المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24
من آداب التلاوة
2024-11-24
مواعيد زراعة الفجل
2024-11-24
أقسام الغنيمة
2024-11-24
سبب نزول قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الى جهنم
2024-11-24



وداع الشام  
  
2597   01:34 صباحاً   التاريخ: 4-3-2022
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني
الكتاب أو المصدر : نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرّطيب
الجزء والصفحة : ص:81-99
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الاندلسي /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-05-11 632
التاريخ: 2024-08-18 427
التاريخ: 9-7-2022 1792
التاريخ: 29/11/2022 1580

وداع الشام

فخرج معنا - أسماه الله - مع جملة من الأعيان إلى داريا، المضاهية لدارين في رياها وحبذا ريا، فألفيناها:

ريا من الأنداء طي؟ بة لها القدر الجليل

تهدي لنا أرجاؤها أرجا من الزهر البليل

وبها الغصون تمايلت ميل الخليل على الخليل

ووصلنا عند الظهيرة، وسرحنا العيون في بدائعها الشهيرة:

منزل كالربيع حلت عليه حاليات السحاب عقد النطاق

يمتع العين من طرائق حسن تتجافى بها عن الإطراق

وقلنا بها، لما نزلنا بجنابها:

وبتنا والسرور لنا نديم وماء عيونه الصافي مدام

يسايره النسيم إذا تغنت حمائمه ويسيقه الغمام

فيا لك من ليلة أربت في طيب النفح، على ليلة الشريف الرضي بالسفح:

ونحن في روضة مفوفة قد وشيت بالغمائم الوكف

نغفي على زهرها فيوقظنا وهنا هدير الحمائم الهتف

(81)

ودوحها من نداه في وشح ومن لآلي الأزهار في شنف

والغصن من فوقه حمامته كأنها همزة على ألف

وما أقرب قول الوزير ابن عمار، من وصف ذلك المضمار، الجامع للأقمار:

يا ليلة بتنا بها في ظل أكناف النعيم

من فوق أكمام الريا ض وتحت أذيال النسيم

وناهيك بمحل قرب من دمشق الغراء، فخلعت عليه حلل الحبور والسراء، وأمدته بضيائها، وأودعته برق حياها وماء حيائها، فصار ناضر الدوحات، عاطر الغدوات والورحات، مونق الأنفاس والنفحات، مشرق السرة والصفحات، هذا والقلوب من الفراق في فلق، ولسان الحال ينشد:

وبي علاقة وجد ليس يعلمها إلا الذي خلق الإنسان من علق

ويحث على انتهاز فرصة اللقاء إذ هي غنيمة، ويذكر بقول من قال وأكف الدهر موقظة ومنيمة:

تمتع بالرقاد على شمال فسوف يطول نومك باليمين

ومتع من يحبك باجتماع فأنت من الفراق على يقين

ثم حضر بعد تلك الليلة موقف الوداع، والكل ما بين واجم وباك وداع، فتمثلت بقول من قلبه لفراق الأحباب في انصداع:

ودعتهم ودموعي على الخدود غزار

فاستكثروا دمع عيني لما استقلوا وساروا

(82)

وقول آخر:

يا وحشة من جيرة مذ نأوا علو قدري في الهوى انحطا

حكت دموعي البحر من بعدهم لما رأت منزلهم شطا

وحق لي أن أتمثل في ذلك بقول العزيزي:

لا تسلني عما جناه الفراق حملتني يداه ما لا يطاق

أين صبري أم كيف أملك دمعي والمطايا بالظاعنين تساق

قف معي نندب الطلول فهذي سنة قبل سنها العشاق

وأعد لي ذكر الغوير فكم ما ل بعطفي نسيمه الخفاق

في سبيل الغرام ما فعلت بال؟ عاشقين القدود والأحداق

يوم ولت طلائع الصبر منا ثم شنت غاراتها الأشواق

وبقول غيره:

كنا جميعا والدار تجمعنا مثل حروف الجميع ملتصقه

واليوم صار الوداع يجعلنا مثل حروف الوداع مفترقه

وقول آخر:

حين هم الحبيب بالتوديع عيروني أني سفحت دموعي

لم يذوقوا طعن الفراق ولا ما أحرقت لوعة الأسى من ضلوعي

(83)

كيف لا أسفح الدموع على رب؟ ع حوى خير ساكن وجموع

هبك أني كتمت حالي أتخفى زفرات المتيم المصدوع

إنما يعرف الغرام بمن لا ح عليه الغرام بين الربوع

وقول من قال:

أقول له عند توديعه وكل بعبرته مبلس

لئن قعدت عنك أجسادنا لقد سافرت معك الأنفس

وقول الصابي:

ولما حضرت لتوديعه وطرف النوى نحونا أشوس

عكست له بيت شعر مضى يليق به الحال إذ يعكس

لئن سافرت عنك أجسادنا لقد قعدت معك الأنفس

وقول المهذب بن أسعد الموصلي:

دعني وما شاء التفرق والأسى واقصد بلومك من يطيعك أو يعي

لا قلب لي فأعي الملام فإنني أودعته بالأمس عند مودعي

هل يعلم المتحملون لنجعة أن المنازل أخصبت من أدمعي

كم غادروا حرضا وكم لوداعهم بين الجوانح من غرام مودع

والسقم آية ما أجن من الجوى والدمع بينة على ما أدعي

(84)

وقول الكمال التنوخي:

كم ليلة قد بتها أرعى السها جزعا لفرقتهم بمقلة أرمد

قضيتها ما بين نوم نافر وزفير مهجور وقلب مكمد

لم أنس أيام السرور وطيبها بين السدير وبين برقة ثهمد

والروض قد أبدى بدائع نوره من أزرق ومفضض ومورد

والماء يبدو كالصوارم ساريا فيعيده مر الصبا كالمبرد

والطير بين مسجع ومرجع ومغرد ومعدد ومردد

وقول القاضي بهاء الدين السنجاري:

أحبابنا ما لي على بعد المدى جلد ومن بعد النوى يتجلد

لله أوقات الوصال ومنظر نضر وغصن الوصل غض أملد

أني يطيق أخو الهدى كتمانه والخد بالدمع المصون مخدد

ما بعد مفترق الركاب تصبر عمن أحب فهل خليل يسعد؟

يا سعد ساعد بالبكاء أخا هوى يوم الوداع بكى عليه الحسد

وقول ابن الأثير:

لم أنس ليلة ودعوا صبا وساروا بالحمول

والدمع من فرط الأسى يجري فيعثر بالذيول

وقول الأرجاني:

(85)

ولما وقفنا للوداع عشية وطرفي وقلبي هامع وخفوق

بكيت فأضحكت الوشاة شماته كأني سحاب والوشاة بروق

وقول ابن نباتة السعدي:

ولما وقفنا للوداع عشية ولم يبق إلا شامت وغيور

وقفنا فمن باك يكفكف دمعه وملتزم قلبا يكاد يطير

وقول بعضهم:

لما حدا الحادي بترحالهم هيج اشواقي واشجاني

وراح يثني القلب عن غيرهم فهو لهم حاد ولي ثاني

وقول الصفدي:

لما اعتنقنا لوداع النوى وكدت من حر الجوى أحرق

رأيت قلبي سار قدامهم وأدمعي تجري ولا تلحق

وقوله أيضا:

تذكرت عيشا مر حلوا بكم فهل لأيامنا تلك الذواهب واهب؟

وما انصرفت آمال نفسي لغيركم ولا أنا عن هذي الرغائب غائب

سأصبر كرها في الهوى غير طائع لعل زماني بالحبايب آيب

(86)

وقول ابن نباتة المصري:

في كنف الله وفي حفظه مسراك والعود بعزم صريح

لو جاز أن تسلك أجفاننا كنا فرشنا كل جفن قريح

لكنها بالعبد معتلة وأنت لا تسلك إلا الصحيح

وقول الحافظ أبي الحسن علي بن الفضل:

عجبت لنفسي بعدهم ما بقاؤها ولم أحظ من لقياهم بمرادي

لعمرك ما فارقتهم منذ ودعوا ولكنما فارقت طيب رقادي

وقد منعوا مني زيارة طيفهم وكيف يزور الطيف حلف سهاد؟

وأعجب ما في الأمر شوقي إليهم وهم في سوادي ناظري وفؤادي

وقوله رحمه الله تعالى:

رعى الله أيام المقام بروضة تروح علينا بالسرور وتغتدي

كأن السقيق الغض بين بطاحها نجوم عقيق في سماء زبرجد

وقول القاضي الرشيد الأسواني:

(87)

رحلوا فلا خلت المنازل منهم ونأوا فلا سلت الجوانح عنهم

وسروا وقد كتموا الغداة مسيرهم وضياء نور الشمس ما لا يكتم

وتبدلوا أرض العقيق عن الحمى رحلوا وفي قلب المتيم خيموا

نزلوا العذيب وإنما هو مهجتي رحلوا وفي قلب المتيم خيموا

ما ضرهم لو ودعوا من أودعوا نار الغرام وسلموا من أسلموا

هم في الحشا إن أعرقوا أو أينموا أو اشأموا أو أنجدوا أو أتهموا

وقول الشاعر أبي طاهر الأصفهاني، المعروف بالوثابي:

أشاعوا فقالوا وقفة ووداع وزمت مطايا للرحيل سراع

فقلت وداع لا أطيق عيانه كفاني من البين المشت سماع

ولم يملك الكتمان قلب ملكته وعند النوى سر الكتوم مذاع

وقول أبي المجد قاضي ماردين:

رعى الله ربعا أنتم فيه أهله وجاد عليه هاطل وهتون

ولا زال مخضر الجوانب مترع ال؟ حياض وفيه للنعيم فنون

لئن الله اللقاء وأينعت غصون التداني فالبعاد يهون

وإن حكمت أيدي الزمان بعسرة فكم قضيت للمعسرين ديون

وقول آخر:

(88)

غبتم فما لي في التبصر مطمع عظم الجوى واشتدت الأشواق

لا الدار بعدكم كما كانت ولا ذاك البهاء ولا الإشراق

أشتاقكم، وكذا المحب إذا نأى عنه أحبة قلبه يشتاق

وقول أبي الحسن الهمداني:

ويوم تولت الأظعان عنا وقوض حاضر وأرن بادي

مددت إلى الوداع وأخرى حبست بها الحياة على فؤادي

وقول ابن الضائغ:

قد أودعوا القلب لما ودعوا حرقا فظل في الليل مثل النجم حيرانا

راودته يستعير الصبر بعدهم فقال: إني استعرت اليوم نيرانا

وقول الصدر بن الأدمي مكتفيا:

يوم توديعي لأحبابي غدا ذكر مي شاغلي عن كل شيء

فرنت نحوي وقالت: يا ترى أنت حي في هوانا؟ قلت: مي

وقول غيره:

ولي فؤاد مذ نأى شخصهم ظل كئيبا مدنفا موجعا

ومقلة مهما تذكرتهم تذرف دمعا أربعا أربعا

(89)

وليس لي من حيلة كلما لجت بي الأشواق إلا الدعا

أسأل من ألف ما بيننا وقدر الفرقة أن يجمعا

وقول الرعيني الغرناطي:

محاسن ربع قد محاهن ما جرى من الدمع لما قيل قد رحل الركب

تناقض حالي مذ شجاني فراقهم فمن أضلعي نار ومن أدمعي سكب

وفي معناه قوله أيضا:

وقائلة: ما هذه الدرر التي تساقطها عيناك سمطين سمطين

فقلت لها: هذا الذي قد حشا به أبو مضر أذني تساقط من عيني

وقول الزمخشري:

لم يبكني إلا حديث فراقهم لما أسر به إلى مودعي

هو ذلك الدر الذي أودعتهم في مسمعي أجريته من مدمعي

وقول الزغاري:

قد بعتهم قلبي يوم بينهم بنظرة التوديع وهو يحترق

ولم أجد من بعدها لرده وجها وكان الرد لو لم نفترق

وقول بعض الأندلسيين:

ساروا فودعهم طرفي وأودعهم قلبي فما بعدوا عني ولا قربوا

هم الشموس ففي عيني إذا طلعوا في القادمين وفي قلبي إذا غربوا

(90)

وقلت أنا مضمنا بديهة:

لا كان يوم فراق ساق الشجون إلينا

فكم أذل نفوسا يا من يعز علينا

وقلت أيضا مضمنا:

سلا أحبته من لم يذب كمدا يوم الوداع وإن أجرى الدموع دما

يا من يعز علينا أن نفارقهم من بعدكم هدركن الصبر وانهدما

وإن نأى الجسم كرها عن منازلكم فالقلب ثاوبها لم يصحب القدما

وما نسينا عهودا للهوى كرمت نعم قرعنا عليها سننا ندما

وأظلمت بالنوى أرجاء مقصدنا وصار وجدان إلف غيركم عدما

وقلت أيضا مضمنا:

لم أنس بالشام أنسا شمت بارقه جادت معاهده أنواء نيسان

لهفي لعيش قضينا في مشاهدها ما بين حسن من الدنيا وإحسان

وقلت كذلك:

يا جبرة بانوا وأبقوا حسرة تجري دموعي بعدهم وفق القضا

كم قلت إذ ودعتهم والأنس لا ينسى وعهد ودادهم لن يرفضا

يا موقف التوديع إن مدامعي فضت وفاضت في ثرى ذاك الفضا

وكم تفاءلت بقول الأول، مع علمي بأن على الله المعول:

(91)

إذا رأيت الوداع فاصبر ولا يهمنك البعاد

وانتظر العود عن قريب فإن قلب الوداع عادوا

وضاقت بي الرحاب، حين مفارقة أعيان الصحاب، وكاثرت دموعي من بينهم السحاب، وزند التذكر يقدح الأسف فيهيج الانتحاب، وقد تمثلنا إذ ذاك والجوانح في التهاب، وذخائر الصبر ذات انتهاب، بقول بعض من مزق البعد منه الإهاب:

ولما نزلنا منزلا طله الندى أنيقا وبستانا من النور حاليا

أجد لنا طيب المكان وحسنه منى فتمنينا فكانوا الأمانينا

وقد طفت في شرق البلاد وغربها وسيرت خيلي بينها وركابيا

فلم أر منها مثل بغداد منزلا ولم أر فيها مثل دجلة واديا

ولا مثل أهليهال أرق شمائلا وأعذب ألفاظا وأحلى معانيا

وبقول من تأسف على مغاني التداني، وهو أبو الحجاج الأندلسي الداني:

أبى الله إلا أن أفارق منزلا يطالعني وجه المنى فيه سافرا

كأن على الأيام حين غشيته يمينا فلم أحلله إلا مسافرا

(92)

وتخيلنا أن إقامتنا بدمشق وقاها الله كل صرف، ما كانت إلا خطرة طيف ملم أو لمحة طرف:

وقفنا ساعة ثم ارتحلنا وما يغني المشوق وقوف ساعة؟

كأن الشمل لم يك في اجتماع إذا ما شتت البين اجتماعه

وطالما عللت النفس بالعود إليها ثم إلى بقاعي، منشدا قول الأديب الشهير بابن الفقاعي:

متى عاينت عيناي أعلام حاجر جعلت مواطي العيس فوق محاجري

وإن لاح من أرض العواصم بارق رجعت بأحشاء صواد صوادر

سقى الله هاتيك المواطن والربى مواطر أجفان هوام هوامر

وحيا الحيا من ساكني الحي أوجها سفرن بأنوار زواه زواهر

بحيث زمان الوصل غصن وروضه أريض بأزهار بواه بواهر

وحيث جفون الحاسدين غضيضة رمقن بآماق سواه سواهر

ثم حاولت خاطري الكليل، فيما يشفي بعض الغليل، فقال على طريق التضمين، وقد غلب عليه الشوق والتخمين:

بأبي من أودعوا مذ ودعوا قلبي الشوق وللعيس ذميل

جيرة غر كرام خيرة كل شيء منهم يبدو جميل

وعلى الجملة ما لي غيرهم لو أرادوا أن يملوا أو يميلوا

ثم قلت وقد سدد التنائي إلي نبله، موطئا للبيت الثالث كما في الأبيات قبله:

(93)

يا دمشقا حياك غيث غزير ووقاك الإله مما يضير

حسنك الفرد والبدائع جمع متناه فيه فعز النظير

أين أيامنا بظلك والشم؟ ل جميع، والعيش غض نضير

ثم أكثرت الالتفات عن اليمين وعن الشمال، وقد شبهت البيداء والشوق ببدل الكل والاشتمال، وتنسمت من نواحي تلك الأرجاء أريج الشمال، وضمنت في المعنى قول بعض من ثنى الحب عطفه وأمال:

تنسمت أرواحا سرت من ديار من بهم كان جمع الشمل لمحة حالم

وجاوبت من يلحى على ذاك جاهلا بقول لبيب بالعواقب عالم

وما أنشق الأرواح إلا لأنها تمر على تلك الربى والمعالم

وما أحسن قول الآخر:

سرت من نواحي الشام لي نسمة الصبا وقد أصبحت حسري من السير ظالعه

ومن عرق مبلولة الجيب بالندى ومن تعب أنفاسها متتابعه

وقلت أنا:

حمدت وحق الله للشام رحلة أتاحت لعيني اجتلاء محياه

وبعد التنائي صرت أرتاح للصبا لأن الصبا تسري بعاطر رياه

فلله عهد قد أتاح بجلق سرورا فحياها الإله وحياه

واستحضرت عند جد السير، قول صفوان بن إدريس المرسي ذكره الله تعالى بالخير:

(94)

أين أيامنا اللواتي تقضت إذا زجرنا للوصل أيمن طير

ثم قول غيره ممن حن وأن، وقلق قلبه وما اطمأن:

أحن إلى مشاهد أنس إلفي وعهدي من زيارته قريب

وكنت أظن قرب العهد يطفي لهيب الشوق فازداد اللهيب

وربما تجلدت مغالطا، متعللا بقول من كان لإلفه مخالطا:

حضرت فكنت في بصري مقيما وغبت فكنت في وسط الفؤاد

وما شطت بنا دار ولكن نقلت من السواد إلى السواد

وقول غيره:

وكن كمن شئت من قرب ومن بعد فالقلب يرعاك إن لم يرعك البصر

وبقول الوداعي:

يا عاذلي في وحدتي بعدهم وأن ربعي ما به من جليس

وكيف يشكو وحدة من له دمع حميم وأنين أنيس

ثم رددت هذه الطريقة، بقول بعض من لم يبلعه السلو ريقه:

لا رعى الله عزمة ضمنت لي سلوة القلب والتصبر عنهم

ما وفت غير ساعة ثم عادت مثل قلبي تقول لا بد منهم

وبقول ابن آجروم، في مثل هذا الغرض المروم:

يا غائبا كان أنسي رهن طلعته كيف اصطباري وقد كابدت بينهما

(95)

دعواي أنك في قلبي يعارضها شوقي إليك، فكيف الجمع بينهما

ثم جد بي السير إلى مصر واستمر، فتذكرت قول الصفدي وقد اشتد بالرمل الحر:

أقول وحر الرمل قد زاد وقده وما لي إلى شم النسيم سبيل

أظن نسيم الجو قد مات وانقضى فعهدي به في الشام وهو عليل

وقول ابن الخياط:

قصدت مصرا من ربى جلق بهمة تجري بتجريبي

فلم أر الطرة حتى جرت دموع عيني بالمريزيب

وحين وصلت مصر لم أنس عهد الشام المرعي، وأنشدت قول الشهاب الحنبلي الزرعي:

أحبتنا والله مذ غبت عنكم سهادي سميري والمدامع مدرار

ووالله ما اخترت الفراق، وإنه برغمي، ولي في ذلك الأمر أعذار

إذا شام برق الشام طرفي تتابعت سحائب جفني والفؤاد به نار

ألا ليت شعري هل يعودن شملنا جميعا وتحوينا ربوع وأقطار؟

(96)

وقول ابن عنين:

دمشق بنا شوق إليك مبرح وإن لج واش أو ألح عذول

بلاد بها الحصباء درر، وتربها عبير، وأنفاس الرياح شمول

تسلسل منها ماؤها وهو مطلق وصح نسيم الروض وهو عليل

وقول آخر:

نفسي الفداء لأنس كنت أعهده وطيب عيش تقضي كله كرم

وجيرة كان لي إلف بوصلهم والأنس أفضل ما بالوصل يغتنم

بالشام خلفتهم ثم انصرفت إلى سواهم فاعتراني بعدهم ألم

كانوا نعيم فؤادي والحياة له والآن كل وجود بعدهم

فإن أنشد لسان الحال، فيما اقتضاه معنى البعد عنها والارتحال:

يا غائبا قد كنت أحسب قلبه بسوى دمشق وأهلها لا يعلق

إن كان صدك نيل مصر عنهم لا غرو فهو لنا العدو الأزرق

أتيت في جوابه، بقول بعض من برح الجوى به:

لله دهر جمعنا شمل لذته بالشام أعذب من أمن على فرق

مرت لياليه والأيام في خلس كأنما سلبته كف مسترق

ما كان أحسنها لولا تنقلها من النعيم إلى ذاك من الحرق

رق العذول لحالي بعدها ورثى لي في الجوى والنوى والشجو والأرق

(97)

وبالجملة فتلك الأيام من مواسم العمر محسوبة، والسعود إلى طوالعها منسوبة:

وكانت في دمشق لنا ليال سرقناهن من ريب الزمان

جعلناهن تاريخ الليالي وعنوان المسرة والأماني

وهي مغاني التهاني التي ما نسيناها، وأماني زماني التي نعمت بطور سيناها عليها وعلى وطني مقصورة، والقلب في المعنى مقيم بهما وإن كان في غيرهما بالصورة، والأشواق إليهما قضاياها موجهة وإن كانت غير محصورة:

ولله عهد قد تقضي فإن يعد فإني عن الأيام أعفو واصفح

بقلبي من ذكراه ما ليس ينقضي ومن برحاء الشوق ما ليس يبرح

إذا مسحت كفي الدموع تسترا بدت زفرة بين الجوانح تقدح

على أنها الأيام جد مزاجها ورب مجد في الأذى وهو يمزح

وكثيرا ما يلهج اللسان بقول من قال:

وما تفضل الأوقات أخرى لذاتها ولكن أوقات الحسان حسان

ويردد قول من شوقه متجدد:

سقى معهد الأحباب ناقع صيب من المزن عن مغناه ليس يريم

وإن لم أكن من ساكنيه فإنه يحل به خل علي كريم

وينشد من يلوم، قول في حشاه وله وفي قلبه كلوم:

ثد أصبح آخر الهوى أوله فالعاذل في هواك ما لي وله

بالله عليك خل ما أوله وارحم دنفا لدى حشاه وله

(98)

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.