا بواسطة أو بدونها وهو عالم بذاته علما تامّا والعلم التامّ بالعلّة بجميع وجوهها مستلزم للعلم بالمعلول كذلك فجميع الأشياء الممكنة المعلولة له ـ تعالى ـ يتعيّن بهذا الاقتضاء ، ولا يغيب عنها. ويتميّز باقتضائه كلّ ذرة من ذرات الوجود ولا يغيب شيء منها عن الشهود العلمي ، فالاشياء في مرتبة ذاته ـ سبحانه ـ وإن كانت معدومات صرفة إلاّ انّه لمّا كانت معلولة لذاته ـ تعالى ـ لازمة لوجوده ـ سبحانه ـ فهذه المعلولية واللازمية صارت منشأ لامتيازها وانكشافها بخصوصياتها ، ولا ينحصر مصحّح الانكشاف والامتيار العلمي بالوجود الخارجي والامتياز العيني ، فما ليس معلولا ولازما له ولا يقتضيه ذاته ـ كالممتنعات الصرفة ـ فلا نمنع عدم تعلّق العلم والانكشاف به ، لانّه ليس بشيء {وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [المائدة: 97]. وأمّا ما هو معلول له ومقتضى لذاته سواء وجد في وقت أو لم يوجد لعلّه راجع إلى نظام الخير ، فيتعلّق به الانكشاف ـ لما ذكر ـ.

فما قيل : انّه كيف يكون ذاته مقتضية للمعدومات والممتنعات وكيف تكون حاضرة متعيّنة مع أنّ التعيّن والحضور لا يمكن بدون الوجود ؛ ففيه ـ كما عرفت ـ : انّ التعين بدون الوجود جائز لمصحّح الاقتضاء والعلّية. نعم! ، لا يتحقّق التعين في الممتنعات لعدم تحقّق مصحّح الاقتضاء ، وأمّا المعدومات فان كانت داخلة في المعلولات والمقتضيات فيصحّ بعينها للمصحّح المذكور ؛ وان لم يوجد فظاهر ، وإلاّ فتكون داخلة تحت الممتنعات.

ثمّ انّه أورد على الجواب المذكور : بأنّ العلّة لمّا كانت مباينة للمعلول مغايرة له في الوجود فلا يكون حضورها حضوره ، وما لم يحضر الشيء عند المجرّد لا يكون مشعورا به بمجرّد كون ذلك المجرّد مبدأ امتيازه ؛ على أنّ قياس العلّة إلى الصورة وازالة الاستبعاد بذلك مستبعد جدّا ، إذ الصورة عين ماهية المعلول ـ على ما هو التحقيق ـ أو شبح ومثال له ـ على المذهب المرجوح ـ ، وليست العلّة حقيقة المعلول ولا مثالا له محاكيا عنه ، فقياسها على الصورة قياس فقهي مع ظهور الفارق ؛ انتهى.

وجوابه : إنّ العلّة وان كانت مباينة للمعلول في الوجود إلاّ أنّ ذلك لا يستلزم المغايرة في الانشكاف والشهود ، سيّما بمعنى الاستلزام بأن لا يستلزم انكشاف العلّة انكشاف المعلول ، مع انّه قد تقرّر وثبت أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، فانّ هذه المقدّمة غير مقيّدة بوجود المعلول في الخارج ، بل هي مطلقة ؛ فيكون المراد منها انّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بمعلولها ومقتضاها سواء وجد أم لا ؛ على أنّ الاستلزام ثابت بينهما في الوجود العيني أيضا. فانّ الوجود العيني للعلّة مستلزم للوجود العينى للمعلول وسرّ الاستلزام بينهما في الوجود والشهود هو حصول الربط بينهما واقتضائه العلّة للمعلول. وهذا الربط والاقتضاء وكون المعلول من سنخ العلّة ولازمها صارت منشأ لاستلزام حضورها الانكشافي لحضوره الانكشافي ، ولاستلزام وجودها لوجوده ، وهو واضح.

__________________

 (1) الأصل : دليل.

(2) راجع : كتاب التلويحات ، ص 70.

(3) الاصل : من.

(4) الاصل : الشيء.

(5) الاصل : وتشديد المبالغة وتقريره.

(6) الاصل : ـ واجبات.

 (7) راجع : نهج البلاغة ، الخطبة 65 ص 96.

(8) راجع : نهج البلاغة ، الخطبة 163 ص 233.

(9) راجع : التوحيد ص 145.

(10) راجع : نفس المصدر ، ص 173.

(11) راجع : نفس المصدر ، ص 139.

(12) راجع : نفس المصدر ، ص 145.

(13) راجع : نفس المصدر ، ص 38.

 (14) الاصل : عليته.

(15) الاصل : معا فيها.

 

 




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.