المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17757 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24
من آداب التلاوة
2024-11-24
مواعيد زراعة الفجل
2024-11-24
أقسام الغنيمة
2024-11-24
سبب نزول قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الى جهنم
2024-11-24

ملخصي الحرب اللوبية الثانية.
2024-10-13
Venn Diagram
10-2-2022
الهدف من وراء التربية الاسلامية للأولاد
25-7-2016
متطلبات نجاح عملية نقل التكنولوجيا
2024-10-26
عموم قاعدة « الطهارة » للشك في النجاسة الذاتية‌
15-1-2022
أبو المُخَشّى
10-2-2016


تفسير الآية (13-28) من سورة يس  
  
17564   03:34 مساءً   التاريخ: 8-10-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الياء / سورة يس /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-10-2020 11041
التاريخ: 10-10-2020 5578
التاريخ: 10-10-2020 4834
التاريخ: 10-10-2020 14750

قال تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس : 13 - 18] .

 

تفسير مجمع البيان

- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قال سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) {واضرب لهم} يا محمد {مثلا} أي مثل لهم مثالا وهومن قولهم هؤلاء إضراب أي أمثال وقيل معناه واذكر لهم مثلا {أصحاب القرية} وهذه القرية أنطاكية في قول المفسرين {إذ جاءها المرسلون} أي حين بعث الله إليهم المرسلين {إذ أرسلنا إليهم اثنين} أي رسولين من رسلنا {فكذبوهما} أي فكذبوا الرسولين قال ابن عباس ضربوهما وسجنوهما .

{فعززنا بثالث} أي فقويناهما وشددنا ظهورهما برسول ثالث مأخوذ من العزة وهي القوة والمنعة ومنه قولهم من عز بز أي من غلب سلب قال شعبة كان اسم الرسولين شمعون ويوحنا واسم الثالث بولس وقال ابن عباس وكعب صادق وصدوق والثالث سلوم وقيل إنهم رسل عيسى وهم الحواريون عن وهب وكعب قالا وإنما أضافهم تعالى إلى نفسه لأن عيسى (عليه السلام) أرسلهم بأمره .

{فقالوا إنا إليكم مرسلون} أي قالوا لهم يا أهل القرية إن الله أرسلنا إليكم {قالوا} يعني أهل القرية {ما أنتم إلا بشر مثلنا} فلا تصلحون للرسالة كما لا نصلح نحن لها {وما أنزل الرحمن من شيء} تدعوننا إليه {إن أنتم إلا تكذبون} أي ما أنتم إلا كاذبون فيما تزعمون اعتقدوا أن من كان مثلهم في البشر لا يصلح أن يكون رسولا وذهب عليهم أن الله عز اسمه يختار من يشاء لرسالته وأنه علم من حال هؤلاء صلاحهم للرسالة وتحمل أعبائها {قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون} وإنما قالوا ذلك بعد ما قامت الحجة بظهور المعجزة فلم يقبلوها ووجه الاحتجاج بهذا القول أنهم ألزموهم بذلك النظر في معجزاتهم ليعلموا أنهم صادقون على الله ففي ذلك تحذير شديد .

{وما علينا إلا البلاغ المبين} أي وليس يلزمنا إلا أداء الرسالة والتبليغ الظاهر وقيل معناه وليس علينا أن نحملكم على الإيمان فإنا لا نقدر عليه {قالوا} أي قال هؤلاء الكفار في جواب الرسل حين عجزوا عن إيراد شبهة وعدلوا عن النظر في المعجزة {إنا تطيرنا بكم} أي تشاءمنا بكم {لئن لم تنتهوا} عما تدعونه من الرسالة {لنرجمنكم} بالحجارة عن قتادة وقيل معناه لنشتمنكم عن مجاهد {وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا} يعني الرسل {طائركم معكم} أي الشؤم كله معكم بإقامتكم على الكفر بالله تعالى فأما الدعاء إلى التوحيد وعبادة الله تعالى ففيه غاية البركة والخير واليمن ولا شيء فيه وقيل معنى طائركم حظكم ونصيبكم من الخير والشر عن أبي عبيدة والمبرد {أ ئن ذكرتم} أي إن ذكرتم قلتم هذا القول وقيل معناه إن ذكرناكم هددتمونا وهو مثل الأول وقيل معناه إن تدبرتم عرفتم صحة ما قلناه لكم .

{بل أنتم قوم مسرفون} معناه ليس فينا ما يوجب التشاؤم بنا ولكنكم متجاوزون عن الحد في التكذيب للرسل والمعصية والإسراف الإفساد ومجاوزة الحد والسرف الفساد قال طرفة :

إن امرءا سرف الفؤاد يرى *** عسلا بماء سحابة شتمي (2)

 

 أي : فاسد القلب {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى} وكان اسمه حبيب النجار عن ابن عباس وجماعة من المفسرين وكان قد آمن بالرسل عند ورودهم القرية وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة فلما بلغه أن قومه قد كذبوا الرسل وهموا بقتلهم جاء يعدوويشتد {قال يا قوم اتبعوا المرسلين} الذين أرسلهم الله إليكم وأقروا برسالتهم قالوا وإنما علم هوبنبوتهم لأنهم لما دعوه قال أ تأخذون على ذلك أجرا قالوا لا وقيل إنه كان به زمانة أوجذام فأبرأوه ف آمن بهم عن ابن عباس .

[ القصة ]

قالوا بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب صاحب يس فسلما عليه فقال الشيخ لهما من أنتما قالا رسولا عيسى ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال أ معكما آية قالا نعم نحن نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله فقال الشيخ إن لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين قالا فانطلق بنا إلى منزلك نتطلع حاله فذهب بهما فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحا ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى .

وكان لهم ملك يعبد الأصنام فأنهي الخبر إليه فدعاهما فقال لهما من أنتما قالا رسولا عيسى جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر فقال الملك ولنا إله سوى آلهتنا قالا نعم من أوجدك وآلهتك قال قوما حتى أنظر في أمركما فأخذهما الناس في السوق وضربوهما .

قال وهب بن منبه : بعث عيسى هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى ملكها وطالت مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا وذكر الله فغضب الملك وأمر بحبسهما وجلد كل واحد منهما مائة جلدة .

فلما كذب الرسولان وضربا بعث عيسى شمعون الصفا رأس الحواريين على إثرهما لينصرهما فدخل شمعون البلدة متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه ورضي عشرته وأنس به وأكرمه ثم قال له ذات يوم أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما قال الملك حال الغضب بيني وبين ذلك قال فإن رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون من أرسلكما إلى هاهنا قالا الله الذي خلق كل شيء لا شريك له قال وما آيتكما قالا ما تتمناه فأمر الملك حتى جاءوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان الله حتى انشق موضع البصر فأخذا بندقتين من الطين فوضعا في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك .

 فقال شمعون للملك أ رأيت لو سألت إلهك حتى يصنع صنيعا مثل هذا فيكون لك ولإلهك شرفا فقال الملك ليس لي عنك سرا إن إلهنا الذي نعبده لا يضر ولا ينفع ثم قال الملك للرسولين إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به وبكما قالا إلهنا قادر على كل شيء فقال الملك إن هاهنا ميتا منذ سبعة أيام لم ندفنه حتى يرجع أبوه وكان غائبا فجاؤوا بالميت وقد تغير وأروح فجعلا يدعوان ربهما علانية وجعل شمعون يدعو ربه سرا فقام الميت وقال لهم إني قد مت منذ سبعة أيام وأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه ف آمنوا بالله فتعجب الملك .

فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك دعاه إلى الله ف آمن وآمن من أهل مملكته قوم وكفر آخرون وقد روى مثل ذلك العياشي بإسناده عن الثمالي وغيره عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) إلا أن في بعض الروايات بعث الله الرسولين إلى أهل أنطاكية ثم بعث الثالث وفي بعضها أن عيسى أوحى الله إليه أن يبعثهما ثم بعث وصيه شمعون ليخلصهما وإن الميت الذي أحياه الله تعالى بدعائهما كان ابن الملك وأنه قد خرج من قبره ينفض التراب عن رأسه فقال له يا بني ما حالك قال كنت ميتا فرأيت رجلين ساجدين يسألان الله تعالى أن يحييني قال يا بني فتعرفهما إذا رأيتهما قال نعم فأخرج الناس إلى الصحراء فكان يمر عليه رجل بعد رجل فمر أحدهما بعد جمع كثير فقال هذا أحدهما ثم مر الآخر فعرفهما وأشار بيده إليهما ف آمن الملك وأهل مملكته (3) . وقال ابن إسحاق بل كفر الملك وأجمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة الرسل .

ثم ذكر سبحانه تمام الحكاية عن الرجل الذي جاءهم من أقصى المدينة فقال {اتبعوا من لا يسئلكم أجرا} أي وقال لهم اتبعوا معاشر الكفار من لا يطلبون منكم الأجر ولا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى {وهم} مع ذلك {مهتدون} إلى طريق الحق سالكون سبيله قال فلما قال هذا أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له الملك أ فأنت تتبعهم فقال {وما لي لا أعبد الذي فطرني} أي وأي شيء لي إذا لم أعبد خالقي الذي أنشأني وأنعم علي وهداني {وإليه ترجعون} أي تردون عند البعث فيجزيكم بكفركم .

ثم أنكر اتخاذ الأصنام وعبادتهم فقال {ءأتخذ من دونه آلهة} أعبدهم {إن يردن الرحمن بضر} أي إن أراد الله إهلاكي والإضرار بي {لا تغن عني شفاعتهم شيئا} أي لا تدفع ولا تمنع شفاعتهم عني شيئا والمعنى لا شفاعة لهم فتغني {ولا ينقذون} أي ولا يخلصوني من ذلك الهلاك أو الضرر والمكروه {إني إذا لفي ضلال مبين} أي إني إن فعلت ذلك في عدوك عن الحق واضح والوجه في هذا الاحتجاج أن العبادة لا يستحقها إلا الله سبحانه المنعم بأصول النعم وبما لا توازيه نعمة منعم .

{إني آمنت بربكم} الذي خلقكم وأخرجكم من العدم إلى الوجود {فاسمعون} أي فاسمعوا قولي وأقبلوه عن وهب وقيل أنه خاطب بذلك الرسل أي فاسمعوا ذلك مني حتى تشهدوا لي به عند الله عن ابن مسعود قال ثم إن قومه لما سمعوا ذلك القول منه وطاوه بأرجلهم حتى مات فأدخله الله الجنة وهو حي فيها يرزق وهو قوله {قيل أدخل الجنة} وقيل رجموه حتى قتلوه عن قتادة وقيل إن القوم لما أرادوا أن يقتلوه رفعه الله إليه فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء الدنيا وهلاك الجنة عن الحسن ومجاهد وقال أن الجنة التي دخلها يجوز هلاكها وقيل إنهم قتلوه إلا أن الله سبحانه أحياه وأدخله الجنة فلما دخلها {قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي} تمنى أن يعلم قومه بما أعطاه الله تعالى من المغفرة وجزيل الثواب ليرغبوا في مثله وليؤمنوا لينالوا ذلك وفي تفسير الثعلبي بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ( (سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وصاحب يس ومؤمن آل فرعون فهم الصديقون علي أفضلهم)) .

{وجعلني من المكرمين} أي من المدخلين الجنة والإكرام هو إعطاء المنزلة الرفيعة على وجه التبجيل والإعظام وفي هذا دلالة على نعيم القبر لأنه إنما قال ذلك وقومه أحياء وإذا جاز نعيم القبر جاز عذاب القبر فإن الخلاف فيهما واحد وما في قوله {بما غفر لي ربي} مصدرية والمعنى بمغفرة الله لي ويجوز أن يكون معناه بالذي غفر لي به ربي فيكون اسما موصولا ويجوز أن يكون المعنى بأي شيء غفر لي ربي فيكون استفهاما يقال علمت بما صنعت هذا بإثبات الألف وبم صنعت هذا بحذفها إلا أن الحذف أجود في هذا المعنى .

ثم حكى سبحانه ما أنزله بقوله من العذاب والاستئصال فقال {وما أنزلنا على قومه من بعده} أي من بعد قتله أومن بعد رفعه {من جند من السماء} يعني الملائكة أي لم تنتصر منهم بجند من السماء ولم تنزل لإهلاكهم بعد قتلهم الرسل جندا من السماء يقاتلونهم {وما كنا منزلين} أي وما كنا ننزلهم على الأمم إذا أهلكناهم وقيل معناه وما أنزلنا على قومه من بعده رسالة من السماء قطع الله عنهم الرسالة حين قتلوا رسله عن مجاهد والحسن والمراد أن الجند هم ملائكة الوحي الذين ينزلون على الأنبياء .

______________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص263-270 .

 

تفسير الكاشف

- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{واضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ} . الخطاب في اضرب لمحمد (صلى الله عليه واله وسلم) وضمير {لهم} لمشركي العرب ، أما القرية فقال أكثر المفسرين : انها مدينة أنطاكية ، ولكن اللَّه سبحانه لم يحدد لأن القصد من ضرب المثل الاتعاظ والاعتبار . . وهذا لا يتصل باسم القرية وموضعها . . ويغلب على الظن ان المفسرين اعتمدوا على كتب النصارى حيث جاء في الأصحاح الحادي عشر من أعمال الرسل : ان برنابا وشاول ذهبا إلى أنطاكية وعلَّما جمعا غفيرا . والرسل هم التلاميذ الاثنا عشر الذين اختارهم السيد المسيح (عليه السلام) ليعاينوا حوادث حياته على الأرض ويروه بعد قيامه من القبر ، ويخبروا العالم بذلك . إنجيل متى وأعمال الرسل . أما برنابا فهو قبرصي اعتنق المسيحية في زمن الرسل ، وأصبح داعية إليها . ( قاموس الكتاب المقدس ) .

{إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ} . في كثير من التفاسير ان هؤلاء الرسل كانوا من حواريي عيسى (عليه السلام) وتلاميذه ، وانه هو الذي أرسل إلى القرية اثنين ، ثم شد ازرهما بثالث . . ولكن كلمة المرسلين مع إسنادها إليه تعالى في قوله : أرسلنا . . فعززنا تدل على أنهم أرسلوا بأمر اللَّه مباشرة لا بأمر عيسى (عليه السلام) . . ومهما يكن فإن العبرة بالمسميات لا بالأسماء . . هذا ، إلى اننا غير مسؤولين عنها أمام اللَّه ، ولا صلة لها بحياتنا من قريب أو بعيد . والمعنى واضح ، وهوان اللَّه سبحانه أرسل لأهل تلك القرية ثلاثة يدعونهم إلى الحق .

{فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} . أبدا ماركة مسجلة : كلما جاء أمة رسولها قالوا ما أنت إلا بشر مثلنا وما كان لك علينا من فضل حتى يختارك من دوننا ، وما نحن لك بمؤمنين . . انظر الآية 10 من سورة إبراهيم والآية 94 من سورة الإسراء والآية 24 من سورة المؤمنون والآية 3 من سورة الأنبياء والآية 154 من سورة الشعراء {قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} . بعد أن أقام الرسل الحجة البالغة على صدقهم قالوا للمكذبين : لقد أرسلنا اللَّه إليكم ، وزودنا بما رأيتم من البينات ، وأدينا رسالته على وجهها ، وما علينا من حسابكم من شيء وما حسابنا عليكم وانما ذلك على اللَّه وحده ، وكفى به عليما وحسيبا .

{قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ولَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} . طائركم معكم أي لا واقع للطيرة ، وإنما هي من وحي أوهامكم ، وفي الحديث المشهور : لا عدوى ولا طيرة ولا هامة .

والهامة نوع من البوم يألف القبور والخرائب . وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : الطيرة على ما تجعلها أنت ، فإن هونتها تهونت ، وان شددتها تشددت ، وان لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا . أي ان الطيرة لا شيء في ذاتها ، ولا أثر لها على الإنسان إطلاقا ، وإنما تؤثر على نفسه وأعصابه لأنه قد توهم انها تبصر وتؤثر تماما كالطفل نحال الشبح وحشا يفترسه .

والمعنى ان المكذبين قالوا للرسل : لقد تشاءمنا من دعوتكم ، ونحن نخاف ان تعود علينا بتفريق الكلمة ، وانقسامنا إلى فئتين معكم وعليكم ، فسكوتكم خير لنا ولكم وإلا أسكتناكم بالرجم وشدة العذاب ، فقال لهم الرسل : لا مصدر لهذا الخوف والتشاؤم إلا أنفسكم التي توسوس إليكم بأن دعوتنا شؤم وشر والشر بأنفسكم وفيما أنتم عليه من الشرك والجهل والفساد .

وجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى لم يشر سبحانه إلى اسم الرجل ومع هذا قال المفسرون أو أكثرهم : اسمه حبيب النجار ، وان بيته كان في أطراف المدينة ، وانه كان قد آمن باللَّه ، ولما سمع ان قومه يهمون بقتل الرسل أسرع إلى مناصرتهم والدفاع عنهم بلسانه . . ولا أدري من أين جاء المفسرون بهذا الاسم ؟

وقد بحثت عنه في فهرست الكتاب المقدس وقاموسه أيضا ، فلم أعثر على اسم حبيب . ونقله الطبري عن ابن عباس وكعب الأحبار ، وأيا كان فلا علاقة لنا باسم الرجل ، ولا يعنينا منه إلا بقدر ما تدل عليه الآيات ، وقد وصفته بالايمان والصلاح لأنه {قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وهُمْ مُهْتَدُونَ} .

نصح لقومه أن يقبلوا دعوة الرسل ، ولا ينكصوا عنها لأنها لخيرهم وصلاحهم ، والداعون للحق لا يطلبون أجرا ولا شكورا ، ولا علوا ولا فسادا في الأرض .

{وما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . هذه حكاية لقول المؤمن الناصح ، ومعناه أي مانع يمنعني عن عبادة الذي أوجدني من العدم ، ثم يبعثنا جميعا بعد الموت للحساب والجزاء ؟ وفي هذا تعريض بقومه لتركهم عبادة الواحد الأحد ، وهو يمضي في هذا التقريع ويقول : {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً ولا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .

كيف أعبد أصناما لا تضر ولا تنفع ، ولا تنقذ ولا تشفع . . لقد ضللت إذن ، وما أنا من المهتدين . . كلا {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} . لا يجابه بهذه الكلمة قوى الشر والفساد إلا من لا يبالي بالموت في سبيل الحق ونصرته . . وفي بعض الروايات : انه لما جابه قومه بهذه الحقيقة قتلوه رميا بالحجارة وما وجد من يدافع عنه . . وليس هذا ببعيد عن سيرة الطغاة وأهل الفساد ، والذي يؤيد صدق هذه الرواية قول المشركين للرسل : {لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم} .

وفي تفسير الزمخشري والثعلبي : ان سباقي الأمم ثلاثة لم يكفروا قط طرفة عين :

علي بن أبي طالب ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون .

{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} باع نفسه للَّه ، فكانت الجنة هي الثمن ، وكفى بالجنة ثوابا ونوالا {قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} .

لم يقل هذا تشفيا من قومه برغم انهم كذبوه وآذوه . . حاشا الأصفياء الأخيار . .

بل قاله حبا بالخير وتحسرا على ما فاتهم منه متمنيا لو علموا انه كان لهم من الناصحين ، وان تطيرهم به وبالمرسلين كان وهما وجهلا .

{وما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وما كُنَّا مُنْزِلِينَ } . ضمير قومه يعود إلى المؤمن الذي قال : اتبعوا المرسلين الخ . والمراد بجند السماء الملائكة .

_______________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص305-307 .

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

مثل مشتمل على الإنذار والتبشير ضربه الله سبحانه لعامة القوم يشير فيه إلى الرسالة الإلهية وما تستتبعه الدعوة الحقة من المغفرة والأجر الكريم لمن آمن بها واتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ، ومن العذاب الأليم لمن كفر وكذب بها فحق عليه القول ، وفيه إشارة إلى وحدانيته تعالى ومعاد الناس إليه جميعا .

ولا منافاة بين إخباره بأنهم لا يؤمنون سواء أنذروا أم لم ينذروا وبين إنذارهم لأن في البلاغ إتماما للحجة وتكميلا للسعادة أو الشقاوة قال تعالى : {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال : 42] ، وقال : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } [الإسراء : 82] .

قوله تعالى : {واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون} المثل كلام أو قصة يمثل به مقصد من المقاصد فيتضح للمخاطب ، ولما كانت قصتهم توضح ما تقدم من الوعد والوعيد أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يضربها مثلا لهم .

والظاهر أن {مثلا} مفعول ثان لقوله : {اضرب} ومفعوله الأول قوله : {أصحاب القرية} والمعنى واضرب لهم أصحاب القرية وحالهم هذه الحال مثلا وقد قدم المفعول الثاني تحرزا عن الفصل المخل .

قوله تعالى : {إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون} التعزيز من العزة بمعنى القوة والمنعة ، وقوله : {إذ أرسلنا إليهم} بيان تفصيلي لقوله : {إذ جاءها المرسلون} .

والمعنى : واضرب لهم مثلا أصحاب القرية وهم في زمان أرسلنا إليهم رسولين اثنين من رسلنا فكذبوهما أي الرسولين فقويناهما برسول ثالث فقالت الرسل إنا إليكم مرسلون من جانب الله .

قوله تعالى : {قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون} كانوا يرون أن البشر لا ينال النبوة والوحي ، ويستدلون على ذلك بأنفسهم حيث لا يجدون من أنفسهم شيئا من ذاك القبيل فيسرون الحكم إلى نفوس الأنبياء مستندين إلى أن حكم الأمثال واحد .

وعلى هذا التقرير يكون معنى قوله : {وما أنزل الرحمن من شيء} لم ينزل الله وحيا ولو نزل شيئا على بشر لنلناه من نفوسنا كما تدعون أنتم ذلك ، وتعبيرهم عن الله سبحانه بالرحمن إنما هو لكونهم كسائر الوثنيين معترفين بالله سبحانه واتصافه بكرائم الصفات (2) كالخلق والرحمة والملك غير أنهم يرون أنه فوض أمر التدبير إلى مقربي خلقه كالملائكة الكرام فهم الأرباب المدبرون والآلهة المعبودون ، وأما الله عز اسمه فهورب الأرباب وإله الآلهة .

ومن الممكن أن يكون ذكر اسم الرحمن في الحكاية دون المحكي فيكون التعبير به لحلمه ورحمته تعالى قبل إنكارهم وتكذيبهم للحق الصريح .

وقوله : {إن أنتم إلا تكذبون} بمنزلة النتيجة لصدر الآية ، ومحصل قولهم إنكم بشر مثلنا ولا نجد نحن على بشريتنا في نفوسنا شيئا من الوحي النازل الذي تدعونه وأنتم مثلنا فما أنزل الرحمن شيئا من الوحي فدعواكم كاذبة وإذ ليس لكم إلا هذه الدعوى فإن أنتم إلا تكذبون .

ويظهر بما تقدم نكتة الحصر في قوله : {إن أنتم إلا تكذبون} وكذا الوجه في نفي الفعل ولم يقل : إن أنتم إلا كاذبون لأن المراد نفي الفعل في الحال دون الاستمرار والاستقبال .

قوله تعالى : {قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين} لم يحك الله سبحانه عن هؤلاء الرسل جوابا عن حجة قومهم ما أنتم إلا بشر مثلنا} إلخ .

كما نقل عن الرسل المبعوثين إلى الأمم الدارجة لما احتجت أممهم بمثل هذه الحجة {إن أنتم إلا بشر مثلنا} فردتها رسلهم بقولهم : { إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } [إبراهيم : 11] وقد مر تقريره .

بل حكى عنهم أنهم ذكروا للقوم أنهم مرسلون إليهم مأمورون بتبليغ الرسالة ليس عليهم إلا ذلك وأنهم في غنى عن تصديقهم لهم وإيمانهم بهم ويكفيهم فيه أن يعلم ربهم بأنهم مرسلون لا حاجة لهم إلى أزيد من ذلك .

فقوله : {قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون} إخبار عن رسالتهم وقد أكد الكلام بأن المشددة المكسورة واللام ، والاستشهاد بعلم ربهم بذلك ، وقوله : {ربنا يعلم} معترض بمنزلة القسم ، والمعنى إنا مرسلون إليكم صادقون في دعوى الرسالة ويكفينا في ذلكم علم ربنا الذي أرسلنا بها ولا حاجة لنا فيه إلى تصديقكم لنا ولا نفع لنا فيه من أجر ونحوه ولا يهمنا تحصيله منكم بل الذي يهمنا هو تبليغ الرسالة وإتمام الحجة .

وقوله : {وما علينا إلا البلاغ المبين} البلاغ هو التبليغ والمراد به تبليغ الرسالة أي لم يؤمر ولم نكلف إلا بتبليغ الرسالة وإتمام الحجة .

قوله تعالى : {قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم} القائلون أصحاب القرية والمخاطبون هم الرسل ، والتطير هو التشؤم وقولهم : {لئن لم تنتهوا} إلخ .

تهديد منهم للرسل .

والمعنى : قالت أصحاب القرية لرسلهم ، إنا تشأمنا بكم ونقسم لئن لم تنتهوا عن التبليغ ولم تكفوا عن الدعوة لنرجمنكم بالحجارة وليصلن إليكم وليقعن بكم منا عذاب أليم .

قوله تعالى : {قالوا طائركم معكم أ ئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون} القائلون هم الرسل يخاطبون به أصحاب القرية .

وقوله : {طائركم معكم} الطائر في الأصل هو الطير وكان يتشاءم به ثم توسع واستعمل في كل ما يتشاءم به ، وربما يستعمل فيما يستقبل الإنسان من الحوادث ، وربما يستعمل في البخت الشقي الذي هو أمر موهوم يرونه مبدأ لشقاء الإنسان وحرمانه من كل خير .

وكيف كان فقوله : {طائركم معكم} ظاهر معناه أن الذي ينبغي أن تتشأموا به هو معكم وهو حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد وإقبالكم إلى الباطل الذي هو الشرك .

وقيل : المعنى طائركم أي حظكم ونصيبكم من الخير والشر معكم من أفعالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، هذا وهو أخذ الطائر بالمعنى الثاني لكن قوله بعد : {أ ئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون} أنسب بالنسبة إلى المعنى الأول .

وقوله : {أ ئن ذكرتم} استفهام توبيخي والمراد بالتذكير تذكيرهم بالحق من وحدانيته تعالى ورجوع الكل إليه ونحوهما وجزاء الشرط محذوف في الكلام تلويحا إلى أنه مما لا ينبغي أن يذكر أو يتفوه به والتقدير أ إن ذكرتم بالحق قابلتموه بمثل هذا الجحود الشنيع والصنيع الفظيع من التطير والتوعد .

وقوله : {بل أنتم قوم مسرفون} أي مجاوزون للحد في المعصية وهو إضراب عما تقدم والمعنى بل السبب الأصلي في جحودكم وتكذيبكم للحق أنكم قوم تستمرون على الإسراف ومجاوزة الحد .

قوله تعالى : {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين} أقصى المدينة أبعد مواضعها بالنسبة إلى مبدأ مفروض ، وقد بدلت القرية في أول الكلام مدينة هنا للدلالة على عظمها والسعي هو الإسراع في المشي .

ووقع نظير هذا التعبير في قصة موسى والقبطي وفيها {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى} فقدم {رجل} هناك وأخر هاهنا ولعل النكتة في ذلك أن الاهتمام هناك بمجيء الرجل وإخباره موسى بائتمار الملإ لقتله فقدم الرجل ثم أشير إلى اهتمام الرجل نفسه بإيصال الخبر وإبلاغه فجيء بقوله : {يسعى} حالا مؤخرا بخلاف ما هاهنا فالاهتمام بمجيئه من أقصى المدينة ليعلم أن لا تواطؤ بينه وبين الرسل في أمر الدعوة فقدم {من أقصى المدينة} وأخر الرجل وسعيه .

وقد اشتد الخلاف بينهم في اسم الرجل واسم أبيه وحرفته وشغله ولا يهمنا الاشتغال بذلك في فهم المراد ولو توقف عليه الفهم بعض التوقف لأشار سبحانه في كلامه إليه ولم يهمله .

وإنما المهم هو التدبر في حظه من الإيمان في هذا الموقف الذي انتهض فيه لتأييد الرسل (عليهم السلام) ونصرتهم فقد كان على ما يعطيه التدبر في المنقول من كلامه رجلا نور الله سبحانه قلبه بنور الإيمان يؤمن بالله إيمان إخلاص يعبده لا طمعا في جنة أو خوفا من نار بل لأنه أهل للعبادة ولذلك كان من المكرمين ولم يصف الله سبحانه في كلامه بهذا الوصف إلا ملائكته المقربين وعباده المخلصين ، وقد خاصم القوم فخصمهم وأبطل ما تعلق به القوم من الحجة على عدم جواز عبادة الله سبحانه ووجوب عبادة آلهتهم وأثبت وجوب عبادته وحده وصدق الرسل في دعواهم الرسالة ثم آمن بهم .

قوله تعالى : {اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون} بيان لقوله : {اتبعوا المرسلين} وفي وضع قوله : {من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون} في هذه الآية موضع قوله : {المرسلين} في الآية السابقة إشعار بالعلية وبيانها أن عدم جواز اتباع قائل في قوله إنما يكون لأحد أمرين : إما لكون قوله ضلالا والقائل به ضالا ولا يجوز اتباع الضال في ضلاله ، وإما لأن القول وإن كان حقا والحق واجب الاتباع لكن لقائله غرض فاسد يريد أن يتوسل إليه بكلمة الحق كاقتناء المال واكتساب الجاه والمقام ونحو ذلك ، وأما إذا كان القول حقا وكان القائل بريئا من الغرض الفاسد منزها من الكيد والمكر والخيانة كان من الواجب اتباعه في قوله ، وهؤلاء الرسل مهتدون في قولهم : لا تعبدوا إلا الله ، وهم لا يريدون منكم أجرا من مال أوجاه فمن الواجب عليكم أن تتبعوهم في قولهم .

أما أنهم مهتدون فلقيام الحجة على صدق ما يدعون إليه من التوحيد وكونه حقا ، والحجة هي قوله : {وما لي لا أعبد} إلى تمام الآيتين .

وأما أنهم لا يريدون منكم أجرا فلما دل عليه قولهم : {ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون} وقد تقدم تقريره .

وبهذا البيان يتأيد ما قدمناه من كون قولهم : {ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون} مسوقا لنفي إرادتهم من القوم أجرا أو غير ذلك .

قوله تعالى : {وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ء أتخذ من دونه آلهة} - إلى قوله - ولا ينقذون} شرع في استفراغ الحجة على التوحيد ونفي الآلهة في آيتين واختار لذلك سياق التكلم وحده إلا في جملة اعترض بها في خلال الكلام وهي قوله : {وإليه ترجعون} وذلك بإجراء الحكم في نفسه بما أنه إنسان أوجده الله وفطره حتى يجري في كل إنسان هو مثله والأفراد أمثال فقوله : {وما لي لا أعبد} إلخ .

في معنى وما للإنسان لا يعبد إلخ .

أ يتخذ الإنسان من دونه آلهة إلخ .

وقد عبر عنه تعالى بقوله : {الذي فطرني} للإشعار بالعلية فإن فطره تعالى للإنسان وإيجاده له بعد العدم لازمه رجوع كل ما للإنسان من ذات وصفات وأفعال إليه تعالى وقيامه به وملكه له فليس للإنسان إلا العبودية محضة فعلى الإنسان أن ينصب نفسه في مقام العبودية ويظهرها بالنسبة إليه تعالى وهذا هو العبادة فعليه أن يعبده تعالى لأنه أهل لها .

وهذا هو الذي أشرنا إليه آنفا أن الرجل كان يعبد الله بالإخلاص له لا طمعا في جنة ولا خوفا من نار بل لأنه أهل للعبادة .

وإذ كان الإيمان به تعالى وعبادته هكذا أمرا لا يناله عامة الناس فإن الأكثرين منهم إنما يعبدون خوفا أو طمعا أو لكليهما التفت الرجل بعد بيان حال نفسه إلى القوم فقال : {وإليه ترجعون} يريد به إنذارهم بيوم الرجوع وأنه تعالى سيحاسبهم على ما عملوا فيجازيهم بمساوىء أعمالهم فقوله : {وإليه ترجعون} كالمعترضة الخارجة عن السياق أوهي هي .

ثم إن الآيتين حجتان قائمتان على إبطال ما احتج به الوثنية وبنوا على ذلك عبادة الأصنام وأربابها .

توضيح ذلك أنهم قالوا : إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أو خيال أو عقل لا يناله شيء من القوى الإدراكية فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة فسبيل العبادة أن نتوجه إلى مقربي حضرته والأقوياء من خلقه كالملائكة الكرام والجن والقديسين من البشر حتى يكونوا شفعاء لنا عند الله في إيصال الخيرات ودفع الشرور والمكاره .

والجواب عن أولى الحجتين بما حاصله أن الإنسان وإن كان لا يحيط علما بالذات المتعالية لكنه يعرفه تعالى بصفاته الخاصة به مثل كونه فاطرا له موجدا إياه فله أن يتوجه إليه من طريق هذه الصفات وإنكار إمكانه مكابرة ، وهذا الجواب هو الذي أشار إليه بقوله : {وما لي لا أعبد الذي فطرني} .

وعن الثانية أن هؤلاء الآلهة إن كانت لهم شفاعة كانت مما أفاضه الله عليهم والله سبحانه لا يعطيهم ذلك إلا فيما لا تتعلق به منه إرادة حاتمة ولازمه أن شفاعتهم فيما أذن الله لهم فيه كما قال : { مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس : 3] أما إذا أراد الله شيئا إرادة حتم فلا تنفع شفاعتهم شيئا في المنع عن نفوذها فاتخاذهم آلهة وعدمه سواء في عدم التأثير لجلب خير أو دفع شر ، وإلى ذلك أشار بقوله : {ء أتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون} .

وتعبيره عنه تعالى بالرحمن إشارة إلى سعة رحمته وكثرتها وأن النعم كلها من عنده وتدبير الخير والشر إليه ويتحصل من هنا برهان آخر على وحدانيته تعالى في الربوبية ، إذ لما كان جميع النعم وكذا النظام الجاري فيها ، من رحمته وقائمة به من غير استقلال في شيء منها كان المستقل بالتدبير هو تعالى حتى أن تدبير الملائكة لو فرض تدبيرهم لشيء من رحمته وتدبيره تعالى وكانت الربوبية له تعالى وحده وكذا الألوهية .

قوله تعالى : {إني إذا لفي ضلال مبين} تسجيل للضلال على اتخاذ الآلهة .

قوله تعالى : {إني آمنت بربكم فاسمعون} من كلام الرجل خطابا للرسل وقوله : {فاسمعون} كناية عن الشهادة بالتحمل ، وقوله : {إني آمنت بربكم} إلخ .

تجديد الشهادة بالحق وتأكيد للإيمان فإن ظاهر السياق أنه إنما قال : {إني آمنت بربكم} بعد محاجته خطابا للرسل ليستشهدهم على إيمانه وليؤيدهم بإيمانهم بمرأى من القوم ومسمع .

وقيل : إنه خطاب للقوم تأييدا للرسل ، والمعنى إني آمنت بالله فاسمعوا مني فإني لا أبالي بما يكون منكم على ذلك أو المعنى إني آمنت بالله فاسمعوا مني وآمنوا به أو أنه أراد به أن يغضبهم ويشغلهم عن الرسل بنفسه حيث إنه رأى أنهم بصدد الإيقاع بهم .

هذا . وفيه أنه لا يلائمه التعبير عن الله سبحانه بقوله : {ربكم} فإن القوم ما كانوا يتخذونه تعالى ربا لهم وإنما كانوا يعبدون الأرباب من دون الله سبحانه .

ورد بأن المعنى إني آمنت بربكم الذي قامت الحجة على ربوبيته لكم وهو الله سبحانه .

وفيه أنه تقييد من غير مقيد .

قوله تعالى : {قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} الخطاب للرجل وهو- كما يفيده السياق - يلوح إلى أن القوم قتلوه فنودي من ساحة العزة أن ادخل الجنة كما يؤيده قوله بعد : {وما أنزلنا على قومه من بعده} إلخ فوضع قوله : {قيل ادخل الجنة موضع الإخبار عن قتلهم إياه إشارة إلى أنه لم يكن بين قتله بأيديهم وبين أمره بدخول الجنة أي فصل وانفكاك كأن قتله بأيديهم هو أمره بدخول الجنة .

والمراد بالجنة على هذا جنة البرزخ دون جنة الآخرة ، وقول بعضهم : إن المراد بها جنة الآخرة والمعنى سيقال له : ادخل الجنة يوم القيامة والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع تحكم من غير دليل كما قيل : إن الله رفعه إلى السماء فقيل له ادخل الجنة فهو حي يتنعم فيها إلى قيام الساعة ، وهو تحكم كسابقه .

وقيل : إن القائل : {ادخل الجنة} هو القوم قالوا له ذاك حين قتله استهزاء وفيه أنه لا يلائم ما أخبر الله سبحانه عنه بقوله بعد : {قال يا ليت قومي يعلمون} إلخ فإن ظاهره أنه تمنى علم قومه بما هو فيه بعد استماع نداء {ادخل الجنة} ولم يسبق من الكلام ما يصح أن يبتني عليه قوله ذاك .

وقوله : {قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} استئناف كسابقه كالجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل : فما ذا كان بعد تأييده للرسل ؟ فقيل : {قيل ادخل الجنة} ثم قيل : فما ذا كان بعد ؟ فقيل : {قال يا ليت قومي يعلمون} إلخ وهو نصح منه لقوله ميتا كما كان ينصحهم حيا .

و{ما} في قوله : {بما غفر لي} إلخ مصدرية ، وقوله : {وجعلني} عطف على {غفر} والمعنى بمغفرة ربي لي وجعله إياي من المكرمين .

وموهبة الإكرام وإن كانت وسيعة ينالها كثيرون كالإكرام بالنعمة كما في قوله : {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ } [الفجر : 15] ، وقوله : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13] فإن كرامة العبد عند الله إكرام منه له لكنه لم يعد من المكرمين بوصف الإطلاق إلا طائفتين من خلقه : الملائكة الكرام كما في قوله : {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء : 26 ، 27] ، والكاملين في إيمانهم من المؤمنين سواء كانوا من المخلصين بكسر اللام كما في قوله : { أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج : 35] ، أومن المخلصين بفتح اللام كما في قوله : {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ} [الصافات : 40 - 42] .

والآية من أدلة وجود البرزخ .

قوله تعالى : {وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين} الضميران للرجل ، و{من بعده} أي من بعد قتله ، و{من} الأولى والثالثة لابتداء الغاية ، والثانية مزيدة لتأكيد النفي .

والآية توطئة للآية التالية ، وهي مسوقة لبيان هوان أمر القوم والانتقام منهم بإهلاكهم على الله سبحانه وأنه لا يحتاج في إهلاكهم إلى عدة وعدة حتى ينزل من السماء جندا من الملائكة يقاتلونهم فيهلكونهم فلم يفعل ذلك فيهم ولا فعل ذلك في إهلاك من أهلك من الأمم الماضين وإنما أهلكهم بصيحة واحدة تقضي عليهم .

 ____________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص60-67 .

2- لكنهم مختلفون في تفسيرها والصابئون يفسرونها بالنفي فمعنى العالم والقادر عندهم من ليس بجاهل وعاجز .

 

تفسير الامثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

واضرب لهم مثلا أصحاب القرية :

لمتابعة البحوث الماضية في الآيات السابقة حول القرآن ونبوّة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والمؤمنين الصادقين ، والكفّار المعاندين ، تطرح هذه الآيات نموذجاً من موقف الاُمم السابقة بهذا الصدد ، إنّ هذه الآيات وبعضاً من الآيات التالية لها ، والتي تشكّل بمجموعها ثماني عشرة آية ، تتحدّث حول تأريخ عدد من الأنبياء السابقين الذين بعثوا لهداية المشركين عبّاد الأوثان الذين سمّاهم القرآن الكريم (أصحاب القرية) وكيف أنّهم نهضوا لمخالفة اُولئك الأنبياء ، وتكذيبهم ، وكانت خاتمتهم أن أخذهم العذاب الأليم ، لتكون تنبيهاً لمشركي مكّة من جهة ، وتسلية للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وفئة المؤمنين القليلة به في ذلك اليوم . على كلّ حال فإنّ التأكيد على إيراد هذه القصّة في قلب هذه السورة التي تعتبر هي بدورها قلب القرآن الكريم ، بسبب تشابه ظروف تلك القصّة مع ظروف المسلمين في ذلك اليوم .

أوّلا تقول الآيات الكريمة : {واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون} (2) .

«القرية» في الأصل اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس ، وتطلق أحياناً على نفس الناس أيضاً ، لذا فمفهومها يتّسع حتّى يشمل المدن والنواحي ، وأطلقت في لغة العرب وفي القرآن المجيد مراراً على المدن المهمّة مثل «مصر» و«مكّة» وأمثالهما .

لكن ما اسم هذه القرية أو المدينة التي ذُكرت في هذه الآية ؟

المشهور بين المفسّرين أنّها «أنطاكية» إحدى مدن بلاد الشام . وهي إحدى المدن الرومية المشهورة قديماً ، كما أنّها ضمن منطقة نفوذ تركيا جغرافياً في الحال الحاضر ، وسنتعرض إلى تفصيل الحديث عنها في البحوث الآتية إن شاء الله ، وعلى كلّ حال فإنّه يظهر جيداً من آيات هذه السورة الكريمة أنّ أهل تلك المدينة كانوا يعبدون الأصنام ، وأنّ هؤلاء الرسل جاؤوا يدعونهم إلى التوحيد ونبذ الشرك .

بعد ذلك العرض الإجمالي العام ، تنتقل الآيات إلى تفصيل الأحداث التي جرت فتقول : {إذ أرسلنا إليهم إثنين فكذّبوهما فعزّزنا بثالث فقالوا إنّا إليكم مرسلون} (3) .

أمّا من هم هؤلاء الرسل ؟ هناك أخذ وردّ بين المفسّرين ، بعضهم قال : إنّ أسماء الإثنين «شمعون» و«يوحنا» والثالث «بولس» ، وبعضهم ذكر أسماء اُخرى لهم .

وكذلك هناك أخذ ورد في أنّهم رسل الله تعالى ، أم أنّهم رسل المسيح (عليه السلام) (ولا منافاة مع قوله تعالى : (إذ أرسلنا) إذ أنّ رسل المسيح رسله تعالى أيضاً) ، مع أنّ ظاهر الآيات أعلاه ينسجم معه التّفسير الأوّل ، وإن كان لا فرق بالنسبة إلى النتيجة التي يريد أن يخلص إليها القرآن الكريم .

الآن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالّين قبال دعوة الرسل ، القرآن الكريم يقول : إنّهم تعلّلوا بنفس الأعذار الواهية التي يتذّرع بها الكثير من الكفّار دائماً في مواجهة الأنبياء {قالوا ما أنتم إلاّ بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلاّ تكذّبون} .

فإذا كان مقرّراً أن يأتي رسول من قبل الله سبحانه ، فيجب أن يكون ملكاً مقرّباً وليس إنساناً مثلنا . هذه هي الذريعة التي تذرّعوا بها لتكذيب الرسل وإنكار نزول التشريعات الإلهية ، والمحتمل أنّهم يعلمون بأنّ جميع الأنبياء على مدى التاريخ كانوا من نسل آدم ، من جملتهم إبراهيم الخليل (عليه السلام) ، الذي عرف برسالته ، ومن المسلّم أنّه كان إنساناً ، وناهيك عن أنّه هل يمكن لغير الإنسان أن يدرك حاجات الإنسان ومشكلاته وآلامه ؟

وثمّ لماذا أكّدت الآية أيضاً على صفة «الرحمانية» لله ؟ لعلّ ذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى ضمن نقله هذه الصفة في كلامهم يشعر بأنّ الجواب كامن في كلامهم ، إذ أنّ الله الذي شملت رحمته العالم بأسره لابدّ أن يبعث الأنبياء والرسل لتربية النفوس والدعوة إلى الرشد والتكامل البشري .

كذلك يُحتمل أيضاً أن يكونوا قد أكّدوا على وصف الرحمانية لله ليقولوا بذلك أنّ الله الرحمن العطوف لا يثير المشاكل لعباده بإرسال الرسل والأنبياء ، بل إنّه يتركهم وشأنهم ! وهذا المنطق الخاوي المتهاوي يتناسب مع مستوى تفكير هذه الفئة الضالّة .

على كلّ حال ، فإنّ هؤلاء الأنبياء لم ييأسوا جرّاء مخالفة هؤلاء القوم الضالّين ولم يضعفوا ، وفي جوابهم {قالوا ربّنا يعلم إنّا إليكم لمرسلون} ومسؤوليتنا إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل واضح وبيّن فحسب .

{وما علينا إلاّ البلاغ المبين} .

من المسلّم به أنّهم لم يكتفوا بمجرّد الإدّعاء ، أو القسم بأنّهم من قبل الله ، بل إنّ ممّا يستفاد من تعبير «البلاغ المبين» إجمالا أنّهم أظهروا دلائل ومعاجز تشير إلى صدق ادّعائهم ، وإلاّ فلا مصداقية (للبلاغ المبين) ، إذ أنّ البلاغ المبين يجب أن يكون بطريقة تجعل من الميسّر للجميع أن يدركوا مراده ، وذلك لا يمكن تحقّقه إلاّ من خلال بعض الدلائل والمعجزات الواضحة .

وقد ورد في بعض الرّوايات أيضاً أنّ هؤلاء الرسل كانت لهم القدرة على شفاء بعض المرضى المستعصي علاجهم ـ بإذن الله ـ كما كان لعيسى (عليه السلام) .

ولكن الوثنيين لم يسلموا أمام ذلك المنطق الواضح وتلك المعجزات ، بل إنّهم زادوا من عنفهم في المواجهة ، وإنتقلوا من مرحلة التكذيب إلى مرحلة التهديد والتعامل الشديد {قالوا إنّا تطيّرنا بكم} (4) .

ويحتمل حدوث بعض الوقائع السلبية لهؤلاء القوم في نفس الفترة التي بعث فيها هؤلاء الأنبياء ، وكانت إمّا نتيجة معاصي هؤلاء القوم ، أو كإنذارات إلهية لهم ، فكما نقل بعض المفسّرين فقد توقّف نزول المطر عليهم لمدّة (5) ، ولكنّهم لم يعتبروا من ذلك ، بل إنّهم اعتبروا تلك الحوادث مرتبطة ببعثة هؤلاء الرسل . ولم يكتفوا بذلك ، بل إنّهم أظهروا سوء نواياهم من خلال التهديد الصريح والعلني ، وقالوا : {لئن لم تنتهوا لنرجمنّكم وليمسنّكم منّا عذاب أليم} .

هل أنّ «العذاب الأليم» هو تأكيد على مسألة الرجم ، أو زيادة المجازاة أكثر من الرجم وحده ؟

يوجد إحتمالان ، ولكن يبدو أنّ الإحتمال الثاني هو الأقرب ، لأنّ الرجم من أسوأ أنواع العذاب الذي قد ينتهي أحياناً بالموت ، ومن الممكن أن ذكر (العذاب الأليم) إشارة إلى أنّنا سنرجمكم إلى حدّ الموت ، أو أنّه علاوة على الرجم فإنّنا سنمارس معكم أنواعاً اُخرى من التعذيب التي كانت تستعمل قديماً كإدخال الأسياخ المحمّاة في العيون أوصبّ الفلز المذاب في الفمّ وأمثالها .

بعض المفسّرين احتملوا أيضاً أنّ (الرجم) هو تعذيب جسماني أمّا «العذاب الأليم» فهو عذاب معنوي روحي (6) . ولكن الظاهر أنّ التّفسير الأوّل هوالأقرب .

أجل ، فلأنّ أتباع الباطل وحماة الظلم والفساد لا يملكون منطقاً يمكنهم من المنازلة في الحوار ، فإنّهم يستندون دائماً إلى التهديد والضغط والعنف ، غافلين عن أنّ سالكي طريق الله لن يستسلموا أمام أمثال هذه التهديدات ، بل سيزيدون من إستقامتهم على الطريق ، فمنذ اليوم الأوّل الذي سلكت فيها أقدامهم طريق الدعوة إلى الله وضعوا أرواحهم على الأكف ، واستعدوا لأي نوع من الفداء والتضحية .

هنا ردّ الرسل الإلهيون بمنطقهم العالي على هذيان هؤلاء : {قالوا طائركم معكم أئن ذكّرتم} .

فإذا أصابكم سوء الحظّ وحوادث الشؤم ، ورحلت بركات الله عنكم ، فإنّ سبب ذلك في أعماق أرواحكم ، وفي أفكاركم المنحطّة وأعمالكم القبيحة المشؤومة ، وليس في دعوتنا ، فها أنتم ملأتم دنياكم بعبادة الأصنام وأتباع الهوى والشهوات ، وقطعتم عنكم بركات الله سبحانه وتعالى .

جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ جملة (أئن ذكّرتم) جملة مستقلّة وقالوا : إنّ معناها هو «هل أنّ الأنبياء إذا جاءوا وذكروكم وأنذروكم يكون جزاؤهم تهديدهم بالعذاب والعقوبة وتعتبرون وجودهم شؤماً عليكم ؟ وما جلبوا لكم إلاّ النور والهداية والخير والبركة . فهل جواب مثل هذه الخدمة هو التهديد والكلام السيء ؟ ! (7)

وفي الختام قال الرسل لهؤلاء {بل أنتم قوم مسرفون} .

فإنّ مشكلتكم هي الإسراف والتجاوز ، فإذا أنكرتم التوحيد وأشركتم فسبب ذلك هو الإسراف وتجاوز الحقّ ، وإذا أصاب مجتمعكم المصير المشؤوم فبسبب ذلك الإسراف في المعاصي والتلوّث بالشهوات ، وأخيراً ففي قبال الرغبة في العمل الصالح تهدّدون الهادفين إلى الخير بالموت ، وهذا أيضاً بسبب التجاوز والإسراف .

وسوف نعود إلى شرح قصّة اُولئك القوم ، وما جرى لهؤلاء الرسل ، بعد تفسير الآيات الباقية التي تكمل القصّة .

 

وقوله تعالى : {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ } [يس : 20 - 28] .

 

المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف !

تشير هذه الآيات إلى جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه في هذه القصّة . والإشارة تتعلّق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة . . وكيف وقفوا حتّى الرمق الأخير متصدّين للدفاع عن الرسل .

تشرع هذه الآيات بالقول : {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتّبعوا المرسلين} .

هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسّرين أنّ اسمه «حبيب النجّار» هومن الأشخاص الذين قُيّض لهم الإستماع إلى هؤلاء الرسل والإيمان وأدركوا بحقّانية دعوتهم ودقّة تعليماتهم ، وكان مؤمناً ثابت القدم في إيمانه ، وحينما بلغه بأنّ مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء ، أسرع ـ كما يستشفّ من كلمة يسعى ـ وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحقّ بما إستطاع . بل إنّه لم يدّخر وسعاً في ذلك .

التعبير بـ «رجل» بصورة النكرة يحتمل انّه إشارة إلى أنّه كان فرداً عادياً ، ليس له قدرة أو إمكانية متميّزة في المجتمع ، وسلك طريقه فرداً وحيداً . وكيف أنّه في نفس الوقت دخل المعركة بين الكفر والإيمان مدافعاً عن الحقّ ، لكي يأخذ المؤمنين في عصر الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) درساً بأنّهم وإن كانوا قلّة في عصر صدر الإسلام ، إلاّ أنّ المسؤولية تبقى على عواتقهم ، وأنّ السكوت غير جائز حتّى للفرد الواحد .

التعبير بـ «أقصى المدينة» يدلّل على أنّ دعوة هؤلاء الأنبياء وصلت إلى النقاط البعيدة من المدينة ، وأثّرت على القلوب المهيّأة للإيمان ، ناهيك عن أنّ أطراف المدن عادةً تكون مراكز للمستضعفين المستعدين أكثر من غيرهم لقبول الحقّ والتصديق به ، على عكس ساكني مراكز المدن الذين يعيشون حياة مرفّهة تجعل من الصعب قبولهم لدعوة الحقّ .

التعبير بـ «ياقوم» يوضّح حرقة هذا الرجل وتألمّه على أهل مدينته ، ودعوته إيّاهم إلى اتّباع الرسل ، تلك الدعوة التي لم تكن لتحقّق له أي نفع شخصي .

والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد ، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل مدينته ؟

فقد أشار أوّلا إلى هذه القضيّة {اتّبعوا من لا يسألكم أجراً} . فتلك القضيّة بحدّ ذاتها الدليل الأوّل على صدق هؤلاء الرسل ، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أيّة منفعة ماديّة شخصية ، ولا يريدون منكم مالا ولا جاهاً ولا مقاماً ، وحتّى أنّهم لا يريدون منكم أن تشكروهم . والخلاصة : لا يريدون منكم أجراً ولا أي شيء آخر .

وهذا ما أكّدت عليه الآيات القرآنية مراراً فيما يخصّ الأنبياء العظام ، كدليل على إخلاصهم وصفاء قلوبهم ، وفي سورة الشعراء وحدها تكرّرت هذه الجملة خمس مرّات {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} (8) .

ثمّ يضيف : إنّ هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم انّهم أشخاص مهتدون : (وهم مهتدون) إشارة إلى أنّ عدم الإستجابة لدعوة ما إنّما يكون لأحد سببين : إمّا لأنّ تلك الدعوة باطلة وتؤدّي إلى الضلال والضياع ، أو لأنّها حقّ ولكن الدعاة لها يكتسبون من تلك الدعوة منافع شخصية لهم ممّا يؤدّي إلى تشويه النظرة إلى تلك الدعوة ، ولكن حينما لا يكون هذا ولا ذاك فما معنى التردّد والتباطىء عن الإستجابة .

ثمّ ينتقل إلى ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء الرسل ، فيقول : {وما لي لا أعبد الذي فطرني} .

فإنّ من هو أهل لأن يعبد هو الخالق والمالك والوهّاب ، وليس الأصنام التي لا تُضرّ ولا تنفع ، الفطرة السليمة تقول : يجب أن تعبدوا الخالق لا تلك المخلوقات التافهة .

والتأكيد على «فطرني» لعلّه إشارة إلى هذا المعنى أيضاً وهو : إنّني حينما أرجع إلى الفطرة الأصيلة في نفسي اُلاحظ بوضوح أنّ هناك صوتاً يدعوني إلى عبادة خالقي ، دعوة تنسجم مع العقل ، فكيف أغضّ الطرف إذاً عن دعوة تؤيّدها فطرتي وعقلي ؟!

والملفت للنظر أنّه لا يقول : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ؟ بل يقول : {وما لي لا أعبد الذي فطرني} لكي يكون بشروعه بالحديث عن نفسه أكثر تأثيراً في النفوس وبعد ذلك ينبّه إلى أنّ المرجع والمآل إلى الله سبحانه فيقول : {وإليه ترجعون} .

أي : لا تتصوّروا أنّ الله له الأثر والفاعلية في حياتكم الدنيا فقط ، بل إنّ مصيركم في العالم الآخر إليه أيضاً ، فتوجّهوا إلى من يملك مصيركم في الدارين .

وفي ثالث إستدلال له ينتقل إلى الحديث عن الأصنام وإثبات العبودية لله بنفي العبودية للأصنام ، فيكمل قائلا : {أأتّخذ من دونه آلهةً إن يُردن الرحمن بضرٍّ لا تغن عنّي شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون} .

هنا أيضاً يتحدّث عن نفسه حتّى لا يظهر من حديثه أنّه يقصد الإمرة والإستعلاء عليهم ، وفي الحقيقة هو يحدّد الذريعة الأساس لعبدة الأوثان حينما يقولون : نحن نعبد الأصنام لكي تكون شفيعاً لنا أمام الله ، فكأنّه يقول : أيّة شفاعة ؟ وأي معونة ونجاة تريدون منها ؟ فهي بذاتها محتاجة إلى مساعدتكم وحمايتكم ، فماذا يمكنها أن تفعل لكم في الشدائد والملمّات ؟

التعبير بـ «الرحمن» هنا علاوة على أنّه إشارة إلى سعة رحمة الله وأنّه سبب لكلّ النعم والمواهب ، وذلك بحدّ ذاته دليل على توحيد العبادة ، فإنّه يوضّح أنّ الله الرحمن لا يريد أحداً بضرٍّ ، إلاّ إذا أوصلت الإنسان مخالفاته إلى أن يخرج من رحمة الله ويلقي بنفسه في وادي غضبه .

ثمّ يقول ذلك المؤمن المجاهد للتأكيد والتوضيح أكثر : إنّي حين أعبد هذه الأصنام وأجعلها شريكاً لله فإنّي سأكون في ضلال بعيد : {إنّي إذاً لفي ضلال مبين} فأي ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة جنباً إلى جنب خالق السموات والأرض !!

وعندما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من إستعراض تلك الإستدلالات والتبليغات المؤثّرة أعلن لجميع الحاضرين {إنّي آمنت بربّكم فاسمعون} .

أمّا من هو المخاطب في هذه الجملة (فاسمعون) والجملة السابقة لها {إنّي آمنت بربّكم} ؟

ظاهر الآيات السابقة يشير إلى أنّهم تلك المجموعة من المشركين وعبدة الأوثان الذي كانوا في تلك المدينة ، والتعبير بـ «ربّكم» لا ينافي هذا المعنى أيضاً ، إذ أنّ هذا التعبير ورد في الكثير من آيات القرآن الكريم التي تتحدّث عن الكفّار حينما تستعرض الإستدلالات التوحيدية (9) .

وجملة «فاسمعون» لا تنافي ما قلنا ، لأنّ هذه الجملة كانت دعوة لهم لاتّباع قوله ، بالضبط كما ورد في قصّة مؤمن آل فرعون حيث قال : {يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر : 38] .

ومن هنا يتّضح أنّ ما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ المخاطب في هذه الجملة هم اُولئك الرسل ، والتعبير بـ «ربّكم» وجملة «فاسمعون» قرينة على ذلك ـ لا يقوم عليه دليل سليم .

لكن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم إزاء ذلك المؤمن الطاهر ؟

القرآن لا يصرّح بشيء حول ذلك ، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية بأنّهم ثاروا عليه وقتلوه .

نعم فإنّ حديثه المثير والباعث على الحماس والمليء بالإستدلالات القوّية الدامغة ، واللفتات الخاصّة والنافذة إلى القلب ، ليس لم يكن لها الأثر الإيجابي في تلك القلوب السوداء المليئة بالمكر والغرور فحسب ، بل إنّها على العكس أثارت فيها الحقد والبغضاء وسعرت فيها نار العداوة ، بحيث أنّهم نهضوا إلى ذلك الرجل الشجاع وقتلوه بمنتهى القسوة والغلظة . وقيل انّهم رموه بالحجارة ، وهو يقول : اللهمّ اهدِ قومي ، حتّى قتلوه (10) .

وفي رواية اُخرى أنّهم وطؤوه بأرجلهم حتّى مات (11) .

ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بعبارة جميلة مختصرة هي (قيل ادخل الجنّة) وهذا التعبير ورد في خصوص شهداء طريق الحقّ في آيات اُخرى من القرآن الكريم { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران : 169] .

والجدير بالذكر والملاحظة أنّ هذا التعبير يدلّل على أنّ دخوله الجنّة كان مقترناً باستشهاده شهادة هذا الرجل المؤمن ، بحيث أنّ الفاصلة بين الإثنين قليلة إلى درجة أنّ القرآن المجيد بتعبيره اللطيف ذكر دخوله الجنّة بدلا عن شهادته ، فما أقرب طريق الشهداء إلى السعادة الدائمة !!

وواضح أنّ المقصود من الجنّة هنا ، هي (جنّة البرزخ) لأنّه يستفاد من الآيات ومن الرّوايات أنّ الجنّة الخالدة في يوم القيامة ستكون نصيب المؤمنين ، كما أنّ جهنّم ستكون نصيب المجرمين .

وعليه فإنّ هناك جنّة وجهنّم اُخريين في عالم البرزخ ، وهما نموذج من جنّة وجهنّم يوم القيامة ، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال : «والقبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النار» (12) .

وما احتمله البعض من أنّ هذه الجملة إشارة إلى خطاب يخاطب به هذا المؤمن الشهم في يوم القيامة ، وأنّها تحوي جنبة مستقبلية ، فهو خلاف لظاهر الآية .

على كلّ حال فإنّ روح ذلك المؤمن الطاهرة ، عرجت إلى السماء إلى جوار رحمة الله وفي نعيم الجنان ، وهناك لم تكن له سوى اُمنية واحدة {قال يا ليت قومي يعلمون} .

ياليت قومي يعلمون بأي شيء {بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرمين} (13) .

أي : ليست أنّ لهم عين تبصر الحقّ ، لهم عين غير محجوبة بالحجب الدنيوية الكثيفة والثقيلة ، فيروا ما حُجب عنهم من النعمة والإكرام والإحترام من قبل الله ، ويعلموا أي لطف شملني به الله في قبال عدوانهم عليّ . .

لو أنّهم يبصرون ويؤمنون ، ولكن يا حسرةً !!

في حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يخصّ هذا المؤمن «إنّه نصح لهم في حياته وبعد موته» (14) .

ومن الجدير بالملاحظة أنّه تحدّث أوّلا عن نعمة الغفران الإلهي ، ثمّ عن الإكرام ، إذ يجب أوّلا غسل الروح الإنسانية بماء المغفرة لتنقيتها من الذنوب ، وحينها تأخذ محلّها على بساط القرب والإكرام الإلهي .

والجدير بالتأمّل أنّ الإكرام و الإحترام والتجليل ، وإن كان من نصيب الكثير من العباد ، واُصولا فإنّه ـ أي الإكرام ـ يتعاظم مع «التقوى» جنباً إلى جنب ، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13] ولكن (الإكرام) بشكل مطلق وبدون أدنى قيد أو شرط جاء في القرآن الكريم خاصاً لمجموعتين :

الاُولى : «الملائكة المقرّبون» {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء : 26 ، 27]

والثانية : الأشخاص الذين بلغوا بإيمانهم أكمل الإيمان ويسمّيهم القرآن «المخلَصين» فيقول عنهم : {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج : 35] (15) .

وعلى كلّ حال ، فقد كان هذا مآل ذلك الرجل المؤمن المجاهد الصادق الذي أدّى رسالته ولم يقصّر في حماية الرسل الإلهيين ، وارتشف في النهاية كأس الشهادة ، وقَفل راجعاً إلى جوار رحمة ربّه الكريم .

ولكن لننظر ما هو مصير هؤلاء القوم الطغاة الظلمة ؟ .

مع أنّ القرآن الكريم لم يورد شيئاً في ما انتهى إليه عمل هؤلاء الثلاثة من الرسل الذين بعثوا إلى هؤلاء القوم ، لكن جمعاً من المفسّرين ذكروا أنّ هؤلاء قتلوا الرسل أيضاً إضافةً إلى قتلهم ذلك الرجل المؤمن ، وفي حال أنّ البعض الآخر يصرّح بأنّ هذا الرجل الصالح شاغل هؤلاء القوم بحديثه وبشهادته لكي يتسنّى لهؤلاء الرسل التخلّص ممّا حيك ضدّهم من المؤامرات ، والإنتقال إلى مكان أكثر أمناً ، ولكن نزول العذاب الإلهي الأليم على هؤلاء القوم قرينة على ترجيح القول الأوّل ، وإن كان التعبير «من بعده» (أي بعد شهادة ذلك المؤمن) يدلّل ـ في خصوص نزول العذاب الإلهي ـ على أنّ القول الثاني أصحّ «تأمّل بدقّة !!» .

رأينا كيف أصرّ أهالي مدينة أنطاكية على مخالفة الإلهيين ، والآن لننظر ماذا كانت نتيجة عملهم ؟

القرآن الكريم يقول في هذا الخصوص : {وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنّا منزلين} .

فلسنا بحاجة إلى تلك الاُمور ، وأساساً فانّه ليس من سنّتنا لإهلاك قوم ظالمين أن نستخدم جنود السماء ، لأنّ إشارة واحدة كانت كافية للقضاء عليهم جميعاً وإرسالهم إلى ديار العدم والفناء ، إشارة واحدة كانت كافية لتبديل عوامل حياتهم ومعيشتهم إلى عوامل موت وفناء ، وفي لحظة خاطفة تقلب حياتهم عاليها سافلها .

_____________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج11 ، ص119-130 .

2 ـ يعتقد البعض بأنّ «أصحاب القرية» مفعول أو للفعل «اضرب» و«مثلا» مفعول ثان مقدّم ، والبعض يقول : إنّها بدل عن «مثلا» ، ولكن الظاهر رجاحة الإحتمال الأوّل .

3 ـ بعض المفسّرين قالوا بأنّ كلمة «إذ» هنا بدل عن «أصحاب القرية» ، وذهب آخرون بأنّها متعلّق لفعل محذوف تقديره «اذكر» .

4 ـ تقدّم الكلام عن «التطيّر» بالتفصيل في تفسير سورة الأعراف ، الآية 131 ، وذيل الآية 47 من سورة النمل .

5 ـ تفسير القرطبي ، ذيل الآيات محلّ البحث .

6 ـ وذلك في حال كون «لنرجمنّكم» من مادّة «رجم» بمعنى السبّ والإتّهام والقذف .

7 ـ التقدير هو «أئن ذكّرتم قابلتمونا بهذه الاُمور» أو «أئن ذكّرتم علمتم صدق ما قلنا» .

8 ـ الآيات : 109 ـ 127 ـ 145 ـ 164 ـ 180 .

9 ـ راجع الآيات 3 و32 يونس ـ 3 و52 هود ـ 24 النمل 29 ـ الكهف وغيرها .

10 ـ تفسير القرطبي ، ج15 ، ص 18 و19 .

11 ـ تفسير التبيان ، ج8 ، ص414 .

12 ـ بحار الأنوار ، ج6 ، ص218 .

13 ـ بخصوص موقع (ما) في الجملة احتملت ثلاثة إحتمالات : إمّا مصدرية ، أو موصولة ، أو إستفهامية ، ولكن يبدو أنّ إحتمال كونها إستفهامية بعيد ، ويبقى أنّ الأقرب كونها موصولة ، مع أنّ المعنى لا يختلف كثيراً حينما تكون مصدرية .

14 ـ تفسير القرطبي ، المجلّد 8 ، ـ صفحة 20 .

15 ـ الميزان ، المجلّد 17 ، صفحة 82 .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .