أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-11-2014
3403
التاريخ: 2024-07-07
436
التاريخ: 20-6-2016
15098
التاريخ: 29-4-2021
3611
|
تبدأ قصة نوح على النحو التالي :
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح : 1] هذه المقدمة القصصية تكشف لنا أن مواقفها وأحداثها تحوم
على عملية (إنذار) مباشر ، وعلى (عقاب) متوقع : في حالة عدم جدوى الإنذار.
وفعلا : لو تابعنا القصة بأكملها لوجدناها تستغرق السورة التي خصصت
لهذه القصة : وكلها مواقف حافلة بالإثارة ، قد ختمت بنزول العقاب الذي اكتسح القوم
، واستأصلهم أساسا.
غير ان القارئ [من وجهة النظر الفنية] يظل مترددا في استخلاص نتيجة
حاسمة لهذا الموقف ، قبل ان ينتهي من قراءة القصة.
وهذا التردد تفرضه لغة الفن القصصي دون أدنى شك. فالقصة لم تبدأ إلا
من وسط الأحداث الغامضة التي لا يعرف القارئ شيئا عن تفصيلاتها . أي : إنها تبدأ
من (إنذار) لا بد ان تسبقه وقائع خاصة تفرض مثل هذا الانذار ،… ولا بد ان تكون هذه
الوقائع ذات خطورة كبيرة ، بحيث تستدعي [عذابا أليما] تتوعد السماء به على هذا
النحو اللافت للانتباه.
إذن : هذه البداية القصصية {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} ثم : إتباعها بالعقاب {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تتضمن من حيث الشكل الهندسي للقصة (أحداثا) تسبق عملية الانذار
، وتتضمن إنذارا فعليا سيقوم به نوح عليه السلام ،… كما تتضمن (توقعا) لعقاب يكتسح
القوم في حالة ركوب القوم رؤوسهم.
والآن : لنتابع سلوك نوح تجاه قومه ، في عملية الانذار الذي كلفته
السماء به : لقد انذرهم نوح على النحو التالي :
{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ
وَأَطِيعُونِ} [نوح : 2 ، 3] لقد كشف هذا (الإنذار) عن بعض الأحداث السابقة عليه ،
مرتدا بالقارئ إلى بداية (الحداث).
ولكن ما هو نمط (الحادثة) التي حددها الإنذار؟
إنها [عبادة الله] و[إطاعة نوح] في دعوته إلى عبادة الله (أن اعبدوا
الله واتقوه ، واطيعون).
من هذا ، نستخلص ان القوم كانوا عاكفين على عبادة غير الله… كما انهم
كانوا (متمردين) على الإطاعة. ولا بد أن نستخلص أيضا ان تمردهم قد اكتسب صفة خاصة
، بحيث تطلب مثل هذا الإنذار.
لكن السماء ، وهي حانية على عبادها ،… إنما تضع أمامهم فرصا متنوعة ،
بغية أن يعودوا إلى صوابهم. فهي أولا تعدهم بانها ستعفو عنهم ، وتتجاوز عن
خطيئاتهم السابقة ،… وتعدهم ثانيا : بانها ستؤجل أي عقاب يستحقونه : إلى أجل مسمى.
وتحسسهم ثالثا ، بان العقاب المؤجل [في حالة عدم المبالاة به] سيكون حاسما لا رجعة
عنه….
كل هذا ، يضطلع الحوار التالي ، بتوضيحه ، فيما قال لهم نوح :
{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ} [نوح : 4]
والسؤال هو : إن نوحا عليه السلام ، قد بدأ بتطبيق أوامر السماء فعلا
، … حيث قال لهم بوضوح{ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } ولوح لهم بمغفرة السماء (يغفر لكم من ذنبوكم). ولوح لهم بتأخير
العقاب {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. ولوح لهم بان العقاب لا رجعة عنه {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا
يُؤَخَّرُ..} [نوح : 4]
ولكن ، ما هي فاعلية هذا الإنذار؟
هل ان القوم استجابوا لنوح عليه السلام ، واتجهوا إلى عبادة الله؟؟
الجزء الثاني من القصة ، يجيبنا مفصلا ، على السؤال المتقدم.
يبدو ان نوحا ـ عليه السلام ـ عندما التزم بأوامر السماء ، وأنذر
قومه. لم يواجه من القوم إلا صدودا. ويبدو أيضا انه واجه ألوانا من الشدائد ، بحيث
توجه نحو السماء ، شاكيا لها ردود الفعل التي احدثتها دعوته إليهم لعبادة الله.
لقد هتف نوح بمرارة ، مخاطبا الله سبحانه وتعالى :
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا
فِرَارًا} [نوح : 5 ، 6] هذا الحوار الانفرادي مع السماء ، يكشف عن المرارة
التي كابدها نوح في دعوته إلى رسالة السماء… لقد أجهد نفسه في نشر الرسالة ليل
نهار. لا أنه اقتطع شريحة معينة من الزمن لأداء الرسالة ، بل وظف الزمن كله للهدف
المذكور.
لكن القوم ، كانوا من الانغلاق إلى الدرجة التي لم يزدهم دعاؤه إلى
الله ، إلا فرارا من ذلك.
من هنا ، يمكننا أن نفهم معنى (الإنذار) ومعنى [العذاب الأليم] الذي
توعد الإنذار به ،… لأننا حيال قوم لم تزدهم الدعوة إلى الله إلا فرارا.
لقد وصل الأمر بهؤلاء القوم الذين ركب الشيطان رؤوسهم ،… وصل الأمر
بهم إلى الحد الذي قال عنهم نوح ، في حواره المتجه نحو السماء ، قائلا عنهم :
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا
وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا } [نوح : 7]
إن هذه الصورة الفنية [جعل الاصابع في الآذان] ثم الصورة الفنية
[تغطية وجوههم بالثياب]… مضافا إلى (الإصرار) ، ثم : استكبارهم استكبارا…. هذه
المستويات الأربعة من السلوك ، أو ردود الفعل الأربعة من القوم : حيال نوح ـ عليه
السلام ـ في طلب المغفرة لهم ،… تدلنا بوضوح على أن المستكبرين قد بلغ بهم
الاستكبار إلى الدرجة التي لم نتوقع البتة أن يعودوا إلى صوابهم.
والآن : يحسن بنا ، ان نقف عند [الصورتين الفنيين] : {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ } [نوح : 7] و(استغشوا ثيابهم) ، لنرى مدى ما تنطوي عليهما الصورتان من
دلالات بالغة الأثر في الكشف عن هوية المستكبرين.
فلولا اقتصر الأمر مثلا على مجرد رفضهم لرسالة نوح عليه السلام ،
لقلنا أن رفضهم مستند إلى الانغلاق الذهني لديهم فحسب ،… لكن الأمر تجاوز مجرد
الرفض الاعتيادي ، إلى ممارسة سلوك صبياني ، يستدر الإشفاق ، ألا وهو : وضع
أصابعهم في آذانهم.
فهذه الصورة ، توضح لنا ان المستكبرين رفضوا حتى مجرد الاستماع إلى
صوت نوح عليه السلام ، رفضوا حتى مجرد الاستماع إلى طلب المغفرة… لقد بلغ بهم
المرض ، إلى الدرجة التي كشفت عن أنهم يحملون في أعماقهم ، كراهية شديدة للأصوات
الخيرة.
إن المرضى ، أو العصابيين ، أو المنحرفين يتفاوتون في درجة المرض
الذي يعانون منه : فقد يكون المريض كارها لذاته ، وللآخرين ، وللقيم الخيرة… لكنه
يختزن هذه الكراهية ، دون ان يترجمها إلى سلوك خارجي : لفظي مثلا أو حركي ، بل
يحتفظ بها في أعماقه ، مكتويا بلهيبها.
لكنه حين يترجمها إلى سلوك خارجي ، فإن هذا يظل (مؤشرا) إلى بلوغ
المريض درجة خطيرة من المرض. فإذا ترجم كراهية أعماقه إلى سلوك لفظي مثلا ، كان
مؤشرا إلى درجة معينة من حجم المرض الذي يعاني منه. أما إذا ترجم أعماقه المريضة
إلى سلوك (حركي) مثلا : وضع الأصابع في الآذان ، … فان المرض يبلغ قمته التي تستدر
الإشفاق.
لقد كشف المستكبرون من قوم نوح عليه السلام ، عن ذروة المرض الداخلي
الذين يعانون منه ، حينما ترجموا أعماقهم الكريهة إلى سلوك حركي هو [وضع أصابعهم
في آذانهم] ، تعبيرا عن رفضهم الطفولي للرسالة الخيرة التي دعاهم نوح إليها.
ومن الحقائق الثابتة في لغة علم النفس المرضي ، أن (النكوص) إلى
أساليب الطفولة : يعد تعبيرا واضحا عن درجة المرض الذي يطبع صاحب الحالة. فهو
بعجزه عن التكيف ، وحده التأزم الداخلي لديه ، وفقدانه لأية وسيلة يخفض بها
توتراته ، نجده يلتجيء إلى أساليب من السلوك تعود عليها في الطفولة حينما كان يحتج
على عدم اشباع حاجاته بأنماط شتى من السلوك : يستدر بها عطف الكبار. وكل ذلك بسبب
من عدم نضجه.
ويبدو ان المستكبرين الذين وضعوا أصابعهم في آذانهم ، حينما دعاهم
نوح إلى رسالة السماء ، وطلب المغفرة… يبدو أنهم قد ارتدوا ونكصوا إلى أساليب
الطفولة : يخففون بها حدة توتراتهم وتمزقاتهم الداخلية التي يعانون منها ، معبرين
بذلك عن عجزهم التام عن التكيف مع الموقف ومعالجته بالنحو السليم.
على ان الأمر لم يقف عند نمط واحد من أساليب (النكوص) ، بل تعداه إلى
نمط آخر أشد ارتدادا إلى الطفولة ، واشد تعبيرا عن المرض ، ألا وهو : النكوص إلى
أسلوب تغطية الوجه بالثوب ، حتى لا يشاهدوا صورة البطل الذي يدعوهم إلى رسالة
السماء ، وطلب المغفرة.
إننا ندعو القارئ أو السامع إلى ان يدقق في هيئة مريض قد نوقش معه في
مسألة فكرية معينة… وإذا به يضع ثيابه على وجهه ، ويغطي وجهه الكريه ، حتى لا
يشاهد الشخصية التي تتعامل معه فكريا…
إن هذا لا يمكن ان يحدث إلا ند الأطفال الصغار الذين فقدوا أبسط
مقومات التنشئة الاجتماعية ، وبلغوا من الانحراف ، إلى الدرجة التي تؤشر إلى ضرورة
فرزهم في مكان خاص ، مع الأحداث الجانحين.
وحينما ننقل القضية إلى الأفراد الراشدين ،… إلى الكبار… فهذا يعني
ان المستكبرين قد بلغوا من (نكوصهم) إلى الطفولة ، درجة ما بعدها من درجة… درجة لم
يستطيعوا من خلالها ان يواجهوا حتى مجرد (الرؤية) لشخصية تطالبهم برفق ، وتدعو لهم
بطلب المغفرة.
ولو اقتصر الأمر على مجرد اشاحتهم بوجوههم عن نوح عليه السلام ، لهان
الخطب. غير أنهم حينما غطوا وجوههم بثيابهم ، أصبحوا حينئذ (مؤشرا) بالغ الدلالة ،
إلى أنهم قد ارتدوا إلى الطفولة بنحو لا تضاهيه أية درجة من المرض مهما تفاقمت.
إذن : المستكبرون بعامة يشكلون حفنة من المرضى : كشف النص القصصي
جانبا من أساليبهم النكوصية عبر صورتين هما : [وضع الأصابع في الآذان] و[تغطية
الوجوه بالثياب].
ومع ذلك ، فإن القصة لم تكتف بتقديم الصورتين المذكورتين ، بل
شفعتهما بحركات داخلية للمرضى المستكبرين ، هي انهم :
{وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا } [نوح : 7]
وواضح ، ان الاصرار أو العناد يمثل وجها صارخا عن توترات المريض
وتمزقاته.
وأما الاستكبار ، فلا تعقيب عليه ، لوضوح درجته من المرض.
والمهم ، ان القصة حينما عقبت على الصورتين الخارجيتين ، بوصف داخلي
لمشاعر المستكبرين ، وبخاصة انها استخدمت المفعول المطلق [استكبروا استكبارا] ،
موضحة بهذا التأكيد تساوق الوصف الداخلي لقوم نوح ، مع الوصف الخارجي لسلوكهم :
تساوق العناد والاستكبار ، مع : وضع الأصابع في الآذان ، وتغطية الوجوه بالثياب.
مع الوصف الواقعي الذي قدمته القصة لقوم نوح… ، نتوقع أن يتم كل شيء…
وأن يجيء دور (العقاب) الذي توعد به نوح ـ عليه السلام ـ : ما دام الأمر قد وصل
إلى أنهم { جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ
وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا } [نوح : 7]
بيد ان القصة لم تختتم بعد…
فها هو نوح ، يواصل شكواه إلى الله من هؤلاء المستكبرين ، قائلا
بمرارة :
{ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا } [نوح : 8]
{ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح : 9]
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح : 10]
في هذه الشكوى ، أكثر من دلالة.
فالملاحظ ، ان نوحا ـ عليه السلام ـ قد استخدم المفعول المطلق مرتين
[أسررت لهم إسرارا] و[استكبروا استكبارا]…
ان استخدام مثل هذه الصيغة ، يفصح عن ان دعوة نوح قد أخذت طابعا من
الجهد والمثابرة والتأكيد إلى درجة لا يتصور معها إمكان الإفادة من ذلك.
وبالمقابل ، فإن القوم قد اكتسب عنادهم نفس الدرجة من الرفض. أي :
هناك تقابل هندسي بين اصرار نوح على طلب المغفرة لهم ، واصرار المستكبرين على رفض
الطلب الخير.
ويمكننا ملاحظة اصرار نوح عليه السلام ،… في قوله {دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح : 5] وقوله { ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح : 9] .فهو لم يترك وسيلة إلا
ومارسها بأقصى ما تتطلبه من جهد… كان يدعوهم إلى طلب المغفرة نهارا ،… كما كان
يدعوهم إلى ذلك حتى ، ليلا…. كان يدعوهم إلى طلب المغفرة علانية ،… كما كان يدعوهم
إلى ذلك حتى سرا ، بل إنه بذل أقصى الجهد في ان ينصحهم سرا بدليل قوله { وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ
إِسْرَارًا} : لعل ذلك يدفعهم إلى قبول النصيحة : بعيدا عن أضواء
المحاكاة والتقليد والتوجس من الآخرين. فمن الممكن مثلا تحت تأثير (المحاكاة)
وفاعلية [الايحاء الجمعي] ان يرفض بعض المستكبرين قبول الطلب الخير. لكنهم ، بعيدا
عن الايحاء المذكور ، من الممكن أن يستخدموا عقولهم ويفكروا بموضوعية وحيدة ،
بحقيقة الأمر…
المهم ، ان نوحا ـ عليه السلام ـ لا يزال يواصل شكواه إلى الله ،
مبينا أنه قد استخدم مع القوم شتى الوسائل ، بما في ذلك : دعوته إليهم جهارا ،
واعلانا ، وإسرارا…
ثم ان نوحا لم يكتف بذلك ، بل بدأ يذكرهم بنعم الله تعالى ، موضحا
لهم ، أنهم لو يستغفرون الله : لغفر لهم. مضافا إلى ذلك :
{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح : 11 ، 12]
وهكذا ، يواصل نوح شكواه من المستكبرين ، مبينا انه قد سلك طريقة
(الثواب) أولا في حملهم على الإيمان بالله . فقد كرر طلب المغفرة لهم من نحو {كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ
لَهُمْ} , ومن نحو : {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح : 10].
كما لوح لهم بالثواب العاجل من : امطار ، وأموال ، وبنين ، وجنات ،
وانهار…
وهكذا ، سلك نوح طرائق الثواب بأشكالها المتنوعة ، بما في ذلك :
اشباع الحاجات الأساسية والثانوية : لعل ذلك يحملهم على اتباع سبيل الرشاد ،…
فالآدميون : قد يشكل (الثواب) (منبها) لهم في الاستجابة الخيرة… وقد يشكل (العقاب)
(منبها) لهم على ذلك… وقد تشكل الحقيقة الموضوعية غير المقترنة بالثواب والعقاب ،
(منبها) لهم.
أما أن نوحا قد سلك لحد الآن واحدا من الأساليب الثلاثة!!
ترى!! هل سلك أيضا : الأسلوبين الآخرين في حملهم على الهداية ؟؟
لقد سلك نوح ـ عليه السلام ـ مع قومه المستكبرين : أسلوب (الثواب)
دنيويا وأخرويا. كما انه سلك أسلوب (العقاب) قبل ذلك.
لكن القوم ظلوا على اصرارهم واستكبارهم.
والآن : يتجه نوح إلى الأسلوب الأخير : وهو تبيان الحقائق بشكلها
الموضوعي ،… فلعل بمقدور هذا الأسلوب ما دام متصلا بوقائع عملية تقع تحت سمت
الإنسان وبصره وتجربته ،… لعل بمقدوره أن يحمل القوم على الإيمان بالرسالة.
لقد خاطبهم ، قائلا :
{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } [نوح : 13 ، 14]
لقد طالبهم بتعظيم الله : من خلال تذكيرهم بحقائق تجريبية يحيونها.
وفي مقدمتها : إبداع الإنسان نفسه ، حيث خلقه الله أطوارا : بدء من النطفة ،
فالعلقة ، فالمضغة ، فالعظام ، فاللحم ،.. وانتهاء بشكله السوي.
وبعد أن ذكرهم بأقرب الحقائق المألوفة إلى اذهانهم ، وألصقها
بخبراتهم وهو (الإنسان) نفسه ،… انتقل إلى إبداع السماء وهي ظاهرة يواجهونها مد
البصر ، وبضمنها القمر والشمس ، فخاطبهم بمرارة :
{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا
وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح : 15 ، 16]
ثم : ذكرهم بما يضايف السماء وهي : الأرض ، ملفتا انتباههم إلى خبرات
يألفونها يوميا. لكنه قبل ذلك ذكرهم بالميلاد البشري ، وانبثاقه من الأرض ذاته ،
قائلا :
{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا
وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح : 17 ، 18] وبعد هذا التذكير الذي سنوضح بعد قليل موقعه الفني
من القصة ، ذكرهم بمعطيات الأرض ذاتها :
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح : 19 ، 20] وبهذا التذكير ، بإبداع السماء ومعطياتها المتصلة
بالإنسان ، وبالسماوات السبع ، وبالأرض ،… ينتهي نوح من عرض الأسلوب الثالث الذي
انتهجه في محاولاته لإصلاح القوم ، وهو الأسلوب القائم على عرض الحقائق الموضوعية
التي يألفها الإنسان في خبراته اليومية التي يحياها ،… بعد أن يكون نوح عليه
السلام ، قد استخدم أسلوب (العقاب) وأسلوب (الثواب) في عمليته الإصلاحية العظيمة.
لكن القوم ـ فيما يبدو ـ لا يزالون يصرون ، ويستكبرون استكبارا.
والآن : قبل أن نتجه لمتابعة القصة ، ينبغي ان نقف عند بعض السمات
الفنية في بناءها.
فالملاحظ ان نوحا ـ عليه السلام ـ في سياق سرده لإبداع السماء والأرض
والإنسان ، توقف عند ظاهرة الميلاد البشري {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح : 17] ، ثم : ابتعها بالموت البشري (ثم يعيدكم فيها) ، وبعدئذ
أنهاها بيوم الانبعاث {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا } [نوح : 18]
لقد عرض النص القصصي هذه الحقيقة المتصلة بمولد الإنسان ، وبموته ،
وبانبعاثه… ،… عرضها في سياق تجارب مألوفة خبرها الإنسان مثل : رؤيته لواقع أطواره
التي قطعها من (نطفة) وانتهت به إلى خلق سوي. ومثل : رؤيته للسماء ، والقمر ،
والشمس… كل هذه (الظواهر) تشكل خبرات يحياها الإنسان : كما هو واضح.
ومما لا شك فيه ، أن عرض الحقائق (الغيبية) المتصلة بميلاد الإنسان
وانبعاثه : عندما تقرن مع حقائق (مرئية) ،… حينئذ تساهم في احداث التأثير المطلوب
من وراء عرضها بهذا الشكل الذي أوضحناه.
السمة الفنية الأخرى التي نعتزم لفت الانتباه إليها ، هي : ان القصة
لم تعرض هذه الحقائق من خلال (السرد) ، أي : من خلال لغة السماء ، بل عرضتها من
خلال (الحوار) وهو : محاورة نوح مع قومه.
وحتى حوار نوح مع قومه ، لم تنقله القصة مباشرة ، بل نقلته من خلال
شكوى قدمها نوح إلى السماء ، من قومه ، فهو يخاطب الله ، بانه تحدث مع قومه بهذا
الأسلوب أو ذاك.
وبكلمة جديدة : ان نوحا نفسه ، كان ينقل قصته مع قومه : إلى الله.
والقصة القرآنية ، تنقل لنا قصة نوح التي قدمها بدوره إلى السماء.
والقارئ أو السامع مدعو إلى ملاحظة هذا الأسلوب من الصياغة القصصية
وما ينطوي عليه من إمتاع فني ، ومن استجابة خاصة في عملية التوصيل.
فنوح ـ عليه السلام ـ هو (قاص) يحكي للسماء قصته مع قومه : {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي
لَيْلًا وَنَهَارًا } [نوح : 5] {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح : 10]
والنص القرآني الكريم بدوره (قاص) يحكي لنا قصة نوح التي قصها
للسماء… وهكذا…
إذن : نحن حيال هيكل قصصي له سمته الفنية بالغة الجمال ، حينما يدعنا
ـ نحن المتلقين ـ نقف على طريقة نوح ـ عليه السلام ـ أداء الرسالة من خلال وقوفنا
مباشرة على جزئيات سلوكه ، وبلسانه هو : حيث يتحدث مباشرة عن ذلك ، لا أننا وقفنا
على ذلك من خلال (النقل) عنه… وفي هذا ما فيه من تأثير على استجابة القارئ أو
السامع : حيث يشيع حيوية خاصة ، ممتعة ، جميلة ذات إثارة حقا.
والآن : لنتابع ، تفصيلات القصة في مرحلة جديدة من الاحداث والمواقف
:
لقد استمر نوح في شكواه إلى السماء ، من قومه المستكبرين. فبعد أن
أوضح أنه سلك ثلاثة أساليب في تعامله مع المستكبرين : [أسلوب العقاب ، الثواب ،
الحقيقة الموضوعية]… اتجه إلى السماء ، شاكيا إليها تمرد القوم ، وجهالتهم ،
ومكرهم ، واصرارهم على عبادة الأوثان.
فلنسمع إليه :
{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ
يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ
وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا..}[نوح : 21 - 24]
إلى هنا تنتهي حكاية نوح عن تعامله مع القوم ، عبر شكواه التي قدمها
إلى السماء.
بعد ذلك ، تأخذ القصة منعطفا آخر يتصل بحسم الموقف ، وبمطالبة بإبادة
المستكبرين ، على نحو ما سنفصل الحديث عنه لاحقا.
لكننا ، قبل ذلك ، يحسن بنا أن نقف على تفصيلات الشكوى الأخيرة
المتصلة بتمرد القوم ، وجهالتهم ، ومكرهم ، واصرارهم على عبادة الأوثان.
فبعد أن عرض نوح للسماء من أنه انتهج مع القوم : [أسلوب العقاب
والثواب والحقيقة الموضوعية] ، أضاف قائلا :
(رب : إنهم عصوني).
وهذا يعني ، ان الأساليب الثلاثة المذكورة لم تجد نفعا مع
المستكبرين.
وهنا ، يحرص نوح ـ عليه السلام ـ على عرض ردود فعل أخرى صدرت من
القوم حيال دعوته الخيرة.
وهذه الردود من الفعل ، متنوعة. منها :
أنهم {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} [نوح : 21]
ومنها : انهم {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح : 22] ومنها : أن منهم من قال لآخرين : {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ...}[نوح : 23].
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|