المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17599 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر



تفسير الآية (1-6) من سورة القصص  
  
5383   03:09 مساءً   التاريخ: 3-10-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف القاف / سورة القصص /

قال تعالى : {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } [القصص : 1 - 6] .

 

 

تفسير مجمع البيان

- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{طسم تلك آيات الكتاب المبين} أي المبين الرشد من الغي عن قتادة وقيل هو البين الظاهر والآية مفسرة فيما مضى {نتلو عليك} يا محمد {من نبأ موسى وفرعون} أي طرفا من أخبارهما {بالحق} أي بالصدق والحقيقة لا ريب فيه {لقوم يؤمنون} أي يصدقون بالله وبما أنزله إليك {أن فرعون علا في الأرض} أي بغى وتجبر وتعظم واستكبر في أرض مصر يقال علا علو إذا تجبر ومنه قوله لا يريدون علوا في الأرض {وجعل أهلها شيعا} أي فرقا قال قتادة فرق بين بني إسرائيل والقبط والمعنى يكرم قوما ويذل آخرين بالاستعباد والاستعمال في الأعمال الشاقة وقيل معناه جعل بني إسرائيل أصنافا في الخدمة والتسخير .

{يستضعف طائفة منهم} يعني من بني إسرائيل ثم فسر ذلك فقال {يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم} يقتل الأبناء ويستبقي البنات فلا يقتلن وذلك أن بعض الكهنة قال له إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سبب ذهاب ملكك وقال السدي رأى فرعون في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فسأل علماء قومه فقالوا له يخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يده {إنه كان من المفسدين} بالقتل والعمل بالمعاصي {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض} المعنى أن فرعون كان يريد إهلاك بني إسرائيل وإفناءهم ونحن نريد أن نمن عليهم {ونجعلهم أئمة} أي قادة ورؤساء في الخير يقتدى بهم عن ابن عباس وقيل نجعلهم ولاة وملوكا عن قتادة وهذا القول مثل الأول لأن الذين جعلهم الله ملوكا فهم أئمة ولا يضاف إلى الله سبحانه ملك من يملك الناس عدوانا وظلما وقد قال سبحانه {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما} والملك من الله تعالى هو الذي يجب أن يطاع فالأئمة على هذا ملوك مقدمون في الدين والدنيا يطأ الناس أعقابهم .

{ونجعلهم الوارثين} لديار فرعون وقومه وأموالهم وقد صحت الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها(2) وتلا عقيب ذلك {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض} الآية وروى العياشي بالإسناد عن أبي الصباح الكناني قال نظر أبو جعفر (عليه السلام) إلى عبد الله (عليه السلام) فقال هذا والله من الذين قال الله تعالى {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض} الآية وقال سيد العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) والذي بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا إن الأبرار منا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته وإن عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه .

{ونمكن لهم في الأرض} أي ونريد أن نمكن لبني إسرائيل في أرض مصر والتمكين هو فعل جميع ما لا يصح الفعل إلا معه مع القدرة والآلة واللطف وغير ذلك وقال علي بن عيسى اللطف لا يدخل في التمكين لأنه لو دخل فيه لكان من لا لطف له لم يكن ممكنا ولكنه من باب إزاحة العلة {ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم} أي من بني إسرائيل {ما كانوا يحذرون} من ذهاب الملك على يد رجل منهم قال الضحاك عاش فرعون أربعمائة سنة وكان قصيرا دميما وهو أول من خضب بالسواد وعاش موسى (عليه السلام) مائة وعشرين سنة .

___________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج7 ، ص413-415 .

2- شمس الفرس شماسا : كان لا يمكن احدا من ظهره ، ولا من الاسراج ، ولا الالجام ، ولا يكاد يستقر . والضروس : الناقة السيئة الخلق تعض حالبيها .

 

تفسير الكاشف

- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{ طسم} تقدم الكلام على مثله في أول سورة البقرة {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ} . تلك إشارة إلى هذه السورة ، والكتاب القرآن ، والمبين الواضح في تمييز الغي من الرشد {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسى وفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

لقد تلا سبحانه هذا النبأ على نبيه الكريم مرات ومرات ، وأوضحنا الغاية من تكراره عند تفسير الآية 9 من سورة طه ، فقرة : (تكرار قصة موسى) .

{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً} . طغى وبغى ، وتكبر وتجبر ، وقسم أهل مملكته إلى فئات متطاحنة ليدوم له الملك ، يعطي فئة ، ويمنع أخرى {يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً} - أي بني إسرائيل - {مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ ويَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} . تقدم مثله في الآية 49 من سورة البقرة ج 1 ص 99 والآية 127 من سورة الأعراف ج 3 ص 382 .

 

لماذا اضطهد فرعون بني إسرائيل ؟

قال بعض المفسرين الجدد في ظلاله : (اضطهد فرعون بني إسرائيل لأن لهم عقيدة غير عقيدته ، فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم ويعقوب ، ومهما وقع في عقيدتهم من الانحراف فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد) . ونحن نسأل هذا المفسر الجديد : من أين جاءك العلم ان اليهود كانوا في عهد فرعون على دين إبراهيم (عليه السلام) ، وأنه قد بقي لهم الاعتقاد بإله واحد ؟ هل جاءك هذا العلم من قولهم : يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ، أومن قولهم له : أَرِنَا اللَّهً جَهْرَةً ، أومن عبادتهم العجل ، أومن قتلهم الأنبياء ؟ وإذا كان فرعون قد اضطهدهم لأنهم على دين إبراهيم فلما ذا وصفهم نبيهم ومخلَّصهم موسى بالفاسقين كما في الآية 25 من سورة المائدة وبالسفهاء في الآية 155 ، وبالمبطلين في الآية 173 ، وبالجهل في الآية 138 من سورة الأعراف ، كما وصفهم اللَّه سبحانه في العديد من آياته بالفساد وبكل جريمة ورذيلة ؟ .

لقد ذكر القرآن ان فرعون اضطهد بني إسرائيل ، وانه تعدى الحدود في ظلمه ، ولكنه لم يشر إلى السبب ، ولذا اختلف الفقهاء في تحديده ، فمن قائل :

ان كاهنا قال لفرعون : يولد مولود في بني إسرائيل ينتزع منه الملك .

وقائل : ان الأنبياء الذين كانوا قبل موسى بشّروا بمجيئه ، ولما علم فرعون بذلك خاف وذبح أبناء إسرائيل . . وما رأيت أحدا من المفسرين أو غيرهم قال : ان فرعون اضطهد اليهود لأنهم على دين إبراهيم .

وإذا نظرنا إلى سيرة بني إسرائيل مع نبيهم ومخلَّصهم موسى ، ومع غيره من أنبيائهم الذين جاؤوا بعد موسى حيث كانوا يكذبون فريقا وفريقا يقتلون ، ونظرنا إلى سيرتهم وأعمالهم في كل بلد يحلَّون فيه من إثارة الفتن ، وتدبير المؤامرات ، ومحاولة السيطرة على وسائل الانتاج والدعاية وغيرها من المرافق العامة ، إذا نظرنا إلى ذلك كله تبين لنا صحة ما قاله الشيخ المراغي في تفسيره : ان فرعون انما اضطهد بني إسرائيل لأنه كان يتوجس خيفة من الذكران الذين يتمرسون الصناعات وبأيديهم زمام المال ، فإذا طال بهم الأمد استولوا على المرافق العامة ، وغلبوا عليها المصريين ، والغلب الاقتصادي أشد وقعا من الغلب الاستعماري .

أجل ، ان فرعون طغى وبغى ، وتجاوز الحد في ذبح الأبناء واسترقاق النساء ، ولكن هذا التعدي والطغيان كان سببه اليهود ، فالتبعة تقع على الاثنين معا : على اليهود لحقدهم وسوء تصرفهم وأهدافهم ، وعلى فرعون لأنه أخذ البريء بجرم المذنب .

 

متى يمن اللَّه على المستضعفين ؟

{ونُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} . المستضعفون في الأرض هم الذين يضطهدهم الأقوياء ، ويتسلطون على أقواتهم ومقدراتهم ظلما وعدوانا ، واللَّه سبحانه يمن عليهم بالحرية والخلاص من الاضطهاد إذا جاهدوا وثابروا واستماتوا من أجل حياتهم وكرامتهم تماما كما يمن سبحانه على المريض بالشفاء إذا استعمل العلاج الصحيح ، وعلى الفلاح بالثمر إذا عمل واتقن . . ان للَّه سنة في خلقه ، وهي ان تجري الأمور على أسبابها ، والغايات على وسائلها ، ولن تجد لسنة اللَّه تبديلا . .

أبدا . كل من سار على الدرب وصل مؤمنا كان أو كافرا . . أما جزاء الكفر والايمان ففي يوم القيامة ، وليس في هذه الحياة ، فمن ركع للظالم خذله اللَّه ، وأوكله إلى من ظلمه حتى ولو صلى وصام وحج إلى بيت اللَّه الحرام ، لأنه خذل الحق ، ونصر الباطل ، وما له في الآخرة من خلاق .

ومن ثار على الظلم وأهله ، واستمات من أجل كرامته نصره اللَّه سبحانه على الظالمين الطغاة ، وان كان كافرا ، لأنه التقى مع إرادة اللَّه وأمره بهذا الجهاد والنضال . .

ولا نرجع إلى التاريخ القديم لنستمد منه الشواهد على هذه الحقيقة ، فإن صمود الشعب الفيتنامي الأعزل أمام أعتى قوى الشر والفساد لدليل قاطع على أن اللَّه مع المظلوم المجاهد الصابر كائنا من كان .

والخلاصة ان اللَّه لا يقاتل من أجل المستضعفين ، ولكنه يقف معهم ويمدهم بعونه إذا قاتلوا وناضلوا مستهدفين الحق والعدل ، والتحرر من البغي والاستغلال ، ان اللَّه مع هؤلاء لأنه مع كل مجاهد وعامل من أجل الحياة . وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهً لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} - 11 الرعد ج 4 ص 386 .

وتسأل : ان اللَّه سبحانه أغرق فرعون وقومه ، ونجّى بني إسرائيل من عذابهم واضطهادهم ، ومعنى هذا ان اللَّه يقاتل عن المستضعفين ، بل جاء في الآية 38 من سورة الحج : {إِنَّ اللَّهً يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} ؟

الجواب : انه تعالى أغرق فرعون وقومه لشركهم وتكذيبهم الرسول ، وليس انتصارا لبني إسرائيل تماما كما أهلك قوم نوح وغيرهم من المشركين ، فترتب على ذلك خلاص المظلومين والمضطهدين من بني إسرائيل وغير بني إسرائيل ، أما آية سورة الحج فالمراد بالذين آمنوا المجاهدون ، أما الكسالى فهم على دين من قال لموسى : {فَاذْهَبْ أَنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ} .

{ونَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي نجعل منهم أنبياء {ونَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ونُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} يجعلهم اللَّه أحرارا بعد أن استعبدهم فرعون أمدا طويلا {ونُرِيَ فِرْعَوْنَ وهامانَ وجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ} ضمير منهم يعود على بني إسرائيل ، والمعنى ان فرعون وملأه خافوا أن يذهب سلطانهم على يد رجل من بني إسرائيل ، فاحتاطوا لذلك ولكن اللَّه سبحانه أوقعهم فيما كانوا يحذرون .

_________________

1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص ٤٧-49 .

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

غرض السورة الوعد الجميل للمؤمنين وهم بمكة قبل الهجرة شرذمة قليلون يستضعفهم فراعنة قريش وطغاتها واليوم يوم شدة وعسرة وفتنة بأن الله سيمن عليهم ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين ويمكن لهم ويرى طغاة قومهم منهم ما كانوا يحذرون يقص تعالى للمؤمنين من قصة موسى وفرعون أنه خلق موسى في حين كان فرعون في أوج قدرته يستضعف بني إسرائيل يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم فرباه في حجر عدو ، حتى إذا استوى وبلغ أشده نجاه وأخرجه من بينهم إلى مدين ثم رده إليهم رسولا منه بسلطان مبين حتى إذا أغرق فرعون وجنوده أجمعين وجعل بني إسرائيل هم الوارثين وأنزل التوراة على موسى هدى وبصائر للمؤمنين .

وعلى هذا المجرى يجري حال المؤمنين وفيه وعد لهم بالملك والعزة والسلطان ووعد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برده إلى معاد .

وانتقل من القصة إلى بيان أن من الواجب في حكمة الله أن ينزل كتابا من عنده للدعوة الحقة ثم ذكر طعنهم في دعوة القرآن بقولهم : لولا أوتي مثل ما أوتي موسى والجواب عنه ، وتعللهم عن الإيمان بقولهم : إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا والجواب عنه وفيه التمثل بقصة قارون وخسفه .

والسورة مكية كما يشهد بذلك سياق آياتها ، وما أوردناه من الآيات فصل من قصة موسى وفرعون من يوم ولد موسى إلى بلوغه أشده .

قوله تعالى : {طسم تلك آيات الكتاب المبين} تقدم الكلام فيه في نظائره .

قوله تعالى : {نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون} {من} للتبعيض و{بالحق} متعلق بقوله : {نتلوا} أي نتلو تلاوة متلبسة بالحق فهومن عندنا وبوحي منا من غير أن يداخل في إلقائه الشياطين ، ويمكن أن يكون متعلقا بنبإ أي حال كون النبإ الذي نتلوه عليك متلبسا بالحق لا مرية فيه .

وقوله : {لقوم يؤمنون} اللام فيه للتعليل وهو متعلق بقوله : {نتلوا} أي نتلو عليك من نبإهما لأجل قوم يؤمنون بآياتنا .

ومحصل المعنى : نتلو عليك بعض نبإ موسى وفرعون تلاوة بالحق لأجل أن يتدبر فيه هؤلاء الذين يؤمنون بآياتنا ممن اتبعوك وهم طائفة أذلاء مستضعفون في أيدي فراعنة قريش وطغاة قومهم فيتحققوا أن الله الذي آمنوا به وبرسوله وتحملوا كل أذى في سبيله هو الله الذي أنشأ موسى (عليه السلام) لإحياء الحق وإنجاء بني إسرائيل وإعزازهم بعد ذلتهم هاتيك الذلة يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم وقد علا فرعون وأنشب فيهم مخالب قهره وأحاط بهم بجوره .

أنشأه والجو ذلك الجو المظلم الذي لا مطمع فيه فرباه في حجر عدوه ثم أخرجه من مصر ثم أعاده إليهم بسلطان فأنجى به بني إسرائيل وأفنى بيده فرعون وجنوده وجعلهم أحاديث وأحلاما .

فهو الله جل شأنه يقص على نبيه قصتهم ويرمز له ولهم بقوله : {لقوم يؤمنون} أنه سيفعل بهؤلاء مثل ما فعل بأولئك ويمن على هؤلاء المستضعفين ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين حذو ما صنع ببني إسرائيل .

قوله تعالى : {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم} إلخ ، العلو في الأرض كناية عن التجبر والاستكبار ، والشيع جمع شيعة وهي الفرقة ، قال في المجمع : ، الشيع : الفرق وكل فرقة شيعة وسموا بذلك لأن بعضهم يتابع بعضا . انتهى .

وكان المراد بجعل أهل الأرض - وكأنهم أهل مصر واللام للعهد - فرقا إلقاء الاختلاف بينهم لئلا يتفق كلمتهم فيثوروا عليه ويقلبوا عليه الأمور على ما هومن دأب الملوك في بسط القدرة وتقوية السلطة ، واستحياء النساء إبقاء حياتهن .

ومحصل المعنى : أن فرعون علا في الأرض وتفوق فيها ببسط السلطة على الناس وإنفاذ القدرة فيهم وجعل أهلها شيعا وفرقا مختلفة لا تجتمع كلمتهم على شيء وبذلك ضعف عامة قوتهم على المقاومة دون قوته والامتناع من نفوذ إرادته .

وهو يستضعف طائفة منهم وهم بنو إسرائيل وهم أولاد يعقوب (عليه السلام) وقد قطنوا بمصر منذ أحضر يوسف (عليه السلام) أباه وإخوته وأشخصهم هناك فسكنوها وتناسلوا بها حتى بلغوا الألوف .

وكان فرعون هذا وهو ملك مصر المعاصر لموسى (عليه السلام) يعاملهم معاملة الأسراء الأرقاء ويزيد في تضعيفهم حتى بلغ من استضعافه لهم أن أمر بتذبيح أبنائهم واستبقاء نسائهم وكان فيه إفناء رجالهم بقتل الأبناء الذكور وفيه فناء القوم .

والسبب في ذلك أنه كان من المفسدين في الأرض فإن الخلقة العامة التي أوجدت الإنسان لم يفرق في بسط الوجود بين شعب وشعب من الشعوب الإنسانية ثم جهز الكل بما يهديهم إلى حياة اجتماعية بالتمتع من أمتعة الحياة الأرضية ولكل ما يعادل قيمته في المجتمع وما يساوي زنته في التعاون .

هذا هو الإصلاح الذي يهتف به الصنع والإيجاد ، والتعدي عن ذلك بتحرير قوم وتعبيد آخرين وتمتيع شعب بما لا يستحقونه وتحريم غيرهم ما يصلحون له هو الإفساد الذي يسوق الإنسانية إلى البيد والهلاك .

وفي الآية تصوير الظرف الذي ولد فيه موسى (عليه السلام) وقد أحدقت الأسباب المبيدة لبني إسرائيل على إفنائه .

قوله تعالى : {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض إلى قوله - ما كانوا يحذرون} الأصل في معنى المن - على ما يستفاد من كلام الراغب - الثقل ومنه تسمية ما يوزن به منا ، والمنة النعمة الثقيلة ومن عليه منا أي أثقله بالنعمة .

قال : ويقال ذلك على وجهين أحدهما بالفعل كقوله : {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا} أي نعطيهم من النعمة ما يثقلهم والثاني بالقول كقوله : {يمنون عليك أن أسلموا} وهو مستقبح إلا عند كفران النعمة .

انتهى ملخصا .

وتمكينهم في الأرض إعطاؤهم فيها مكانا يملكونه ويستقرون فيه ، وعن الخليل أن المكان مفعل من الكون ولكثرته في الكلام أجري مجرى فعال .

فقيل : تمكن وتمسكن نحو تمنزل انتهى .

وقوله : {ونريد أن نمن} إلخ الأنسب أن يكون حالا من {طائفة} والتقدير يستضعف طائفة منهم ونحن نريد أن نمن على الذين استضعفوا إلخ وقيل : معطوف على قوله : {إن فرعون علا في الأرض} والأول أظهر ، و{نريد} على أي حال لحكاية الحال الماضية .

وقوله : {ونجعلهم أئمة} عطف تفسير على قوله : {نمن} وكذا ما بعده من الجمل المتعاقبة .

والمعنى : أن الظرف كان ظرف علو فرعون ، وتفريقه بين الناس واستضعافه لبني إسرائيل استضعافا يبيدهم ويفنيهم والحال أنا نريد أن ننعم على هؤلاء الذين استضعفوا من كل وجه نعمة تثقلهم وذلك بأن نجعلهم أئمة يقتدى بهم فيكونوا متبوعين بعد ما كانوا تابعين ، ونجعلهم الوارثين لها بعد ما كانت بيد غيرهم ونمكن لهم في الأرض بأن نجعل لهم مكانا يستقرون فيه ويملكونه بعد ما لم يكن لهم من المكان إلا ما أراد غيرهم أن يبوئهم فيه ويقرهم عليه ، ونري فرعون وهو ملك مصر وهامان وهو وزيره وجنودهما منهم أي من هؤلاء الذين استضعفوا ما كانوا يحذرون وهو أن يظهروا عليهم فيذهبوا بملكهم ومالهم وسنتهم كما قالوا في موسى وأخيه لما أرسلا إليهم : {يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه : 63] .

والآية تصور ما في باطن هذا الظرف الهائل الذي قضى على بني إسرائيل أن لا يعيش منهم متنفس ولا يبقى منهم نافخ نار وقد أحاطت بهم قدرة فرعون الطاغية وملأ أقطار وجودهم رعبه وهو يستضعفهم حتى يقضي عليهم بالبيد هذا ظاهر الأمر وفي باطنه الإرادة الإلهية تعلقت بأن تنجيهم منهم وتحول ثقل النعمة من آل فرعون الأقوياء العالين إلى بني إسرائيل الأذلاء المستضعفين وتبدل من الأسباب ما كان على بني إسرائيل لهم وما كان لآل فرعون عليهم والله يحكم لا معقب لحكمه .

_______________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص5-8 .

 

تفسير الامثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

المشيئة الالهية تقتضي انتصار :

هذه هي المرّة الرابعة عشرة التي نواجه بها بدايات السورة «بالحروف المقطعة» في القرآن ، وقد تكررت فيها {طسم} ثلاث مرات ، وهي هنا ـ أي «طسم» ـ ثالث المرات وآخرها . .

وقد بيّنا مراراً وتكراراً أنّ للحروف المقطعة من القرآن تفاسير متعددة ومختلفة ، وقد ذكرناها وبحثناها بحثاً وافياً في بدايات سوَر «البقرة» و «آل عمران» و«الأعراف» .

وعلاوة على ذلك كلّه فإنّه يظهر من كثير من الرّوايات في شأن {طسم} أن هذه الحروف إشارات موجزة عن صفات الله سبحانه وتعالى ، أو أنّها أماكن مقدسّة . . ولكنّها في الوقت ذاته لا تمنع من ذلك التّفسير المعروف الذي أكّدنا عليه مراراً ، وهو أنّ الله تعالى يريد أن يوضح هذه الحقيقة للجميع ، وهي أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس التغيير الكبير في تأريخ البشرية وحامل المنهج المتكامل للحياة الكريمة للإنسانيّة يتشكّل من أُمور بسيطة كهذه الحروف «ألف باء . . .» التي يستطيع أن يتلفظ بها كل صبّي .

ومن هنا تتجلى عظمة القرآن وأهميته القصوى ، إذ يتألف من هذه الحروف البسيطة التي هي في اختيار الجميع .

ولعل هذا السبب كان داعياً لأن يكون الحديث بعد «الحروف المقطّعة» مباشرةً عن عظمة القرآن ، إذ يقول : (تلك آيات الكتاب المبين} ، وبالرغم من أن (الكتاب المبين) جاء بمعنى اللوح المحفوظ كما قد ورد في الآية (61) من سورة يونس { وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس : 61] والآية السادسة من سورة هود {كلّ في كتاب مبين} ولكنّه جاء بمعنى القرآن في الآية محل البحث بقرينة ذكر «الآيات» وكذلك جملة {نتلوا عليك} الواردة في الآية التي بعدها . .

وقد وصف القرآن هنا بكونه «مبين» وكما يستفاد من اللغة فإنّ كلمة «مبين» تستعمل في المعنيين «اللازم والمتعدي» ، فهو واضح في نفسه وموضّح لغيره ، والقرآن المجيد بمحتواه المشرق يميّز الحق عن الباطل ، ويبيّن الطريق اللاحب من الطريق المعوّج (2) .

والقرآن بعد ذكر هذه المقدّمة القصيرة يحكى قصّة «فرعون» و«موسى» فيقول : {نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحقّ لقوم يؤمنون} .

التعبير بـ «من» التي هي للتبعيض إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة ، وهي أن ما ورد ـ هنا في القرآن ـ من هذه القصّة ذات الأحداث الكبيرة يتناسب وما تقتضيه الضرورة فحسب . .

والتعبير «بالحق» إشارة إلى أنّ ما ورد هنا خال من كل خرافة وأُسطورة ، وبعيد عن الأباطيل والأكاذيب . . فهي إذن تلاوة مقترنة بالحق والواقعية . .

والتعبير بـ {لقوم يؤمنون} هو تأكيد على هذه الحقيقة ، وهي أنّ مؤمني ذلك العصر الذين كانوا يرزخون تحت ضغوط المشركين والأعداء ، عليهم أن يدركوا هذه الحقيقة ، وهي أنّ الأعداء مهما تعاظمت قواهم وتزايدوا عَدَداً وَعُدَداً ، وأن المؤمنين مهما قلّوا وكانوا تحت ضغط أعدائهم وكانوا ضعافاً بحسب الظاهر ، فلا ينبغي أن يهنوا وينكصوا عن طريق الحق ، فكل شيء عند الله سهل يسير ! . .

الله الذي ربّى «موسى» في أحضان «فرعون» لإبادته وتدميره . . الله الذي أوصل العبيد والمستضعفين إلى أن يكونوا حاكمين في الأرض ، وأذل الجبابرة والمستكبرين وأبادهم .

الله الذي رعى الطفل الرضيع بين أمواج النيل فحفظه ونجاه وأغرق آلاف الفراعنة الأقوياء في تلك الأمواج . . هو قادر على أن ينجيكم «أيّها المؤمنون» . .

أجل ، إنّ الهدف الأصل من هذه الآيات هم المؤمنون وهذه التلاوة لأجلهم ، والمؤمنون الذين يستلهمون من معاني هذه الآيات ويشقّون طريقهم ـ وسط زحام المشاكل والأخطار ـ باطمئنان .

كان ذلك في الحقيقة بياناً إجمالياً ، ثمّ يفصّل القرآن ما أجمله بقوله : {إن فرعون علا في الأرض} .

فقد كان عبداً ضعيفاً ، وعلى أثر جهله وعدم معرفته أضاع شخصيته ووصل إلى مرحلة من الطغيان حتى أنّه ادّعى الرّبوبية . . والتعبير بـ«الأرض» إشارة إلى أرض مصر وما حولها . . وحيث أن القسم المهم العامر من الأرض في ذلك العصر كان «مصراً» فقد جاء التعبير بالأرض بصورة مطلقة .

ويحتمل أيضاً أنّ الألف واللام للعهد أي «أرض مصر» .

وعلى كل حال فإنّ فرعون ـ من أجل تقوية قواعده الإستكبارية ـ قد أقدم على عدّة جرائم كبرى ! . .

فالجريمة الأولى ، أنّه فرّق بين أهل مصر {وجعل أهلها شيعاً} وهي سياسة معروفة ومتبعة على امتداد التاريخ ، وعليها يستند المستكبرون في حكمهم ، فلا يمكن أن تحكم الأقلية ـ التي لا تُعدّ شيئاً ـ على الأكثرية إلاّ بالخطة المعروفة «فرّق تَسُدْ» فهم مستوحشون من «كلمة التوحيد» و«توحيد الكلمة» ويخافون منهما أبداً ـ .

ويخافون من التفاف الناس بعضهم حول بعض ، ولذلك يلجأون إلى الطبقية في الحكم ، فهذه الطريقة وحدها تتكفل بقاءهم في الحكم ، كما صنعه فرعون في أهل مصر ، ويصنعه الفراعنة في كل عصر ومصر .

أجل ، إنّ فرعون قسّم أهل مصر إلى طائفتي «الأقباط» و«الأسباط» .

فالأقباط هم أهل مصر «الأصليون» الذين كانوا يتمتعون بجميع وسائل الرفاه والراحة ، وكانت في أيديهم القصور ودوائر الدولة والحكومة .

و«الأسباط» هم المهاجرون إلى مصر من بني إسرائيل الذين كانوا على هيئة العبيد والخدم «في قبضة الأقباط» ! وكانوا محاطين بالفقر والحرمان ، ويحملون أشدّ الأعباء دون أن ينالوا من وراء ذلك نفعاً [ والتعبير بالأهل في شأن الطائفتين الأقباط والأسباط هو لأنّ بني إسرائيل كانوا قد سكنوا مصر مدّة طويلة فكانوا يُعدّون من أهلها حقيقة !] .

وحين نسمع أن بعض الفراعنة يستعمل مائة ألف مملوك من العبيد لتشييد مقبرة خلال عشرين سنة (كما هي الحال بالنسبة إلى هرم خوفو المعروف الكائن بمقربة من القاهرة عاصمة مصر) ويموت في سبيل ذلك آلاف العبيد والمماليك على أثر الضرب بالأسواط وتحت ضغط العمل الشاق ، ندرك جيداً الحالة الارهابية السائدة في ذلك المجتمع . . .

والجريمة الثّانية هي استضعافه لجماعة من أهل مصر بشكل دموي سافر كما يعبر عن ذلك القرآن بقوله : {يستضعف طائفةً منهم يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم} .

فقد كان أصدر أمراً بأن يراقبوا الأطفال الذين يولدون من بني إسرائيل ، فإن كانوا ذكوراً فإنّ حظهم الذبح ، وإن كانوا إناثاً فيتركن للخدمة في المستقبل في بيوت الأقباط .

وترى ماذا كان يهدف فرعون من وراء عمله هذا ؟!

المعروف أنّه رأى في منامه أن شعلة من النّار توهجت من بيت المقدس وأحرقت جميع بيوت مصر ، ولم تترك بيتاً لأحد من الأقباط إلاّ أحرقته ، ولكنّها لم تمسّ بيوت بني إسرائيل بسوء ، فسأل الكهنة والمعبرين للرؤيا عن تأويل ذلك ، فقالوا له : يخرج رجل من بيت المقدس يكون على يديه هلاكك وزوال حكومة الفراعنة (3) .

وأخيراً كان هذا الأمر سبباً في عزم فرعون على قتل الرضّع من الأطفال الذكور من بني إسرائيل (4) .

كما يحتمل ـ أيضاً ـ أنّ الأنبياء السابقين بشّروا بظهور موسى(عليه السلام)وخصائصه ، وقد أحزن الفراعنة خبره ، فلمّا اطّلعوا على هذا الأمر أقدموا على التصدي له (5) .

ولكون ورود جملة (يذبح أبناءهم} بعد جملة {يستضعف طائفة منهم} فإنّ مسألة أُخرى تتجلّى أمامنا ، وهي أنّ الفراعنة اتّخذوا خطة لاستضعاف بني إسرائيل بذبح الأبناء ، لئلا يستطيع بنوا إسرائيل أن يواجهوا الفراعنة ويحاربوهم ، وكانوا يتركون النساء اللاتي لا طاقة لهن على القتال والحرب ، ليكبرن ثمّ يخدمن في بيوتهم .

والشاهد الآخر هو الآية (25) في سوره المؤمن ، إذ يستفاد منها ـ بصورة جيدة ـ أن خطة قتل الأبناء واستحياء النساء كانت موجودة حتى بعد ظهور موسى (عليه السلام) [ ومجيئه إلى الفراعنة] . إذ تقول : {فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلاّ في ضلال} .

وجملة (يستحي نساءهم} يظهر منها أنّهم كانوا يصرّون على إبقاء البنات والنساء ، إمّا لكي يخدمن في بيوت الأقباط ، أو للإستمتاع الجنسي ، أو لكلا الأمرين جميعاً .

وفي آخر جملة تأتي الآية بتعبير جامع ، وفيه بيان العلة أيضاً فتقول : {إنّه كان من المفسدين} .

وباختصار فإنّ عمل فرعون يتلخص في الفساد في الأرض ، فاستعلاؤه كان فساداً ، وإيجاد الحياة الطبقية في مصر فساد آخر ، وتعذيب بني إسرائيل واستضعافهم وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ليخدمن في بيوت الأقباط فساد ثالث ، وسوى هذه المفاسد كانت لديه مفاسد كثيرةً أُخرى أيضاً .

والتعبير بـ «يُذبح» المشتق من مادة «المذبح» تدل على معاملة الفراعنة لبني إسرائيل كمعاملة القصابين للأغنام والأنعام الأخرى ، إذ كانوا يذبحون هؤلاء الناس الأبرياء ويحتزون رؤوسهم ! (6) .

وفي هذه الخطة الإجرامية من قبل الفراعنة ضد الحوامل قصص مذكورة ، إذ قال بعضهم : إنّ فرعون كان قد أمر برقابة مشددة على النساء الحوامل من بني إسرائيل ، وأن لا يلي إيلادهن إلاّ قابلة من القبطيّات والفرعونيّات ، فإذا كان المولود ذكراً فإنّ جلاوزة القصر الفرعوني يأتون ليتسلموا «قربانهم» (7) .

ولا يعرف بدقّة كم بلغ عدد «ضحايا الحوامل» من أطفال بني إسرائيل على أثر هذه الخطة الإجرامية؟ قال بعضهم : كان الضحايا من الأطفال المواليد تسعين ألفاً ، وأوصلها بعضهم إلى مئات الآلاف ! . .

لقد كانوا يظنون أنّهم سيقفون بوجه إرادة الله الحتمية بهذه الجرائم الوحشية ، فلا ينهض بنوا إسرائيل ضدهم ولا يزول سلطانهم .

ثمّ تأتي الآية الأُخرى لتقول : إنّ إرادتنا ومشيئتنا إقتضت احتواء المستضعفين بلطفنا وكرمنا {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض} وأن تشملهم رعايتنا ومواهبنا تكون بيد الحكومة ومقاليد الأمور : {ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين} .

ويكونون اُولي قوّة وقدرة في الأرض {ونمكّن لهم في الأرض ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}

ما أبلغ هاتان الآيتان ، وما أعظم ما فيهما من رجاء وأمل ! . . إذ جاءتا بصورة الفعل المضارع والاستمرار ، لئلا يتصور أنّهما مختصتان بالمستضعفين من بني إسرائيل وحكومة الفراعنة ، إذ تبدآن بالقول : {ونريد أن نمن . . .} .

أي إنّ فرعون أراد أن يجعل بني إسرائيل شذر مذر ويكسر شوكتهم ويبير قواهم وقدرتهم ، ولكننا أردنا ـ ونريد ـ أن ينتصروا ويكونوا أقوياء !

فرعون يريد أن تكون الحكومة بيد المستكبرين إلى الأبد . ولكنّا أردنا أن تكون بيد المستضعفين ، فكان كما أردنا .

والتعبير بـ «نمنّ» كما أشرنا إلى ذلك من قبل ، معناه منح الهبات والنعم ، وهو يختلف تمام الإختلاف مع «المنّ» المراد به عدّ النعم لتحقير الطرف المقابل ، وهو مذموم قطعاً .

ويكشف الله في هاتين الآيتين الستار عن إرادته ومشيئته بشأن المستضعفين ، ويذكر في هذا المجال خمسة أُمور بعضها مرتبط ببعض ومتقاربة أيضاً :

الأوّل : قوله تعالى : {ونريد أن نمن . . .} لنشملهم بالمواهب والنعم . . الخ .

الثّاني : قوله : {ونجعلهم أئمّة} .

الثّالث : قوله : {ونجعلهم الوارثين} أي المستخلفين بعد الفراعنة والجبابرة .

الرّابع : قوله : {ونمكن لهم في الأرض} أي نجعلهم يحكمون في الأرض وتكون السلطة والقدرة وغيرهما لهم وتحت تصرفهم . .

والخامس : إن ما كان يحذره الأعداء منهم وما عبأوه لمواجهتهم يذهب أدراج الرياح ، وتكون العاقبة لهم {ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} .

هكذا لطف الله وعنايته في شأن المستضفين ، أمّا من هم أُولئك المستضعفون ؟! وما هي أوصافهم ؟! فسنتحدث عن كل ذلك بعد قليل بأذن الله وكان «هامان» وزير فرعون المعروف يتمتع بنفوذ وسلطة إلى درجة أن الآية المتقدمة إذ تتحدث عن جنود مصر فإنّها تعزوهم إلى فرعون وهامان معاً (وسيأتي مزيد إيضاح وشرح عن حال هاماان بإذن الله في ذيل الآية (38) من هذه السورة ذاتها) .

_______________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج9 ، ص524-530 .

2 ـ ونذكر ضمناً أنّ التعبير بـ «تلك» المستعملة للإشارة للبعيد ـ كما بيّنا سابقاً ـ لبيان عظمة هذه الآيات أيضاً . .

3 ـ راجع في ذلك مجمع البيان ، ج 7 ، ص 239 ، والتّفسير الكبير للفخر الرازي ذيل الآيات .

4 ـ المصدر السابق .

5 ـ راجع التّفسير الكبير للفخر الرازي ـ ذيل الآية محل البحث .

6 ـ ممّا يلفت النظر أنّ مادة (ذبح) في الفعل الثلاثي مجرّدة ، وفعلها متعدٍّ بنفسه ، ولكنّها هنا استعملت بصيغة التفعيل لتدلّ على الكثرة ، كما تستفاد من صيغة المضارع الإستمرار على هذه الجناية [ فلاحظوا بدقة] .

7 ـ التّفسير الكبير الفخر الرازي ذيل الآيات محل البحث .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .