أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-10-2014
1492
التاريخ: 7-12-2015
2049
التاريخ: 8-10-2014
1643
التاريخ: 8-10-2014
2844
|
أقصوصة أصحاب الفيل وزعت في سورتين قصيرتين ، هما : سورة (الفيل) ،
وسورة (الإيلاف).
ولهذا التوزيع في سورتين ـ مع انهما
تتبادلان حادثة قصصية واحدة ـ دلالة فنية سنوضحها في تضاعيف دراستنا لهذه القصة.
لكن الملاحظ ، ان المشرع الإسلام يطالبنا
بدمج هاتين السورتين ، وقراءتهما ـ في الصلاة ـ بمثابة سورة واحدة ،… ومثلهما
سورتا (الضحى) و(ألم نشرح).
وهذه المطالبة من قبل المشرع الإسلامي ،
تلقي بعضا من الإنارة الفنية دون أدنى شك ،… فما دامت السورتان تقرءان بمثابة سورة
واحدة في الصلاة ، فهذا يعني ان هناك (وحدة) أو خطوطا مشتركة تجمع بين السورتين ،
من الممكن ان يجهل الدارس أسرار ذلك (تكوينيا) ، لكنه من الناحية (الفنية) يمكنه
أن يدرك بسهولة بعض أسرار الفن القصصي ، ما دام الأمر يتصل بحادثة واحدة هي محاولة
هجوم (أبرهة) على مكة ، واستهدافه هدم الكعبة ، ثم فشل هذا الهجوم وإبادة جيشه ،
وصلة أولئك جميعا بطبقة اجتماعية في (مكة) ، هي (قريش) ، وموقفها ـ من ثم ـ من رسالة
الإسلام.
والمهم : ان كلا من (وحدة) السورتين ،
وانفصالهما ، له دلالته الفنية التي سنتحدث عنها لاحقا.
ولكن قبل ذلك ، لنقرأ النص القصصي أولا :
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي
تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا
أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ
سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [الفيل : 1 - 5]
{بسم الله الرحمن الرحيم
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ
وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا
الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ
وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش : 1 - 4]
والآن : لنتقدم إلى تلخيص القصة قبل الرجوع
إلى النصوص المفسرة. فماذا يمكننا ـ بصفتنا قراء قصة فنية ـ ان نستخلص منها :
أبطالا وحوادث ومواقف؟
النص القصصي يقول لنا : ان هناك رهطا أو
مجموعة ، هم أصحاب الفيل. وإلى ان كيدهم رد إلى نحورهم ، متمثلا في إرسال السماء
عليهم أسرابا من الطيور تقذفهم بحجارة صلبة ، حتى تقطعت أوصالهم : فأصبحت مثل
الزرع الذي أكلته الدواب ، وراثته ، وداست عليه.
وكل ذلك من أجل اسباغ النعمة على قوم هم
(قريش) ،… مضافا ، إلى ان (قريشا) قد اسبغت عليهم نعمة أخرى هي : تهيئة رحلات
تجارية لهم ، في الشتاء والصيف لتأمين الراحة لهم : حتى لا يصيبهم جوع ، ولا يهدد
أمنهم أي خوف من الأعداء الذين يغيرون عليهم.
إلى هنا ، فإن القارئ لهذه القصة ، بمقدوره
ان يستخلص بان القضية تتصل بقوم (قريش) ، وبالكعبة التي يعيش هؤلاء القوم في ظلها.
إنه ـ أي القارئ ـ لا يمكنه أن يعرف من ظاهر
القصة ، سوى : ان هناك هجوما من الاعداء هم [أصحاب الفيل] ، وانهم قصدوا البيت
الحرام ، فأبيدوا ، وإلى ان (قريشا) أمنت حياتها من ذلك ، مضافا إلى تأمين حياتها
الاقتصادية… من خلال :
[رحلة الشتاء والصيف]. فيما يتعين عليهم أن
يقدروا هذه النعم التي اغدقها الله عليهم ، وأن يعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم
من جوع وأمنهم من خوف.
خارجا عن ذلك ، فإن القارئ يجهل كل التفاصيل
المتصلة بأسباب الهجوم ، وبتحديد هوية المهاجمين ، وتحديد علاقة الشخصية
(الحيوانية) (الفيل) بهؤلاء المهاجمين…
كما يجهل القارئ رحلتي الشتاء والصيف
وتفصيلاتهما المتصلة بحادثة الهجوم.
غير ان جهل القارئ بهذه التفصيلات ، لا
يمنعه من استخلاص الدلالة الفكرية للقصة التي تستهدف لفت الانتباه إلى ان نعم الله
لا تعد ولا تحصى ، وإلى انه سبحانه وتعالى بالمرصاد لكل من يعتزم إلحاق السوء
بمواطن العبادة ، وإلى ان تقدير هذه النعم ينبغي ألا يغيب عن ذاكرة أولئك الذين
أحاطوا بالبيت…
هذه الدلالة الفكرية واضحة كل الوضوح ، مما
تفسر لنا عدم دخول القصة في تفصيلات فنية ، تتكفل النصوص المفسرة بتوضيحها ،…
مثلما تتكفل خبرات القارئ وتجاربه باستخلاصها ، حتى تحقق للقارئ : المتعة الفنية
التي يكتشفها كل منا : خلال قراءته لهذه النصوص القصصية العظيمة.
إذن : لنتجه إلى نصوص التفسير ، ومساهمة
القراء في الكشف عن المزيد من التفصيلات الفنية والفكرية للقصة.
تقول النصوص المفسرة ، ان (أبرهة) حاكم
(اليمن) وهو حبشي ، بدافع من عقيدته الملتوية وأسباب أخرى لا يعنينا عرضها ، قرر
هدم البيت الحرام ، فزحف بجيشه الذي تقدمه (فيل) ـ كان الحاكم يباهي به الآخرين ـ
زحف نحو مكة. إلا ان الفيل ربض ، وامتنع من الدخول.
وكانت هذه الحادثة أول مؤشر لفشل الهجوم.
بيد ان (قريشا) ـ فيما يبدو ـ هالهم هذا
الزحف ، فالتجأوا إلى رؤوس الجبال قائلين : لا طاقة لنا بقتال هؤلاء.
وهذه الحادثة ـ على العكس من سابقتها ـ تظل
مؤشرا ـ لأول وهلة وكأن الزحف محفوف بالنصر.
وهناك حادثه ثالثة رافقت هذه العملية ، وهي
: ان الجيش استولى على إبل عبد المطلب الذي بقي هو وبعض الأفراد على حراسة البيت.
وحيال هذه الحادثة طالب (عبد المطلب) ، (أبرهة) برد إبله ، مما ترك رد فعل سلبي في
أعماق (أبرهة) قائلا له بما مؤداه : كنت اتخيل انك تطالبني بالكف عن الكعبة ، وإذا
بك تطالبني بمكاسب شخصية. وعندها أجابه عبد المطلب بما مؤداه : ان للبيت رب يحميه.
هذه الإجابة ، تشكل بدورها مؤشرا لفشل
الهجوم ، ما دامت القضية قد ارتبطت برب البيت.
وهناك تفصيلات أخرى عن عملية (الهجوم)
ومقدماته وملابساته تذكرها نصوص التفسير ، لا يعنينا منها إلا مؤشراتها التي تدل ـ
من جانب ـ على ان الهجوم سيواكبه الفشل ، وإلى ان القريشيين ـ من جانب آخر ـ لم
يساهموا في رد العدوان ، بقدر ما تمثل الرد في تدخل السماء ، وحسمها للأمر على نحو
ما فصلته القصة.
ومما تجدر ملاحظته ، ان هذه التفصيلات التي
حذفتها القصة لا تؤثر على دلالتها الجوهرية التي قلنا : أن القصة ألمحت إليها فنيا
حينما تحدثت فحسب عن (قريش) ، وعن رد الهجوم ، وعن عناية السماء بعامة بالبيت وممن
يحيطون به.
ومع ذلك ينبغي ألا يفوتنا دلالاتها التي
اشرنا إليها : من ربض الفيل ، وإجابة عبد المطلب ، وهروب قريش إلى رؤوس الجبال…
الخ لانها جميعا تدلنا على ان (حماية) السماء تحسم المشكلة أساسا ، وإلى ان تقدير
وتثمين هذه الحماية ، مشفوعة بنعم الأمن والشبع ، ينبغي أن تتوفر عليه (قريش) في
تعاملها مع الله… وبخاصة ان مكة تشهد أحداثا ووقائع تتصل برسالة الإسلام التي بشر
بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وموقف قريش بالذات من هذه الرسالة.
إذن : (قريش) وموقفها الجديد من رسالة
الإسلام ، هي المحط الذي ستنتهي القصة إليه ، على نحو ما سنلحظه.
بدأت قصة [أصحاب الفيل] ، برسم الفشل الذي
رافق حملة (أبرهة) على الكعبة.
بيد ان فشل هذه الحملة لم يتم على يد [أبطال
آدميين] توجهوا إلى ساحة القتال لرد العدوان ، بل تم على اكف واجنحة ومناقير
وأنياب (أبطال) ينتسبون إلى عضوية أخرى هي : (الطير).
و(الطيور) بصفتهم أبطالا في القصة ، لم
يمارسوا أدوارا محددة لهم في هذه القصة فحسب ، بل مارس هؤلاء الأبطال أدوارا كثيرة
، متنوعة في قصص أخرى ،… وفي مقدمتها داود وسليمان ،… فهم حينا [أي : الطيور
بصفتهم أبطالا] يشاركون الآدميين في ممارسات عبادية لفظية وتأملية مثل التسبيح والتأويب
، في قصص داود ،… وهم حينا يمارسون نشاطا اعماريا ، أو سياسيا أو عسكريا ، كما هو
شأنهم في قصص سليمان عليه السلام… وهم حينا يمارسون هذه الألوان من النشاط بنحو
مشترك بينهم وبين الآدميين [كما في قصص سليمان] ،… وحينا آخر يمارسون نشاطا مستقلا
عن الآدميين ، كما هو شأنهم في قصة [اصحاب الفيل].
لقد توجه هؤلاء الأبطال [أبطال الطيور] إلى
ساحة المعركة ، بناء على أوامر السماء…
هذه الساحة لم تكن (أرضا) ، بل كانت (جوا).
وكما أن أبطال المعركة لم يكونوا (بشرا) بل
(طيرا) ، كذلك : لم تكن ساحتهم (أرضا) بل (جوا)…
وأسلحتهم أيضا لم تكن (عادية) أو مألوفة ،
بل كانت السلاح (الغريب) أيضا. إنه الحجارة…
إذن : نحن الآن أمام أبطال ، وساحة ، وسلاح
من نوع خاص ،… من نوع يتسم بما هو غريب ومدهش ومعجز…
وإذا كان الأمر كذلك ، حينئذ : نتوقع ان
يكون سير المعارك ، مثيرا كل الإثارة أيضا ،… انها معركة لم تألفها الأذهان ، ولم
تشاهدها العيون… معركة مثيرة ، تدفعنا بفضول ونهم وشوق وتطلع إلى معرفة تفصيلاتها
الداعية إلى الدهشة والعجب.. فإلى تفصيلاتها…
هؤلاء الأبطال ـ كما قلنا ـ هم (الطير).
ولكن : بأية هيئة عسكرية؟؟
تقول القصة {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا
أَبَابِيلَ } [الفيل : 3]. ويعني (أبابيل) هو
: جماعات أو زمر ، أي : ان الطير تقدمت إلى ساحة المعركة أسرابا محتشدة.
وللقارئ أن يستخدم مخيلته في مثل هذه الهيئة
العسكرية للطيور ، حيث أن الأمر قد يبدو مألوفا للعيون في نطاق مجرد التجمع للطير
في الجو…
وبعض رجال عبد المطلب قد شاهد طلائع هذا
الرد الجوي على العدوان [وفقا لبعض النصوص المفسرة]. تقول الرواية المفسرة :
[قال عبد المطلب لبعض مواليه… اعلى الجبل ،
فانظر : ترى شيئا ؟ فقال : أرى سوادا من قبل البحر. فقال له : يصيب بصرك أجمع؟
فقال له : لا ، وأوشك أن يصيب. فلما آن أن قرب ، قال : هو طير كثير].
إذن : بدأت طلائع الزحف في شكل سواد من جهة
البحر ، حتى اقترب من ساحة المعركة ،… وعندها ، شاهده البعض بوضوح ، وعرف أنه طير.
غير ان هذه الطيور لم تكن (عادية) من حيث
سماتها الخارجية. بل كانت ذات أشكال متميزة.
تقول بعض النصوص المفسرة [كان طير ساف ،
جائهم من قبل البحر. رؤوسها كأمثال رؤوس السباع ، واظفارها كأظفار السباع].
وهذا يعني [من حيث الوصف الخارجي لملامح
الأبطال : أبطال الطير]… ان هؤلاء الأبطال قد اختيروا بنحو يتناسب مع أي بطل يقتحم
المعركة. فالبطل الآدمي مثلا يتميز بكونه مفتول الساعد… وهكذا أبطال الطير…
فرؤوسهم واظفارهم مثل رؤوس السباع وأظفارها
، مما يعني انهم أبطال من نمط خاص ، تتناسب هيئاتهم الضخمة مع ضخامة المعركة التي
خوضونها…
وهذا كله فيما يتصل بملامح الأبطال.
ولكن الذي يعنينا الآن هو : طريقة قتالهم ،
من خلال ساحة المعركة وهي : (الجو) ، ومن خلال نمط (السلاح) الذي استخدموه وهو :
الحجارة ، ومن خلال عملية استخدام السلاح نفسه…
إذن : لنتابع هذه التفصيلات.
قلنا : إن الأبطال : (الطير) ، كان سلاحها
هو : الحجارة ، {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ
سِجِّيلٍ} [الفيل : 4]
ومثلما كان الأبطال من نمط خاص هو (الطير) ،
وملامحهم من نوع خاص مثل السباع ، فان (سلاحهم) كان من نوع خاص هو : الحجارة
الصلبة ، شديدة ليس مثلها سائر الحجر…
وتقول النصوص المفسرة ، ان كل طير كان يحمل
ثلاثة أحجار ،… واحدا في منقاره ، واثنين في رجليه.
وهذا يعني ان سلاح الأبطال قد جهز بنحو
مستكمل فيما يتصل بحمل الذخيرة… فالطائر يطير بجناحيه وهما وسيلة تحركه. وأما
منقاره ورجلاه فهي أدوات ثلاثة منحصرة في تركيبته ، بحيث استخدم كل أداة ممكنة
لديه ، لحمل الذخيرة ، واستخدامها دفعة واحد ، أي : إلقاء الاحجار الثلاثة على
العدو ، والمضي إلى سبيله بعد انتهاء الذخيرة.
وتضيف النصوص المفسرة ، ان حجم هذه الاحجار
مثل العدسة ، ولكنها مثلما قلنا ـ شديدة الصلابة ـ.
إلا ان ما يلفت الانتباه هو : فاعلية هذا
السلاح ، واقترانه بما هو مدهش وغريب : مثل غرابة الأبطال ، وملامحهم ، وساحة
معركتهم ، وطريقة حملهم للذخيرة.
فالنصوص المفسرة ، تذهب إلى ان هذه الاحجار
كانت تسقط على رؤوس العدو أو أجساده وتخترقها إلى الجانب الآخر.
وتقول بعض هذه النصوص : ان تأثير هذا السلاح
كان ذا بعد آخر هو : نثر لحومهم تدريجيا على نحو ما يتركه مرض الجدري ، بحيث كان
العدو يحك جسمه منها ، فيتناثر لحمه بمجرد ان يحك جسده…
ان فاعلية مثل هذا السلاح تبقى ـ مثلما قلنا
ـ حافلة بما هو مثير ومدهش… فالحجارة مثل العدسة ، لكنها صلبة. وسقوطها على الرؤوس
والاجسام مثل السهم : يخترقها إلى الجانب الآخر :
أو انها لاذعة كل اللذع ، بحيث تحمل العدو
على حك حسمه ، وتناثره بمجرد الحك…
إن كيميائية مثل هذا السلاح ، تظل مقترنة
بقدرات السماء التي أودعت في الأحجار مفعولها الكيميائي المذكور : تجانسا مع سائر
قدراتها التي لا حد لها في الوقوف بالمرصاد لكل من تحدث نفه بالتعرض لبيت الله.
والمهم ، ان نوع الأبطال وملامحهم ، ونوع
السلاح وحمله ، ونوع القتال وفاعليته… كل ذلك شكل تجانسا فنيا بين أجزاء القصة :
أبطالا وأحداثا ، على نحو ما لحظناه ، ونلحظه بعد ذلك في الجزء اللاحق من القصة.
ينتهي القسم الأول من قصة [أصحاب الفيل] ،
بإبادة العدو إبادة تامة على يد أبطال الطير.
وقد سبق أن قلنا أن العدو قد أبيد على أحد
شكلين ذكرتهما نصوص التفسير.
النحو الأول من الإبادة هو : اختراق الحجارة
أجسامهم ، وخروجها من الطرف الآخر.
أما النحو الآخر من الإبادة فهو : أصابتهم
بالجدري ، وتمزق لحومهم ، بسبب من الحك الذي أحدثته كيمياء الحجارة.
أما النص القصصي ، فيقول لنا : ان الاعداء
أصبحوا (كعصف مأكول).
هذه الصورة الفنية [عصف مأكول] ليست مجرد
تركيب فني قائم على عنصر (التشبيه) ، بل هي رمز غني بالدلالات التي تفسر نمط
النهاية الكسيحة التي أصابت العدو.
ومن الحقائق المألوفة في ميدان الفن القصصي
، أن عنصر الصورة [وهي : التشبيه والاستعارة والكناية ، وسائر العناصر البلاغية ،
ومنها : (الرمز) بمفهومه الحديث] هذا العنصر لم يعد [في معايير الفن المعاصر] وقفا
على الشعر ، بل بدأت القصة الحديثة تستعير عناصر (الشعر) ، لتتوكأ بها على صياغة
الأفكار القصصية ،… حتى ان بعض القصص القصيرة الحديثة تصاغ بأكملها وفق عنصر
(الصورة) ، بحيث نلحظ القصة من بدايتها وحتى نهايتها سلسلة من الصور المتعاقبة وكأنها
قصيدة شعر.
والمهم ، ان قصة [أصحاب الفيل] ، اعتمدت
عنصر (الصورة) الشعرية في رسمها لنهاية العدو ، مستهدفة من ذلك تبيين أدق التفاصيل
التي رافقت هزيمة العدو.
وسواء أكانت الإبادة تتمثل في اختراق
الحجارة لأجسام المندحرين ، أم كانت تتمثل في تناثر لحومهم بسبب من جدري الحجارة
،… فان النتيجة تظل متماثلة. ألا وهي : إبادة العدو جسميا بشكل خاص هو : انتثار
اجسادهم وتقطعها تدريجيا أو دفعة واحدة : من خلال الاختراق أو الحك.
ولكن : لننظر دلالات الصورة الفنية (كعصف
مأكول) في تحديدها لهذه النهاية ، فانها أشد إيحاء وكشفا لعناصر الموضوع الذي
نتحدث عنه.
ماذا تعني هذه الصورة الفنية : {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل : 5] ؟
العصف هو : التبن. و(المأكول) : ما يبقى منه
بعد لفظه إلى الخارج.
وهذا يعني : ان الصورة الفنية شبهت تناثر
وتقطع أجساد العدو بتبن أكلته الحيوانات ،… ثم راثته ، وداست الأقدام على ذلك
الروث حتى تناثر هنا وهناك.
إن القارئ مدعو إلى تأمل هذه الصورة الفنية
بدقة. وكلنا يعرف أن معيار الجودة والإثارة في عنصر [الصورة الشعرية] هو : قيامها
على انتقاء شيء مشترك بين طرفي الصورة ، يكون أشد من غيره إثارة واستجماعا للدلالة
التي تستهدفها الصورة : مع ملاحظة ، أن يكون التركيب للصورة متسما بما هو طريف
وجديد ومبتكر من جانب ، وان يكون مألوفا في الاذهان من جانب آخر.
أما إذا لم يكن مألوفا في الاذهان ، بأن كان
غامضا ، ملفعا بالضبابية ،… أو إذا لم يكن ذا جدة وطرافة وابتكار كأن يكون مبتذل
الاستعمال : حينئذ فإن الصورة الشعرية تفقد أهميتها.
والآن : حين نتجه إلى الصورة التي نحن في
صددها وهي : {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} نجدها مستجمعة لكل عناصر
الجودة المطلوبة في صياغة [الصور الفنية] وزيادة.
فهي أولا تتسم بكونها مألوفة في الاذهان… ،
يخبرها الجميع ، ويشاهدها الكل في تجاربه المرئية : فالتبن وطريقة تناول الدواب
لهذا الطعام ، ثم لفظه روثا ، ثم دوس الأقدام عليه ، ثم تناثره على الدروب… كل ذلك
، يشاهده الرائي ، ولا يحتاج إلى إعمال الذهن في إدراكه.
وأما كون هذه [الصورة الفنية] طريفة ، وجديدة
، فأمر واضح ما دام الأمر متصلا بانتزاع شيء يتماثل مع شيء آخر ويشاركه في تلك
السمة ، بنحو لم ينتبه عليه في كتابة الصورة الفنية.
وهل هناك طرافة وجده أشد من هذه الصورة التي
تقارن بين تناثر لحوم الأعداء وتقطعها وتفرقها ، وبين تناثر التبن المأكول ، ولفظه
روثا ، والدوس عليه ، وتفرقه نتيجة اللفظ والدوس عليه؟؟
أن أهمية الصورة الفنية المذكورة (كعصف
مأكول) في قصة [أصحاب الفيل] تتمثل في : تضمنها رسما لكل عدد يحاول الكيد لمواطن
العبادة ومساكن الله.
إن اعداء الله ، تناثرت أجسادهم بسبب من
سلاح الحجارة التي استخدمها أبطال الطير. فإذا ذهبنا مع التفسير القائل بأن العدو
عندما ألقيت الحجارة عليه ، كانت تلذعه بنحو يضطر فيه إلى ان يحك جلده ، وما أن
يحك جلده حتى يتناثر لحمه ، فيسقط على الأرض أجزاء متفرقة : مثل أجزاء الروث
المتفرق على وجه الأرض ، حينئذ ندرك أهمية مثل هذه الصورة. مع ملاحظة ان كليهما :
اللحم المتناثر والروث المتناثر ، يتسمان بالرخاوة ، وكراهية الرائحة المنبعثة
منهما… فضلا عن انهما يمثلان نهايتين قذرتين متماثلتين : النهاية القدرة للعصف
المأكول ، والنهاية القذرة لاعداء الله : قذارة العصف المأكول ، تتمثل كونها عينة مادية
ملفوظة إلى الخارج… وقذارة أعداء الله ، تتمثل في كونها [ظاهرة نفسية] أولا هي :
محاربة الله. وهل هناك أشد قذارة من محاربة الإنسان لمبدعه؟ وتتمثل ثانيا ، في
انعكاس القذارة النفسية على القذارة الجسمية ، بحيث تتحول إلى لحوم قذرة ، ذات
رائحة كريهة ، ومنظر قبيح مشوه ، يتناثر هنا وهناك.
وطبيعي ، فان هذه الصورة الفنية ، توحي ـ
فضلا عما تقدم ـ بدلالات أخرى [لم نشأ أن نفصل فيها خوفا من الإطالة] ، إلا ان
القارئ مدعو ـ كما قلنا ـ إلى تأملها بدقة ، وملاحظة عناصر الشبه بين العصف
المأكول واللحوم المتناثرة في تفاهة كل منهما ، وفي كونهما شيئا ملفوظا إلى الخارج
، وفي كونهما شيئا يدارس بالأقدام ، وفي كونهما شيئا يتناثر هنا وهناك ، وفي
كونهما مشفوعين برائحة كريهة ، وفي كونهما مشفوعين بمنظر قبيح ومشوه…الخ…
والمهم بعد ذلك كله ، ان الدلالة الفكرية
لهذه الصورة ، تحدد بوضوح ان الطغاة ـ في أي زمان ومكان ، قديما وحديثا ـ سيلفهم
مثل هذا المصير القذر [عاجلا أو آجلا] ما داموا نصبوا أنفسهم لمحاربة الله ،
ورسالة الإسلام ، واحباء الله…
والمهم أيضا : ان يدرك القارئ أهمية الفن
العظيم في الكشف عن مثل هذه الدلالة الفكرية على نحو ما لحظناه مفصل في صورة
(وجعلهم كعصف مأكول) ، وفي سائر العناصر التي تضمنها القسم الأول من قصة [أصحاب
الفيل].
ينتهي القسم الأول من قصة أصحاب الفيل
بحادثة إبادتهم مثل عصف مأكول.
ويجيء القسم الثاني من القصة ، خاصا بقريش.
فالسماء أبادت أعداء الله الذين حاولوا
إلحاق الأذى بالكعبة. حتى اتيح لقريش أن يعاد إليها أمنها وتجارتها بعد ان هربوا
إلى رؤوس الجبال ، اثناء الغزو الحبشي المذكور.
والقصة تبدأ بهذا النحو :
{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ
وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ
وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش : 1 - 4]
ان ما يعنينا الآن من هذه القصة هو :
دلالتها الفكرية. أما دلالتها الفنية فقد سبق أن أوضحناها في حينه.
إن القصة صيغت ، و(قريش) تتعامل مع رسالة
الإسلام تعاملا وسخا ، مستجمعة كل قواها وكيدها لمحاربة محمد ـ صلى الله عليه وآله
وسلم ـ ورسالته.
ودلالتها ـ في هذا السياق ـ واضحة كل
الوضوح. انها أولا تذكر القرشيين بحادثة قريبة العهد بهم. فقد كان الغزو الحبشي
الفاشل في نفس العام الذي ولد فيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم. مما يعني ان
معمريهم يتذكرون الغزو تماما.
ثانيا : إنها تداعي اذهانهم إلى المصير الذي
لاقاه اعداء الله في محاولاتهم للوقوف حيال مساكن الله…
إذن : القصة فيما يتصل بمعاصري الرسالة ،
تترك لدى اذهان القرشيين واذهان الإسلاميين أيضا ايحاءات واضحة : انها تريد ان
تقول للقرشيين : إن السماء التي أرسلت طيرا أبابيل على الغزاة ، بمقدورها ان تصنع
ذلك حيال العدو الجديد : قريش.
وتريد ان تقول للإسلاميين : ان السماء التي
أبادت العدو القديم بمقدورها ان تبيد العدو الجديد أيضا ، مما يشيع الاطمئنان في
نفوس الإسلاميين ، وإزالة القلق الذي قد يساورهم حيال شتى وسائل الكيد التي مارسها
القرشيون.
بيد ان الملاحظ : ان القصة شددت على ظاهرتين
في هذا الصدد ، وهما : الطعام والأمن (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع ،
وأمنهم من خوف). مثلما شددت على قضية محددة هي رحلة الشتاء والصيف ، وصلتها بكل من
الطعام والأمن.
والسؤال : ما هو التفسير الفني لهذا التشدد ؟؟
ان كلا من الدافعين [الدافع إلى الطعام]
و[الدافع إلى الأمن] يشكلان [في تصور علماء النفس الذين يعنون بدوافع الشخصية]
دوافع رئيسية لا مجال لممارسة (التأجيل) حيالها.
وواضح ان [الحاجة إلى الطعام] تجيء في مقدمة
الحاجات الحيوية. وتجيء [الحاجة إلى الأمن] في مقدمة الحاجات النفسية.
وهذا يعني ان القصة اختارت أقوى دافع حيوي
عند الشخصية ، [وهو البحث عن الطعام] ، واختارت أقوى دافع نفسي [وهو البحث عن الأمن]
، وجعلتهما مصدر تذكير لهؤلاء الذين يلهثون وراء إشباع دوافعهم ،… وهم غافلون عن
ان أهم دوافعهم التي لا مناص من إشباعها ، قد توفرت لهم فعلا… ففيم تحركاتهم إذن ؟؟
لا شك ، أن اللهاث وراء الإشباع الزائد عن
الحاجة ، أو الإشباع الذاتي الصرف الذي لا يعنى بحاجات الآخرين أو الحاجات
المنضبطة بالمبادئ ، هو الذي يفسر سلوك هؤلاء المرضى ، من نحو بحثهم عن السيطرة
والتفوق والتملك واللذة العاجلة بعامة.
ان رحلة الشتاء والصيف ، وهي (الرحلة) التي
ألمحت القصة إليها ، تعد مؤشرا فنيا لقضية التذكير بنعم السماء على هؤلاء القوم الذين
وقفوا من رسالة السماء ، سلبيا. لم تتحدث القصة عن الطعام بعامة ، ولم تتحدث عن
الأمن بعامة ، إنما أشارت إليهما بعد أن ألمحت إلى رحلة الشتاء والصيف ، مما يعني
[من حيث البناء الهندسي للقصة] أن (الرحلة) هي المفتاح الرئيسي لتفسير كل شيء.
فما هي تفصيلات هذه الرحلة ؟
القصة ذاتها لم تتحدث عن تفصيلات هذه الرحلة
، وإنما اكتفت بالقول { إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ
وَالصَّيْفِ}.
والتفسير الفني لهذا الصمت الذي نسجته القصة
حول رحلة الشتاء والصيف ، ينطوي على سمة جمالية ممتعة هي : أن القصة نفسها قدمت
اجابة في نهاية القصة ، حينما طالبت بعبادة رب البيت الذي حماه من غزو الأحباش ،
وحمى القرشيين من الجوع والخوف {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا
الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}.
القارئ مدعو من جديد إلى ان يتأمل اشارة
القصة إلى (رب هذا البيت) ليتعرف أسرار الفن العظيم لهذه الاشارة ، واكتنازها
باكثر من دلالة يستخلصها القارئ.
ان [البيت الحرام] يداعي ذهن القارئ ، إلى
انه نفس البيت الذي حاول الأحباش أن يكيدوا له ، ثم رد الله كيدهم إلى نحورهم.
والبيت الحرام [في الآن ذاته] يداعي ذهن
القارئ إلى انه هو نفس البيت الذي أحاط به هؤلاء القوم الذين تتحدث القصة عنهم ،
وعن نعم السماء عليهم ،… ومنها : النعمة التي تفرزها رحلة الشتاء والصيف.
ولكن رحلة الشتاء والصيف لا تزال غامضة في
الاذهان… فكيف تم إلفات الذهن إليها ؟ تم ذلك من خلال طريقة فنية غير مباشرة هي :
اختتام القصة بعبادة رب البيت الذي أطعم القرشيين وأمنهم من الخوف ،… بحيث يستخلص
القارئ من أن كلا من الاطعام والامن ، مرتبطان برحلة الشتاء والصيف.
إذن : رحلة الشتاء والصيف التي ذكرت القصة
بها (قريشا) انما هي : تلك المعطيات التي اقترنت بها… نعم الطعام الذي توفر لهم ،
ونعم الأمن والطمأنينة من أي خوف يداهمهم.
وأخيرا ، فإن تفصيلات الطعام والأمن ، لا
تحمل ضرورة فنية لأن تسرد في القصة ، ما دام الهدف الفني هو : التذكير بالنعم وليس
بجزئياتها.
ومن هنا ، فإن النصوص المفسرة ، هي التي
تنهض بهذه المهمة الثانوية.
وتقول هذه النصوص بما مؤداه :
ان الحرم أرض مجدبة. وقريش تعتمد على
التجارة الخارجية في معيشتها. وقد هيأت السماء لهذا البلد رحلتين ، واحدة في
الشتاء : متجهة نحو اليمن نظرا لحرارة هذه المنطقة.
وواحدة في الصيف ، متجهة نحو الشام ، نظرا
لبرودتها وهذا فيما يتصل بالحاجة إلى الطعام.
أما فيما يتصل بالحاجة إلى الأمن ، فان
النصوص المفسرة تشير ، إلى ان السماء حملت قلوب الناس على تعظيم البيت الحرام ،…
ومن هنا ، لم يتعرض أحد لهذه القوافل التجارية بسوء ، لمجرد انهم يقولون : نحن أهل
حرم الله… وحتى داخل الجزيرة ، فان الحرمي يخلى عنه وعن أمواله ، للسبب ذاته.
المهم ، ان التذكير بهذه النعم [وفق الطريقة
الفنية التي سلكتها القصة] ، يظل مفسرا لدلالة القصة التي تستهدف لفت الانتباه : ليس
لقوم بأعيانهم فحسب ، بل كل الآدميين قديما وحديثا ، إلى ان نعم الله لا تعد ولا
تحصى ، وإلى ضرورة تثمين هذه النعم وتقديرها… وإلا فان الله قادر على إزالة هذه
النعم عمن يحاول الكيد لرسالة الإسلام ، بل ابادتهم أساسا ، كما أبيد من كان قبلهم
، ممن هو أشد قوة.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
خدمات متعددة يقدمها قسم الشؤون الخدمية للزائرين
|
|
|