أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-06-18
569
التاريخ: 2024-11-06
243
التاريخ: 2023-05-24
1073
التاريخ: 2023-06-10
950
|
اعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على محمد وآله الميامين الطاهرين.
قلنا ان هذه الفكرة القرآنية عن سنن التاريخ ، بلورت في عدد كثير من الآيات باشكال مختلفة وألسنة متعددة في بعض هذه الآيات اعطيت الفكرة بصيغتها الكلية ، وفي بعض الآيات اعطيت على مستوى التطبيق على مصاديق ونماذج ، في بعض الآيات وقع الحث على الاستقراء وعلى الفحص الاستقرائي للشواهد التاريخية ، من اجل الوصول الى السنة التاريخية.
وهناك عدد كثير من الآيات الكريمة استعرضت هذه الفكرة بشكل وآخر ، وسوف نقرأ جملة من هذه الآيات الكريمة ، وبعض هذه الآيات التي سوف نستعرضها واضح الدلالة على المقصود ، والبعض الآخر له نحو دلالة بشكل وآخر او يكون معززا ومؤيدا للروح العامة لهذه الفكرة القرآنية (1).
فمن الآيات الكريمة التي اعطيت فيها الفكرة الكلية ، فكرة ان التاريخ له سنن وله ضوابط ما يلي : { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس : 49]
نلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين ، أن الأجل أضيف إلى الأمة ، إلى الوجود المجموعي للناس ، لا إلى هذا الفرد بالذات أو هذا الفرد بالذات ، إذن هناك وراء الأجل المحدود المحتوم لكل إنسان بوصفه الفردي ، هناك أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد ، للأمة بوصفها مجتمعا ينشئ ما بين أفراده العلاقات والصلات القائمة على أساس مجموعة من الأفكار والمبادئ المسندة بمجموعة من القوى والقابليات ، هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالأمة ، هذا له أجل ، له موت ، له حياة ، له حركة ، كما أن الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت كذلك الأمة تكون حية ثم تموت ، وكما أن موت الفرد يخضع لأجل ولقانون ولناموس كذلك الأمم ايضا لها آجالها المضبوطة.
وهناك نواميس تحدد لكل أمة هذا الأجل ، إذن هاتان الآيتان الكريمتان فيهما عطاء واضح للفكرة الكلية ، فكرة أن التاريخ له سنن تتحكم به وراء السنن الشخصية التي تتحكم في الأفراد ، بهوياتهم الشخصية :
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [الحجر : 4 ، 5] . {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } [المؤمنون : 43]. {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف : 185] .
ظاهرة الآية الكريمة أن الأجل الذي يترقب أن يكون قريبا أو يهدد هؤلاء بأن يكون قريبا ، هو الأجل الجماعي لا الأجل الفردي ، لأن قوما بمجموعهم لا يموتون عادة في وقت واحد وإنما الجماعة بوجودها المعنوي الكلي هو الذي يمكن ان يكون قد اقترب أجله.
فالأجل الجماعي هنا يعبر عن حالة قائمة بالجماعة ، لا عن حالة قائمة بهذا الفرد أو بذاك ، لأن الناس عادة تختلف آجالهم حينما ننظر إليهم بالمنظار الفردي ، لكن حينما ننظر إليهم بالمنظار الاجتماعي بوصفهم مجموعة واحدة متفاعلة في ظلمها وعدلها ، في سرّائها وضرائها ، حينئذ يكون لها أجل واحد فهذا الأجل الجماعي المشار إليه إنما هو أجل الأمة ، وبهذا تلتقي هذه الآية الكريمة مع الآيات السابقة {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف : 58 ، 59]
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا } [فاطر : 45]
في هاتين الآيتين الكريمتين تحدث القرآن الكريم عن أنه لو كان اللّه يريد أن يؤاخذ الناس بظلمهم ، وبما كسبوا لما ترك على ساحة الناس من دابة ، يعني لأهلك الناس جميعا.
وقد وقعت مشكلة في كيفية تصوير هذا المفهوم القرآني ، حيث ان الناس ليسوا كلهم ظالمين عادة ، فيهم الأنبياء ، فيهم الأئمة فيهم الأوصياء. هل يشمل الهلاك الأنبياء ، والأئمة العدول من المؤمنين؟ حتى ان بعض الناس استغل هاتين الآيتين لإنكار عصمة الأنبياء (عليه السلام) .
والحقيقة ان هاتين الآيتين تتحدثان عن عقاب دنيوي لا عن عقاب أخروي ، تتحدث عن النتيجة الطبيعية لما تكسبه امة عن طريق الظلم والطغيان ، هذه النتيجة الطبيعية لا تختص حينئذ بخصوص الظالمين من ابناء المجتمع ، بل تعم أبناء المجتمع على اختلاف هوياتهم ، وعلى اختلاف انحاء سلوكهم.
حينما وقع التيه على بني اسرائيل نتيجة ما كسب هذا الشعب بظلمه وطغيانه وتمرده ، هذا التيه لم يختص بخصوص الظالمين من بني اسرائيل ، وانما شمل موسى (عليه السلام) شمل اطهر الناس وازكى الناس ، واشجع الناس في مواجهة الظلمة والطواغيت ، شمل موسى (عليه السلام) لانه جزء من تلك الامة وقد حلّ الهلاك بتلك الأمة قد قرر نتيجة ظلمهم ان يتيهوا أربعين عاما ، وبهذا شمل التيه موسى (عليه السلام) .
حينما حل البلاء والعذاب بالمسلمين نتيجة انحرافهم فاصبح يزيد بن معاوية خليفة عليهم يتحكم في دمائهم واموالهم واعراضهم وعقائدهم ، حينما حلّ هذا البلاء لم يختص بالظالمين من المجتمع الاسلامي ، وقتئذ شمل الحسين (عليه السلام) ، أطهر الناس وأزكى الناس واطيب الناس وأعدل الناس ، شمل الامام المعصوم (عليه السلام) قتل تلك القتلة الفظيعة هو وأصحابه وأهل بيته.
هذا كله هو منطق سنة التاريخ والعذاب حينما يأتي في الدنيا على مجتمع وفق سنن التاريخ ، لا يختص بخصوص الظالمين من ابناء ذلك المجتمع ولهذا قال القرآن الكريم في آية اخرى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال : 25]. فالعقاب الأخروي دائما ينصب على العامل مباشرة ، وأما العقاب الدنيوي فيكون اوسع من ذلك ، اذن هاتان الآيتان الكريمتان تتحدثان عن سنن التاريخ لا عن العقاب بالمعنى الاخروي والعذاب بمعنى مقاييس يوم القيامة ، بل عن سنن التاريخ وما يمكن ان يحصل نتيجة كسب الامة ، سعي الامة ، جهد الامة.
{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء : 76 ، 77] هذه الآية الكريمة أيضا تؤكد المفهوم العام ، يقول {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا} ، هذه سنة سلكناها مع الانبياء من قبلك ، وسوف تستمر ولن تتغير. أهل مكة يحاولون أن يستفزوك لتخرج من مكة لانهم عجزوا عن امكانية القضاء عليك ، وعلى كلمتك وعلى دعوتك ، ولهذا صار أمامهم طريق واحد وهو اخراجك من مكة.
وهناك سنة من سنن التاريخ سوف يأتي ان شاء اللّه شرحها بعد ذلك يشار اليها في هذه الآية الكريمة. وهي أنه اذا وصلت عملية المعارضة الى مستوى اخراج النبي من هذا البلد ، بعد عجز هذه المعارضة عن كل الوسائل والاساليب الاخرى ، فانهم لا يلبثون الا قليلا. ليس المقصود من انهم لا يلبثون الا قليلا ، يعني انه سوف ينزل عليهم عذاب اللّه سبحانه وتعالى من السماء ، لأن أهل مكة اخرجوا النبي بعد نزول هذه السورة. استفزوه وارعبوه وخرج النبي (صلى الله عليه واله وسلم) من مكة اذ لم يجد له ملجأ وأمامنا في مكة فخرج الى المدينة ولم ينزل عذاب من السماء على أهل مكة ، وانما المقصود في أكبر الظن من هذا التعبير أنهم لا يمكثون كجماعة صامدة معارضة يعني كموقع اجتماعي لا يمكثون ، لا كأناس ، كبشر ، وانما هذا الموقع سوف ينهار نتيجة هذه العملية ، سوف ينهار هذا الموقع ، لا يمكثون الا قليلا لان هذه النبوة التي عجز هذا المجتمع عن تطويقها سوف تستطيع بعد ذلك ان تهز هذه الجماعة كموقع للمعارضة ، وهذا ما وقع فعلا. فان رسول اللّه (صلى الله عليه واله وسلم) حينما أخرج من مكة لم يمكثوا بعده الا قليلا ، اذ فقدت المعارضة في مكة موقعها ، وتحولت مكة الى جزء من دار الاسلام بعد سنين معدودة.
اذن الآية تتحدث عن سنة من سنن التاريخ ، وتؤكد وتقول {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا}.
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران : 137] .تؤكد هذه الآية على السنن وتؤكد على الحق والتتبع لأحداث التاريخ من اجل استكشاف هذه السنن من اجل الاعتبار بهذه السنن.
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام : 34] هذه الآية ايضا تثبّت قلب رسول اللّه (صلى الله عليه واله وسلم) ، تحدثه عن التجارب السابقة ، تربطه بقانون التجارب السابقة ، توضح له ان هناك سنة تجري عليه وتجري على الانبياء الذين مارسوا هذه التجربة من قبله وان النصر سوف يأتيه ولكن للنصر شروطه الموضوعية : الصبر ، والثبات ، واستكمال الشروط ، هذا هو طريق الحصول على هذا النصر ، ولهذا يقول {فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا} ، {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ} اذن هناك كلمة للّه لا تتبدل على مر التاريخ ، هذه الكلمة التي لا تتبدل هي علاقة قائمة بين النصر وبين مجموعة من الشروط والقضايا والمواصفات وضحت من خلال الآيات المتفرقة وجمعت على وجه الاجمال هنا. اذن فهناك سنة للتاريخ. { فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا } [فاطر : 42 ، 43]. { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح : 22 ، 23]. هناك آيات استعرضت نماذج من سنن التاريخ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد : 11] المحتوى الداخلي النفسي الروحي للانسان هو القاعدة ، الوضع الاجتماعي هو البناء العلوي ، لا يتغير هذا البناء العلوي الا وفقا لتغيّر القاعدة على ما يأتي ان شاء اللّه شرحه بعد ذلك.
هذه الآية اذن تتحدث عن علاقة معينة بين القاعدة والبناء العلوي ، بين الوضع النفسي والروحي والفكري للانسان ، وبين الوضع الاجتماعي ، بين داخل الانسان وبين خارج الانسان ، فخارج الانسان ، يصنعه داخل الانسان ، مرتبط بداخل الانسان ، فاذا تغير ما بنفس القوم تغير ما هو وضعهم ، وما هي علاقاتهم وما هي الروابط التي تربط بعضهم ببعض.
اذن فهذه سنة من سنن التاريخ ، ربطت القاعدة بالبناء العلوي {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الأنفال : 53] . { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة : 214]. يستنكر عليهم ان يأملوا في ان يكون لهم استثناء من سنة التاريخ ، هل تطمعون ان يكون لكم استثناء من سنة التاريخ ! وان تدخلوا الجنة وان تحققوا النصر ، وانتم لم تعيشوا ما عاشته تلك الامم التي انتصرت ودخلت الجنة من ظروف البأساء والضراء التي تصل الى حد الزلزال على ما عبّر القرآن الكريم؟ ان هذه الحالات ، حالات البأساء والضراء التي تتعلق على مستوى الزلزال هي في الحقيقة مدرسة للامة ، هي امتحان لارادة الامة ، لصمودها ، لثباتها ، لكي تستطيع بالتدريج ان تكتسب القدرة على ان تكون امة وسطا بين الناس.
اذن نصر اللّه قريب لكن نصر اللّه له طريق. هكذا يريد ان يقول القرآن ، نصر اللّه ليس أمرا عفويا ، ليس أمرا على سبيل الصدفة ، ليس امرا عمياويا ، نصر اللّه قريب ولكن اهتد الى طريقه ، الطريق لا بد وان تعرف فيه سنن التاريخ ، لا بد وان تعرف فيه منطق التاريخ لكي تستطيع ان تهتدي الى نصر اللّه سبحانه وتعالى. قد يكون الدواء قريبا من المريض لكن اذا كان هذا المريض لا يعرف تلك المعادلة العلمية التي تؤدي الى اثبات ان هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء ، لا يستطيع ان يستعمل هذا الدواء حتى ولو كان قريبا منه.
اذن الاطلاع على سنن التاريخ هو الذي يمكّن الانسان من التوصل الى النصر. فهذه الآية تستنكر على المخاطبين لها ان يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن التاريخ {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ : 34 ، 35] هذه علاقة قائمة بين النبوة على مر التاريخ ، وبين موقع المترفين والمسرفين في الامم والمجتمعات. هذه العلاقة تمثل سنة من سنن التاريخ ، وليست ظاهرة وقعت في التاريخ صدفة والا لما تكررت بهذا الشكل المطرد لما قال {وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها} اذن هناك علاقة سلبية ، هناك علاقة تطارد وتناقض ، بين موقع النبوة الاجتماعي في حياة الناس على الساحة التاريخية والموقع الاجتماعي للمترفين والمسرفين ، هذه العلاقة ترتبط في الحقيقة بدور النبوة في المجتمع ودور المترفين والمسرفين في المجتمع. هذه العلاقة جزء من رؤية موضوعية عامة للمجتمع ، كما سوف يتضح ان شاء اللّه حينما نبحث عن دور النبوة في المجتمع والموقع الاجتماعي للنبوة ، سوف يتضح حينئذ ان النقيض الطبيعي للنبوة هي موقع المترفين والمسرفين.
اذن هذه سنة من سنن التاريخ .. {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء : 16 ، 17]
هذه الآية أيضا تتحدث عن علاقة معينة بين ظلم يسود وظلم يسيطر وبين هلاك تجر اليه الامة جرا. وهذه العلاقة ايضا الآية تؤكد انها علاقة مطلقة ، علاقة مطردة على مر التاريخ وهي سنة من سنن التاريخ.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [المائدة : 66]
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف : 96]
{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } [الجن : 16] {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف : 22] {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف : 23].
هذه الآيات الثلاث ايضا تتحدث عن علاقة معينة هي علاقة بين الاستقامة وتطبيق احكام اللّه سبحانه وتعالى وبين وفرة الخيرات ووفرة الانتاج ، وبلغة اليوم بين عدالة التوزيع وبين وفرة الانتاج ، القرآن يؤكد ان المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع هذه العدالة في التوزيع التي عبر عنها القرآن تارة بأنه. {لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً} واخرى بانه {لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا واتَّقَوْا} واخرى بأنه {لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ والْإِنْجِيلَ} ، لان شريعة السماء نزلت من اجل تقرير عدالة التوزيع ، من اجل انشاء علاقات التوزيع على اسس عادلة ، يقول لو انهم طبقوا عدالة التوزيع ، اذن لما وقعوا في ضيق من ناحية الثروة المنتجة ، لما وقعوا في فقر من هذه الناحية لازداد الثراء ، لازداد المال وازدادت الخيرات والبركات.
لكنهم تخيلوا ان عدالة التوزيع تقتضي الفقر تقتضي التقسيم وبالتالي تقتضي فقر الناس ، بينما الحقيقة السنة التاريخية تؤكد عكس ذلك ، تؤكد بأن تطبيق شريعة السماء وتجسيد احكامها في علاقات التوزيع تؤدي دائما وباستمرار الى وفرة الانتاج والى زيادة الثروة ، الى ان يفتح على الناس بركات السماء والارض.
اذن هذه ايضا سنة من سنن التاريخ.
وهناك آيات اخرى اكدت وحثت على الاستقراء والنظر والتدبر في الحوادث التاريخية من اجل تكوين نظرة استقرائية ، من اجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية.
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [محمد : 10]
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف : 109] , {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج : 45 ، 46] .
من مجموع هذه الآيات الكريمة يتبلور المفهوم القرآني الذي اوضحناه ، وهو تأكيد القرآن على ان الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الاخرى. وهذا المفهوم القرآني يعتبر فتحا عظيما للقرآن الكريم ... لأننا في حدود ما نعلم القرآن اول كتاب عرفه الانسان اكد على هذا المفهوم ، وكشف عنه وأصر عليه وقاوم بكل ما لديه من وسائل الاقناع والتفهيم ، قاوم النظرة العفوية او النظرة الغيبية الاستسلامية بتفسير الاحداث ، الانسان الاعتيادي كان يفسر احداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الاحداث ، يفسرها على اساس الصدفة تارة ، وعلى اساس لقضاء والقدر والاستسلام لأمر اللّه سبحانه وتعالى ، القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفوية وقاوم هذه النظرة الاستسلامية ونبه العقل البشري الى ان هذه الساحة لها سنن ، ولها قوانين وانه لكي تستطيع ان تكون انسانا فاعلا مؤثرا لا بد لك أن تكتشف هذه السنن ، لا بد لك ان تتعرف على هذه القوانين لكي تستطيع ان تتحكم فيها والا تحكمت هي فيك وانت مغمض العينين ، افتح عينيك على هذه القوانين افتح عينيك على هذه السنن لكي تكون انت المتحكم لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكمة فيك.
هذا الفتح القرآني الجليل هو الذي مهد الى تنبيه الفكر البشري بعد ذلك بقرون الى ان تجري محاولات لفهم التاريخ فهما علميا بعد نزول القرآن بثمانية قرون بدأت هذه المحاولات بدأت على ايدي المسلمين انفسهم ، فقام ابن خلدون بمحاولة لدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه ، ثم بعد ذلك بأربعة قرون (على اقل تقدير) اتجه الفكر الاوربي في بدايات ما يسمى بعصر النهضة ، بدأ لكي يجسد هذا المفهوم الذي ضيعه المسلمون ، والذي لم يستطع المسلمون ان يتوغلوا الى اعماقه ، هذا المفهوم اخذه الفكر الغربي في بدايات عصر النهضة وبدأت هناك ابحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ وفهم سنن التاريخ ونشأت على هذا الاساس اتجاهات مثالية ومادية ومتوسطة ومدارس متعددة ، كل واحدة منها تحاول ان تحدد نواميس التاريخ.
وقد تكون المادية التاريخية اشهر هذه المدارس وأوسعها تغلغلا واكثرها تأثيرا في التاريخ نفسه ، اذن كل هذا الجهد البشري في الحقيقة هو استمرار لهذا التنبيه القرآني ويبقى للقرآن الكريم مجده في انه طرح هذه الفكرة لأول مرة على الساحة على ساحة المعرفة البشرية.
__________________
(1) سورة يونس : الآية (49).
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|