المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17639 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05
مـعاييـر تحـسيـن الإنـتاجـيـة
2024-11-05
نـسـب الإنـتاجـيـة والغـرض مـنها
2024-11-05
المـقيـاس الكـلـي للإنتاجـيـة
2024-11-05
الإدارة بـمؤشـرات الإنـتاجـيـة (مـبادئ الإنـتـاجـيـة)
2024-11-05
زكاة الفطرة
2024-11-05



الصوت اللغوي في فواتح السور القرآنية  
  
7466   04:09 مساءاً   التاريخ: 23-04-2015
المؤلف : محمد حسين الصغير
الكتاب أو المصدر : الصوت اللغوي في القران
الجزء والصفحة : ص83-102.
القسم : القرآن الكريم وعلومه / علوم القرآن / أحكام التلاوة /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-06-01 966
التاريخ: 2023-09-18 2738
التاريخ: 2023-12-08 904
التاريخ: 2023-05-27 1228

[فيما يلي بحث في : ]

1- القرآن يوجه اهتمام العرب للصوت اللغوي 2- أصناف الأصوات اللغوية في فواتح السور عند الباقلاني.

3- جدولة الصوت اللغوي في فواتح السور عند الزمخشري 4- الصدى الصوتي للحروف المقطعة عند الزركشي 5- القرآن في تركيبه الصوتي من جنس هذه الأصوات‏ يبدو أن القرآن الكريم قد وجه اهتمام العرب- منذ عهد مبكر- ولفت نظرهم إلى ضرورة الإفادة من الزخم الصوتي في اللغة العربية وهو يستهل بعض السور القرآنية بجملة محددة من الحروف الهجائية التي تنطق بأصواتها أسماء ، لا بأدواتها حروفا ، للإفادة من صوتيتها لدى الاستعمال دون حرفيتها.

وكان القرآن العظيم قد افتتح عامة سوره بعشرة أنواع بيانية من فن القول شملت طائفة متميزة من معاني النحو وأساليب البلاغة حتى حصر أرباب علوم القرآن ذلك بذلك دون تزيّد عليها أو نقصان منها ، فلا يخرج شي‏ء من فواتح السور عنها ، وقد يتداخل بعضها ببعض تارة (1).

ولعل من المفيد حقا الإشارة على سبيل النموذج بأصل قرآني واحد لكل نوع تمهيدا بين يدي النوع المراد بحثه صوتيا ، وسنكتفي بإيراد هذا النموذج الواحد للدلالة عليه في النماذج الثرة المتوافرة وجودها في أضراب أخرى لكل أصل.

1- الاستفتاح بالثناء على اللّه تعالى ، كما في أول الفاتحة ، وذلك قوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة : 2] ،

 2- الاستفتاح بالنداء ، كما في أول المدثر ، وذلك قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } [المدثر : 1].

3- الاستفتاح بالقسم ، كما في أول سورة الفجر ، وذلك قوله تعالى : {وَالْفَجْرِ} [الفجر : 1] (1).

4- الاستفتاح بالجملة الخيرية ، كما في أول سورة «المؤمنون» وذلك قوله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون : 1].

5- الاستفتاح بصيغة الأمر ، كما في أول سورة العلق ، وذلك قوله تعالى : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق : 1]

6- الاستفتاح بصيغة الشرط ، كما في أول سورة النصر ، وذلك قوله تعالى : {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر : 1]

7- الاستفتاح بصيغة الاستفهام ، كما في أول سورة النبأ ، وذلك قوله تعالى : {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } [النبأ : 1 ، 2].

8- الاستفتاح بالدعاء ، كما في أول سورة المطففين ، وذلك قوله تعالى : {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } [المطففين : 1].

9- الاستفتاح بالتعليل ، وقد ورد مرة واحدة في القرآن ، في أول سورة الإيلاف ، وذلك قوله تعالى : {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ } [قريش : 1].

10- الاستفتاح بحروف التهجي ، وهي موضوع هذا البحث في الصوت اللغوي ، إذ تم استفتاح تسع وعشرين سورة في المصحف الشريف بحروف هجائية مقطعة يمكن حصرها بالضبط في النحو الآتي :

أ- ثلاثة حروف موحدة هي : ص. ق. ن.

ب- عشرة حروف مثناة هي : طه ، طس ، يس ، وحم استعملت في افتتاح سبع سور ، فهذه عشرة.

ج- اثنا عشر مثلثة الحروف هي : الم ، الر ، طسم.

وقد تكرر الأولان عدة مرات في المصحف دون طسم.

د- اثنان حروفهما أربعة : المر. المص.

هـ- اثنان حروفهما خمسة : كهيعص. حمعسق.

وقد اهتم علماء الإعجاز القرآني بالتصنيف الصوتي لهذه الحروف في فواتح هذه السورة ، وبيان أسرارها التركيبية ، ودلائلها الصوتية ، وكان أبو بكر الباقلاني (ت : 403 هـ) في طليعة هؤلاء الاعلام ، فقال :

«إن الحروف التي بني عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفا ، وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون‏(2) سورة ، وجملة ما ذكر من هذه (الحروف) في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة ، وهو أربعة عشر حرفا ليدل بالمذكور على غيره ، والذي تنقسم إليه هذه الحروف أقساما : فمن ذلك قسموها إلى حروف مهموسة وأخرى مجهورة ، فالمهموسة منها عشرة وهي : الحاء والهاء والخاء والكاف والشين والثاء والفاء والتاء والصاد والسين.

وما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورة ، وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السورة ، وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء لا زيادة ولا نقصان»(3).

فالباقلاني يعدد حروف المعجم ، ويقارن ذلك بأعداد حروف السور المفتتحة بها ، ويضيف هذه الحروف ، وهي إما مجهورة ، وإما مهموسة ونصف هذه الحروف بتقسيمها مقسوم على السواء بين حروف هذه الفواتح القرآنية ، فنصف المهموسة مذكور في جملة هذه الحروف ، ونصف المجهورة مذكور أيضا دون تزيّد عليها أو نقصان منها.

وقد أيّد أهل اللغة المذهب الأول للباقلاني بما أورده الشيخ الطوسي (ت : 460 هـ) عنهم «فقال بعضهم : هي حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تمام ثمانية وعشرين حرفا كما يستغني بذكر : أ. ب. ت. ث. عن ذكر الباقي» (4).

ثم يعرض الباقلاني إلى تفصيل آخر : أن نصف حروف الحلق (العين والحاء والهمزة والهاء والخاء والغين) مذكور في جملة هذه الحروف ، وأن النصف المذكور هو : العين والحاء والهاء. وكذلك نصف عدة الحروف التي ليست من حروف الحلق مذكور في جملة هذه الحروف. وأن نصف الحروف الشديدة : (الهمزة والقاف والكاف والجيم والتاء والدال والطاء والباء) مذكور في جملة هذه الحروف ، والمذكور : الطاء والقاف والكاف والهمزة. وأن نصف الحروف المطبقة وهي (الطاء والضاد والصاد والظاء) مذكور في جملة هذه الحروف ، والمذكور هو الصاد والطاء (5).

والذي يخلص لنا من هذا الاهتمام المتكامل واشتمال فواتح السور القرآنية المبدوءة بالحروف الهجائية على نصف تقسيمات أصناف الحروف ، بل على أنصاف كل الأصناف على هذا النحو :

1- نصف الحروف المجهورة.

2- نصف الحروف المهموسة.

3- نصف حروف الحلق.

4- نصف حروف غير الحلق.

5- نصف الحروف الشديدة.

6- نصف الحروف المطبقة.

وجميع هذه الحروف المثبتة في جدولة الباقلاني لها تمثل نصف حروف المعجم العربي ، وهذا التصنيف بعامة يمثل بعدا استقرائيا في حصر أوائل السور ذات الحروف الهجائية المقطّعة على أساس مخارج الصوت اللغوي.

ولا يكتفي الباقلاني بهذه البرمجة حتى يضيف إليها تصورا صوتيا منظّما ، ويعلل ظاهرة استعمال بعض الحروف دون سواها للتأكيد على المناخ الصوتي المتميز في وضع الحروف بموقعها المناسب بحسب‏ تسلسلها في النطق مترددة بجهاز النطق من مبتداه إلى منتهاه ، وذلك حينما يبدأ القرآن الكريم ب (الم) في أول سورة قرآنية ضمن الترتيب المصحفي وهي سورة البقرة التي استعملت هذه الأصوات متقاطرة ، فيعطى التعليل الصوتي الآتي : «لأن الألف المبدوءة بها هي أقصاها مطلقا ، واللام متوسطة ، والميم متطرفة ، لأنها تأخذ في الشفة ، فنبه بذكرها على غيرها من الحروف ، وبيّن أنه إنما أتاهم بكلام منظوم مما يتعارفون من الحروف التي تردد بين هذين الطرفين» (6).

وسيأتي فيما بعد إفادة الزركشي (ت : 794 هـ) من هذا المنحنى لهذه الأصوات وتوسعه فيه وفي سواه على أس صوتي مكثف.

وقد أفاض جار اللّه الزمخشري (ت : 538 هـ) في تعقب هذه الوجوه ، وذكر هذه الملاحظ ، وأفاد مما أبداه الباقلاني وزاد عليه متوسعا ، وفصل ما ذكره مجملا بما نحاول برمجته باختصار على النحو التالي :

أولا : قال الزمخشري : «اعلم أنك إذا تأملت ما أورده اللّه عزّ سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء ، وهي : الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم ، ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف» (7).

والملاحظ من هذا النص أن الزمخشري قد جعل أسامي حروف المعجم ثمانية وعشرين ، بينما ينص على أن عدد حروف المعجم تسعة وعشرون حرفا ، مما قد يتصور معه التناقض وعدم الدقة ، وليس الأمر كذلك ، لأن الألف اسم يتناول عندهم جزءين من الحروف هما رسما (ا) و(ء) أي المدة والهمزة ، لهذا قالوا الألف إما ساكنة أو متحركة ، والألف الساكنة هي المدة ، والألف المتحركة هي الهمزة ، ومن ثم بدأ التفريق الدقيق بينهما ، فأطلقت (ا) على الألف اللينة ، وأطلقت (ء) على الهمزة ، فنبه بقوله الألف على هذين الملحظين ، وتذرع بقوله :

«الهمزة والألف حرف واحد عند الفقهاء وحرفان في عرف العامة» (8). وسواء أ كانا حرفا أم حرفين فإنهما صوتان لا شك في هذا.

ثانيا : أوضح الزمخشري تبعا للباقلاني أن في هذه الحروف من المهموسة نصفها وعددها ، ومن المجهورة نصفها وعددها ، ومن الشديدة نصفها وعددها ، ومن الرخوة نصفها وعدّدها ، ومن المطبقة نصفها وعددها ، ومن المنفتحة نصفها وعددها ، ومن المستعلية نصفها وعددها ، ومن المنخفضة نصفها وعددها ، ومن حروف القلقلة نصفها ، ويمكن جدولة هذه الحروف في منهج الزمخشري على النحو التالي : (9).

1- الحروف المهموسة : الصاد ، الكاف ، الهاء ، السين ، الحاء.

2- الحروف المجهورة : الألف ، اللام ، الميم ، الراء ، العين ، الطاء ، القاف ، الباء ، النون.

3- الحروف الشديد : الألف ، الكاف ، الطاء ، القاف.

4- الحروف الرخوة : اللام ، الميم ، الراء ، الصاد ، الهاء ، العين ، السين ، الحاء ، الياء ، النون.

5- الحروف المطبقة : الصاد ، الطاء.

6- الحروف المنفتحة : الألف ، اللام ، الميم ، الراء ، الكاف ، الهاء ، العين ، السين ، الحاء ، القاف ، الياء ، النون.

7- الحروف المستعلية : القاف ، الصاد ، الطاء.

8- الحروف المنخفضة : الألف ، اللام ، الميم ، الراء ، الكاف ، الهاء ، الياء ، العين ، السين ، الحاء ، النون.

9- حروف القلقلة : القاف ، الطاء.

ويلاحظ أن الزمخشري قد استدرك على الباقلاني في جدولته لأصناف الحروف الواردة في فواتح السورة استدرك عليه : الحروف الرخوة ، والمنفتحة ، والمستعلية ، والمنخفضة ، وحروف القلقلة ، ولكنها داخلة عند الباقلاني في جملة حروف الحلق وغير الحلق ، إلا أن الزمخشري ، قد وسعها تفصيلا ، وترك الاجمال ، وأورد المسميات.

ثالثا : وبعد هذا التقسيم الدقيق تعقب الزمخشري حكمة هذا التركيب ، وغاية هذا الذكر ، وفلسفة هذه الأصوات ، فقال : «ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها ، رأيت الحروف التي ألغى اللّه ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكور منها ، فسبحان الذي دقت في كل شي‏ء حكمته. وقد علمت أن معظم الشي‏ء وجله ينزل منزلة كله ، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته ، فكأن اللّه عزّ اسمه عدد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم ، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم ، وإلزام الحجة إياهم» (10).

رابعا : ورصد الزمخشري مواطن استعمال هذه الأصوات وكثرتها ، بحسب الجاري على ألسنة العرب في تكاثر بعض الحروف دون بعض ، وعرض لفائدة التكرار في جملة منها ، وتناول مسألة تفريقها على السور دون جمعها في أول القرآن ، وكأنه يشير إلى الحكمة المتوخاة من كل جانب فقال : «و مما يدل على أنه تعمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم : أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين ، وهي : فواتح سورة البقرة ، وآل عمران ، والروم ، والعنكبوت ، ولقمان والسجدة ، والأعراف ، والرعد ، ويونس ، وإبراهيم ، وهود ، ويوسف ، والحجر. فإن قلت : فهلا عددت بأجمعها في أول القرآن ، وما لها جاءت مفرقة على السور؟ قلت : لأن إعادة التنبيه على أن المتحدي به مؤلف منها لا غير ، وتجديده في غير موضع واحد ، أوصل إلى الغرض ، وأقوله في الأسماع والقلوب ، من أن يفرد ذكره مرة ، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس‏ وتقريره. فإن قلت : فهلا جاءت على وتيرة واحدة ، ولم اختلفت أعداد حروفها ؟ قلت : هذا على عادة افتنانهم في أساليب الكلام وتصرفهم فيه على طرق شتى ومذاهب متنوعة ، وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك ، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك‏ (11).

ووقف بدر الدين الزركشي (ت : 794 هـ) عند الصدى الصوتي للحروف المقطعة في فواتح هذه السور من عدة وجوه صوتية ، يمكن رصد أبعادها بالخطوط الآتية :

أولا : عرض الزركشي لأعداد هذه الأصوات في فواتح السور ، ووقف عند ما أبتدئ به بثلاثة حروف ، واعتبر لذلك سرا صوتيا بارزا علّله بقوله عن «الم» في تركيبها : «و ذلك أن الألف إذا بدئ بها أولا كانت همزة ، وهي أول المخارج من أقصى الصدر ، واللام من وسط مخارج الحروف ، وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان ، والميم آخر الحروف ، ومخرجها من الفم. وهذه الثلاثة هي أصل مخارج الحروف أعني الحلق واللسان والشفتين ، وترتبت في التنزيل من البداية إلى الوسط ، إلى النهاية.

فهذه الحروف تعتمد المخارج الثلاثة ، التي يتفرع منها ستة عشر مخرجا ، ليصير منها تسعة وعشرون حرفا ، عليها مدار الحلق أجمعين ، مع تضمنها سرا عجيبا ، وهو أن الألف للبداية ، واللام للتوسط ، والميم للنهاية ، فاشتملت هذه الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما» (12).

وهذه الإنارة في استعمال مصطلحات الصوت في المخارج إلى الحلق واللسان والشفتين يضطلع فيها الزركشي بحسّ صوتي رفيع قد سبق إليه الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت : 175 هـ) وسيبويه (ت : 180 هـ) وأبو الفتح عثمان بن جني (ت : 392 هـ) يؤكده الخط الثاني في تذوقه الحروف ، وتأكيده على مسافتها ومكانها وزمانها.

ثانيا : والزركشي بطلق لفظ الحروف ويريد بذلك الأصوات كما هو شأن الخليل في بدايات العين. وكأن قدماء العرب كانوا ينظرون الحرف والصوت بمنظار واحد ، فيطلقون اسم أحدهما على الآخر ، لا سيما في إطلاق الحرف وإرادة الصوت ، وهذا ما نهجه الزركشي لدى بحثه أسرار صوت الهمزة ، واللام ، والميم من وجه آخر غير الوجه الصوتي الأول فقال :

«و أيضا من أسرار علم الحروف أن الهمزة من الرئة ، فهي أعمق الحروف ، واللام مخرجها من طرف اللسان ملصقة بصدر الغار الأعلى من الفم ، فصوتها يملأ ما وراءها من هواء الفم ، والميم مطبقة ، لأن مخرجها من الشفتين إذا أطبقا ، ويرمز بهن إلى باقي الحروف» (13).

ثالثا : وتعقب الزركشي ملائمة صوت الطاء للسين في (طس) ومجانسته للهاء في (طه) ، وهو يعمم هذه الملائمة وتلك المجانسة صوتيا على القرآن فيقول :

«و تأمل اقتران الطاء بالسين والهاء في القرآن ، فإن الطاء جمعت من صفات الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها وهي : الجهر ، والشدة ، والاستعلاء ، والإطباق ، والإصمات ، والسين : مهموس ، رخو ، مستفل ، صفير ، منفتح ، فلا يمكن أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها ، كالسين والهاء ، فذكر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف» (14).

وهذا التعقب خالص الصوتية في الاستقراء والاستنتاج معا ، فإن ما ذكره اهتمام صوتي ليس غير ، وإن ما عدده من المصطلحات : الجهر ، الشدة ، الاستعلاء ، والإطباق ، والإصمات ، المهموس ، الرخو ، المستفل ، الصفير ، المنفتح ، مصطلحات صوتية في الصميم ، وهو وإن سبق إلى التسمية وسبق إلى الضبط ، إلا أنه طبقها تنظيرا صوتيا على فواتح السور.

رابعا : وتنبه الزركشي أيضا إلى اشتمال سورة (ق) على ذات الحرف ، لما في صوت القاف من القلقلة والشدة من جهة ، ولاشتماله على‏ الجهر والانفتاح من جهة أخرى. «و تأمل السورة التي اجتمعت على الحروف المفردة : كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف ، ممن ذلك {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق : 1] فإن السورة مبنية على الكلمات القافية :

من ذكر القرآن ، ومن ذكر الخلق ، وتكرار القول ومراجعته مرارا ، والقرب من ابن آدم ، وتلقي الملكين ، وقول العتيد ، وذكر الرقيب ، وذكر السابق ، والقرين ، والإلقاء في جهنم ، والتقدم بالوعد ، وذكر المتقين ، وذكر القلب ، والقرآن ، والتنقيب في البلاد ، وذكر القتل مرتين ، وتشقق الأرض ، وإلقاء الرواسي فيها ، وبسوق النخل ، والرزق ، وذكر القوم ، وخوف الوعيد ، وغير ذلك» (15).

والحق أنني تتبعت سورة (ق) فوجدت ذكر هذا الحرف قد تكرر بعده أربعا وخمسين مرة في خمس وأربعين آية زيادة على الحرف الاستفتاحي.

فما هذا السر الصوتي لهذا الحرف؟ وما علاقة تسمية السورة به من خلال هذا البناء عليه ؟ وما هو موقع القلقلة في القاف ، والشدة في صوتها ، والجهر بأدائها ، والانفتاح عند نطقها بهذا التكرار في شتى الكلمات ، مما ذكره الزركشي ومما لم يذكره. الجواب عن هذا وذاك بعد إدراك العناية الصوتية : اللّه أعلم.

خامسا : وأشار الزركشي إلى خصوصية للدلالة الصوتية في سورة (صلى الله عليه واله وسلم) للإبانة بهذا الحرف وصوتيته على أصداء الخصومات النازلة ، والمحاكمات الشديدة الوقع ، بما يتناسب واصطكاك الصاد في الجلجلة ، وصداها الواقع على الأذن ، واشتمالها على ما حدث من مجريات أحاديث السورة نفسها محاكاة في الأصوات الشديدة لما نشب من الأحداث الجسيمة ، فقال مؤكدا وجهة نظره الصوتية ، في تذوق الشدة والوقعة والخصومة من خلال صوت الصاد ، ومصاقبته لما ورد في السورة ذاتها من إشارات موحية بذلك.

«و إذا أردت زيادة إيضاح فتأمل ما اشتملت عليه سورة (صلى الله عليه واله وسلم) من‏ الخصومات المتعددة ، فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وقولهم : {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } [ص : 5] إلى آخر كلامهم. ثم اختصام الخصمين عند داود ، ثم تخاصم أهل النار ، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم ، وهو الدرجات والكفارات ، ثم تخاصم إبليس واعتراضه على ربه وأمره بالسجود ، ثم اختصامه ثانيا في شأن بنيه ، وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم» (16).

وهكذا نجد الزركشي في تنبيهاته الصوتية- سواء أ كان ناقلا لها ، أم مجمعا لشتاتها ، أم مبرمجا لخططها ، أم مبتدعا لبعضها- ، يؤكد العمق الصوتي لدى علماء العربية في إبراز حقيقة الصوت اللغوي فيما اتسمت به فواتح السور القرآنية ذات الحروف الهجائية المقطّعة.

والحق أن استقرار المراد من هذه الحروف المقطعة- وإن لم تدرك أسراره- لا يخرجها عن حقيقة واقعها الصوتي في الأسماع ، ولا جوهرها الإنصاتي لدى الإطلاق ، فهي من جنس أصوات العرب في لغتهم ، ومن سنخ حروف معجمهم ، ومن روح أصداء لغة القرآن العظيم ، ولا يمانع هذا الاستقراء على اختلاف وجهات النظر فيه من شموخ الصوت اللغوي في أضوائها ، وبروز الملحظ الصوتي في تأويلاتها- توصل إلى الواقع أو لم يتوصل- على أن السلف الصالح مختلف في المراد من هذه الحروف المقطعة ، أو الأصوات المنطوقة على قولين :

الأول : ان هذه الحروف في دلالتها وإرادتها من العلم المستور والسر المحجوب الذي استأثر به اللّه تعالى.

وادعى الشعبي : أنها من المتشابه ، نؤمن بظواهرها ، ونكل العلم فيها إلى اللّه عزّ وجل‏ (17).

وقد روى الشيخ الطوسي‏ (ت : 460 هـ) أنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه‏ ، واختاره الحسين بن علي المغربي‏ (18).

والقول أنها من المتشابهات التي استأثر اللّه تعالى بعلمها ، ولا يعلم تأويلها إلا هو ، هو المروي عن أئمة اهل البيت عليهم السلام في رواية أهل السنّة (19).

وقد أنكر المتكلمون هذا القول ، وردوا هذا الزعم ، فقالوا : لا يجوز أن يرد في كتاب اللّه ما لا يفهمه الخلق لأن اللّه أمر بتدبره ، والاستنباط منه ، وذلك لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه‏ (20).

بينما أيّده من المتأخرين كل من مالك بن نبي فقال :

«ولسنا نعتقد بإمكان تأويلها إلا إذا ذهبنا إلى أنها مجرد إشارات متفق عليها ، أو رموز سرية لموضوع محدد تام التحديد ، أدركته سرا ذات واعية ... (21)

والسيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري فقال :

«والحق أنها بحسب المعنى من المتشابهات التي استأثر اللّه تعالى العلم بها لنفسه ، فلا يلزم الصاد الفحص عن حقيقتها ، وبذل الجهد في إدراكها وفهمها بل لا بد من إيكال الأمر إليه تعالى» (22).

الثاني : أن المراد منها معلوم ، ولكنهم اختلفوا فيه بعدة آراء تتفاوت قيمة ودلالة وموضوعية ، وقد تداعت كلمات الأعلام في هذه الآراء حتى نقل الخلف عن السلف ، واستند اللاحق إلى السابق بنسبة إليه وبدون نسبة.

ونحاول فيما يلي أن نعطي كشفا منظّما بأبرز هذه الآراء ، ونعقبها بما نأنس به ، ونطمئن إلى مؤداه باعتباره جزاء من كلّي فرائدها ، دون القطع بأنه مراد اللّه منها ، أو القول به ‏(23)

1- اختار ابن عباس : أن كل حرف منها مأخوذ من أسماء اللّه تعالى ، ويقاربه ما روى عن السدي والشعبي أنها : اسم اللّه الأعظم‏ (24).

ولا تعليق لنا على هذا الزعم من ناحيتين :

الأولى : أن أسماء اللّه تتداخل بضمنها جميع الحروف في المعجم العربي وقد تستقطبها ، فلا ميزة- والحالة هذه- لحرف على حرف.

الثانية : أننا نجهل اسم اللّه الأعظم لاختلاف الآثار والمرويات فيه ، إن صحّ صدور تلك الآثار والمرويات.

2- إن اللّه تعالى أقسم بهذه الحروف على وجهين :

وجه اختاره ابن عباس وعكرمة : إن هذا القسم بأسمائه لأنها أسماؤه.

ووجه : أن هذا الكتاب الذي يقرؤه محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم : هو الكتاب المنزل لا شك فيه ، وذلك يدل على جلالة قدر هذه الحروف ، إذا كانت مادة البيان. وقد أقسم اللّه : ب (الفجر) و(الطور) وغيرهما ، فكذلك شأن هذه الحروف في القسم بها (25).

وهما احتمالات جائزان يشكل علينا الخوض فيهما.

3- إن هذه الحروف أسماء لسور القرآن الكريم ، وروي ذلك عن زيد بن أسلم والحسن البصري‏(26).

وذلك أن الأسماء وضعت للتمييز ف (الم) اسم هذه السورة ، و(حم) اسم لتلك ، و(كهيعص) اسم لغيرهما وهكذا. وقد وضعت هذه الحروف أسماء لتلك السور لتمييزها عن سواها.

وقد نص على ذلك سيبويه (ت : 180 هـ) (27).

ونقله الزمخشري (ت : 538 هـ) عن الأكثرين‏ (28) وقال فخر الدين الرازي (ت : 606 هـ) بأنه قول أكثر المتكلمين‏ (29).

وهذا الوجه يؤيده مدرك السيرة الاستقرائية ، ففي متعارف أقوال الناس تسمية هذه السور بهذه الأسماء بحدود معينة ، وإذا أطلقت دلت على مسمياتها إجمالا.

وقد اختار ذلك الشيخ الطوسي‏ (ت : 460 هـ) فقال : «و أحسن الوجوه التي قيلت قول من قال أنها أسماء للسور» (30).

وأيده بهذا الاتجاه أبو علي الطبرسي (ت : 548 هـ) (31) . وإذا كانت هذه الحروف أسماء لسورها ، فلا كبير أمر من بحث وجوه تسميتها ، فهي قضايا توقيفية ، إن صح الفرض ، ثم ألا تلتبس هذه السور في مسمياتها بعضها ببعض لا سيما في المكرر منها ، كما هي الحال في : (حم) و(الر) و(الم) وهكذا ، واللّه العالم.

4- إنها فواتح يفتتح بها القرآن ، وقد روي ذلك عن مجاهد بن جبر المكي ، ومقاتل بن سليمان البلخي‏(32).

وفائدة هذا الاستفتاح على وجهين :

الأول : أن يعلم ابتداء السورة وانقضاء ما قبلها.

الثاني : أنها تنبيهات ، كما هي الحال في أدوات التنبيه والنداء.

وقد اختار الوجه الثاني شمس الدين الخويّيّ (ت 638 هـ) فرأى بأن القول بأنها تنبيهات جيد ، لأن القرآن كلام عزيز ، وفوائده عزيزة ، فينبغي أن يرد على سمع متنبه ... وإنما لم تستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كألا وأما لأنها من الألفاظ التي يتعارفها الناس في كلامهم ، والقرآن‏ كلام لا يشبه الكلام ، فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد ، لتكون أبلغ في قرع سمعه‏ (33).

والتنبيه إنما يكون بأصوات تقبل عليها الناس ، ويصغي لما بعدها السامعون ، إذا المراد صوتية التنبيه ليس غير.

ويميل إلى هذا الرأي كثير من المعاصرين ، ويقطع بعضهم بأن المراد من هذه الحروف- دون شك- هو الافتتاح بها ، كما استفتحت العرب بألا الاستفتاحية وأضرابها (34).

ويجب الالتفات إلا أن ابن عطية قد عدّ القول بأنها تنبيهات مغايرا للقول بأنها فواتح ، والظاهر عند السيوطي أنه بمعناه. (35)

ويعضد القول بأنها فواتح روايتان أوردهما السيد هاشم البحراني في تفسيره ، أسند أحدهما إلى الإمام علي عليه السلام ، والأخرى إلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام‏ (36) وإذا ثبتت هاتان الروايتان فالأخذ بمضمونهما هو أولى الوجوه في استكناه الفوائد المترتبة عليها ، أو المعاني المترددة فيها.

5- إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه ، فأنزل اللّه هذا النظم البديع ليعجبوا منه ، ويكون تعجبهم سببا لاستماعهم ، واستماعهم سببا لاستماع ما بعده ، فترق القلوب وتلين الأفئدة (37).

وهذا القول كان مظنة لإقبال المستمعين على القرآن كما تدل على ذلك وقائع الأحداث عند تلاوة الرسول الأعظم صلى اللّه عليه وآله وسلم لهذه الفواتح على قريش ، وقد ضعّفه ابن كثير القرشي (ت : 774 هـ) (38).

وقد انتصر له من المحدثين الأستاذ محمد جمال الهاشمي وترجمه بمنظور عصري ، وأضاف إليه البعد الرمزي فقال :

«إن القرآن في أسلوبه البياني الفذ أراد أن يجذب الأنظار والأفكار ، فافتتح بعض سورة المباركة بهذه الحروف المقطعة فهي أشبه ما تكون بإشارات المحطات العالمية في الراديو حيث تتخذ كل دولة رمزا خاصا لها يدل على محطة إذاعتها ، ويميز بينها وبين غيرها من المحطات ، وهكذا القرآن كان يتخذ من هذه الحروف رمزا مخصوصا لوحيه يستلفت به الأذهان لتستمع إلى آياته المنزلة بوعي وانتباه ، ولا زالت هذه الهزّة الوجدانية تعتري النابهين من المؤمنين كلما طرقت أسماعهم هذه الحروف الساحرة في تقاطيعها المطربة ، وإنما كان يستعمل هذه الإشارة الحروفية في الحالات الخاصة التي تستدعي الاهتمام ، كما أنه ربما يباري الإنسانية بموضوعه من دون تقدمة وتمهيد حتى بما التزم به من الاستهلال كجملة :

بسم اللّه الرحمن الرحيم ، لأن الموضوع نفسه يستدعي المبادأة والمفاجأة كسورة (براءة) ، فالقرآن إنما يجري في مفاتيح سوره مع الظروف المحيطة بتلك السورة المباركة ، وإن للحروف المقطعة من التأثير ما لا يخفى على السامع والواعي» (39).

6- إن هذه الحروف تدعو العرب وتناديهم إشارة إلى إعجاز القرآن ، فهذا القرآن الذي يتلوه عليكم محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن جنس كلامكم وسنخ حروفكم ، ومما يتكون منه معجمكم ... {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة : 23] قال أبو مسلم ، محمد بن بحر (ت : 370 هـ) :

«إن المراد بذلك بأن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته ، ولم تقدروا على الإتيان بمثله ، هو من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في كلامكم وخطابكم ، فحيث لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من فضل اللّه» (40).

ومما يؤيده ما حكي عن الأخفش (ت : 215 هـ) :

«إن الحروف مباني كتب اللّه المنزلة بالألسنة المختلفة ، وأصول كلام الأمم» (41).

فهي أصل الكلام العربي في هذا الكتاب العربي المبين الذي أعجز الأولين والآخرين من العرب وغير العرب ، على أنه مركب من جنس حروف العرب ، وهذا أدل على الإعجاز باعتباره مشاكلا لكلامهم ، وعلى سنن تراكيبهم ، فعلم بالضرورة أنه كلام اللّه تعالى ، ولا يعني الاعتداد بهذا الملحظ من القول في جملة الفوائد المترتبة عليه ، أن ندع مضامين الأقوال السابقة ، وقيمتها الفنية ، فهي جزء لا يتجزأ من غرر الإفادات القيمة في الموضوع ، على أن القول بالمتشابه هو أسلم الوجوه فيما يخيل إلي ، ولكن هذا لا يعني عدم الكشف عن الأسرار الهامشية ، والنكت الجانبية التي لا تتعلق بالمتشابه من القول ، بل ترجع إليه بالعائدية ، فيبقى المتشابه متشابها ، والمحكم من القرآن محكما ، ولا يمنع هذا وذاك من بيان الحكم المتشابه ، وفضل مزاياه ، فيبدو في ظلاله ، ألق نستنير به ، أو شعاع نهتدي بأضوائه ، فنلمس البعد الصوتي متوافرا في هذه الحروف ، والرصد الإعجازي قائما في هيكلها العام وإن بقي السر ماثلا ، والمعنى الحقيقي محجوبا ، والمراد منها في علم الغيب ، ولكن الحكمة قد تلتمس ، والثمرة قد تقتطف ، وقد أورد ابن كثير (ت : 774 هـ) حاكيا : «إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن ، وإن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله ، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين ، وحكى القرطبي عن الفرّاء وقطرب نحو هذا ، وقرّره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر ، وإليه ذهب ابن تيمية وأبو العجاج المزي» (42).

والذي يظهر مما تقدم أن القول بأن هذه الحروف- في بعض حكمها- إشارات إعجازية ليس من ابتكارنا ، ولا هو أمر نحن ابتدعناه ، وإنما سبق‏ إليه جمع من الأعلام كما رأيت حتى لقد أورده ابن الزملكاني (ت : 651 هـ) واعتبر هذه الحروف كالمهيجة لمن يسمعها من الفصحاء ، والموقظة للهمم الراقدة من البلغاء (43).

ويعضد هذا الرأي أمران :

الأول : أن هذه الحروف الهجائية في فواتح السور القرآنية طالما ورد بعدها ذكر القرآن أو الكتاب معظما مفخما ، يتلوه الدليل على إعجازه ، والحديث عن الانتصار له ، والإشارة إلى تحديه العالم والأمم والشعوب والقبائل ، مما يؤيد حكمة هذه الأصوات لبيان إعجازه وكماله ، وحسن نظمه وتأليفه ، وسر بقائه وخلوده ، كونه نازلا من اللّه ، مستقرا في هذا المصحف الشريف ، دون تصحيف أو تحريف ، أو زيادة أو نقصان ، زيادة في دوامه ، وتعهدا بحفظه وسلامته ، بما أكده اللّه تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9].

الثاني : أن المتتبع لأسباب النزول ، والأحداث التي رافقت قرع الأسماع بهذه الأصوات ، يجد الإيذاء بها قد تقاطر سيله بأشدّ الظروف قسوة على الرسالة الإسلامية ، فكان التحدي قائما على أشدّه بمثل هذه الأصوات المدوّية في الآفاق.

فما كان منها في السور المكية ، وهي الحقبة التي واجهت بها الرسالة عنفا وغطرسة وتكذيبا ، فقد جاءت فيه هذه الحروف ردا مفحما في التحدي الصارخ ، والدليل الناصح على صدق المعجزة.

وما كان منها في السور المدنية ، فقد جاء تحديا لأهل الكتاب فيما نصبوه من عداء للدين الجديد ، وإنذارا للمنافقين فيما كادوا به محمدا والذين معه.

إلا أن الملحظ الصوتي الذي نقف عنده للدلالة على التنبيه على صوتية هذه الحروف ، مع كونها إشارات إعجازية في بعض حكمها ، الملحظ هذا : أنها تنطق كنطقك الأصوات ، ولا تلفظ كلفظك الحروف ، فتقول في قوله تعالى : ص‏ «صاد» صوتا نطقيا ، لا حرفا مرسوما «ص» أو «أص» وكذلك في قوله تعالى : ق‏ فإنك تقول «قاف» لا «ق» ولا «اق» وهكذا في الحروف الثنائية كقوله تعالى : طس‏ وفي الحروف الثلاثية كقوله تعالى : الم‏ وكذلك في الحروف الرباعية كقوله تعالى :

المر وكذلك في الحروف الخماسية كقوله تعالى : {كهيعص } [مريم : 1] فكلها تنطق بأسماء تلك الحروف أصواتا ، لا بأشكالها الهجائية رسوما ، مما يقرب منها البعد الصوتي المتوخى ، بينما كتبت في المصاحف على صورة الحروف لا صورة الأصوات.

وقد علل الزركشي (ت : 794 هـ) المؤشر الأخير بالوقوف عند خط المصحف بأشياء خارجة عن القياسات التي يبنى عليها علم الخط والهجاء «ثم ما عاد ذلك بنكير ولا نقصان لاستقامة اللفظ ، وبقاء الحفظ» (44).

وأشار الشيخ الطوسي‏ (ت : 460 هـ) إلى جزء من صوتية هذه الحروف بملحظ الوقف عندها فقال : «و أجمع النحويون على أن هذه الحروف مبنية على الوقف لا تعرب ، كما بني العدد على الوقف ، ولأجل ذلك جاز أن يجمع بين ساكنين ، كما جاز ذلك في العدد» (45).

هذه لمحات صوتية في خضم دلالات الحروف المقطعة في فواتح السور القرآنية ، وقفنا عند الصوت اللغوي فيها ، وأشرنا إلى البعد الإعجازي من خلالها ، وليس ذلك كل شي‏ء في أبعادها ، فقد تبقى من المتشابه الذي لا يعلمه إلا اللّه ، وخير الناس من قال فيها بكل تواضع : اللّه أعلم ، كما قال ذلك مالك بن بني في حديثه عنها.

«لقد حاول معظم المفسرين أن يصلوا إلى موضوع الآيات المغلقة إلى تفاسير مختلفة مبهمة ، أقل أو أكثر استلهاما للقيمة السحرية التي تخص بها الشعوب البدائية : الكواكب ، والأرقام والحروف ، ولكن أكثر المفسرين تعقلا واعتدالا ، هم أولئك الذين يقولون في حال كهذه بكل تواضع : اللّه أعلم» (46).

وفوق هذا وذاك‏ قول أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام فيما ينسب إليه : «إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي»

وتبقى التأويلات سابحة في تيارات هذه الحروف المتلاطمة ، والتفسير الحق لها عند اللّه تعالى ، ولا يمنع ذلك من كشف سيل الحكم والإشارات والتوجيهات ، والملامح اللغوية بعامة ، أو الصوتية المتخصصة ، أو الإعجازية بخاصة في هذه الحروف فهو ليس تفسيرا لها بملحظ أن التفسير هو الكشف عن مراد اللّه تعالى من قرآنه المجيد ، بقدر ما هو إشعاع من لمحاتها ، وقبس من أضوائها ، يسري على هداه السالكون.

________________________
(1) ظ : للتفصيل ، الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : 1/ 164.

(2) تقدم أنها تسع وعشرون سورة.

(3) الباقلاني ، إعجاز القرآن : 66.

(4) الطوسي ، التبيان في تفسير القرآن : 1/ 48.

(5) ظ : للتفصيل ، الباقلاني ، إعجاز القرآن : 67- 68.

(6) الباقلاني ، إعجاز القرآن : 68- 69.

(7) الزمخشري ، الكشاف : 1/ 101.

(8) الزمخشري ، الكشاف : 1/ 101.

(9) ظ : المصدر نفسه : 1/ 102 وما بعدها.

(10) الزمخشري ، الكشاف : 1/ 103.

(11) الزمخشري ، الكشاف : 1/ 104 وما بعدها.

(12) الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : 1/ 168.

(13) الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : 1/ 168.

(14) المصدر نفسه : 1/ 169.

(15) الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : 1/ 169.

(16) الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : 1/ 170.

(17- 18) ظ : الطوسي ، التبيان في تفسير القرآن : 1/ 48.

(19) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان في تفسير القرآن : 1/ 32.

(20) ظ : الزركشي : البرهان في علوم القرآن : 1/ 173.

(21) مالك بن بني : الظاهرة القرآنية : 312.

(22) السبزواري : مواهب الرحمن في تفسير القرآن : 1/ 62.

(23) ظ : للتوفيق بين هذه الآراء وتفاصيلها كلا من :

الطبري ، جامع البيان : 1/ 50+ الطوسي ، التبيان : 1/ 47+ الطبرسي ، مجمع البيان : 1/ 33+ الزمخشري ، الكشاف : 1/ 76+ الرازي ، مفاتيح الغيب + ابن الزملكاني ، البرهان :

1/ 173+ الزركشي ، البرهان + الطوسي ، الاتقان : 3/ 21.

(24- 25) ظ : الطوسي ، التبيان : 1/ 47.

(26) المصدر نفسه : 1/ 47.

(27) ظ : سيبويه : الكتاب : 2/ 30.

(28) ظ : الزمخشري ، الكشاف : 1/ 83.

(29) ظ : الرازي ، مفاتيح الغيب نقلا عن الزركشي ، البرهان : 1/ 174.

(30) ظ : الطوسي ، التبيان في تفسير القرآن : 1/ 47.

(31) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان في تفسير القرآن : 1/ 33.

(32) ظ : الطوسي ، التبيان في تفسير القرآن : 1/ 47.

(33) السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن : 3/ 27.

(34) عبد الجبار حمد شرارة ، الحروف المقطعة في القرآن الكريم : 58- 68.

(35) ظ : السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن : 3/ 27.

(36) ظ : هاشم البحراني ، البرهان في تفسير القرآن : 1/ 34.

(37) الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : 1/ 175.

(38) ظ : ابن كثير تفسير القرآن العظيم : 1/ 36.

(39) محمد جمال الهاشمي ، من تفسير القرآن الكريم «بحث».

(40) ظ : الطوسي ، التبيان في تفسير القرآن : 1/ 48.

(41) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان في تفسير القرآن : 1/ 33.

(42) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم : 1/ 36.

(43) ابن الزملكاني ، البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن : 57.

(44) الزركشي ، البرهان : 1/ 172.

(45) الطوسي ، التبيان : 1/ 50.

(46) مالك بن بني ، الظاهرة القرآنية : 333. 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .