إنّ دعوة الاُموييّن لتثبيت دعائم الجبرية كانت السبب المباشر في ظهور الاتجاه العقيدي المعاكس الذي أنكر الجبر ، ونادى بحرية الاختيار الإنساني ..
وفي نفس الموطن الذي نبتت فيه عقيدة الجبر وترعرعت نشطت العقيدة المعاكسة ، وإن كان أول ظهور لها في العراق على يد التابعي معبد الجهني ، وعنه أخذها صاحبه غيلان الدمشقي ..
فكانت هذه العقيدة ردّ فعل صريح للقول بالجبر .. ففي أول لقاء لمعبد الجهني بالحسن البصري في البصرة ، قال له : يا أبا سعيد ، إنّ هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ، ويقولون : إنّما تجري أعمالنا على قَدَر الله !
فقال له الحسن البصري : كذبَ أعداءُ الله ! (1)
وثار معبد علي الاُمويين في حركة القرّاء أيام عبدالملك بن مروان ، فأخذه الحجّاج بعد فشل الحركة فعذّبه ثمّ قتله (2).
ومضى غيلان في دمشق يشنّع على الاُمويين وأنصارهم في استنكار مقولتهم الجبرية ، حتّى أحسّ أنّهم طلبوه ، فهرب منهم حتّى زمن عمر بن عبدالعزيز ، فلمّا رأى منه عدلاً كتب إليه كتاباً يذكّره فيه ويعظّم عليه مقولة سَلَفه ، مما جاء فيها ، قوله : « هل وجدتَ يا عُمر حاكماً يعيبُ ما يصنع ؟ أو يصنع ما يُعيب ؟ أو يعذّب على ما قضى ؟ أو يقضي ما يُعذّب عليه ؟! أم هل وجدتَ رحيماً يكلّف العباد فوق الطاقة ؟ أو يعذّبهم على الطاعة ؟! أم هل وجدت عدلاً يحمل الناسَ عل الظلم والتظالم ؟ وهل وجدتَ صادقاً يحمل الناس على الكذب والتكاذب ؟! كفى ببيان هذا بياناً ، وبالعمى عنه عمى ! (3)
فدعاه عمر بن عبدالعزيز فسأله عن عقيدته ليناظره فيها ، وكان عمر جبرياً ، وكان من وراء عمر حاجب له يشير إلى غيلان بالذبح ! فعلم غيلان أنّ عمر قد عزم على قتله ، فأجابه إلى ما أراد ، وقال له : « لقد جئتك ضالاً فهديتني ، وأعمى فبصّرتني ، وجاهلاً فعلّمتني ، والله لا أتكلّم في شيء من هذا الأمر » ! (4) لكنّه عاد إلى الكلام فيه بعد موت عمر ، حتّى قبض عليه هشام بن عبدالملك فقتله بعد مناظرة قصيرة أدارها معه الأوزاعي بدعوة من هشام لتكون ذريعةً إلى القتل الفوري (5).
والخطأ الذي ارتكبه هؤلاء أنّهم حين قالوا بالإرادة والاختيار فوضوا كلّ شيءٍ إلى الإنسان ونفوا كلّ أثر لمشيئة الله تعالى وإذنه ، ففرّطوا في مشيئة الله في مقابل إفراط الجبريين الذي عطّلوا أيّ دور وأثر للإنسان في أقواله وأفعاله !
وانتقل هذا المذهب من معبد وغيلان إلى المعتزلة ، فبقي ببقائهم ، ثمّ اضمحلّ باضمحلالهم.
ـ أمّا ما يتناقله أصحاب الفِرَق وتواريخها من نسبة هذه المقولة إلى النصارى وأنّ معبد الجهني أخذها من رجل نصراني ، فهو كلام ليس له قيمة علمية ، ولا يعدو كونه لوناً من ألوان التراشق بالتُّهم بين الخصوم ، مع ملاحظة أنّ هذا الفريق كان يواجه تيار السلطة وأنصارها !
ولهذا السبب نفسه تجد كتب الحديث مليئة بالأحاديث التي تؤيّد عقيدة الجبر ، وتحذّر من «القدرية » ومقولتهم في نفي القدر ! وتعدّت الأحاديث تسمية القدرية إلى تسمية غيلان الدمشقي باسمه الصريح ونسبته الدمشقية ، تدينه وتحذّر منه ، وتثني على وهب بن منبّه الذي كان يخاصمه دفاعاّ عن عقيدة السلطان (6) !! الحديث يقول : « سيكون في اُمّتي رجلان : أحدهما يقال له وهب ، يؤتيه الله الحكم ، والآخر يقال له غيلان هو شرّ علي اُمّتي من إبليس » (7) !!
بل ولهذا السبب نفسه لُقّب هؤلاء بالقَدَرية وهم نفاة القَدَر ، وهذا اللقب أولى أن يطلق على من أثبت القدر اللازم ، وسرّ ذلك أنّ القويّ المتغلّب لمّا علم بالحديث المروي في ذكر مجوس هذه الاُمّة وقد سماّهم ( القدرية ) سارع إلى تطويق خصومه به والاحتيال في تبريره (8) ! وسوف تأتي شهادة الإمام علي عليه السلام أنّ القدرية الذين شبّههم الحديث بالمجوس إنّما هم القائلين بالجبر ، والذين سُمّوا جبرية ! (9).
__________________
(1) اُنظر : تطور تفسير القرآن : 101.
(2) البداية والنهاية 9 : 43.
(3) المذاهب الإسلامية : 188.
(4) مختصر تاريخ دمشق 20 : 241 ـ 242.
(5) راجع : مختصر تاريخ دمشق 20 : 244 ـ 245 ، المذاهب الإسلامية : 190.
(6) الطبقات الكبرى / ابن سعد 5 : 543 ـ دار صادر ـ بيروت ، سير أعلام النبلاء 4 : 546.
(7) اُنظر : دلائل النبوة / البيهقي 6 : 496 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1985 م.
(8) راجع ص 43 من كتابنا : تاريخ الإسلام الثقافي ـ مركز الغدير ـ ط 1 ـ 1417 ه.
(9) اُنظر : الملل والنحل : 49.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|