أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-10-2014
903
التاريخ: 24-10-2014
1242
التاريخ: 5-08-2015
1306
التاريخ: 24-10-2014
955
|
وهو انّ كلّ شيء مستند إليه ـ تعالى ـ ـ أي : هو مبدأ لجميع ما سواه ـ امّا بواسطة أو بدونها فهو علّة الكلّ. ولا ريب في انّه ـ تعالى ـ عالم بذاته ، لانّ العلم عبارة عن حضور المعلوم عند العالم وهو حاصل في شأنه ، لأنّ ذاته ـ تعالى ـ غير غائبة عن ذاته ، فيكون عالما بذاته. والعلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول.
وأورد عليه : بأنّا لا نسلّم انّ العلم عبارة عمّا ذكرتم ؛ ولو سلّم فلم لا يجوز أن يشترط فيه التغاير بين الحاضر وما حضر هو عنده؟! ، فلا يكون الشيء عالما بنفسه كما اشترط ذلك في الحواسّ ، فانّها لا تدرك نفسها مع كونها حاضرة غير غائبة عنها.
وأجيب عن المنع الأوّل : انّ حقيقة العلم إمّا حضور المعلوم عند العالم ـ كما هو رأي جماعة ـ أو ما هو لازم له ـ كما اخترناه ـ ، وهذا ـ أي : كون العلم عبارة عن أحد الامرين ـ بديهي لا خفاء فيه. وعلى التقديرين يحصل ؛ أمّا على الأوّل فظاهر ؛
وامّا على الثاني : فانّ المنع وان توجّه ظاهرا ولم يندفع في الواقع الاّ انّه غير مضرّ ، لانّ حقيقة العلم حينئذ وان لم يكن ما ذكر ـ أعني : حضور المعلوم عند العالم ـ الاّ انّه لا ريب في كونه لازما له ، فأينما تحقّق حقيقة العلم تحقّق الحضور المذكور وانّ لم يكن إيّاه ، وبذلك يتمّ المطلوب.
ولا يخفى انّه أخذ في هذه العبارة ـ أي في حدّ العلم ـ أحد الطرفين عالما والآخر معلوما. فان اريد أنّ العلم عبارة عن حضور المعلوم عند العالم بوصفي العالمية والمعلومية ـ أي : هو حضور المعلوم من حيث هو معلوم عند العالم من حيث هو عالم ـ ، فلا ريب حينئذ في كون حقيقة العلم ذلك وحصول العلم قطعا وضرورة ، واندفاع المنع بديهة ، ولكن يلزم مفسدتان :
أحدهما : كون الحدود دوريا ، وهو ظاهر ؛
وأخراهما : المصادرة على المطلوب ، لانّ من لا يسلّم كون ذاته عالمة ومعلومة لا يسلّم كون حضور ذاته ـ تعالى ـ المعلوم عند العالم. فإثبات علمه ـ تعالى ـ بذاته لمجرّد ذلك مصادرة على المطلوب.
وإن اريد انّ العلم عبارة عن حضور شيء عند شيء أو عند موجود قائم بذاته وحينئذ فكون العلم عبارة عن ذلك أو عمّا هو لازم له ليس بديهيا ـ كما ذكره المجيب ـ ، فلا بدّ من الاستدلال عليه حتّى يندفع المنع.
وأيضا : للمانع أن يستفسر في تبيين منعه وتقريره من عدم الغيبة المشتمل عليه قوله : « لانّ ذاته غير غائب عن ذاته » ؛ فيقول : إن اريد بعدم الغيبة عدم البعد ، فمجرّده لا يلزم العلم ـ كما في صورة الحواسّ وغيرها من الأمور الّتي لا تتصف بالعالمية ـ ؛
وإن أريد به الشعور والانكشاف فممنوع ، لانّه غير بيّن ولا مبيّن من ذلك الدليل على التقدير المذكور ؛ بل هو مصادرة على المطلوب ، لانّ الشعور والانكشاف هو العلم بعينه.
ثمّ الحقّ انّ العلم ليس لازما لمجرّد حضور شيء عند شيء بمعنى عدم غيبته عنه ، بل هو لازم لحضور شيء عند شيء خاصّ ـ أعني : حضور شيء عند المجرّد القائم بذاته ـ ؛ فالتقرير المذكور للدليل المذكور لا يخلو عن خدشة.
فالأصوب في تقريره ـ على ما في المواقف وشرحه ـ هو أن يقال : انّه ـ تعالى ـ يعقل ذاته وإذا عقل ذاته عقل ما عداه ؛
أمّا الأوّل : فلأنّ التعقّل حضور الماهية المجرّدة عن العلائق المادّية للشيء المجرّد القائم بذاته ، وهو حاصل في شأنه لانّ ذاته مجرّدة غير غائبة عن ذاته ، فيكون عالما بذاته ؛
وامّا الثاني : فلأنّه مبدأ لما سواه ، والعلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول.
ثمّ الحقّ ـ كما أشير إليه ـ انّ التعقّل ليس عين حضور الماهية المجرّدة عند المجرّد القائم بذاته ، بل هو لازم له ؛ لانّ العلم والتعقّل صفة للعالم والحضور صفة للمعلوم ، فيجب أن يكون العلم أمرا لازما للحضور المذكور ويكون صفة للعالم. وما قيل : انّ الحقّ هو الأوّل ـ أي : العينية ـ ليس في جهة معلوما. (1)
وقال بعض الفضلاء : انّه إن كان المراد بالحضور الوجود الرابطي لمجرّد ، فالحقّ انّ التعقّل والعلم هو الحضور ، لانّك قد عرفت سابقا انّ العلم هو وجود شيء لمجرّد قائم بالذات ؛ وإن كان أمرا آخر فالحقّ انّه لازم له.
وفيه : انّ المراد بالحضور هو الوجود الرابطي. وكونه عين العلم والتعقّل غير معلوم ، إذ هو صفة للمعلوم ـ كما ذكرناه ـ ، والعلم صفة للعالم. وما ذكره سابقا ليس إلاّ أنّ عند وجود شيء لمجرّد قائم بالذات يتحقّق العلم البتّة ، لا أنّه عين العلم البتّة.
ثمّ إنّ كون التعقّل لازما للحضور المذكور ليس أمرا بديهيا ، بل هو أمر نظري لا بدّ في اثباته من التمسّك بما ذكرناه في كون التجرّد مع القيام بالذات منشأ للتعقل.
وبما أشير إليه من انّه لمّا كان النفس الانسانية عالمة بالمعاني الكلية وكان ذاتها أيضا عالمة بذاتها تحدّسوا من مجموع الأمرين انّ التعقّل لازم لحضور المجرّد عند المجرّد القائم بالذات. وذلك لانّهم لمّا وجدوا النفس إذا اعتبرت من حيث ذاتها بدون وساطة أمر آخر من آلاتها وقواها عالمة بالمعاني الكلّية المجرّدة دون المعاني الجزئية المادّية ولم يتحقّق في هذه الصورة إلاّ حضور ماهية مجرّدة عند موجود مجرّد قائم بذاته ـ وان كان باعتبار القيام ـ علموا أنّ للتجرّد والحضور مدخلا في كون الشيء معلوما ، لكن لا يعلم بذلك أنّ مطلق الحضور كاف ، لاحتمال أن يعتبر الحضور القيامي. ثمّ ولما وجدوها عالمة بذاتها مع عدم امكان القيام فيه علموا انّ المعتبر هو مطلق الحضور وان كان بمعنى عدم الغيبة فتحدّسوا سواء من جميع ذلك أنّ مناط العلم انّما هو الحضور مع التجرّد سواء كان حقيقته ذلك أو كان حقيقته أمرا آخر متحقّقا مع ذلك البتة. ويمكن انّ يتحدّس من علم النفس بقواها الحالّة في محالّها الّتي هي اجسام مادّية لمجرّد حضورها عندها انّ التجرّد عن المادّة ولواحقها غير معتبر في حقيقة العلم ، بل اعتباره انّما هو في العلم الحصولي ـ كما عرفت سابقا ـ. وامّا كون ما حضر عنده مجرّدا قائما بذاته فانّما يعتبر في العالمية لا في المعلومية ، ويتحدس ذلك من ملاحظة عدم امكان حضور المجرّد من حيث هو مجرّد عند غير المجرّد ومن انّه لا يتصوّر حضور شيء عند شيء لا يكون قائما بذاته وحاضرا لذاته ، إذ لو امكن حضور المجرّد عند غير المجرّد وجاز حضور شيء عند ما لا يكون قائما بذاته لامكن القول بأنّ العالم بالنفس وقواها بالعلم الحضوري انّما هو بعض القوى المادّية دون النفس ، ولكن الحدس الصائب يدلّ على عدم امكان ذلك.
والحاصل : انّ هذا البرهان وكثيرا من البراهين في العلم الإلهي انّما يتمّ بمعونة الحدس القويّ ، وقد تقدّم ما يصحّح ذلك بطريقة النظر أيضا.
وقد ظهر ممّا ذكر انّه يجب أن يعتبر التجرّد والاستقلال في الوجود في منشأ العالمية في هذا الدليل ـ كما هو المذكور في المواقف ـ ، اذ لو لم يعتبر التجرّد والاستقلال واكتفى بمجرّد حضور شيء عند شيء لزم كون كلّ شيء ـ ولو كان مادّيا ـ عالما بنفسه ، وهو باطل ؛ هذا.
ثمّ المنع الثاني ـ أعني : جواز اشتراط التغاير بين الحاضر وما حضر عنده ـ فجوابه : انّ عدم اشتراط التغاير بين العالم والمعلوم في العلم يعلم من علم الانسان نفسه ، وأمّا كون الحواسّ غير عالمة بأنفسها فهو انّما يكون لأجل كونها غير مجرّدة ولا موجودة بالاستقلال ، لا لاجل الاشتراط المذكور.
ثمّ لا يخفى أنّ هذا الدليل هو بعينه الدليل السابق ، إلاّ انّ مجرّد استناد كلّ شيء إليه ـ تعالى ـ لا يفيد علمه ـ تعالى ـ به ما لم ينضمّ إليه ما يدلّ على علمه لذاته ـ أعني : كونه مجرّدا ـ وكون كلّ مجرّد عالما بذاته مع ما اخذ في الدليل السابق ـ أعني : قولنا العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ـ. فيصير خلاصة هذا الدليل : انّ واجب الوجود في أعلى مراتب التجرّد فيكون عالما بذاته ، وذاته ـ تعالى ـ علّة فاعلية لجميع الممكنات إمّا بغير واسطة أو بواسطة هي منه ، فيكون عالما بجميع الموجودات كما قال الله ـ تعالى ـ : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. فأنّ الحكم بان الفاعل العالم بذاته عالم بما صدر عنه بديهي. ولا ريب في أنّ هذا الدليل هو بعينه الدليل السابق ، فجعلها دليلين مسامحة. وقد جعلا في كتب الحكمة دليلا واحدا وقد ذكرا فيها على أنهما دليل واحد ؛ والناقلون ليسوا محقّا في عدّهما دليلين.
ويمكن أن يقال : مطلوبهم من الدليل السابق انّما هو مجرّد اثبات كونه ـ تعالى ـ عالما بذاته لا بما عداه أيضا من الموجودات ، وليس انضمام قولنا العلم : « بالعلّة يوجب العلم بالمعلول » فيه منظورا للقوم ؛ ومن الأخير اثبات عموم علمه ـ تعالى أي : شمول علمه تعالى بجميع الموجودات كلّية كانت أو جزئية ـ مع منظورية انضمامه إلى ما يدلّ على علمه بذاته. ويدل على ذلك قول المحقق الطوسي في التجريد : « والاحكام والتجرّد واستناد كلّ شيء إليه دلائل العلم ، والأخير عامّ » فان قوله : « والأخير عامّ » يدلّ على انّ الاحكام يدلّ على علمه ـ تعالى ـ بغيره من مصنوعاته والتجرّد يدلّ على علمه بذاته وغيره من الموجودات ، واستناد كلّ شيء إليه يدلّ على علمه بالجميع. ولا ريب في انّ مجرّد الاستناد لا يدلّ على عموم علمه ، فمطلوبه انّه بعد ضمّ ذلك إلى دلائل أخرى دالّة على علمه ـ تعالى ـ بذاته يثبت شمول علمه بالجميع. فهذه الضميمة في هذا الدليل منظورة. وضميمة قولنا : العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول غير منظورة في الدليل السابق ، فلذا يصيران دليلين. ولمّا نشأ اضافة هذا الضميمة من بعض المتأخّرين على الدليل السابق أيضا لزم عليهم الايراد بكونها حينئذ دليلا واحدا.
وأنت تعلم أنّ هذا التوجيه لكلامهم لا وقع له ، لانّه أيّ وجه لكون الضميمة منظورا لهم في واحد من الأدلّة الثلاثة دون الآخرين؟! ، والحكم بكونه حينئذ عامّا دونهما مع تساوي النسبة الثلاثة إلى الضميمة. فانّه إذا كان الثالث لا يدلّ على العموم ما لم ينضمّ إليه شيء آخر ـ أعني : كونه عالما بذاته ـ وبانضمام هذا الشيء الآخر إليه صار عامّا وكان الدليلان الاوّلان أيضا كذلك فالانضمام إلى الثالث دون الأوّلين تحكّم لغو. نعم! ، يمكن أن يقال : انّ الدليل الأوّل بعد الضمّ أيضا ليس بعامّ ، إذ لا يلزم منه الاّ كونه ـ تعالى ـ عالما بأفعاله المستقلّة بذاته أيضا ـ بناء على الصحيحة ـ ، وامّا بسائر الأشياء مثل أفعال مخلوقاته فلا.
وامّا الدليل الثاني فلا ريب في انّه بعد الضميمة يصير الدليل الثالث ، إذ ليس الملحوظ فيه إلاّ أن يثبت علمه ـ تعالى ـ بذاته بأيّ وجه كان ، ثمّ يثبت علمه بجميع الاشياء لاستنادها إليه ، وليس الدليل الثاني بعد الضم الاّ هذا ؛ فجعلهما دليلين مسامحة.
وبذلك يظهر ما في كلام المحقّق ، لأنّه إن جعل قوله : « الإحكام والتجرّد واستناد » ثلاثة أدلّة لاثبات أصل العلم مع الحكم بكون الثالث عامّا ـ أي : انّه مع افادته لأصل العلم يفيد شمول العلم أيضا ـ. ففيه : انّ الثالث لا يصلح دليلا فضلا عن كونه عامّا ما لم ينضمّ الثاني ، فيكون في كلامه خزازة.
على انّه مع منظورية الانضمام لا وجه لتخصيصه بالعمومية.
ولو حمل قوله : « والأخير عامّ » على أنّ الثالث دالّ على شمول العلم لا على أصله ـ يعنى : انّ من الدليلين الأوّلين أثبت أصل العلم في الجملة وهذا الثالث انّما هو لاثبات عمومه لا أصله وإن احتاج إلى ضميمة ـ ،
ففيه : انّه صرف عن المتبادر ، لأنّ ظاهر كلامه انّ كلّ واحد منها يفيد أصل العلم ، لا انّ اثنين منها يفيدان أصل العلم وواحد منها يفيد شموله مع انّ تخصيص الأخير بالشمول مع الضميمة دون الأوّلين أو الثاني ـ نظرا إلى أنّ الأوّل لا يفيد الشمول مع الضميمة أيضا ـ تحكّم باطل!. قال بعض الافاضل فى شرح كلام المحقّق : « انّ التجرّد لاثبات علمه ـ تعالى ـ بذاته ، والإحكام والاستناد لاثبات علمه مطلقا بما سواه ، ويحصل بانضمام الدليل المثبت لعلمه بذاته إلى كلّ واحد من الدليلين المثبتين لعلمه بما سواه دليلان لاثبات علمه مطلقا ـ أعنى : بذاته وبما سواه جميعا ـ. وكانّه بهذه النكتة أورد الدليل المثبت لعلمه بذاته بين الدليلين الآخرين.
ثمّ قال : وتركيب الدليلين دالّ على علمه ـ تعالى ـ مطلقا ، فتقريرهما أن يقال : انّه ـ تعالى ـ مجرّد وفاعل الافعال المتقنة المحكمة ، وكلّما هو كذلك فهو عالم بذاته وبأفعاله ـ لما مرّ ـ ؛ أو يقال انّه ـ تعالى ـ مجرّد وقائم بذاته وموجود بالذات وكلّ شيء موجود وحاضر عنده ـ لكونه معلولا له ـ ، وكلّ ما هو كذلك فهو عالم بذاته وبما سواه ـ لما عرفته ـ.
ثمّ قال : ويمكن أن يجعل كلّ واحد من هذه الدلائل إشارة إلى الدليل لعلمه بذاته وعلمه بما سواه بأن يقال : انّه ـ تعالى ـ فاعل الأفعال المحكمة المتقنة وكلّ فاعل كذلك فهو لا ينفكّ عن العلم بأفعاله ، فإذن علم ذاته ـ إذ من يعلم أفعاله يمكن أن يعلم انّه يعلم أفعاله ـ ، ومن ذلك العلم يلزم امكان تحقّق العلم بذاته ومن امكان تحقّق العلم بذاته يلزم تحقّق العلم بذاته ، إذ علم الشيء بذاته لا يمكنه إلاّ بحضور ذاته ؛ ومن أمكنه أن يحضر ذاته عند ذاته فقد حضر ذاته ولو لم يحضر لا يمكن أن يحضر ـ كما لا يخفى ـ.
وهكذا يقال أيضا في دليل الاستناد ، فانّه إذا استند كلّ شيء إليه ومن جملته الأشياء المحكمة المتقنة فهو عالم بها. وبسياق الدليل امّا في دليل التجرّد فيقال : انّه ـ تعالى ـ لكونه مجرّدا عالما بذاته وذاته علّة لما سواه ، ويلزم من العلم بالعلّة العلم بالمعلول » ؛ انتهى.
وأنت تعلم انّه على ما ذكره هذا الفاضل في صورة تركيب الدليلين لا يكون فرق بينهما في العموم والخصوص ، فيكون قول المحقّق : « والأخير عامّ » تحكّما لغوا. وما ذكره في صورة جعل كلّ واحد من الثلاثة دليلا على حدة لاثبات علمه بذاته وبما سواه لا يكون فرق بين الثلاثة في العموم والخصوص ، فيكون التحكّم في قوله : « والأخير عامّ » أشدّ.
ثمّ تصدّى الفاضل المذكور لتقرير الدليل الثالث على وجه لا يحتاج إلى ضميمة ، فقال : « لمّا ثبت انّ جميع الموجودات مستندة إليه ـ تعالى ـ وهو ليس مستندا إلى شيء من الاشياء فهو ـ تعالى ـ لكونه غير متعلّق بشيء من الأشياء غير موجود لشيء من الاشياء ، بل هو موجود لذاته قائم بذاته وجميع الأشياء لكونها معلولة له موجودة له حاضرة عنده منكشفة لديه غير غائبة عنه ـ تعالى ـ لوجوب كون العلّة موجودة مع المعلول ، فانّ حصول المعلول للعلّة أشدّ من حصول الصورة لنا ـ كما صرّح به المحقّق في شرح الاشارات ـ ، فهو ـ تعالى ـ عالم بها لا محالة. إذ العلم هو كون المعلوم موجودا لأمر قائم بذاته وحاضرا عند موجود لذاته غير غائب عنه ـ كما عرفت ـ. فثبت علمه ـ تعالى ـ بجميع ما سواه ؛ وهو المطلوب فعلى هذا لا حاجة في اتمام هذا الدليل إلى ضمّه إلى دلائل أخرى دالّة على علمه بذاته ، بل هو مستقلّ في اثبات المطلوب » ؛ انتهى.
وأورد عليه : بأنّا لا نسلّم انّه يلزم من كون الأشياء معلولة له كونها موجودة له حاضرة عنده منكشفة لديه ، لا بدّ له من دليل!. ووجوب كون العلّة موجودة مع المعلول لا يفيد ذلك ـ كما لا يخفى ـ ؛ كيف والنار علّة للحرارة ولا علم لها أصلا!. ولو سلّم فانّما نسلّم في افعاله ، وامّا في أفعال مخلوقاته فلا نسلّم!.
ثمّ لا يخفى انّه على تقدير تماميّته انّما يدلّ على عموم علمه بالنسبة إلى جميع ما سواه ، ولا يدلّ على علمه ـ تعالى ـ بذاته أيضا مع انّ ظاهر قوله : « والأخير عامّ » انّه دالّ على علمه بذاته وبجميع ما سواه ؛ انتهى.
ومراده انّ مجرّد كون الأشياء معلولة له ـ تعالى ـ لا يصحّح كونه عالما بها ما لم ينضمّ إليه كونه مجرّدا قائما بذاته ، لما تقدّم من أنّ المصحّح للعاقلية انّما هو التجرّد دون المادّية ، والموجب له بالفعل المصحّح المذكور مع إحدى العلاقات. والعلّية والمعلولية وإن كانت من العلاقات ـ لما ذكره المحقّق من أنّ حصول المعلول للعلّة اشدّ من حصول الصورة له ـ إلاّ انّه إذا لم ينضمّ إليه كونه ـ تعالى ـ مجرّدا لا يكون مفيدا. وكذا بدون الانضمام المذكور لا يثبت منه علمه ـ تعالى ـ بذاته ، ومع الانضمام لا يكون الدليل الثالث مستقلاّ في اثبات عموم علمه ـ تعالى ـ بحيث لا يحتاج إلى ضميمة.
ويمكن أن يوجّه كلام الفاضل المذكور بأنّ غرضه انّه إذا كان جميع الأشياء مستندا إليه ـ تعالى ـ ولم يكن هو مستند إلى شيء ولا متعلّقا بشيء ولا موجودا لشيء من الأشياء بل كان موجودا قائما بذاته لكان مجرّدا ، لأنّ غير المجرّد يكون متعلّقا بشيء وموجودا بشيء آخر مستندا إلى غيره ، ومجرّد استناد الأشياء إليه ـ تعالى ـ وعدم استناده إلى شيء يتضمّن تجرّده ـ تعالى ـ وتحقّق علاقة بينه وبين الأشياء ، فيحصل الموجب للتعقّل بالفعل من غير احتياج إلى ضميمة أصلا.
ثمّ لا يخفى انّه على أيّ تقدير ـ أي : سواء قلنا انّ دليل الاستناد مستقلّ في اثبات عموم علمه تعالى أو لا ـ لا ريب في أنّ اثبات عموم علمه ـ تعالى ـ من دليل التجرّد ومن دليل الاستناد يتوقف على اثبات المقدّمة القائلة بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول إلى آخر المقدّمة القائلة بأنّ الفاعل العالم بذاته عالم بما يصدر عنه والفرق بين المقدّمتين انّ المقدّمة الأولى لا خصوصية لها بعلم الفاعل نفسه بنفسه وغيره به ، بل على تقدير صحّتها لو كان العالم بالفاعل غيره أيضا لزم علم هذا الغير بجميع معلولاته ؛
وأمّا المقدّمة الثانية فلا تجري فيما إذا كان غير الفاعل عالما به ، بل المراد منها انّ الفاعل إذا كان ذا شعور بنفسه يكون ذا شعور بما صدر عنه. ولا ريب في أنّ هذه المقدّمة ـ أي : الثانية ـ بديهية أو قريبة من البداهة ، فانّ كلّ شاعر بنفسه شاعر بما يصدر عنه البتة وإن قطع النظر عن كون العلم بالعلّة مستلزما للعلم بالمعلول ، لأنّه لا يتوقّف عليه كلّية ولا يكون ثبوته موقوف على تمامية ما قيل في اثباته. بل إذا ثبت علم الفاعل بنفسه يحكم البديهة بعلمه بما يصدر عنه ، لانّ العلم بالذات لا ينفكّ عن العلم بلوازمه ومعلولاته. فلمّا ثبت أنّ واجب الوجود فاعل لجميع الموجودات وعالم بنفسه يكون عالما بما صدر عنه البتة ؛ ولبداهة ذلك قال ـ سبحانه ـ في مقام الاستفهام الانكاري : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]؛ أي : لا يعلم مخلوقاته والحال انّه لطيف خبير ، أي : عالم شاعر بذاته. فهذا أحد الطريقين في اثبات علمه ـ تعالى ـ بجميع الموجودات بعد ثبوت كونه ـ تعالى ـ فاعلا لجميعها وكونه عالما بذاته ؛ وهو تامّ لا يرد عليه شيء بوجه.
وأمّا الطريق الآخر لإثباته ـ أعني : كون العلم بالعلّة موجبا للعلم بالمعلول ـ فنقول في بيانه : انّ المشهور بين القوم انّ العلم التامّ بالعلّة ـ أي : العلم بمهيتها ولوازمها وعوارضها وملزوماتها ومعروضاتها وما لها في نفسها وما لها بالقياس إلى غيرها ـ يستلزم العلم التامّ ـ أي : العلم من جميع الوجوه المذكورة ـ بالمعلول ، ولا عكس ، يعني : انّ العلم التامّ بالمعلول لا يستلزم العلم التامّ بالعلّة.
وأنت تعلم انّ ما ذكر من استلزام العلم التامّ بالعلّة للعلم التامّ بالمعلول صحيح لا غبار عليه ، لأنّه إذا علم العلّة بمهيتها ولوازمها لا يبقى شبهة في حصول العلم بمعلولها ، لانّ المعلول من لوازم العلّة وما يترشح عنه فاذا علم انّ العلّة حقيقتها كذا وما يلزمها كذا وكذا وخواصّها كذا وكذا يعلم معلولها البتة ، فالعلم بالعلّة بهذا الوجه لا ينفكّ عن العلم بالمعلول. إلاّ أنّ العلم بالمعلول بهذا النحو أيضا مستلزم للعلم بالعلّة ، لانّه إذا علم انّ المعلول حقيقتها كذا وملزومه كذا والعلّة من ملزوماته فيحصل العلم بالعلّة ، فالتفرقة تحكّم.
ولا يمكن أن يقال : انّ العلم التامّ بالعلّة يستلزم العلم بماهية المعلول المعين ، وأمّا العلم التامّ بالمعلول فلا يستلزم العلم بالعلّة المعينة ، لانّ العلم التامّ بالمعلول ـ على ما فسر ـ أن يعلم المعلول بمهيته وملزوماته المعينة ، لا ملزوماته الغير المعينة ؛ إذ لو أريد ملزوماته الغير المعينة لكان اللازم أن يراد العلم التامّ بالعلّة أيضا على طبق ذلك بأن يراد العلم بماهية العلّة ولوازمه الغير المعينة ؛ فلا فرق أيضا.
فان قيل : معروضات العلّة ليست ملزومة للمعلول ؛
قلنا : لو صحّ ذلك لم يكن عوارض المعلول أيضا من لوازم العلّة.
وبالجملة لا فرق في العلم التامّ بالعلّة والعلم التامّ بالمعلول في استلزام كلّ منهما للآخر. الاّ أنّ حصول العلم التامّ لغير الواجب بالعلّة ـ أعني : ذاته ـ وبمعلولاته في غاية الاشكال. مع انّ هذه القاعدة القائلة بأنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول مستعملة عندهم في موارد متعدّدة كإثبات علمه ـ تعالى ـ بسائر الموجودات لكونه عالما بذاته ، واثبات علم غيره من المجرّدات لمعلولاته ـ ... إلى غير ذلك من المواضع ـ. فان لم يمنع كون الواجب ـ تعالى ـ عالما بذاته من جميع الوجوه المذكورة فقد يمنع ذلك في غيره بصعوبة ذلك ، فلا يتمّ مقصودهم فيه.
وتحقيق الكلام في هذا المقام انّه لا ريب في انّه إذا علم العلّة بكنهها ـ أي : بمهيتها ولوازمها ـ أو بالحيثية الّتي نشأ منها المعلول ويلزمها يعلم المعلول حينئذ بخصوصه البتة ، لأنّ علّة كلّ شيء يجب أن يكون علّة هذا الشيء بعينه ولا يمكن أن يقوم شيء آخر مقام هذا المعلول ، فانّه إذا علم الشيء بكنهه أو بالحيثية الّتي ينشأ منها شيء آخر علم ما يلزمه ويناسبه وينشأ منها ، فانّ العلم بكنه الشيء لا ينفكّ عن العلم بمناسباته اللازمة له ؛ فلو لم يعلم انّ الاشياء المناسبة اللازمة الغير المنفكّة عن هذه العلّة ما ذا لم يعلم حقيقة العلّة.
وإذا ثبت ذلك نقول : لا ريب في أنّ المعلول أيضا إذا علم بكنه أو بالحيثية الّتي تنشأ من علّته يعلم علّته حينئذ بخصوصها ، لأنّ مع كلّ شيء يجب أن يكون معلولا لهذا الشيء بعينه ، لانّ العلم بكنه الشيء لا ينفكّ عن العلم بمناسباته وملزوماته ؛ ومن مناسبات هذا المعلول علّته الخاصّة له ، فلو لم يعلم علّته بخصوصها لم يعلم حقيقته.
وما قيل : انّ العلم بالمعلول بكنهه أو من حيث لزومه لعلّته وصدوره عنه وان استلزم العلم بعلّة ما إلاّ انّه لا يستلزم العلم بعلّة معينة ـ لأنّ المعلول لمّا لم يستوجب الاّ علّة ما لوجوده أيّة علّة كانت دون علّة معينة ـ فسواء علم بكنهه أو بوجه آخر انّما يستلزم العلم بعلّة ما ، فمعلومية المعلول بالكنه لا يدخل فيه خصوصية العلّة ، لانّ حقيقته لا تدلّ إلاّ على وجود علّة ما ، فالعلم بكنه العلّة وخصوصيتها ليس لازما للعلم بكنه المعلول بخلاف العلم بكنه المعلول وخصوصيته، فانّه لازم للعلم بكنه العلّة وداخل فيه ؛
كلام سطحي يندفع بالتأمّل ؛ لأنّ العلم بالكنه انّما يتحقّق إذا علم الحقيقة مع مناسباته اللازمة لها ولا ريب في كون خصوصية العلّة من مناسبات حقيقة المعلول ، فانّه بعد ما يثبت انّ المناسبة بين العلّة والمعلول لازمة ـ ولهذا يستدلّ على انّه لا يمكن أن يكون واحد معلولا لكثير ولا علّة لكثير ـ يثبت انّه إذا علم كنه شيء يلزم أن يعلم كنه ما يناسبه بخصوصه ـ سواء كان معلولا له أو علّة له ـ. ولو قطع النظر عن الكنه والمناسبات فحينئذ كما لا يستلزم العلم بالمعلول العلم بكنه العلّة وخصوصيتها فكذا لا يستلزم العلم بالعلّة العلم بكنه المعلول وخصوصيته.
فان قيل : يمكن أن يعلم المعلول بكنهه ولم يعلم خصوصية العلّة ، لانّ العلم بكنه المعلول انّما يفيد العلم بملزومه وملزومه يمكن أن يكون متعدّدا بأن يتحقّق أمر كلّي مشترك بين كثيرين يكون علّة لهذا المعلول وهذا الكلّي في ضمن أيّ فرد وجد يكون علّة وسببا لوجود هذا المعلول من دون مدخلية خصوصية هذا الفرد فيه ؛
قلنا : بمثل ذلك يمكن أن يقال : العلم بالعلّة بكنهها لا يستلزم العلم بخصوصية المعلول ، لأنّ العلم بكنه العلّة انّما يفيد العلم بلازمه ، ولازمه يمكن أن يكون متعدّدا بأن يتحقّق أمر كلّي مشترك بين كثيرين يكون معلولا لهذه العلّة وهذا الكلّي في ضمن أيّ فرد وجد يكون معلولا لهذه العلّة من دون مدخلية خصوصية هذا الفرد.
ثمّ التحقيق انّ علّة الشيء بخصوصه لا يكون الاّ أمر معين خاصّ ولا يمكن أن يكون علّته أمرا كلّيا مشتركا بين كثيرين. ولو سلّم كون الكلّي علّة ـ مع كونه خلاف التحقيق ـ فلا يكون إلاّ علّة لكلّي أيضا. وكذا معلول الشيء المعيّن الخاصّ لا يكون إلاّ أمرا معينا خاصّا. فكما انّ العلّة الواحدة المعينة لا يمكن أن يصدر عنها معلولات متعدّدة مختلفة إلاّ مع اختلاف جهات في هذه العلّة ـ لوجوب المناسبة والتكافؤ بين العلّة والمعلول ـ فكذا المعلول الواحد المعيّن لا يمكن أن يصدر عن علل متعدّدة الاّ مع اختلاف جهات في هذا المعلول ـ لما ذكر ـ. وحينئذ لا فرق بين العلم بالعلّة والعلم بالمعلول في استلزام كلّ منهما للآخر وعدمه ، لانّه إذا علم العلّة بكنهها أو بالحيثية الّتي يصدر عنها المعلول وكانت العلّة واحدة بسيطة نقول : هذه العلّة لبساطتها ووحدتها لا يصدر عنها الاّ معلول واحد ؛ ثمّ نقول : لمّا علم كنه تلك العلّة وحقيقتها فيعلم أنّها تناسب معلولا بخصوصية كذا وإن لم تكن واحدة بسيطة ، بل اشتملت على مهيات مختلفة. فنقول : بكلّ جهة تناسب معلولا بخصوصية كذا وان لم يعلم تلك الجهات بكنهها فلا يحصل علم بخصوصيات معلولاتها أصلا.
وكذا إذا علم المعلول بكنهه أو بالحيثية الّتي تصدر عن العلّة وكان واحدا بسيطا نقول : هذا المعلول لبساطته ووحدته لا يصدر إلاّ عن علّة واحدة بسيطة. ثمّ نقول : لمّا علمنا كنه هذا المعلول فيعلم منه العلّة الّتي يناسبه ، فيعلم منه خصوصية العلّة وان لم يكن واحدا بسيطا بل كان مشتملا على جهات مختلفة ، فان علمنا تلك الجهات بكنهها فنعلم من كلّ جهة ما يناسبه من العلّة ، فنعرف علّتها بخصوصها ؛ وإن لم نعلم تلك الجهات بكنهها فلا يحصل لنا علم بخصوصيات عللها. فقد ظهر انّه لا فرق بين العلم بالعلّة والعلم بالمعلول إذا فرض حصول العلم بالكنه أو بالحيثية الّتي ينشأ منها المعلول في استلزام كلّ منهما للآخر وعدمه.
وبما ذكرنا يظهر ما في كلام بعض الأعاظم حيث قال : « كلما علم علّته التامّة بكنهها وبحيثية كونها علّة ـ أي : بحيثيته الّتي هي بها علّة تامّة ـ فلا محالة قد علم المعلول أيضا علما تامّا ، بل العلم التامّ بذوات الاسباب إنّما يحصل من جهة العلم بأسبابه المادّية إليها من الحيثية الّتي بها يحصل التأدية ، فكلّ من تعقّل سببا تامّا لمعلول ما بكنهه أو بالوجه الّذي ينشأ منه المعلول فكذلك يعقل المعلول عقلا تامّا ، فانّ المعلول بعينه من لوازم ذات العلّة التامّة ، فالعلم التامّ بها يوجب العلم التامّ به. بخلاف العكس ، فانّ المعلول بما هو معلول إنّما يستوجب علّة واحدة لوجوده أيّة علّة كانت ، لا علّة معينة بعينها. ومعلول الشيء لا يجب أن يكون معلوله بعينه بخلاف علّته ، فانّ علّته يجب أن تكون علّته بعينه. فليس العلم التامّ بالمعلول يقتضي علما تامّا بعلّته والعلم بالعلّة يفيد العلم بماهية المعلول وإنّيّته ، والعلم بالمعلول لا يفيد إلاّ العلم بانّية العلّة. ولذلك أفضل البراهين وأوثقها هو النمط اللمى » ؛. انتهى.
وما في كلامه هو ما علمت مفصّلا من عدم الفرق بين العلم بالعلّة والعلم بالمعلول إذا تعلّق بالكنه أو بالوجه الّذي ينشأ منه المعلول في استلزام كلّ منهما للآخر. ولذلك قال بعض الأفاضل في توجيه الفرق الّذي ذكره القوم : « انّ المراد انّ العلم بوجود العلّة التامّة يستلزم العلم بوجود المعلول المعيّن ولا عكس ، لأنّ العلم بوجود المعلول المعيّن لا يستلزم إلاّ العلم بوجود علّة ما. والسبب في ذلك انّ العلّة التامّة تكون بخصوصها مقتضية للمعلول المخصوص والمعلول المخصوص يستدعي لا مكانه علّة ما ، فالعلية مستندة إلى خصوصية الذات الّتي لا يتصور اقتضائها إلاّ لشيء مخصوص والمعلومية مستندة إلى امكان ذات مخصوصة ؛ ولا شكّ انّ الامكان لا يستدعي علّة مخصوصة ، بل علّة ما. فالعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول وانيته والعلم بالمعلول يستلزم علما بانية العلّة دون ماهيتها. ومن ثمّ نحكم بأنّ الاستدلال بالعلّة يستلزم علما تامّا والاستدلال بالمعلول يوجب علما ناقصا » ؛ انتهى.
وأنت خبير بأنّ هذا الكلام غير صحيح ، فانّ مجرّد العلم بوجود العلّة لا يوجب العلم بالمعلول ما لم يعلم كونها علّة له ، فان علمنا بوجود شيء لا يفيد كون هذا الشيء علّة لشيء آخر أصلا فضلا عن علّية الشيء الخاص إلاّ إذا علم بكنهه أو بلوازمه المعيّنة. وكونه علّة له في الواقع ونفس الأمر لا ينفع مع عدم علمنا به ، فانّ اقتضاء العلّة لمعلولها بحسب التحقّق الخارجي لا يفيد استلزام العلم بالعلّة للعلم بالمعلول ، انّما المفيد لذلك هو الاقتضاء بحسب التحقّق الذهني وهو مفقود ـ على ما هو المفروض ـ. ففي هذا الفرض ـ أي : فرض تحقّق العلم بمجرّد وجود العلّة ـ لا يتحقّق العلم بوجود معلول ما فضلا عن معلول معيّن. نعم! مجرّد العلم بوجود المعلول يوجب العلم بوجود علة ما. فتحصّل دعوى العلم بمجرّد وجود العلّة والمعلول يجعل استلزام العلم بالمعلول للعلم بالعلّة أقوى من العكس ؛ وهو خلاف المطلوب.
وقيل : إذا علم علّية شيء لشيء آخر وعلم موجودية الشيء الأوّل يعلم موجودية الشيء الآخر دون العكس ، لانّه إذا علم موجودية الشيء الآخر يمكن صيرورته موجودا بعلة أخرى غير الشيء الأوّل ، فاذا علم أنّ « آ » مثلا علّة لـ « ب » وعلم مع ذلك انّ « آ » موجود علم انّ « ب » أيضا موجود لما علم انّ خصوصية ذات « آ » مقتضية لخصوصية ذات « ب » دون العكس ، فانّه إذا علم انّ « ب » موجود لا يعلم انّ « آ » موجود ، لإمكان أن يوجد « ب » بعلّة أخرى غير « آ » فالعلم بوجود العلّة المعينة يستلزم العلم بوجود المعلول المعين دون العكس.
أقول : لا ريب في انّه إذا علم أنّ « آ » علّة تامّة لـ « ب » فاذا علم وجود « آ » يعلم وجود « ب » أيضا ، نظرا إلى تحقّق العلم بأنّ هذه العلّة المعيّنة ـ أعني : « آ » ـ علّة تامّة لهذا المعلول المعين ـ أعني « ب » ـ. ولكنه لا ريب في انّه إذا علم أيضا انّ « ب » معلول لـ «آ» بخصوصه فلا ريب في انّه اذا علم وجود « ب » يعلم وجود « آ » أيضا ، لانّه علم أنّ علّة «ب » منحصرة بـ « آ » فاذا علم وجود « ب » يعلم وجود « آ » أيضا ، فمع العلم بانحصار علّة « ب » في « آ » لا يتحقّق فرق بين العلم بالعلّة والعلم بالمعلول في الاستلزام. نعم! ، إذا علم أنّ « آ » علّة لـ « ب » و « ب » معلول لـ « آ » على الاطلاق من دون علم بالانحصار فحينئذ إذا علم أنّ « آ » موجود يعلم انّ « ب » أيضا موجود البتّة ، لانّه إمّا وجدت قبل وجود « آ » علّة اخرى لـ « ب » فتكون « ب » موجودة بها ، وان لم توجد علّة أخرى فيصير «ب» موجودة بوجود « آ » ، وعلى التقديرين يعلم وجود
« ب » بعد وجود « آ ». وأمّا إذا علم وجود « ب » فيمكن أن تكون موجودة لوجود علّة اخرى سوى « آ » ولا تكون « آ » موجودة بعد ، ففي هذه الصورة ـ أعني : صورة عدم العلم بانحصار العلّة ـ يتحقق الفرق باستلزام العلم بالعلّة للعلم بمعلول مخصوص واستلزام العلم بمعلول مخصوص للعلم بعلّة ما ، فالفرق بين العلم بالعلّة والعلم بالمعلول في استلزام إحداهما للآخر لا يتحقّق إلاّ في هذه الصورة.
والحقّ انّ مراد القوم من قولهم العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ليس ما ذكره هذا الفاضل من أنّ العلم بوجود العلّة يستلزم العلم بوجود معلول مخصوص بخلاف العكس ؛ فانّ هذا ليس مرادهم ولا يرتبط به مقاصدهم. فانّهم فرّعوا عليه انّ علم الواجب بذاته يوجب علمه بجميع الموجودات ، ولا ريب في أنّ المطلوب اثبات علم الواجب بحقائق الأشياء لا بكونها موجودة. فمرادهم ـ كما يفهم من موارد استعمالاتهم ـ انّ تعقل العلّة بتمام ماهيتها يستلزم تعقّل لوازمها ؛ والمعلول من جملة لوازمها ، فيستلزم تعقّله. وهذا صحيح ، إلاّ انّ ما ذكره من عدم ثبوت عكسه فقد عرفت ما فيه.
وقد ثبت ممّا ذكرناه أنّ استلزام العلم بالعلّة للعلم بالمعلول انّما هو إذا علم العلّة بالكنه ـ أي : بتمام ماهيتها ولوازمها وملزوماتها ـ أو بالوجه الّذي ينشأ منه المعلول ـ أي : علم ماهيتها من حيث أنّها مستلزمة للمعلول وعلّة إلى آخره ـ. والأوّل علم تامّ بالعلّة والثاني وان كان علما ناقصا بالعلّة إلاّ انّه يستلزم العلم بالمعلول لا مطلقا ، بل من حيث هو لازم للعلّة او معلول لها. ضرورة انّ الملزومية واللازمية والعلّية والمعلولية من المتضايفات الّتي لا يتصوّر ولا يصدق إلاّ بثبوتها معا.
وبذلك يظهر انّ تعلّق العلم بماهية العلة من حيث هي لا باعتبار آخر لا يستلزم تعلّق العلم بالمعلول أصلا. اللهم إلاّ أن يكون المعلول لازما بيّنا لماهية العلّة بمعنى انّه يلزم من تصور ماهية العلّة تصوّر ماهية المعلول. وأمّا تعقّله بكنه العلّة فلإيجابه تصوّر لوازمها الّتي من جملتها المعلول ، فيستلزم تعقّله. فما ذكره فخر الدين الرازي في المحصّل (2) من : « انّا متى تعقّلنا العلّة بكنهها فقد حصل في الذهن ماهية موجبة لماهية المعلول ومتى كان كذلك
كان العلم بالمعلول حاصلا ، والمقدّمتان ظاهرتان بناء على القول بأنّ التعقّل يستدعي حصول ماهية مساوية للمعقول في العاقل » (3) صحيح لا خدشة فيه ويندفع عنه ما أورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ تصوّر العلّة انّما يوجب تصوّر المعول إذا كانت العلّة بوجودها الذهني علّة لوجود المعلول في الذهن ، وحينئذ يكون المعلول لازما بيّنا للعلّة.
فقوله : « متى تعقّلنا العلّة بكنهها فقد حصل في الذهن ماهية موجبة لماهية المعلول ».
قلنا : قد حصل في الذهن مهيته إذا تحقّقت في الخارج تحقّق المعلول في الخارج ، فعلى كون ماهية العلة موجبة لماهية المعلول إن العلّة بوجودها الخارجي تستلزم وجود المعلول في الخارج لا انّها بوجودها الذهني تستلزم وجود المعلول في الذهن ، وهذا هو المطلوب ؛ انتهى.
ووجه الاندفاع انّ تعقّل العلّة بالكنه لا ينفكّ عن تعقّل اللوازم الّتي من جملتها المعلول ، فيلزم من تعقّلها بالكنه تعقّله لدخول تعقّل المعلول في تعقل العلّة بالكنه. فما ذكره ايرادا عليه خبط وهفوة صدرت عن غير التأمّل.
وإذا ثبت انّ العلم بالعلّة بكنهها أو بالوجه الّذي ينشأ منه المعلول يوجب العلم التامّ بالمعلول فنقول : ثبت منه ما نحن بصدد اثباته في هذا المقام ، وثبوت العكس وعدم ثبوته لا مدخلية له في المطلوب. إذ نقول : مع ثبوت تلك المقدّمة لا ريب في أنّه ـ تعالى ـ علّة لجميع الموجودات وعالم بذاته المقدّسة بكنهها وبالوجه الّذي ينشأ منها المعلولات ، فيلزم كونه ـ تعالى ـ عالما بجميع الموجودات لأنّ ذاته علّة موجدة لجميع ما عداه وجميع الموجودات حسّيا كان أو عقليا معلول له ـ إمّا بدون واسطة أو بواسطة هي منه ـ ، والعلم التامّ بالعلّة يستلزم العلم التامّ بمعلولها ، فيلزم كونه ـ تعالى ـ عالما بالموجودات بحقائقها ولوازمها وملزوماتها ؛ وبذلك ثبت المطلوب.
__________________
(1) هكذا العبارة في النسختين.
(2) الاصل : الملخص.
(3) ما وجدت العبارة في المحصّل.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|