أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-08-2015
892
التاريخ: 21-4-2018
728
التاريخ: 3-08-2015
906
التاريخ: 3-08-2015
904
|
انزل اللّه تعالى اكثر من آية قرآنية للإعلان والاعلام بأن القرآن الكريم هو المعجزة الدالة على صحة ادعاء محمد للنبوة، وهو الحجة المثبتة لصحة نبوته صلى الله عليه وآله .
وبطلبه
من الانس والجن عامة والعرب خاصة مجاراتهم له كان تحديه لهم المقارن لدعواه النبوة.
- قال
تعالى : {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ
هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}
[الإسراء: 88].
- وقال
تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا
أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
[هود: 13، 14].
- وقال
تعالى : {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23، 24].
وتتمثل
مادة الاعجاز في بلاغة القرآن واسلوبه، في بيانه ونظمه. ذلك
أن لكل اسلوب أدبي خصائصه الفنية التي يفترق ويمتاز بها عما سواه من الاساليب الادبية
الاخرى.
وتتمثل
كيفية اعجازه بأن من يسمعه أو يقرأه من بلغاء العرب وأدباءهم ومتذوقي الوان الفن الادبي
العربي يدرك أن اسلوب القرآن الكريم يمتاز بخصائص ترتفع به عن مستوى ما يمكن أن يأتي
به أبلغ البلغاء من البشر. أي أن من يسمعه أو يقرأه «يحكم بانه ليس
من كلام البشر، وبذلك يكون دليلاً على أن تاليه عليهم - وهو بشر مثلهم - نبي من عند
اللّه مرسل».
«فمن
هذا الوجه طولب العرب بالإقرار والتسليم، ومن هذا الوجه تحيرت العرب فيما تسمع من كلام
يتلوه عليهم رجل منهم تجده من جنس كلامها لانه نزل بلسانهم - لسان عربي مبين - ثم تجده
مبايناً لكلامها».
فهم
يتبينون «في نظمه وبيانه انفكاكه من نظم البشر وبيانهم من وجهٍ يحسم القضاء بانه كلام
رب العالمين».
ويُستخلص
من هذا أمور : «الاول : ان قليل القرآن وكثيره في شأن
الاعجاز سواء.
الثاني
: ان الاعجاز كائن في رصف القرآن وبيانه ونظمه، ومباينة خصائصه للمعهود من خصائص كل
نظم وبيان في لغة العرب، ثم في سائر لغات البشر، ثم في بيان الثقلين جميعاً : إنسهم
وجنهم متظاهرين.
الثالث
: ان الذين تحداهم بهذا القرآن قد أوتوا القدرة على الفصل بين الذي هو من كلام البشر
والذي هو ليس من كلامهم.
الرابع
: ان الذين تحداهم به كانوا يدركون أن ما طولبوا به من الاتيان بمثله، أو بعشر سور
مثله مفتريات، هو هذا الضرب من البيان الذي يجدون في انفسهم أنه - خارج من جنس بيان
البشر.
الخامس
: ان هذا التحدي لم يقصد به الاتيان بمثله مطابقاً لمعانيه، بل أن يأتوا بما يستطيعون
افتراءه واختلاقه، من كل معنى أو غرض، مما يعتلج في نفوس البشر.
السادس
: ان هذا التحدي للثقلين جميعاً انسهم وجنهم متظاهرين، تحدٍّ ومستمر قائم الى يوم الدين.
السابع
: ان ما في القرآن من مكنون الغيب، ومن دقائق التشريع، ومن عجائب آيات اللّه في خلقه،
كل ذلك بمعزل عن هذا التحدي المفضي الى الاعجاز، وان كل ما فيه
من ذلك كله يعد دليلاً على أنه من عند اللّه تعالى، ولكنه لا يدل على أن نظمه وبيانه
مباين لنظم كلام البشر وبيانهم، وانه بهذه المباينة كلام رب العالمين لا كلام البشر
مثلهم»(1).
ولأن
القرآن الكريم المعجزة الخالدة بخلود رسالة محمد صلى الله عليه وآله ، والمستمرة مع
استمرارها، كما هو واضح من الآية الاولى المذكورة في اعلاه، قد يطرح السؤال التالي
:
بم يتمثل
اعجاز القرآن الكريم الآن، وقد ذهب العرب الفصحاء الذين استقبلوه ايام تنزيله وادركوا
بذوقهم الفطري انه كلام اللّه تعالى لسموه في مستوى بيانه ونظمه فوق مستوى كلامهم؟
وممن
أثار هذا التساؤل مالك بن نبي، قال في كتابه (الظاهرة القرآنية) : «ان لكل شعب هواية
يصرف اليها مواهبه الخلاقة طبقاً لعبقريته ومزاجه.
فالفراعنة
- مثلاً - كان لهم اهتمام بفنون العمارة والرياضيات، يدلنا عليه ما بقي بين أيدينا
من آثارهم العظيمة، تلك الآثار التي أثارت اهتمام رجال العلم، مثل الأب (مورو) الذي
خصص أحد كتبه لدراسة تصميم الهرم الاكبر، وما يتضمن من نظريات هندسية غريبة وخصائص
رياضية وميكانيكية عجيبة.
كما
كان اليونان مغرمين بصور الجمال على ما أبدعه فن (فيدياس)، وبآيات المنطق والحكمة على
ما جادت به عبقرية (سقراط).
أما
العرب في الجاهلية فقد كانت هوايتهم في لغتهم، فلم يقتصروا على استخدامها في ضرورات
الحياة اليومية، شأن الشعوب الأخرى. وانما كان العربي يفتن في استخدام لغته، فينحت
منها صوراً بيانية لا تقل جمالاً عما كان ينحته فيدياس في المرمر، وما كانت ترسمه ريشة
(ليوناردو فانسي) في لوحاته المعلقة في متاحف العالم الكبرى.
فالشعر
العربي - كما قال اخي الاستاذ محمود شاكر في مقدمة هذا الكتاب (يعني الظاهرة
القرآنية) - : (كان حين انزل اللّه القرآن على نبيه صلى الله عليه وآله نوراً يضيء
ظلمات الجاهلية، ويعكف أهله على بيانه عكوف الوثني للصنم، ويسجدون لآياته سجدة خاشعة
لم يسجدوا مثلها لأوثانهم قط ، فقد كانوا عبدة البيان قبل ان يكونوا عبدة الاوثان،
وقد سمعنا من استخف منهم بأوثانهم، ولم نسمع قط منهم من استخف ببيانهم).
هذه
صورة الظروف النفسية التي نزل فيها القرآن فكان لإعجازه أن ينفذ الى الأرواح - بصفة
عامة في زمن النزول - على هذه السبيل، أي بما ركب في الفطرة العربية من ذوق وبيان.
ثم تغيرت
هذه الظروف مع تطورات التاريخ الاسلامي، وفاض طوفان العلوم في أواخر عهد بني أمية والعهد
العباسي، فصار ادراك جانب الاعجاز في القرآن بالمعنى الذي حددناه - لغة وإصطلاحاً
- من طريق التذوق العلمي، اكثر من أن يكون من طريق الذوق الفطري»(2).
«وهنا
تواجهنا مشكلة الاعجاز في صورتها الجديدة بالنسبة لهذا المسلم - أعني بالنسبة لأغلبية
المثقفين ثقافة اجنبية، بل وربما بالنسبة لذوي الثقافة التقليدية في ظروفهم الثقافية
والنفسية الخاصة، فلا بد إذن من اعادة النظر في القضية في نطاق الظروف الجديدة التي
يمر بها المسلم اليوم، مع الضرورات التي يواجهها في مجال العقيدة والروح.
وعلى
رغم ما يبدو في القضية من تعقد، بسبب موقفنا التقليدي إزاءها فاني أعتقد أن مفتاحها
موجود في قوله تعالى : {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا
يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى } [الأحقاف: 9] ، فاذا اعتبرنا هذه الآية على أنها حجة يقدمها القرآن للنبي كي يستخدمها
في جداله المشركين فلا بد أن نتأمل محتواها المنطقي من ناحيتين :
فهي
تحمل أولاً اشارة خفية الى أن تكرار الشيء في ظروف معينة يدل على صحته، أي أن سوابقه
في سلسلة معينة تدعم حقيقته ك(ظاهرة) بالمعنى الذي يسبغه التحديد
العلمي على هذه الكلمة. فالظاهرة : هي (الحدث الذي يتكرر في نفس الظروف مع نفس النتائج).
وهي
تحمل في مدلولها ثانياً ربطاً واضحاً بين الرسل والرسالات خلال العصور، وان الدعوة
المحمدية يجري عليها أمام العقل ما يجري على هذه الرسالات.
ومن هذا نستخلص أمرين :
1 -
انه يصح أن ندرس الرسالة المحمدية في ضوء ما سبقها من الرسالات.
2 -
كما يصح أن ندرس هذه الرسالات في ضوء رسالة محمد صلى الله عليه وآله على قاعدة أن
(حكم العام ينطبق على الخاص قياساً، وحكم الخاص ينطبق على العام استنباطاً).
ولا
مانع اذن من أن نعيد النظر في معنى (الاعجاز) في ضوء منطق الآية الكريمة.
وحاصل
هذا : اننا اذا اعتبرنا الاشياء في حدود الحدث المتكرر أي في حدود الظاهرة، فالإعجاز
هو :
1 -
بالنسبة الى شخص الرسول : الحجة التي يقدمها لخصومه ليعجزهم بها.
2 -
وهو بالنسبة الى الدين : وسيلة من وسائل تبليغه.
وهذان
المعنيان للإعجاز يضيفان على مفهومه صفات معينة :
أولاً
: ان الاعجاز – كـ (حجة) - لا بد أن يكون في مستوى ادراك الجميع، والا فاتت فائدته،
اذ لا قيمة منطقية لحجة تكون فوق ادراك الخصم، فهو ينكرها عن حسن نية أحياناً.
ثانياً
: ومن حيث كونه وسيلة لتبليغ دين : أن يكون فوق طاقة الجميع.
ثالثاً
: ومن حيث الزمن : أن يكون تأثيره بقدر ما في تبليغ الدين من حاجة اليه.
وهذه
الصفة الثالثة تحدد نوع صلته بالدين الصلة التي تختلف من دين الى آخر باختلاف ضرورات
التبليغ.
فهذا
هو المقياس العام الذي نراه ينطبق على معنى الاعجاز في كل الظروف المحتملة بالنسبة
الى الاديان المنزلة.
فاذا
قسنا به في نطاق رسالة موسى (عليه السلام) - مثلاً - نرى أن اللّه اختار لهذا الرسول
معجزتي اليد والعصا.
واذا
تأملناهما وجدناهما كـ (حجة) يدعم اللّه بها نبيه يتصفان بانهما :
1 -
ليستا من مستوى العلم الفرعوني الذي كان من اختصاص اشخاص معدودين يكوّنون هيئة الكهنوت،
بل كانت المعجزة في كلتا صورتيها من مستوى السحر الذي يقع أثره في ادراك الجميع عن
طريق المعاينة الحسية دون اجهاد فكر.
2 -
هاتان المعجزتان تتصلان بتاريخ الدين الموسوي لا بجوهره، إذ ليس لليد أو العصا صلة
بمعاني هذا الدين ولا بتشريعه، فهما على هذا مجرد توابع للدين، لا من صفاته الملازمة
له.
3 -
ودلالة هاتين المعجزتين على صحة الدين محدودة بزمن معين إذ لا نتصور مفعول اليد والعصا
كحجة الا في الجيل الذي شاهدهما أو الجيل الذي بلغته تلك الشهادة بالتواتر من التابعين
وتابعي التابعين، أي أن مفعوله لا يكون الا في زمن محدد لحكمة ارادها اللّه.
ولو
فكرنا في هذه الحكمة لوجدناها انها تتفق مع حقائق نفسية وحقائق تاريخية سجلها الواقع
فعلاً، هي :
أولاً
: ان القوم الذين يدينون اليوم بدين موسى - أي اليهود - يفقدون - لأسباب نفسية لا سبيل
لشرحها هنا - نزعة التبليغ بحيث لا يشعرون بضرورة تبليغ دينهم الى غيرهم من الامم
- أي الاميين كما يقولون - حتى اننا اذا استخدمنا لغة الاجتماع قلنا : ان الاعجاز قد
ألغاه في هذا الدين عدم الحاجة اليه.
ثانياً
: ان مشيئة اللّه قد قدرت أن يأتي عيسى رسولاً من بعد موسى، واتي الدين الجديد لينسخ
الدين السابق، فينسخ طبعاً جانب الاعجاز فيه حيث تزول الحجة بزوال ضرورتها
التاريخية.
ثم اتى
عيسى بالدين الجديد وبما يتطلب هذا الدين من وسائل لتبليغه، أي بما يتطلب من حجة فأتى
بإعجازه الخاص بالمعنى المحدد لغة واصطلاحاً كما سبق، فكان لعيسى إبراء الأكمه والأبرص
وإحياء الموتى بإذن اللّه.
ولسنا
بحاجة ان نكرر بالنسبة الى الدين الجديد ما قدمنا من اعتبارات عامة بالنسبة الى خصائص
الاعجاز في الدين السابق حيث ان القضية تتعلق هنا وهناك بالتركيب النفسي الذي عليه
الانسان من حيث هو انسان يدرك الأشياء بعقله مع ما في عقله من عجز عن ادراك حقيقة الدين
مباشرة ان لم يكن هناك حجة خاصة تسند تلك الحقيقة لدى عقله في صورة اعجاز.
فالأسباب
تتكرر وانما يتغير شكلها نظراً لما حدث من تطور في الظروف النفسية والاجتماعية حول
الدين الجديد في البيئة التي ينشر فيها عيسى دعوته، تلك البيئة التي تشع عليها الثقافة
اليونانية والرومانية.
ولكن
دلالة ما أوتي عيسى من إعجاز ستزول أيضاً مع زوال موضوعها ولنفس الأسباب التي ألغت
جانب الاعجاز في دين موسى حيث يأتي بعد عيسى رسول جديد ودين جديد يلغيان الدين السابق
دين عيسى (عليه السلام) فيلغي ضرورة التدليل على صحة الانجيل.
وهكذا
تأتي رسالة الرسول الأمين، ولكنها تتسم بصفة خاصة عما سبقها من الرسالات اذ أنها الحلقة
الأخيرة في سلسلة البعث.
ويأتي
محمد (خاتم الأنبياء) كما ينوه بذلك القرآن، ويشهد به مرور الزمن منذ اربعة عشر قرناً.
وما
كانت هذه الميزة التاريخية في الدين الجديد، دون أن يكون أثرها في كل خصائصه وفي نوع
إعجازه على وجه الخصوص حيث إن حاجة التبليغ ستبقى مستمرة فيه، سواء من الناحية النفسية
لأن كل مسلم - بعكس اليهودي - يحمل في نفسه (مركب التبليغ)، أم من الناحية التاريخية،
لأن الدين الجديد - الاسلام - سيكون دين آخر الزمن، أي الدين الذي لا يعقبه دين سماوي
آخر، بل ولا يأتي دين بعده بصور مطلقة، كما تشهد بذلك القرون، حتى ان حاجة الاسلام
الى وسائل تبليغه ستبقى ملازمة له من جيل الى جيل، ومن جنس الى جنس، لا يلغيها شيء
في التاريخ، وهذا يعني ان هذه الوسائل يجب ألا تكون مثل الاديان الأخرى، مجرد توابع
يتركها الدين في الطريق عبر التاريخ بعد مرحلة التبليغ مثل اليد عند موسى او عصاه التي
لم يبق لها أثر حتى في متاحف العالم، كما بقيت عصا (توت عنخ آمنون) الذهبية.
وعليه
يجب أن يكون إعجاز القرآن صفة ملازمة له عبر العصور والاجيال، وهي صفة يدركها العربي
في الجاهلية بذوقه الفطري كعمر (رض) أو الوليد بن المغيرة، أو يدركها بالتذوق العلمي
كما فعل الجاحظ في منهجه الذي رسمه لمن جاء بعده.
ولكن
المسلم اليوم قد فقد فطرة العربي الجاهلي وامكانيات عالم اللغة في العصر العباسي.
وبرغم
هذا فان القرآن لم يفقد بذلك جانب الاعجاز لأنه ليس من توابعه، بل هو من جوهره.
وانما
اصبح المسلم مضطراً الى أن يتناوله في صورة اخرى بوسائل اخرى، فهو يتناول الآية من
حيث تركيبها النفسي الموضوعي اكثر مما يتناولها من ناحية العبارة، فيطبق في دراسة مضمونها
طرق التحليل الباطن.
واذا
كانت هذه الضرورة ملحة بالنسبة للمسلم الذي حاول تعقيد عقيدته على اساس ادراك شخصي
لقيمة القرآن ككتاب منزل فانها أكثر إلحاحاً بالنسبة لغير المسلم الذي يتناول القرآن
كموضوع دراسة أو مطالعة.
فهذه
في مجملها الاسباب التي دعتنا الى تطبيق التحليل النفسي بخاصة لدراسة القرآن كظاهرة»(3).
ولكن
الشيخ محمود شاكر يذهب الى ان الاعجاز القرآني لا يزال كما كان مرتبطاً بالأسلوب
البياني والنظم البلاغي، وسيبقى هكذا، لأن المقارنة بين الاسلوب القرآني واساليب العرب
في انتاجهم الأدبي ممكنة وجارية حتى الآن، وذلك لبقاء الشعر الجاهلي الذي يمثل قمة
النضج للأسلوب الادبي العربي قائماً عندنا ومدوناً وفي متناول المراجعة.
قال
: «فاذا صح أن الاعجاز كائن في رصف القرآن ونظمه وبيانه بلسان عربي مبين وأن خصائصه
مباينة للمعهود من خصائص كل نظم وبيان تطيقه قوى البشر في بيانهم، لم يكن لتحديهم به
معنى الا أن تجتمع لهم وللغتهم صفات بعينها :
أولها
: ان اللغة التي نزل بها القرآن معجزاً، قادرة بطبيعتها هي، أن تحتمل هذا القدر الهائل
من المفارقة بين كلامين :
كلام
هو الغاية في البيان فيما تطيقه القوى. وكلام
يقطع هذه القوى ببيان ظاهر المباينة له من كل الوجوه.
ثانيها
: أن أهلها قادرون على ادراك هذا الحجاز الفاصل بين الكلامين.
وهذا
ادراك دال على أنهم قد أوتوا من لطف تذوق البيان، ومن العلم بأسراره ووجوهه قدراً وافراً
يصح معه أن يتحداهم بهذا القرآن، وأن يطالبهم بالشهادة عند سماعه أن تاليه عليهم نبي
من عند اللّه مرسل.
ثالثها
: ان البيان كان في أنفسهم أجلّ من أن يخونوا الأمانة فيه، أو يجوزوا عن الانصاف في
الحكم عليه.
فقد
قرّعهم وعيّرهم وسفّه احلامهم وأديانهم، حتى استخرج أقصى الضراوة في عداوتهم له.
وظل
مع ذلك يتحداهم، فنهتهم أمانتهم على البيان عن معارضته ومناقضته.
وكان
أبلغ ما قالوه : «وقد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا» .. ولكنهم كفوا ألسنتهم فلم يقولوا
شيئاً.
هذه
واحدة.
واخرى
: انه لم ينصب لهم حكماً، بل خلّى بينهم وبين الحكم على ما يأتون به معارضين له ثقة
بأنصافهم في الحكم على البيان، فهذه التخلية مرتبة من الانصاف لا تدانيها مرتبة.
رابعها
: ان الذين اقتدروا على مثل هذه اللغة، وأتوا هذا القدر من تذوق البيان، ومن العلم
باسراره، ومن الامانة عليه، ومن ترك الجور في الحكم عليه، يوجب العقل أن يكونوا كانوا
قد بلغوا في الاعراب عن انفسهم بألسنتهم المبينة عنهم مبلغاً لا يدانى.
وهذه الصفات تفضي بنا الى التماس ما ينبغي أن تكون عليه صفة كلامهم، إن
كان بقي من كلامهم شيء، فالنظر المجرد أيضاً يوجب أمرين في نعت ما خلفوه :
الاول
: أن يكون ما بقي من كلامهم شاهداً على بلوغ لغتهم غاية من التمام والكمال والاستواء
حتى لا تعجزها الابانة عن شيء مما يعتلج في صدر كل مبين منهم.
الثاني
: أن تجتمع فيه ضروب مختلفة من البيان، لا يجزئ أن تكون دالة على سعة لغتهم وتمامها،
بل على سجاحتها أيضاً، حتى تلين لكل بيان تطيقه ألسنة البشر على اختلاف ألسنتهم.
فهل
بقي من كلامهم شيء يستحق أن يكون شاهداً على هذا، ودليلاً.
نعم، بقي (الشعر الجاهلي).
واذن.
! اذن ينبغي أن نعيد تصور المشكلة وتصور المشكلة وتصويرها، فان النظر المجرد والمنطق
المتساوق والتمحيص المتتابع، كل ذلك قد أفضى بنا الى تجريد معنى (اعجاز القرآن) مما
شابه وعلق به، حتى خلص لنا أنه من قبل النظم والبيان.
ثم ساقنا
الاستدلال الى تحديد صفة القوم الذين تحداهم، وصفة لغتهم، ثم خرج بنا الى طلب نعت كلامهم،
ثم التمسنا الشاهد والدليل على الذي أدانا اليه النظر، فاذا هو (الشعر الجاهلي).
واذن،
فالشعر الجاهلي هو اساس مشكلة (اعجاز القرآن) كما ينبغي أن يواجهها
العقل الحديث.
وليس
اساس هذه المشكلة هو تفسير القرآن على المنهج القديم، كما ظن اخي مالك، وكما يذهب اليه
اكثر من بحث أمر إعجاز القرآن على وجه من الوجوه.
ولكن
الشعر الجاهلي قد صب عليه بلاء كثير، آخرها وأبلغها فساداً وإفساداً ذلك المنهج الذي
ابتدعه (مركَليوث) لينسف الثقة به، فيزعم أنه شعر مشكوك في روايته وانه موضوع بعد الاسلام.
وهذا
المكر الخفي الذي مكره مركليوث وشيعته وكهنته، والذي ارتكبوا له من السفسطة والغش والكذب
ما ارتكبوا كما شهد بذلك رجل من جنسه هو (آربري)، كان يطوي تحت ادلته ومناهجه وحججه
إدراكاً لمنزلة الشعر الجاهلي في شأن اعجاز القرآن لا إدراكاً صحيحاً مستبيناً، بل
إدراكاً خفياً مبهماً، تخالطه ضغينة مستكينة للعرب والاسلام.
وهذا
المستشرق وشيعته وكهنته كانوا أهون شأناً من أن يحوزوا كبيراً بمنهجهم الذي سلكوه،
وادلتهم التي احتطبوها لما في تشكيكهم من الزيف والخداع، ولكنهم بلغوا ما بلغوا من
استفاضة مكرهم وتغلغله في جامعاتنا، وفي العقل الحديث في العالم الاسلامي، بوسائل أعانت
على نفاذهم، ليست من العلم ولا من النظر الصحيح في شيء.
وقد
استطاع رجاله من أهل العلم أن يسلكوا الى إثبات صحة الشعر الجاهلي مناهج لا شك في صدقها
وسلامتها بلا غش في الاستدلال وبلا خداع في التطبيق وبلا مراء في الذي يسلم به صريح
العقل وصريح النقل، الا انهم لم يملكوا بعدُ من الوسائل ما يتيح لهم أن يبلغوا بحقهم
ما بلغ اولئك بباطلهم.
وقد
ابتليت أنا بمحنة الشعر الجاهلي عندما ذر قرن الفتنة أيام كنت طالباً في الجامعة، ودارت
بي الايام حتى انتهيت الى ضرب آخر من الاستدلال على صحة الشعر الجاهلي لا عن طريق روايته
وحسب، بل من طريق أخرى هي ألصق بأمر اعجاز القرآن.
فاني
محصت ما محصت من الشعر الجاهلي حتى وجدته يحمل هو نفسه في نفسه أدلة صحته
وثبوته، إذ تبينت فيه قدرة خارقة على البيان.
وتكشف
لي عن روائع كثيرة لا تحد، واذا هو عَلَم فريد منصوب لا في آداب العربية وحدها، بل
في آداب الأمم قبل الاسلام وبعد الاسلام.
وهذا
الانفراد المطلق، ولا سيما انفراده بخصائصه عن كل شعر بعده من شعر العرب انفسهم، هو
وحده دليل كاف على صحته وثبوته.
ولقد
شغلني اعجاز القرآن كما شغل العقل الحديث، ولكن شغلني أيضاً هذا الشعر الجاهلي وشغلني
اصحابه فأديّ بي طول الاختبار والامتحان والدراسة الى هذا المذهب الذي ذهبت اليه، حتى
صار عندي دليلاً كافياً على صحته وثبوته.
فأصحابه
الذين ذهبوا ودرجوا وتبددت في الثرى أعيانهم رأيتهم في هذا الشعر أحياء يغدون ويروحون،
رأيت شابهم ينزو به جهله وشيخهم تدلف به حكمته، ورأيت راضيهم يستنير وجهه حتى يشرق،
وغاضبهم تربد سحنته حتى تظلم، ورأيت الرجل وصديقه، والرجل وصاحبته، والرجل الطريد ليس
معه أحد، ورأيت الفارس على جواده، والعادي على رجليه، ورأيت الجماعات في مبداهم ومحضرهم،
فسمعت غزل عشاقهم، ودلال فتياتهم، ولاحت لي نيرانهم وهم يصطلون، وسمعت أنين باكيهم
وهم للفراق مزمعون.
كل ذلك
رأيته وسمعته من خلال ألفاظ هذا الشعر، حتى سمعت في لفظ الشعر همس الهامس وبحة المستكين
وزفرة الواجد وصرخة الفزع، وحتى مثلوا بشعرهم نصب عيني كأني لم أفقدهم طرفة عين ولم
أفقد منازلهم ومعاهدهم ولم تغب عني مذاهبهم في الارض ولا مما أحسوا ووجدوا، ولا مما
سمعوا وأدركوا ولا مما قاسوا وعانوا، ولا خفي عني شيء مما يكون به الحي حياً في هذه
الارض التي بقيت في التاريخ معروفة باسم (جزيرة العرب).
وهذا
الذي أفضيت اليه من صفة الشعر الجاهلي - كما عرفته - أمر ممكن لمن اتخذ لهذه المعرفة
اسبابها بلا خلط ولا لبس ولا تهاو ولا ملل.
وهذه
المعرفة هي أول الطريق الى دراسة شعر أهل الجاهلية من الوجه الذي يتيح لنا
أن نستخلص منه دلالته على أنه شعر قد انفرد بخصائصه عن كل شعر جاء بعده من شعر أهل
الاسلام.
فاذا
صح ذلك - وهو عندي صحيح لا أشك فيه - وجب أن ندرس هذا الشعر دراسة متعمقة ملتمسين فيه
هذه القدرة البيانة التي يمتاز بها أهل الجاهلية عمن جاء بعدهم، ومستنبطين من ضروب
البيان المختلفة التي أطاقتها قوى لغتهم وألسنتهم.
فاذا
تم لنا ذلك فمن الممكن القريب يومئذ أن نتلمس في القرآن الذي أعجزهم بيانه خصائص هذا
البيان المفارق لبيان البشر»(4).
وذهب
السيد الطباطبائي الى أن القرآن الكريم بصفته معجزة خالدة هو معجز في المعنى كما هو
معجز في المبنى، قال في تفسير الآية : {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] : وفي
الآية تحد ظاهر، وهي ظاهرة في أن التحدي بجميع ما للقرآن من صفات الكمال الراجعة الى
لفظه ومعناه لا بفصاحته وبلاغته وحدها، فان انضمام غير أهل اللسان اليهم لا ينفع في
معارضة البلاغة شيئاً، وقد اعتنت الآية باجتماع الثقلين واعانة بعضهم لبعض.
على
أن الآية ظاهرة في دوام التحدي، وقد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة والبلاغة اليوم
فلا أثر منهم، والقرآن باق على اعجازه متحدٍّ بنفسه كما كان»(5).
وخلاصة ما انتهى اليه مالك بن نبي في دراسته هي :
1 -
ان النبوة ظاهرة دينية مستمرة تتكرر بانتظام منذ أول نبي بعث الى البشر حتى خاتمهم
نبينا محمد صلى الله عليه وآله . واستمرار ظاهرة تتكرر بنفس الكيفية يعتبر
شاهداً علمياً يمكن استخدامه لتقرير مبدأ
وجودها بشرط التثبت من صحة هذا الوجود بالوقائع المتفقة مع العقل ومع طبيعة المبدأ.
2 -
وكما أن النبوة ظاهرة دينية إلهية تميزت بخصائصها التي بها تعرف وتنازعها سواها من
النبوات عير الالهية.
كذلك
الوحي الالهي المدون في الصحف والكتب - هو الآخر - يشكل ظاهرة دينية إلهية اخرى منذ
صحف ابراهيم (عليه السلام) حتى قرآن محمد صلى الله عليه وآله ، وقد عبّر عنها بـ (الظاهرة
القرآنية).
فالصحف
والكتب المنزلة من اللّه تعالى على انبيائه ورسله لأنها ظاهرة، لها خصائصها الخاصة
بها، ومعالمها التي تعرف بها وتمتاز بها عما سواها من الكتب غير الالهية والأخرى المحرّفة.
3 -
ان المقارنة بين القرآن بغية معرفة أنه حلقة خاتمة في سلسلة ظاهرة الوحي الالهي المدوّن
(الظاهرة القرآنية) أو (ظاهرة الكتاب السماوي)، ينبغي أن تعتمد دراسة كتاب النبي الاسرائيلي
(أرمياء)، وذلك لأن البروفسور مونتيه montet
قد توصل في دراسته للوثائق الدينية في كتابه الموسوم ب(تاريخ الكتاب
المقدس) الى تجريد الكتاب المقدس من كل صفات الصحة التاريخية فيما عدا كتاب (ارمياء).
كما
أن مجمع أساقفة نيقية قد ألغى كثيراً من أخبار الانجيل مما زرع الشك حول ما تبقى منه.
أما
القرآن الكريم فقد امتاز بميزة فريدة هي أنه تنقل منذ نزوله حتى الآن دون أن يتعرض
لأدنى تحريف أو ريب. وهذا ما يعطيه الصلاحية لئن يعتمد عليه
في المقارنة كوثيقة تاريخية مطلقة الصحة. وقد
انهت المقارنة مالك بن نبي الى النتيجة التي هدف اليها من أن القرآن الكريم استمرار
لظاهرة الوحي الالهي المدون، كما أن نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله استمرار لظاهرة
النبوة والبعث الالهي للانبياء والرسل(6).
_________________
(1)
الظاهرة القرآنية : المقدمة للشيخ شاكر 24 - 25 .
(2)
الظاهرة القرآنية 62 - 64.
(3)
الظاهرة القرآنية 66 - 71.
(4)
الظاهرة القرآنية - المقدمة 26 - 32.
(5)
الميزان 13 / 201.
(6)
يقرأ : كتاب الظاهرة القرآنية.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
العتبة الحسينية تطلق فعاليات المخيم القرآني الثالث في جامعة البصرة
|
|
|