أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-06-2015
4518
التاريخ: 5-2-2016
2696
التاريخ: 10-10-2014
2041
التاريخ: 27-09-2015
6400
|
في احاديثنا عن قصص موسى عليه السلام ، لم نتناول إلا شريحتين من حياته هما : زمن الرسالة وما بعدها.
هنا ، ـ في سورة طه وما يليها ـ نواجه شطرا ثالثا من حياته هو : زمن ما قبل الرسالة ، أي : الأحداث والمواقف التي واكبت حياته قبل اضطلاعه بالرسالة.
طبيعي : لم تصغ هذه القصص بنحو يفرز الادوار الثلاثة من حياة موسى بعضها عن الآخر ، بقدر ما نجدها متداخلة. كل ما في الأمر ، أن كل سورة تنهض بسرد هذا الدور أو ذاك حسب السياق الذي يستهدفه النص القرآني الكريم : حيث تضيف موقفا أو حدثا جديدا ، أو تختزلهما في نص دون آخر.
وفي سورة طه ، نواجه اول سرد مفصل عن الشطر الاول من حياة موسى ـ عليه السلام ـ : حياته قبل النهوض برسالة السماء ، متمثلة في حدثين أو واقعتين من الوقائع التي تجسد هذه الفترة الزمنية من حياته.
وهاتان الواقعتان هما : واقعة إلقائه في التابوت وواقعة بحثه عن النار. مع إشارة عابرة لحدثين آخرين هما : قتله لأحد الآدميين ، ولبثه في مدين.
بيد أن القصة لا تتحدث بكل تفصيلات الواقعة ، بقدر ما تقتصر على بعضها : حيث تواصل ربطها بالشرطين الآخرين من حياته ، أي : زمن الرسالة وما بعدها.
ويعنينا الآن : أن نتناول تينك الواقعتين الرئيستين والطرائق الفنية لصياغتهما.
من الحقائق الفنية التي طالما أشرنا إليها ، ان قص الحوادث لا يأخذ منحى واحدا من العرض. فقد تسرد الحوادث وفق تسلسلها الزمني ، لسياق يستتبع مثل هذا التسلسل.
وقد يستدعي السياق الزمن ، دون إخضاعه للتسلسل ، بل : إخضاعه للزمان النفسي بدلا من الزمان الموضوعي.
هنا ـ في سورة طه ـ من حيث البناء الفني للقصة بدأ النص بواقعة [البحث عن النار] ، ثم : اردفها بواقعة إلقاء موسى ـ عليه السلام ـ التابوت.
وواضح ، ان البحث عن النار يشكل آخر واقعة من حياته ،... في حين أن القاءه في التابوت : يشكل أول وقائع حياته.
لكن النص ـ مثلما قلنا ـ بدأ بقص أخريات حياته ،... ثم ارتد بالقصة الى احداثها المبكرة.
لقد بدأت القصة على النحو التالي :
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه : 9 ، 10]
بعد هذه البداية القصصية ، واصل النص حديثه عن موسى ـ عليه السلام ـ وفق تسلسل زمني هو : تكليم موسى عليه السلام ، وإصدار الأمر اليه بالذهاب الى فرعون.
الى هنا ،... فإن القصة تأخذ تسلسها الزمني...
لكن النص يقطع سلسلة الأحداث ، ويرتد بنا إلى أحداث ما قبل البحث عن النار ،... إلى الأحداث الاولى من حياة موسى ـ عليه السلام ـ : أحداث القائه في التابوت مع اشارة عابرة إلى نجاته من اليم ، وقتله للنفس ، ولبثه في مدين.
ثم يعود النص من جديد إلى النقطة التي قطعها ويواصل سرد الأحداث المتصلة بموسى ـ عليه السلام ـ وعلاقته بفرعون.
إن هذا التقطيع لأجزاء القصة ، وكسر وحدتها الزمنية ، ينطوي على اسرار فنية ، يتعين الوقوف عندها لملاحظة الصلة بين أهداف القصة وطرائق صياغتها.
لقد بدأت القصة من حيث ختمت حياة عادية لموسى ـ عليه السلام ـ : حياة يحيياها سائر البشر دون أن يوشحها حادث خطير له تميزه العبادي.
وبالرغم من أن طفولة موسى ـ عليه السلام ـ قد اقترنت مع واقعة التابوت الذي سنتعرض لتفصيلاته بعد قليل... بالرغم من هذه الواقعة التي يوشحها (المعجز) ،... إلا أن حياة موسى ـ عليه السلام ـ مضت في حركتها العادية ، لحين انتهاءها بواقعة [البحث عن النار]. وهي (الواقعة) التي بدأت القصة بها.
وتتمثل بساطة أو عادية هذه الواقعة التي ختمت بها حياة موسى عليه السلام ،... في اصطحابه امرأته ـ بعد أن غادر مدين ـ حيث جاءها الطلق ، وحيث احتاج الى النار للتدفئة أو للاستدلال بها على الطريق : بعد أن كانت الرحلة في ليل مظلم أضل موسى ـ عليه السلام ـ فيها الطريق.
هذه الواقعة المتسمة بما هو عادي ومألوف من حياة البشر : قد ختمت بها حياة موسى ـ عليه السلام ـ في شطرها الاول ، لكنما قد بديء بها في القصة ، لتكون فصلا بين حياة عادية وحياة خطيرة تنتظر موسى عليه السلام ، ألا وهي : حياة النهوض بمهمة الرسالة.
وفعلا : ما أن بدأ النص بسرد واقعة البحث عن النار ، حتى وصلها بحادثة (التكليم) : تكليم السماء لموسى :
(فلما أتها [أي : النار التي يبحث عنها] نودي : يا موسى إني انا ربك... الخ).
اذن : ختمت حياة عادية ، وبدأت حياة خطيرة من خلال حادثة [البحث عن النار].
هذه الخاتمة وهذه البداية [خاتمة حياة لا عادية وبداية حياة خطيرة] ، ينبغي أن نضعها في الاعتبار ونحن نتناول نصا فنيا يتحدث بلغة القصة عن شخصية موسى عليه السلام ،... حيث تجيء صياغة هذه الخاتمة وهذه البداية من لا حياة ، (بداية) قصصية لها دلالتها الفنية في السرد القصصي.
هذه (البداية) القصصية ـ إذن ـ لها مغزاها النفي ، ما دامت تحسسنا باننا حيال عهد جديد له خطورته التي ما بعدها من خطورة : ألا وهي : الاضطلاع برسالة السماء. انها حين تبدأ بما هو (خاتمة) لحياة عادية ، إنما تلفت انظارنا الى ما هو (إعلان) لحياة غير عادية.
ومما لا شك فيه ، ان حادثة [النهوض بالرسالة] ، كان من الممكن أن تجيء هي (البداية) القصصية ما دامت تشكل اهم حادث في رحلة الكائن الآدمي. إلا أن سبقها بحادثة [البحث عن النار] ، أكسب بعدا فنيا له خطورته ، حيث افصحت هذه (البداية) عن انتهاء المرحلة العادية من حياة موسى. وحيث افصحت ـ وهذا بعد فني آخر ـ عن ان معطيات السماء التي لا حدود لها قد استثمرت نشاطا عاديا ـ من حيث مستواه العبادي ـ لتهيئ للشخصية نشاطا غير اعتيادي : ما دامت الشخصية المذكورة قد التزمت بمبادئ السماء في سلوكها المألوف ، ومنه : العناية بكائن آخر من خلال البحث عن النار لأهله.
لقد بدأت قصة موسى ـ عليه السلام ـ بواقعة [البحث عن النار] ، حيث اوضحنا أهمية مثل هذه البداية القصصية التي تمثل خاتمة لحياة عادية ، وبداية لحياة جديدة أو كلتها السماء على موسى ـ عليه السلام ـ ليضطلع بمهمة الرسالة.
وها هي الحياة الجديدة ، ترسمها القصة لنا ، على النحو التالي :
(فلما أتاها [أي : النار] نودي : يا موسى.
{ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه : 12 - 16]
لقد ذهب موسى باحثا عن النار ، بغية الدفء لأهله ، وبغية الاهتداء بها عندما ضل طريقه.
ولم يدر بخلده أن هذه الرحلة نحو الدفء والاضاءة ستفاجئه بحدث خطير كل الطهورة ، حيث تعوضه عن الدفء والاضاءة الفرديتين ، بدفء واضاءة اجتماعيتين يضطلع من خلالهما بأكبر مهمة خلافية على الأرض ، قد اختارتها السماء لصفوة من البشر ، هم : الأنبياء والرسل.
هذه المهمة العبادية ، قد أو كلتها السماء لموسى على نحو له خطورته الكبيرة ايضا : من حيث طريقة الإيكال ، فيما تحدثت السماء مباشرة مع موسى ، وكلمته تكليما دون واسطة.
وتقول النصوص المفسرة ، ان النداء قد سمع من الشجرة التي كان قد توده نحمها عبر بحثه عن النار ، وان النار كانت تتوقد أعلى الشجرة ، فيما يسمع ايضا تسبيح الملائكة ، وفيما يرى نور عظيم... وتضيف بعض النصوص المفسرة ، إلى ان الخضرة لم تكن لتطفيء النار ، ولا النار لتطفئ الخضرة... حيث تساهم مثل هذه البيئة المعجزة في ترسيخ اليقين لدى موسى بحقيقة الموقف المفاجئ.
هذه البيئة الاعجازية : النور ، الخضرة ، تسبيح الملائكة ، إلخ... قد اردفها النص ببيئة معجزة نسجتها السماء من ممتلكات موسى نفسه.. من أشائه التي يصحبها ... بل من الأشياء التي لم يتوقع ان تكون بحصبته... من الأشياء التي لم يتوقع أنها كان من ممتلكاته...
إنها : العصا ، واليد...
ولكن : أية عصا ؟؟ وأية يد ؟؟
لنقرأ النص القصصي :
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} [طه : 17 - 22]
إن النور ، والخضرة ، وتسبيح الملائكة ، والعصا.. وقد انقلبت حية تسعى.... ثم : اليد ـ وقد أضاءت مثل الشمس أو القمر أو أشد إضاءة... مضافا إلى نداء السماء ذاتها وما يحتف به من رهبة وجلال... كل ذلك يشكل بيئة قصصية مشحونة بعناصر الجمال المدهش ، والمثير ، والمعجز... فيما يتحسسها المتلقي بوضوح ، حث تشيع فيه أحاسيس الجمال والفن... في ذات الآن الذي تشيع فيه مشاعر الجلال والرهبة.. وفي ذات الآن الذي ترفده بأفكار وقيم ومعان عن الحياة ووظيفتها العبادية ، ودعم السماء لاوليائها... الخ....
إن هذه البيئة القصصية تزداد نصوعا في أذهاننا حينما تمدنا التفاسير المأثورة بمزيد من التفاصيل عنها ، حث اختزلها النص ، وترك للمتلقي بأن يمارس عملية الكشف بنفسه ، ليثري بذلك ، عنصر الامتاع الفني لديه...
إن عنصر الإمتاع الفني نتحسسه بوضوح في تفصيلات البيئة القصصية المذكورة بأكملها...
فالعصا مثلا ـ تقول القصة عنها ـ أنها كانت متوكئا يعتمد عليه موسى في مشيه. كما كانت وسيلة يخبط ورق الشجر لترجاه غنمه. فضلا عن انها كانت وسيلة يعتمد عليها في حاجات أخرى.
ولقد أبهم النص القصصي من جانب ، تفصيلات هذه الرحلة التي يقوم بها موسى...
كما ابهم أهدافها ، مكتفيا من ذلك بالإشارة الى انه (مسافر) فحسب. ثم أبرز من بيئة السفر بعض عناصرها ، ومنها : العصا.
وحتى (العصا) أبرز بعضا من وظائفها... وابهم البعض الآخر : حيث ابرز مهمتها في التوكؤ عليها مشيا ، وفي الخبط بها ورق الشجر لترعاه الغنم... ثم أبهم النص وظائف العصا الأخرى ، ولمها في فقرة مركزة هي : [مآرب أخرى] يحققها موسى من هذه العصا.
وهكذا سائر مفردات البيئة الأخرى التي أبرز النص القصصي بعض تفصيلاتها من جانب ، وحذف البعض منها من جانب آخر ، ثم ابهم البعض منها ، من جانب ثالث.
ومما لا شك فيه أن لكل إبهام أو اختزال أو حذف من هذه العناصر... سببا فنيا يستهدفه النص القصصي ، يستطيع المتلقي ـ بأدنى تأمل ـ أن يستكشف ذلك إذا توفرت لديه ذائقة فنية في حقل الأدب القصصي أو مطلق الأعمال الادبية التي تتطلب توفر مثل هذه الذائقة الفنية ، حتى يتحسس المتلقي خطورة هذه الأعمال ، وما تستبطنه من أهداف فكرية يتضخم تأثيرها ـ دون أدنى شك ـ من خلال لغة الفن العصا :
قلنا أن النص القصصي قد ابزر من (بيئة) القصة ، عنصر (العصا). وابرز بعضها من وظائفها : متمثلة في التوكؤ كليها ، وفي خبط ورق الشجر بها لترعاه غنمه. ثم أبهم وظائفها الأخرى ، مكتفيا من ذلك ، بقوله ـ على لسان موسى عليه السلام ـ.
{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} .ويحسن بنا الآن أن نتعرف على هذا العنصر البيئي ، وما يواكبه من الأسرار الفنية وراء عمليات الاختزال والإبهام والتفصيل للعصا.
إن اول تفصيل ذكرته القصة عن العصا ، هو : انها كانت وسيلة يعتمد عليها في رحلته المجهولة. ولقد ابهم النص أهداف هذه الرحلة التي قام بها موسى عليه السلام.
وبين ـ من خلال البداية القصصية التي تحدثنا عنها سابقا ـ ان النص كان في صدد التمهيد لا براز قضية : النهوض برسالة السماء ، وليس في صدد الحديث عن حياة موسى السابقة إلا بما له صلة بأفكار القصة لاحقا.
ومن هنا ينتفي المسوغ للحديث عن الرحلة : من حيث بداياتها ، حيث ينحصر المسوغ في تحديد بعض معطياتها التي تحدثنا عنها ، متمثلة في البحث عن النار : بغية التدفئة لزوجته التي داهما الطلق ، وبغية الافادة منها في تحديد معالم الطريق.
وحيث قد انتفى المسوغ لذكر الرحلة التي قام بها موسى إلا في نطاقها المحدد المذكور... حينئذ ينتفي المسوغ لتفصيلاتها ، وتبقى الحاجة ـ من ثم ـ إلى رموز فنية تتحدث عن وجود رحلة فحسب ، ولي عن تفصيلات لهذه الرحلة.
من هنا جاءت (العصا) لتشير ـ من خلال رموزها الفنية ـ إلى مستويات هذه الرحلة : حيث نستكشف فنيا ان هذه الرحلة طويلة المدى : بدليل أن موسى ـ عليه السلام ـ يحتاج من خلالها إلى (عصا) يتوكأ عليها في مشية لمسافة طويلة ، وإلا لا نتفت الحاجة إليها في المسافات القصيرة عادة.
ومما يدعم ذلك أيضا ، هو : أن الوظيفة الثانية للعصا ، تكشف عن طول الرحلة واستمراريتها. فالوظيفة الثانية للعصا تتمثل في انها قد استخدمت للهش بها على الغنم : يخبط بها ورق الشجر لترعاه الغنم.
وهذا يعني ان موسى ـ عليه السلام ـ قد صحب الغنم.
واصطحاب الغنم لا يتحقق إلا في رحلة طويلة ذات استمرار.
مضافا إلى ذلك ، فإن الوظيفة الثالثة التي أبهمها النص ، تكشف بدروها عن طول الرحلة واستمراريتها.
فقد قال النص ـ على لسان موسى ـ عن الوظيفة الثالثة للعصا : {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}
فلقد أبهم النص هذه المآرب الأخرى للعصا. لكن التفسير المأثور أوضح جانبا من هذه الحاجات ، حيث نقل لنا ان موسى كان يحمل عليها زاده.
وواضح أيضا : أن حمل الزاد لا يتحقق إلا لمسافر. واشارت التفاسير إلى بعض الظواهر الاعجازية التي رافقت العصا حتى قبل هبوط الرسالة على موسى. حيث ذكرت ان موسى كان يضرب بها الأرض فيخرج منها ما يأكله ، ويركزها فيخرج منها ما يشربه.
واضافت النصوص المفسرة الى ذلك ، إلى أنه كان يحارب بها السباع ، ويستضيء بها في الليل ، ويختي بها رؤوس الشجر... بل... وكانت تحدثه وتؤنسه في الدرب....
كل هذه الوظائف للعصا ، تنم عن ان الرحلة كانت استمرارية تمتد في الليالي والأيام.
البعد الآخر لهذه الرحلة ـ فيما نستكشفها من الرموز الفنية للعصا ـ هو : ان الرحلة كانت في الصحارى والغابات الصحراوية ، حيث ان مطاردة السباع ، ورعي الأغنام ، وتفجير العيون ، واستخراج الأكل ، لا يتم عادة إلا في الصحارى وغاباتها.
مما يمكن أن نستخلصه فنيا ـ من العصا ووظائفها وطبيعة شكلها ، وما واكب ذلك من خلال النصوص المفسرة... أن العصا ـ من حيث أصلها ـ هي من آس الجنة ، أخرجها آدم عليه السلام ، وتوارثها الانبياء إلى ان بلغت شعيبا ـ عليه السلام ـ فدفعها الى موسى.
ومن حيث شكلها ـ تقول النصوص المفسرة ـ ان طولها كان عشرة أذرع على مقدار قامة موسى.
وأيا كان الأمر ، فان (العصا) بكل رموزها الفنية : تمثل ـ من حيث المصدر والوظيفة ، شريحة من عنصر البيئة الجمالية التي رسمتها القصة.
وقد واكب ذلك ، إن رسم العصا قد اقترن بنمطين من الرسم : أحدهما : رسمها بملمح مألوف من حيث كونها مجرد عصا يتوكأ عليه ، ويهش بها على الغنم ، ويحارب بها السباع... الخ. والآخر رسمها بملمح (معجز) ـ من حيث أصلها [آس الجنة] ومن حيث مصدرها [تواريها الأنبياء] من حيث وظيفتها [تفجير المياه ، واستنبات الأكل ، وأحناء رؤوس الشجر].
بيد ان هذا الملمح (المعجز) لم يرسمه النص ، بل تكفلت النصوص المفسرة بتوضيحه.
وهذا على العكس من الملمح المعجز الذي سيواكب رسالة موسى ، حيث يترافق رسم المعجز مع الرسالة.
لقد كانت العصا [عصا موسى عليه السلام] ـ فيما لحظنا ـ ذات وظائف متنوعة... بعضها يتصف بما هو مألوف وعادي ، وبعضها يتصف بما هو مدهش ومعجز.
فالتوكؤ عليها ، والهش بها على الغنم ، ومطاردة السباع بها إلخ ، تمثل ما هو مألوف وعادي.
اما تفجير المياه بها ، واستخراج الأكل ، وإحناء الشجر ، إلخ ، فتمثل ما هو مدهش ومعجز.
بيد أن ما هو مدهش ومعجز من العصا ، إنما يأخذ فاعليته الأشد دهشة واعجازا مع زمان الرسالة : بدء من لحظات التكليم ـ تكليم السماء لموسى ـ ، مرورا بقضية موسى مع السحرة ، وانتهاء بالأزمنة اللاحقة لنبوة موسى.
ويعنينا الآن من ذلك ، أن نتحدث عن فاعلية العصا في لحظات التكليم : وهي تمثل المرحلة الثانية من الفعاليات.
يقول النص القصص ـ بعد أن سالت السماء موسى عما في يمينه ، وبعد أن أجابها بانها عصاه التي يتوكأ عليها ، ويهش بها على الغنم ، وان له فيها مآرب أخرى ـ يقول النص بعد ذلك ، مطالبا موسى بأن يلقيها في تلك اللحظات التكليم :
{قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه : 19 ، 20]
وطبيعي ، فان ما هو مدهش ومعجز حقا ، يأخذ فاعليته الشديدة ، عندما يفاجأ موسى بما لم يدر في حسبانه ، وهو : انقلاب العصا إلى (حية) تسعى. حيث ان عنصر (المفاجأة) يسهم في تصعيد الدهشة والانبهار. أم إذا ألفت الشخصية ملاحظة المعجز ، فحينئذ يضمر حجم الاستجابة لديها ، وتعوض عنصر التخوف أو الدهشة المقرونة بالتوجس ، بعنصر آخر هو : الدهشة المقرونة بما هو عميق ومتغلغل من إيمان الشخصية بقدرات السماء التي لا حدود لتصورها.
من هنا لم يتكرر عنصر التوجس والتخوف لدى موسى ، عندما انقلبت عصاه إلى حية تسعى ، بل تلقف ما صنعه الحسرة... لم يتكرر لديه هذا التوجس والتخوف ، بسبب من الفتة للظاهرة المعجزة ، وتغلغل إيماناه بقدرات السماء : حيث يتحقق ذلك من خلال التأمل المتأني وليس من خلال المفاجأة التي تتطلب بعض الوقت ، لحين تحقق فاعليتها.
وهذا ما لحظناه فعلا في طبيعة استجابة موسى عندما فوجئ بانقلاب العصا (حية) تسعى.
فالنصوص المفسرة ، تقص لنا بان موسى ـ عليه السلام ـ [قد حانت منه نظرة فاذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون ، ويمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيلقمها ، وتطعن انيابه في اصل الشجرة فتجثها ، وعيناه تتوقدان نارا] وحيال مثل هذا المرأى المفاجئ ، نجد موسى وقد ولى مدبرا ولم يعقب. لكنه بعد لحظات ، عندما ضمر عنصر المفاجأة ، وسمح الوقت له باستعادة توازنه الداخلي... عندها ، تذكر انه حيال السماء التي لا حدود لقدراتها العظيمة... وعندها ذكر الله فوقف استحياء منه.
ومع ذلك ، فان الخوف الشديد لا يزال يلازمه من المرأى المدهش المعجز...
فالسماء ـ وهي تحيط بكل شيء علما ـ قدرت مبلغ الاستجابة الخائفة لدى موسى ، فشجته ـ تبعا لذلك ـ مطالبة اياه بعدم الخوف ، مطمئنة اياه بان السماء ستعيد الحية إلى حالتها الاولى : العصا .
{قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه : 21]
وتقول النصوص المفسرة ، أن موسى ـ عليه السلام ـ كانت [عليه مدرعة من صوف قد خلها بخلال. فلما امره سبحانه بأخذها ، ادلى طرف المدرعة على يده. فقال : ما لك يا موسى؟ أرأيت لو اذن الله بما تحاذر ، أكانت المدرعة تغني عنك شيئا ؟ ] .
وعندها اقر موسى بضعفه .
ثم كشف عن يده ووضعها في فم الثعبان ، فاذا هي في ذات الموضع الذي كان يتوكأ ـ من خلاله ـ على عصاه.
إن هذا النمط من الاستجابة ، يكشف لنا عن طبيعة الخوف الانساني بعمامة ، وإلى انه استجابة طبيعية جدا.
بيد أن المساء أرجعت كل شيء الى مكانه عندما افهمت موسى ـ عليه السلام ـ انها مالكة لناصية الأمور كلها ، والى انها لو لم تتدخل في الأمر لما كانت المدرعة تغني عن موسى أي شيء.
وبعامة ، ستأخذ العصا بعد هذه الواقعة ، مرحلة جديدة من الفعالية ، حيث يطالب النص القصصي موسى با ، يذهب إلى فرعون ويحتج عليه بأدلة عقلية وتجريبية ، ومنها : تجربة العصا ذاتها ، فضلا عن تجربة اليد البيضاء.
وكما نعرف جميعا ، فان (العصا) لعبت دورا كبيرا في الانقلاب الفكري لدى السحرة انفسهم وهم طرف المخاصمة في هذا الموقف : حيث ألقي السحرة ساجدين.
من هنا نفهم القيمة الفنية لرسم ظاهرة (العصا) التي امتدت بوظائفها منذ الوهلة التي تسلمها موسى من شعيب ، وحتى اللحظة التي أحدثت الانقلاب الفكري العظيم لدى السحرة... ممتدة بوظائفها إلى أزمنة لاحقة من حياة موسى.
حيث ننتقل من رسم (البيئة) في قصة موسى عليه السلام ، إلى رسم (الموقف) فيها ، نجد ان القصة في فصلها الأول الذي مهد له ، بقضية [البحث عن النار] ، واستهله بقضية (التكليم)... هذا الفصل ، قد استهله بموقف هو : اصطفاء موسى للنهوض بالرسالة.
ويلاحظ أن الدلالة العبادية في هذا الموقف ، قد صاحبها : التشدد على إبراز معاني القداسة والصفاء ، والطهر والتوجه النقي نحو السماء.
فاول ما طالب النص به هو : خلع النعل ،... ومن ثم : الاشارة الى قداسة (الوادي) الذي يضم موسى عليه السلام.
{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه : 12]
ثم تلا ذلك : المطالبة بالعبادة ، وممارسة الصلاة ، من خلال التشدد على أحد مستوياتها المتمثلة في اقامتها أي وقت تذكرها فيه.
ثم تبع ذلك : الاشارة الى موعد الساعة ، وإخفاء الموعد عن الآخرين ، وكونها موعدا لثواب الأعمال وعقابها.
وحين نتابع هذا الموقف ، نجد أن جواب موسى للسماء ، قد صاحبته أيضا امثلة تلك الدلالات العبادية . فموسى ـ عليه السلام ـ عندما طالب من السماء أن تعينه في النهوض بالرسالة ، علل هذا الطلب بقوله :
{ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا } [طه : 33 ، 34]
فالتسبيح والذكر ، يشكلان دلالات عبادية توازن المطالبة بذكر الله من خلال الصلاة وسواها من الممارسات التي تحمل دلالة الطهر والقداسة والتوجه نحو السماء.
ونتابع هذا الفصل القصصي ، فنجد ان الموقف فيه قد تضمن طلب الدعم من السماء للنهوض بالرسالة : ليس من خلال نتائجها العبادية فحسب ، بل من خلال وسائلها التي تتطلبها طبيعة الموقف السياسي الذي يواجه به طاغية العصر : فرعون.
{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه : 25 - 32] .
إن هذا الحوار : حوار موسى مع السماء ، يتضمن جلمة من ملابسات الموقف ، بما يتطلبه من إعداد نفسي ومادي لمواجهة العدو ، مسبوقا بالدعم أساسا.
فقد طلب موسى أولا ، ان تمنحه السماء قدرة الصبر على الشدائد ، وتيسير المهمة {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}. تلا ذلك طلبه من السماء أن تزيح عنه عقدة اللسان ، ما دام الموقف يتطلب مهارة كلامية : بغية إيصال الحقائق إلى العدو بوجهها الأكمل { وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي}
تلا ذلك : طلبه من السماء ، ان ترسل معه أخاه هارون ، ليساعده في تحقيق المهمة.
اكثر من ذلك : طلب موسى من السماء ، ان تجعل من هارون ليس مجرد وزير يستعين به في تحمل المسؤولية ، بل طلب من السماء أن تحمل هارون مسؤولية (النبوة) ذاتها. لان تحميله مسؤولية النبوة يجعله أشد حرصا على تحقيق المهمة الخلافية (أشركه في أمري).
وإزاء هذا الطلب ، حققت السماء لموسى أمنيته ، قائلة له : (قد أوتيت سؤلك يا موسى).
ولسوف نرى ان تحقيق الطلب لموسى ، يرتبط ـ ليس بما يتطلبه الموقف من الإعداد النفسي والمادي اللاحقة ، فستتمخض عن طبيعة التعامل الذي سيواجه هارون ، عندما يخلفه موسى على القوم عشية ذهابه الى الميقات : على النحو الذي سنفصله.
واما المواقف السابقة ، فتتصل بطبيعة العقدة اللسانية لدى موسى : حيث يرتبط طلب إزالة هذه العقدة بتعامل فرعون مع موسى في طفولته.
فالنصوص المفسرة ، تروي لنا : ان فرعون عندما أوتي موسى إليه ـ بعد حادثة إلقائه الامر ، موضحة لزوجها فرعون ان صنيع موسى بلحية فرعون. وعندما تدخلت آسية بنت مزاحم في الامر ، موضحة لوجها فرعون ان صنيع موسى بفرعون انما هو ناجم من كونه طفلا غير مميز.
ولكي تثبت (آسية) هذه الحقيقة لفرعون ، أتت إليه بجمرة ودرة ،... فهم موسى بتناول الدرة لولا أن تدخل جبرئيل فصرف يده نحو الجمرة. فتناولها ووضعها في فمه فاحترق لسانه وتسبب ذلك في تشكل العقدة لديه.
والمهم ، ان هذه الواقعة الطفولية قد شكلت جانبا من العطاءات التي ستذكر السماء موسى بها ـ في سلسلة العطاءات التي تسردها هذه القصة وسواها ـ فيما انقذت موسى من القتل ، بعد أن انقذته من الغرق في اليم غداة ألقي في التابوت.
وخارجا عن هذا الموقف : فإن طلب ازاحة العقدة اللسانية يظل مرتبطا بمواجهة فرعون الذي كان وراء تسبيب العقدة المذكورة. حتى كان النص القصصي ـ من الوجهة الفنية ـ ينقلنا إلى إجراء موازنة بين الذهاب إلى فرعون : وقد كبر موسى ، واضطلع بأكبر مهمة ، وبين التخلص من فرعون وهو طفل ، حيث تطل النتيجة نصرا على فرعون في الطفولة وفي الكبر. فضلا عن ان إزالة العقدة اللسانية سيقترن بظاهرة كان فرعون نفسه قد أحدثها. وهو امر يتطلب إزاحة تلك العقدة مادامت المواجهة الجديدة مع فرعون نفسه : حتى كان النص القصصي ينقلنا من جديد إلى إجراء مقارنة بين مواجهة لفرعون وقد أصبح موسى فصيح اللسان ، وبين تذكر لحادثة كان فرعون وراء إزالة الفصاحة عنه.
ومثل هذا الموازنة ، لها أهميتها الفنية في حقل البناء القصصي ـكما هو واضح.
لقد بدأت قصة موسى بواقعة [البحث عن النار] ـ حيث تمثل هذه الواقعة آخر مرحلة من حياته الأولى : حياة ما قبل النبوة.
وفي حينه أوضحنا السبب الفني وراء هذه البداية. وقلنا : ان القصة حينما تبدأ من مرحلة زمنية معينة دون أن تأخذ تسلسها الموضوعي في الزمان ، فلأن سياق الأفكار التي يستهدفها النص القرآني ، هو الذي يفرض تقطيع الزمان ، واختيار المرحلة الملائمة.
والآن ، نجد أن النص القصصي يرتد بنا إلى الوراء ، بعد أن بدأ بالقصة من حادثة [البحث عن النار] ، وبعد أن تابعها بمراحل الزمان الموضوعي : حيث سرد لنا بعد حادثة البحث عن النار ، سرد حادثة (التكليم) قد وقف بها النص عند ظاهرة العصا واليد ، ومطالبة موسى بالذهاب إلى فرعون ، وجواب موسى بطالب إلى السماء بأن تزيح عقدة لسانه ، وبأن ترسل معه أخاه هارون : ثم إجابة السماء لطلبه.
هنا ، قطع النص سلسلة الأحداث : فبدلا من ان يسرد لنا ذهاب موسى وهارون إلى فرعون ،... بدلا من ذلك... عاد بنا إلى الأيام الاولى من حياة موسى ،... عاد بنا إلى طفولة موسى ، فشبابه ، فمكوثه في مدين ، فمجيئه إلى الواد المقدس. أي : عاد بنا النص إلى نفس النقطة التي بدأت القصة بها ، بحيث وصل بين مراحل حياته الأولى التي بدأت بحادثة إلقائه في اليمن ، وختمت بحادثة بحثة عن النار. ثم واصل بعد ذلك ، تكملة ما قطعه من السرد المتصل بقضية ذهاب موسى إلى فرعون.
إن هذا البناء القصصي الذي يقوم على تقطيع الزمن وفق مراحله النفسية وليس وفق تسلسله الموضوعي ، ينبغي ألا نمر عليه عابرا ، بل يتعين الوقوف عنده ، والنظر مليا إلى أسراره الفنية.
ينبغي أن نفهم السب الفني الكامن وراء مثل هذا التقطيع للزمان ، والعود إلى وصل اجزائه بعضها بالآخر. فقد كان من الممكن مثلا ـ كما سنرى في قصة لاحقة ـ ان تبدأ القصة بحياة موسى وفق مراحلها المتسلسلة ، كان تبدأ بحادثة : إلقائه في التابوت ، ثم : رجوعه الى امه ، ثم : قتله للنفس ، ثم : مكوثه في اهل مدين ، ثم : بحثه عن النار.. وبهذه ، تنتهي سلسلة حياته الاولى.
وكان من الممكن أيضا ، ان يواصل النص سرد حياته الجديدة ، بأن يبدأ من حادثة التكليم ، ثم : ذهاب موسى الى فرعون... إلخ.
اقول : كان من الممكن أن يسرد النص هذه القصة وفق مراحلها المتسلسلة التي ذكرناها : حيث سيتم مثل هذا السرد في قصة لاحقة. لكننا ـ نتساءل من جديد ـ عن السر الفني الكامن وراء قطع سلسلة الزمن ، حيث يبدأ الن بحادثة (البحث عن النار] ويصلها بحادثة (التكليم) والمطالبة بالذهاب الى فرعون. ثم يقطع السرد عند هذه النقطة ، ويعود إلى المراحل الاولى من حياة موسى ـ بعد ان كان قد بدأها بأخريات حياته الاولى ـ ثم يعود من جديد إلى متابعة ما قطعه من السرد المتصل بالذهاب إلى فرعون؟؟
إن جانبا من الأسرار الفنية وراء هذا التقطيع للزمن ، ووصله من جديد ،... قد أوضحناه عند حديثنا عن واقعة [البحث عن النار] ، فلا حاجة إلى اعادة الكلام فيه.
هنا ، عندما يقطع النص سلسلة الأحداث ، ويرتد بنا إلى المراحل الاولى من حياة موسى ،... يمكننا ان نستخلص الدلالة الفنية وراء ذلك ، متمثلة ـ في جمة ما تتمثل به ـ أن قطع سلسلة الحدث جاء عند المرحلة التي طلب بها موسى ـ عليه السلام ـ من السماء أن تعينه على النهوض بالمهمة التي أو لكتها السماء إليه : حيث أجابته السماء الى طلبه ، قائلة له :
{قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه : 36]
ولقد ربطنا في حينه بين عقدة اللسان لدى موسى ، وصلة ذلك بحياته الاولى ، وتدخل السماء لإنقاذه من فرعون وهو طفل غير مميز.
هنا ، يستثمر النص هذا التذكر العقدة اللسان ، عبر تحقق العطاء الفعلي الذي اغدقته السماء على موسى ، حيث حققت طلبه بإرسال هارون ، وإزالة العقدة اللسانية ، رابطة بين هذا العطاء الفعلي الذي يداعي إلى الذهن ذكريات العطاءات السابقة ، حيث استدعاه
في جملة ـ في جملة ما ستدعاه ـ تذكر العقدة اللسانية وصلتها بإمكان (القتل) لو لم تتدخل السماء فتصرف يد موسى عن الدرة.
إن استثمار هذا [التداعي الذهني] ، انما يتم من خلال العطاء الفعلي الذي اغداقته وهو أمر ـ كما قلنا ـ يداعي الذهن إلى العطاء السابق المرتبط بالإنقاذ من القتل وهو طفل غير مميز.
ومن هنا يستثمر النص هذا العطاء المرتبط بحادثة الطفولة ،... يستثمره بتذكير عطاءات مماثلة تمت منذ عهد الطفولة أيضا ، حتى امتدت إلى مراحل الشباب ،.. وحتى امتدت إلى المرحلة الجديدة : مرة النبوة.
والآن : كيف تم السرد القصصي لهذا التذكير بعطاءات السماء من خلال المرحلة السابقة على البنوة؟
لقد بدأ العود إلى المرحلة الأولى من حياة موسى ـ في هذه القصة ـ على النحو التالي :
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } [طه : 37]
{إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} [طه : 38]
{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه : 39 ، 40]
واوضح ، ان النص حينما عاد بنا إلى الحياة الاولى لموسى ، ربطها ـ بعد ذلك مباشرة ـ بالنقطة التي قطع سلسلة السرد من خلالها ، حيث عاد من جديد الى حادثة (التكليم) الذي تمثلها الفقرة الأخيرة :
{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه : 40]
ونحن ، بعد ان أوضحنا السر الفني وراء تقطيع الحدث ووصله على النحو المذكور ،... يجدر بنا أن نقف عند هذه المرحلة وملاحظة تفصيلات الحدث فيها.
لقد سرد لنا النص : المرحلة المبكرة من حياة موسى بنحو من التفصيل. ثم سرد مراحله الراشدة عابرا ، وفصلها في قصة لاحقة نقف عندها انشاء الله.
وتتمثل هذه المرحلة المبكرة ، في التذكير بعطاء السماء ، وتدخلها لانقاذ موسى ، منذ اللحظة التي ولد فيها.
ومن البين ، ان التذكير بأول لحظات الحياة ، ينطوي على أهمية فنية بالغة المدى ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار ـ ما سبق ان ذكرناه ـ من ان النص انما ارتد بالحدث إلى الزمن السابق ، فلأنه في صدد التذكير بنعم السماء على موسى. والتذكير بهذه النعم منذ لحظات الولادة ، يعني : تحسيس الشخصية بضخامة العطاء ، واستمراريته ، وعدم انقطاعه منذ اللحظة التي يدب فيها على الأرض.
والمهم ، ان هذا العطاء الذي استهل مع ولادة موسى ، يتمثل في عملية الانقاذ من القتل. فالنصوص المفسرة تذكر لنا أن فرعون طاغية عصره ، كان قد قرر قتل بني إسرائيل وهم أطفال. ثم قرر ان يكون ذلك في سنة ، ورفع القتل في سنة.
فولد موسى في السنة التي يقتل فيها الأطفال. فانقته المساء من عملية القتل ، من خلال الايحاء إلى أمه ـ يقظة أو حلما ـ بأن تصنع تابوتا ، وتضع فيه موسى ، تلقيه في نهر النيل ، حيث يقتاده الموج في نهاية المطاف إلى الساحل ، وفعلا هيأت الأم هذا التابوت ، وجعلت فيه قطنا ، ووضعت وليدها فيه ، وقذفته في النيل.
وتقول النصوص المفسرة ، أن التابوت قد تجه إلى فرع يتصل ببستان عائد إلى فرعون. وكان فرعون وقتئذ جالسا هناك ، مع امرأته آسية بنت مزاحم. فلمح التابوت ، وأمر بإخراجه. وما ان فتح التابوت حتى شاهد طفلا من احسن الناس وجها ،... فأحبه فرعون ، وأمر بإحضار النساء اللواتي كن حول داره. لكن يرضعنه ، بيد ان موسى : الطفل الذي كان يبكي بحثا عن اللبن ، قد امتنع عن تناول اللبن من آية واحدة منهن.
وكانت أخت موسى واقفة هناك : حين أمرتها امها في اللحظة التي ألقي فيها موسى في النيل ، أن تتبعه وتراقب التابوت. ونتيجة لمتابعتها المذكورة : استقر بها المطاف عند دار فرعون.
وعندما امتنع الطفل عن تناول اللبن ، قالت اخته ـ حينئذ ـ (هل أدلكم على من يكفله؟) ، فوافقوا على ذلك. وجيء بأمه فعلا فتناول اللبن... وبهذا اللقاء ، تم عودة الطفل إلى الأم :
{فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [طه : 40]
وهكذا : يسرد لنا النص تفصيلات هذه الواقعة ، مذكرا موسى بعطاء السماء : عليه وعلى امه ، إذ انقذته من القتل ، واقرت عيون والدته به.
بعد هذا التذكير ،... يتابع النص ، تذكير موسى بعطاءات أخرى ، ومنها : انقاذه من تبعات القتل الذي تم علي يديه : حيث قتل أحد الاقباط ، فأنجاه الله من القاء القبض عليه : حتى استقر به المطاف في مدين.
ويختم النص هذا التذكير بالنعم ،... يختمه بوصل شرائح القصة بعضها بالآخر : حيث تجري السماء حوارا مع موسى ، على هذا النحو :
{ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه : 40]
وواضح ، أن النص بهذا الحوار ، قد اتجه إلى النقطة التي قطع فيها سلسلة الحدث ، ونعني به : حادثة (التكليم). فقد قطع النص ـ كما لحظنا سابقا ـ سلسلة الحدث المتصل بالتكليم ، والمطالبة بالذهاب الى فرعون... قطعها بتذكير موسى بنعم السماء عليه ، وارتد بذلك إلى مراحل حياته التي انتهت إلى حادثة (التكليم).
وها هو النص من جديد ، يعود إلى حيث قطع سلسلة الحدث ، ليتابع السرد وفق تسلسله الزمني الذي يبدأ بمطالبة موسى بالذهاب إلى فرعون : حيث نواجه تفصيلات جديدة في هذا الموقف.
لحظنا ، كيف ان قصة موسى عليه السلام ، بدأت من وسط الاحداث ، ثم ارتدت إلى البداية ،... ثم اتصلت ـ من جديد ـ بوسط الاحداث : حيث تجسدت في مطالبة موسى بالذهاب إلى فرعون.
ولحظنا ـ أيضا ـ ان موسى ـ عليه السلام ـ طلب من السماء أن تعينه على ذلك : من خلال إزالة العقدة من لسانه ، ومؤازرة أخيه هارون : حيث أجابته السماء إلى طلبه.
هنا ، يواصل النص القصصي مطالبة السماء من جديد بالذهاب إلى فرعون.
وموسى بدوره يطلب من السماء ـ من حديد ـ أن تعينه على ذلك ، مبديا تخوفه من فرعون وبطشه.
ثم تجيبه السماء ـ من جديد ـ راسمة له طريقة التعامل مع فرعون ، مؤكدة له انها في عون موسى وأخيه في مهمتها العبادية.
ولنقرأ نصوص هذا لموقف :
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه : 42 - 47]
ويلاحظ في هذا الموقف أن موسى ـ عليه السلام ـ لا يزال مبديا تخوفه من طاغية عصره فرعون : بالرغم من ان السماء أجابته إلى طلبه الأول : حينما توجه إلى السماء بإزالة العقدة من لسانه ، بإرسال أخيه هارون لمؤازرته.
من عبل كان قد تخوف من مرأى الثعبان أيضا.
وها هو للمرة الثالثة يبدي تخوفه من فرعون بالرغم من ان السماء تطالبه بالا يني في مهمته.
ولكن مثل هذا التخوف ، يبدو وكأنه دافع غريزي ـ كما سبقت الإشارة ـ ما دام الأمر متصلا ببداية الاضطلاع بالمسؤولية ، وبخاصة ان النص القصصي نفسه ، قد أضفى على الموقف ما يحسس الشخصية بمناخ الخوف ، من نحو تكراره بان فرعون قد طغى مثلا. بل ، ان إشارة النص إلى مخاطبة فرعون باللغة اللينة ، يحسس موسى بانه حيال مهمة محفوفة بالأخطار : حيث سيواجه طاغية ـ من الصعب أن يضخ لليونة القول.
وفعلا ، فان الاحداث اللاحقة ، ستكشف عن أن فرعون لن يتبع الهدى الذي رسم له. وبأنه سوف يطغى أشد فاشد...
على أية حال ، يظل عنصر التخوف في هذا الموقف ، هو سمة ملحوظة يرسمها النص في القصة.
يبدأ الفصل الجديد من قصة موسى بمواجهة فرعون على النحو التالي : حيث يحذف النص واقعة الذهاب إلى فرعون. كما يحذف طريقة المواجهة التي بدأها موسى مع فرعون. بل نجده يسرد لنا جواب فرعون.
(قال [أي : فرعون] : {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه : 49]
(قال [أي : موسى] : {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه : 50] .
(قال : {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى } [طه : 51]
{قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه : 52]
ان النص القصصي بحذفه طريقة المواجهة ، إنما يتحقق نماطا من الاقتصاد في السرد تفرضه طبيعة المواجهة التي تتطلب إعادة لما سبق أن أوضحه الحوار بين السماء وموسى : فيما طالبت السماء موسى ان يتعام مع فرعون بلغة لينة. وان يطالبه ببني إسرائيل.
هذه المطالبة لم يعدها النص القصصي : تحقيقا للاقتصاد في السرد أولا ، ولأن المواجهة اللينة لا تخضع لطريقة خاصة ، بل تخضع لطبيعة الموقف وما يفرضه من لغة تتناسب مع تركيبة الشخص ، وهو امر ما دام لم يتحدد في صيغة خاصة ، فيحنئذ يجيء حذفه ضرورة فنية كما هو بين.
المهم ، أن النص بدأ رسم جواب فرعون ،... ثم استمرار الحوار بين طرفي المواجهة التي تلخصت في التعريف بمبدع الكون ، وتقديره للظواهر ، ومجازاته للسلوك.
وقد قطع النص الحوار بين موسى وفرعون ،… وأتم التعريف بمبدع الكون وعطاءاته ، على هذا النحو :
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [طه : 53 - 55]
ثم ختم النص هذا الفصل القصصي ، بالتعقيب التالي ، ملخصا نتيجة الحوار بينه وبين موسى وهارون :
{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه : 56]
وبهذا التعقيب ، يحقق النص مهمة فنية مزدوجة :
إحداها : تحديد موقف فرعون من الأدلة الفكرية التي قدمها موسى في حواره مع فرعون. والأخرى : التنبؤ بالموقف ذاته في مجالات لاحقة :
حيث سيكذب فرعون ، وسيأبى ، ويمارس العناد من رفض الحقائق التي واجهها.
والمهم ، ان التنبؤ بموقف فرعون لاحقا ، إنما سيتحقق من خلال أدلة عملية يقدمها موسى ، بعد أن قدم أدلته الفكرية في هذا الصدد : وحيث يجيء الدليل العملي من نقطة التحرش التي بدأها فرعون نفسه ، فيما اتهم موسى بأنه (ساحر) ، وحينما تحداه بانه سيجيئه بسحر مثله.
لقد مهد النص القصصي للأحداث اللاحقة : من خلال التعقيب القائل عن فرعون : {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه : 56] .
وها هو النص يقدم نموذجا للتكذيب ، متمثلا في حادثة (السحرة) التي منحها النص شيئا من التفصيل ، بدأها أولا بتحدي فرعون لموسى :
{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} [طه : 57 ، 58] ومع هذا التحدي ، تبدأ القصة بتقديم تفصيلات جديدة عن البيئة التي ستتحرك من خلالها حادثة (السحرة).
فلقد طالب فرعون أولا بأن يتم موعد بين الطرفين لا يتخلف عنه أحد : وأن يكون المكان مستوي المسافة على الطرفين. قال فرعون مخاطبا موسى :
{فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه : 58]
وأجابه موسى ـ عليه السلام ـ إلى طلبه واقترح أن يتم ذلك في يوم قد اعتاد الناس أن يحتفلوا به وتزين اسواقهم فيه كما اقترح ان تكون ساعة الاستعراض عند الضحى. قال موسى مجيبا فرعون :
{مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه : 59]
ومن الواضح ، ان كلا من موسى وفرعون ، قد حرص على تحديد الزمان والمكان اللذين يتم التحدي فيهما. إلا ان الفارق بين فرعون وموسى ، أن فرعون : كان التوجس والحذر والقلق ، خلف اقتراحه : حيث يريد أن يتم الأمر لصالحه بأي ثمن كان. حتى أنه وضع احتمال الخسارة في حسبانه.
كل ذلك يمكننا ان نستخلصه من خلال نمط الاقتراح الذي قدمه. فقط طالب بضرب موعد بينهما : مجرد موعد : دون أن يحدد اليوم أو الساعة وكما طالب بان يكون المكان مستويا على الفريقين.
وهذا الاقتراح الثاني ، يكشف لنا عن مبلغ القلق والحذر اللدين يسيطران على نفسية فرعون. فمطالبته باستواء المكان ، يعني : انه يتوجس خيفة من فشل جماعته الذين أعدهم لهذه المهمة ، وانتصار موسى.
وهذا على العكس تماما من موسى.
فموسى : حدد الزمان على نحو مضاد تماما للإبهام الذي تعمده فرعون.
فقد طالب موسى بان يتم الموعد في يوم لا يكاد يبقى فيه أحد في بيته. بل يخرج الناس كلهم إلى الشوارع والأسواق.
ومن هذا الاقتراح ، نستكشف مدى اليقين والاطمئنان بنتائج المبارزة لدى موسى : على الضد تماما من مدى القلق والشك لدى فرعون.
أكثر من ذلك : فان موسى طالب بأن تكون ساعة البدء بالاستعراض ، عند الضحى ، وهي ساعة لا يكاد يتخلف عن الحضور فيها أي أحد قد اعتاد مثلا ألا يخرج مبكرا.
وهذا يعني ان موسى : كان على مزيد من اليقين والاطمئنان بنتائج المعركة.
إذن : ينبغي من خلال هذه المقارنة بين شخصيتي موسى وفرعون ، ان نستكشف الفارق بين شخصية قلقة ، خائفة مشككة بقدراتها وامكاناتها ، وبين شخصية مطمئنة ، موقنة بإمكاناتها التي تستمدها من اليقين بالسماء.
وهذا كله من حيث البعد الفكري للموقف وأما من حيث البعد الفني ،… فإن القصة بهذا الرسم للموقف ، إنما ترسم (التنبؤ) بالنتائج التي سيسفر الموقف عنها. أي : انها ـ من الناحية الفنية ـ ستهيء لأذهاننا ، حسابا خاصا للموقف ، ألا وهو : ان النصر سيكون حليف موسى ، ما دام نمط اقتراحه ، يفصح عن قوة اليقين والاطمئنان والثقة لديه.
وفعلا : عندما نتابع حادثة (السحرة) ، نجد ، ان النصر كان حليف موسى. وان الهزيمة كانت لدى فرعون بنحو يتوافق ومدى حجم الشك والخوف لديه.
أكثر من ذلك : سيواجهنا النص بمفاجآت لم تدر في حسبان المتلقي.
ونقصد بذلك : إنقلاب السحرة انفسهم ،… حيث ان القوى التي كان يعتمدها فرعون في صراعه مع موسى عليه السلام ، لم تخسر المعركة فحسب ، بل انقلبت على فرعون نفسه ، وهو أمر اشد ايلاما للذات من الهزيمة التي مني بها فرعون.
وهنا ، ينبغي ، الا تفوتنا الإشارة إلى ظاهرة (الخوف) لدى موسى نفسه.
ففي حادثة (السحرة) : عندما ألقيت عصي القوم وحبالهم ، خيل إلى موسى انها ثعابين تسعى.
{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه : 66 - 68]
والفارق بين خوف موسى عليه السلام ، وخوف فرعون ، ان فرعون لم يؤمن بقضيته أساسا. على العكس من موسى فيما كان الخوف من وراء إيمانه بقضيته.
وهذا الفارق الكبير بينهما ، يفسر لنا خوف موسى من تأثير فرعون على الجمهور ، وحذره من عدم تحقيق الرسالة التي نهض بها.
بيد ان السماء ، ـ وهي تجسد الدعم الحي للمؤمنين بها ـ ازاحت عنصر الخوف من موسى ، وشجعته على المضي في مهمته : حيث كانت النتيجة ـ فعلا ـ لصالحه. على الضد تماما من فرعون : حيث كانت الهزيمة ، وانقلاب السحرة عليه ، أمرا يستدر الرثاء والاشفاق.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|