أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-9-2020
8987
التاريخ: 7-9-2020
2617
التاريخ: 6-9-2020
8794
التاريخ: 6-9-2020
2976
|
قال تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُو مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } [طه: 99 - 112]
قال الله لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} أي: مثل ما قصصنا عليك يا محمد من نبأ موسى وقومه ونقص عليك من أخبار ما قد مضى وتقدم من الأمم والأمور {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} يعني القرآن لأن فيه ذكر كل ما يحتاج إليه من أمور الدين.
ثم أوعد سبحانه على الإعراض عنه وترك الإيمان به فقال {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} أي: حملا ثقيلا من الإثم يشق عليه حمله لما فيه من العقوبة كما يشق حمل الثقيل {خالدين فيه} أي: في عذاب ذلك الوزر وجزائه وهو الخلود في النار {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا } تقديره ساء الحمل حملا والحمل بمعنى المحمول أي بئس الوزر هذا الوزر لهم يوم القيامة قال الكلبي بئس ما حملوا على أنفسهم من المأثم كفرهم بالقرآن {يوم ينفخ في الصور} هو بدل من يوم القيامة وقد سبق معناه {نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} قال ابن عباس يريد بالمجرمين الذين اتخذوا مع الله إلها يحشرون زرق العيون سود الوجوه ومعنى الزرقة الخضرة في سود العيون كعين السنور والمعنى في هذا تشويه الخلق وقيل زرقا عميا ترى زرقا وهي عمي عن الفراء وقيل عطاشا في مظهر عيونهم كالزرقة مثل قوله ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا عن الأزهري {يتخافتون بينهم} أي: يتسارون بينهم فيقول المجرمون بعضهم لبعض {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا } أي: ما لبثتم إلا عشر ليال عن ابن عباس وقتادة يعني من النفخة الأولى إلى الثانية وذلك أنه يكف عنهم العذاب فيما بين النفختين وهو أربعون سنة وقيل ما لبثتم في الدنيا ينسون من شدة هول ذلك اليوم مدة لبثهم في الدنيا وقيل في القبر يذهب عنهم طول لبثهم في قبورهم كأنهم كانوا نياما فانتبهوا وقيل إنهم يقللون لبثهم في الدنيا طول ما هم لابثون فيه من النار عن الحسن.
ثم قال سبحانه {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أي: بما يتسارون بينهم {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي: أصلحهم طريقة وأوفرهم عقلا وأصوبهم رأيا وقيل أكثرهم سدادا عند نفسه {إن لبثتم إلا يوما} أي ما لبثتم إلا يوما في الدنيا وفي القبور إنما قال ذلك لأن اليوم الواحد والعشرة إذا قوبلت بيوم القيامة وما لهم من الأيام في النار كان اليوم الواحد أقرب إليه وهو كقوله لم يلبثوا إلا عشية أوضحاها وقيل إنهم قالوا ذلك بعد انقطاع عذاب القبر عنهم لأن الله يعذبهم ثم يعيدهم عن الجبائي.
ثم قال سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) {ويسئلونك} أي: ويسئلك منكر والبعث عند ذكر القيامة {عن الجبال} ما حالها {فقل} يا محمد {ينفسها ربي نسفا} أي: يجعلها ربي بمنزلة الرمل ثم يرسل عليها الرياح فيذريها كتذرية الطعام من القشور والتراب فلا يبقى على وجه الأرض منها شيء وقيل يصيرها كالهباء وقيل إن رجلا من ثقيف سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كيف تكون الجبال يوم القيامة مع عظمها فقال إن الله يسوقها بأن يجعلها كالرمال ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها {فيذرها} أي: فيدع أماكنها من الأرض إذا نسفها {قاعا} أي: أرضا ملساء وقيل منكشفة عن الجبائي {صَفْصَفًا} أي: أرضا مستوية ليس للجبل فيها أثر وقيل القاع والصفصف بمعنى واحد وهوالمستوي من الأرض الذي لا نبات فيه عن ابن عباس ومجاهد {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} أي: ليس فيها منخفض ولا مرتفع عن عكرمة عن ابن عباس قال الحسن العوج ما انخفض من الأرض والأمت ما ارتفع من الروابي وقيل لا ترى فيها واديا ولا رابية عن مجاهد .
ثم وصف سبحانه القيامة فقال {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} أي: يوم القيامة يتبعون صوت داعي الله الذي ينفخ في الصور وهو إسرافيل (عليه السلام) {لا عوج له} أي: لدعاء الداعي ولا يعدل عن أحد بل يحشرهم جميعا عن أبي مسلم وقيل معناه لا عوج لهم عن دعائه لا يميلون عنه ولا يعدلون عن ندائه أي يتبعونه سراعا ولا يلتفتون يمينا ولا شمالا عن الجبائي {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} أي: خضعت الأصوات بالسكون لعظمة الرحمن عن ابن عباس {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} وهو صوت الأقدام عن ابن عباس وابن زيد أي لا تسمع من صوت أقدامهم إلا صوتا خفيا كما يسمع من وطىء الإبل وقيل الهمس إخفاء الكلام عن مجاهد وقيل: معناه إن الأصوات العالية بالأمر والنهي في الدنيا ينخفض ويذل أصحابها فلا تسمع منهم إلا الهمس.
{ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} أي: لا تنفع ذلك اليوم شفاعة أحد في غيره إلا شفاعة من أذن الله له في أن يشفع ورضي قوله فيها من الأنبياء والأولياء والصالحين والصديقين والشهداء ثم قال سبحانه {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الضمير يرجع إلى الذين يتبعون الداعي أي: يعلم سبحانه جميع أقوالهم وأفعالهم قبل أن خلقهم وبعد أن خلقهم وما كان في حياتهم وبعد مماتهم لا يخفى عليه شيء من أمورهم تقدم أوتأخر عن أبي مسلم وقيل يعلم ما بين أيديهم من أحوال الآخرة وما خلفهم من أحوال الدنيا {ولا يحيطون به علما} أي: ولا يحيطون هم بالله علما أي بمقدوراته ومعلوماته وقيل بكنه عظمته في ذاته وأفعاله وقيل لا يحيطون علما بما بين أيديهم وما خلفهم إلا من أطلعه الله على ذلك عن الجبائي وقيل معناه ولا يدركونه بشيء من الحواس حتى يحيط علمهم به.
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} أي: خضعت وذلت خضوع الأسير في يد من قهره والمراد خضع أرباب الوجوه واستسلموا الحكم للحي الذي لم يمت ولا يموت وإنما أسند الفعل إلى الوجوه لأن أثر الذل يظهر عليها وقيل المراد بالوجوه الرؤساء والقادة والملوك أي يذلون وينسلخون عن ملكهم وعزهم وقد سبق معنى الحي القيوم في مواضع {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} أي: وقد خاب عن ثواب الله من حمل شركا إلى يوم القيامة عن ابن عباس وقيل قد خسر الثواب من جاء يوم القيامة كافرا ظالما {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} أي: ومن يعمل شيئا من الطاعات {وهو مؤمن} عارف بالله تعالى مصدق بما يجب التصديق به وإنما قال ذلك لأنه لا تنفع الطاعة من غير إيمان.
{فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} أي: لهو لا يخاف أن يظلم ويزاد عليه في سيئاته ولا أن يهضم أي ينقص من حسناته عن ابن عباس وقيل لا يخاف أن يؤخذ بذنب لم يعمله ولا أن تبطل حسنة عملها عن الضحاك وقيل لا يخاف ظلما بأن لا يجزي بعمله ولا هضما بالانتقاص من حقه عن ابن زيد ومن قرأ فلا يخف على النهي فمعناه فليأمن ولا يخف الظلم والهضم والنهي عن الخوف أمر بالأمن. وفي هذه الآية دلالة على بطلان التحابط.
_______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج7،ص55-59.
{ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ } . أشار سبحانه بذلك إلى قصة موسى (عليه السيلام) وأخباره ، والخطاب إلى رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، ومن للتبعيض ، والمعنى نقص عليك - يا محمد - بعض انباء الأمم السابقة ، كما سمعت ، وهي عبرة وعظة للناس ، وفي الوقت نفسه تدل على صدقك ونبوتك لأنها من أنباء الغيب { وقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً } أي قرآنا ، وسمي القرآن ذكرا لأن فيه ذكر اللَّه وصفاته ، والأنبياء وأخبارهم ، والآخرة وشؤونها ، والايمان والكفر ، والخير والشر ، والحلال والحرام ، وخلق السماوات والأرض ، إلى غير ذلك .
{ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً }. ضمير عنه يعود إلى القرآن ، وكل من جحد القرآن بالقول والفعل ، أوبالفعل دون القول فقد أعرض عنه ، وحمّل نفسه ما تنوء بثقله ، قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) : ما آمن بالقرآن من استحل محارمه . ويأتي الكلام عن ذلك عند تفسير الآية 124 وما بعدها من هذه السورة .
{ خالِدِينَ فِيهِ } . ضمير فيه يعود إلى الوزر ، والمراد به العذاب بدليل خالدين ، واطلاق الوزر على العذاب من باب اطلاق السبب على المسبب { وساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً } . بئس ما حملوا أنفسهم من الآثام بسبب إعراضهم عن القرآن { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) . هذا كناية عن بعث من في القبور { ونَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً } . وأيضا هو كناية عن خزيهم وسوء حالهم آنذاك . . ومن أطرف ما قرأت في تفسير هذه الآية ما جاء في البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ، قال المؤلف : « الظاهر أن المراد بالزرق زرقة العيون ، والزرقة أبغض ألوان العيون إلى العرب ، لأن الروم أعداؤهم ، وهم زرق العيون » . وهذا المفسر كان قريب العهد من الحروب الصليبية .
{ يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً }. من صفات المجرمين يوم القيامة انهم لشدة ما يعانون من الأهوال يذهلون عن مدة مكثهم في الحياة الدنيا ، ويقول بعضهم لبعض بلسان المقال أوالحال ، وبصوت خافت : ما لبثنا الا عشر ليال أوساعات أولحظات .
وتسأل : حكى سبحانه عن المجرمين في هذه الآية قولهم : لبثنا عشرا ، وفي الآية 19 من سورة الكهف : « قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوبَعْضَ يَوْمٍ » وفي الآية 55 من سورة الروم : « ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ » .
فما هو وجه الجمع بين هذه الآيات ؟ .
وأجاب الرازي بأن بعض المجرمين خطر بباله ان المدة عشرة أيام ، والبعض الآخر انها يوم واحد . . والذي نراه نحن ان كلمة العشر واليوم والساعة ليست حكاية لقول المجرمين بالحرف ، وانما هي كناية عما تخيلوه من قلة المكث ، وقصر الأمد ، وانه تعالى عبّر عن ذلك بالعشر تارة ، وباليوم تارة ، وبالساعة أخرى ، والى هذا يومئ قوله تعالى : « يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً » - 52 الاسراء .
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً }. أمثلهم طريقة هو أفضلهم سيرة ، وأعرفهم بحقائق الأمور ، والمعنى ان هذا الأمثل قال لهم ، وهم يتسارون بينهم ما لبثنا إلا عشرا ، قال : ان الحياة التي كنتم فيها ، وتنافستم على حطامها ما هي في حقيقتها إلا حلم لا يعد بالزمان والأيام . . والحياة الحقة هي هذه التي نحن فيها الآن ، حيث لا أمد لها ولا نهاية .
{ ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً ولا أَمْتاً }. سأل سائل رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) : كيف تكون الجبال يوم القيامة ؟ فقال سبحانه لنبيه الكريم : قل مجيبا عن هذا السؤال : ان اللَّه يقتلعها من أصولها ، ويصيّرها غبارا منتشرا في الفضاء ، ويدع أماكنها من الأرض ملساء ، لا شيء فيها ، ولا ارتفاع ، ولا انخفاض .
{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ } . يومئذ هو يوم القيامة ، وضمير يتبعون يعود إلى الخلائق ، والداعي هوالذي يدعوهم إلى المحشر والحساب والجزاء ، وضمير له يعود إلى الداعي بلحاظ دعوته ، والمعنى ان دعوة الداعي حق ، ومستجابة عند الجميع ، ولا أحد يستطيع التخلف عنها : « يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ » - 8 القمر .
{ وخَشَعَتِ الأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً }. خشعت خضعت وذلت ، والأصوات على حذف مضاف أي أصحاب الأصوات ، لأن الصوت لا يحس ولا يشعر ، والهمس الكلام الخفي ، وهو يدل على الخشوع والخضوع .{ يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ورَضِيَ لَهُ قَوْلاً }. هذا بمعنى قوله تعالى :
« ولا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى » - 28 الأنبياء » . وتكلمنا عن الشفاعة مطولا عند تفسير الآية 48 من سورة البقرة ج 1 ص 97 { يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً }. تقدم نظيره في الآية 255 من سورة البقرة ج 1 ص 394.
{ وعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } . المراد بالوجوه أصحابها ، والمعنى ان الخلائق كلها تنقاد غدا لأمر الحي الذي لا يموت ، والقائم على كل شيء ، ولا يقوم شيء إلا به { وقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } . ان أخسر الناس غدا من ظلم الناس ، واعتدى على كرامتهم وحريتهم ، والرابح عند اللَّه من عمل لخير الناس وصلاحهم لوجه الخير والانسانية { ومَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وهُ ومُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً ولا هَضْماً } .
هذا مثل قوله تعالى : « مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوأُنْثى وهُو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » - 97 النحل . ج 4 ص 550 .
______________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 243-245.
تذييل لقصة موسى بآيات متضمنة للوعيد يذكر فيها من أهوال يوم القيامة لغرض الإنذار.
قوله تعالى:{ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} الظاهر أن الإشارة إلى خصوصية قصة موسى والمراد بما قد سبق الأمور والحوادث الماضية والأمم الخالية أي على هذا النحوقصصنا قصة موسى وعلى شاكلته نقص عليك من أخبار ما قد مضى من الحوادث والأمم.
وقوله:{وقد آتيناك من لدنا ذكرا} المراد به القرآن الكريم أوما يشتمل عليه من المعارف المتنوعة التي يذكر بها الله سبحانه من حقائق وقصص وعبر وأخلاق وشرائع وغير ذلك.
قوله تعالى:{ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا } ضمير{عنه} للذكر والوزر الثقل والإثم والظاهر بقرينة الحمل إرادة المعنى الأول وتنكيره للدلالة على عظم خطره، والمعنى: من أعرض عن الذكر فإنه يحمل يوم القيامة ثقلا عظيم الخطر ومر الأثر، شبه الإثم من حيث قيامه بالإنسان بالثقل الذي يحمله الإنسان وهو شاق عليه فاستعير له اسمه.
قوله تعالى:{ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا } المراد من خلودهم في الوزر خلودهم في جزائه وهو العذاب بنحوالكناية والتعبير في{خالدين} بالجمع باعتبار معنى قوله:{من أعرض عنه} كما أن التعبير في{أعرض} و{فإنه يحمل} باعتبار لفظه، فالآية كقوله:{ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا}: الجن: 23.
ومع الغض عن الجهات اللفظية فقوله:{من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه} من أوضح الآيات دلالة على أن الإنسان إنما يعذب بعمله ويخلد فيه وهوتجسم الأعمال.
وقوله:{وساء لهم يوم القيامة حملا} ساء من أفعال الذم كبئس، والمعنى: وبئس الحمل حملهم يوم القيامة، والحمل بكسر الحاء وفتحها واحد، غير أن ما بالكسر هوالمحمول في الظاهر كالمحمول على الظهر وما بالفتح هوالمحمول في الباطن كالولد في البطن.
قوله تعالى:{ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}{يوم ينفخ} إلخ، بدل من يوم القيامة في الآية السابقة، ونفخ في الصور كناية عن الإحضار والدعوة ولذا أتبعه فيما سيأتي بقوله:{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ }: الآية - 108 من السورة.
والزرق جمع أزرق من الزرقة وهي اللون الخاص، وعن الفراء أن المراد بكونهم زرقا كونهم عميا لأن العين إذا ذهب نورها أزرق ناظرها وهومعنى حسن ويؤيده قوله تعالى:{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا}: الإسراء: 97.
وقيل: المراد زرقة أبدانهم من التعب والعطش، وقيل: زرقة عيونهم لأن أسوأ ألوان العين وأبغضها عند العرب زرقتها، وقيل: المراد به كونهم عطاشا لأن العطش الشديد يغير سواد العين ويريها كالأزرق وهي وجوه غير مرضية.
قوله تعالى:{ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا - إلى قوله - إلا يوما} التخافت تكليم القوم بعضهم بعضا بخفض الصوت وذلك من أهل المحشر لهول المطلع، وقوله:{إن لبثتم إلا عشرا} بيان لكلامهم الذي يتخافتون فيه، ومعنى الجملة على ما يعطيه السياق: يقولون ما لبثتم في الدنيا قبل الحشر إلا عشرة أيام، يستقلون لبثهم فيها بقياسه إلى ما يلوح لهم من حكم الخلود والأبدية.
وقوله:{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا } أي لنا إحاطة علمية بجميع ما يقولون في تقرير لبثهم إذ يقول أمثلهم طريقة أي الأقرب منهم إلى الصدق إن لبثتم في الأرض إلا يوما وإنما كان قائل هذا القول أمثل القوم طريقة وأقربها إلى الصدق لأن اللبث المحدود الأرضي لا مقدار له إذا قيس من اللبث الأبدي الخالد، وعده يوما وهوأقل من العشرة أقرب إلى الواقع من عده عشرة، والقول مع ذلك نسبي غير حقيقي وحقيقة القول فيه ما حكاه سبحانه في قوله:{وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون:} الروم: 56، وسيجيء استيفاء البحث في معنى هذا اللبث في تفسير الآية إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى:{ويسألونك عن الجبال - إلى قوله - ولا أمتا} تدل الآية على أنهم سألوه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حال الجبال يوم القيامة فأجيب عنه بالآيات.
وقوله:{فقل ينسفها ربي نسفا} أي يذرؤها ويثيرها فلا يبقى منها في مستقرها شيء، وقوله:{فيذرها قاعا صفصفا} القاع الأرض المستوية والصفصف الأرض المستوية الملساء، والمعنى فيتركها أرضا مستوية ملساء لا شيء عليها، وكأن الضمير للأرض باعتبار أنها كانت جبالا، وقوله:{لا ترى فيها عوجا ولا أمتا} قيل: العوج ما انخفض من الأرض والأمت ما ارتفع منها، والخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد كل من له أن يرى والمعنى لا يرى راء فيها منخفضا كالأودية ولا مرتفعا كالروابي والتلال.
قوله تعالى:{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا } نفي العوج إن كان متعلقا بالاتباع - بأن يكون{لا عوج له} حالا عن ضمير الجمع وعامله يتبعون - فمعناه أن ليس لهم إذا دعوا إلا الاتباع محضا من غير أي توقف أواستنكاف أوتثبط أومساهلة فيه لأن ذلك كله فرع القدرة والاستطاعة أوتوهم الإنسان ذلك لنفسه وهم يعاينون اليوم أن الملك والقدرة لله سبحانه لا شريك له قال تعالى:{لمن الملك اليوم لله الواحد القهار:} المؤمن: 16، وقال:{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا:} البقرة: 165.
وإن كان متعلقا بالداعي كان معناه أن الداعي لا يدع أحدا إلا دعاه من غير أن يهمل أحدا بسهوأونسيان أومساهلة في الدعوة.
لكن تعقيب الجملة بقوله:{وخشعت الأصوات للرحمن} إلخ يناسب المعنى الأول فإن ارتفاع الأصوات عند الدعوة والإحضار إنما يكون للتمرد والاستكبار عن الطاعة والاتباع.
وقوله:{ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا قال الراغب: الهمس الصوت الخفي وهمس الأقدام أخفى ما يكون من صوتها قال تعالى:{فلا تسمع إلا همسا}. انتهى.
والخطاب في قوله:{لا تسمع} للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد كل سامع يسمع والمعنى وانخفضت الأصوات لاستغراقهم في المذلة والمسكنة لله فلا يسمع السامع إلا صوتا خفيا.
قوله تعالى:{ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } نفي نفع الشفاعة كناية عن أن القضاء بالعدل والحكم الفصل على حسب الوعد والوعيد الإلهيين جار نافذ يومئذ من غير أن يسقط جرم مجرم أويغمض عن معصية عاص لمانع يمنع منه فمعنى نفع الشفاعة تأثيرها.
وقوله:{ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} الاستثناء يدل على أن العناية في الكلام متعلقة بنفي الشفعاء لا بتأثير الشفاعة في المشفوع لهم والمراد الإذن في الكلام للشفاعة كما يبينه قوله بعده:{ورضي له قولا} فإن التكلم يومئذ منوط بإذنه تعالى، قال:{ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ }: هود: 105 وقال:{ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا }: النبأ: 38.
وقد مر القول في معنى الإذن في التكلم في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب.
وأما كون القول مرضيا فمعناه أن لا يخالطه ما يسخط الله من خطإ أوخطيئة قضاء لحق الإطلاق ولا يكون ذلك إلا ممن أخلص الله سريرته من الخطإ في الاعتقاد والخطيئة في العمل وطهر نفسه من رجس الشرك والجهل في الدنيا أومن ألحقه بهم فإن البلاء والابتلاء اليوم مع السرائر قال تعالى:{يوم تبلى السرائر} وللبحث ذيل طويل سيمر بك بعضه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى:{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } إن كان ضمائر الجمع في الآية راجعة إلى{من أذن له} باعتبار معناه كان المراد أن مرضي قولهم لا يخفى على الله فإن علمه محيط بهم وهم لا يحيطون به علما فليس في وسعهم أن يغروه بقول مزوق غير مرضي.
وإن كانت راجعة إلى المجرمين فالآية تصف علمه تعالى بهم في موقف الجزاء وهوما بين أيديهم وقبل أن يحضروا الموقف في الدنيا حيا أوميتا وهوما خلفهم فهم محاطون لعلمه ولا يحيطون به علما فيجزيهم بما فعلوا وقد عنت وجوههم للحي القيوم فلا يستطيعون ردا لحكمه وعند ذلك خيبتهم.
وهذا الاحتمال أنسب لسياق الآيات.
قوله تعالى:{وعنت الوجوه للحي القيوم} العنوة هي الذلة قبال قهر القاهر وهي شأن كل شيء دون الله سبحانه يوم القيامة بظهور السلطنة الإلهية كما قال:{ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ:} المؤمن: 16، فلا يملك شيء شيئا بحقيقة معنى الكلمة وهو الذلة والمسكنة على الإطلاق وإنما نسبت العنوة إلى الوجوه لأنها أول ما تبدووتظهر في الوجوه، ولازم هذه العنوة أن لا يمنع حكمه ولا نفوذه فيهم مانع ولا يحول بينه وبين ما أراد بهم حائل.
واختير من أسمائه الحي القيوم لأن مورد الكلام الأموات أحيوا ثانيا وقد تقطعت عنهم الأسباب اليوم والمناسب لهذا الظرف من صفاته حياته المطلقة وقيامه بكل أمر.
قوله تعالى:{ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } بيان لجزائهم أما قوله:{وقد خاب من حمل ظلما} فالمراد بهم المجرمون غير المؤمنين فلهم الخيبة بسوء الجزاء لا كل من حمل ظلما ما أي ظلم كان من مؤمن أوكافر فإن المؤمن لا يخيب يومئذ بالشفاعة.
ولوكان المراد العموم وأن كل من حمل ظلما ما فهو خائب فالمراد بالخيبة الخيبة من السعادة التي يضادها ذلك الظلم دون الخيبة من السعادة مطلقا.
وأما قوله:{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إلخ فهوبيان استطرادي لحال المؤمنين الصلحاء جيء به لاستيفاء الأقسام وتتميم القول في الفريقين الصلحاء والمجرمين، وقد قيد العمل الصالح بالإيمان لأن الكفر يحبط العمل الصالح بمقتضى آيات الحبط، والهضم هوالنقص، ومعنى الآية ظاهر.
وقد تم باختتام هذه الآية بيان إجمال ما يجري عليهم يوم الجزاء من حين يبعثون إلى أن يجزوا بأعمالهم فقد ذكر إحضارهم بقوله:{يوم ينفخ في الصور} أولا ثم حشرهم وقرب ذلك منهم حتى أنه يرى أمثلهم طريقة أنهم لبثوا في الأرض يوما واحدا بقوله:{يتخافتون بينهم} إلخ ثانيا.
ثم تسطيح الأرض لاجتماعهم عليها بقوله:{ويسألونك عن الجبال} إلخ، ثالثا.
ثم طاعتهم واتباعهم الداعي للحضور بقوله:{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ} إلخ، رابعا. ثم عدم تأثير الشفاعة لإسقاط الجزاء بقوله:{ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} إلخ خامسا. ثم إحاطة علمهم بحالهم من غير عكس وهي مقدمة للحساب والجزاء بقوله:{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} إلخ سادسا.
ثم سلطانه عليهم وذلتهم عنده ونفوذ حكمه فيهم بقوله:{ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } سابعا. ثم الجزاء بقوله:{وقد خاب} إلخ ثامنا، وبهذا يظهر وجه ترتب الآيات وذكر ما ذكر فيها.
______________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص169-173.
أسوأ ما يحملون على عاتقهم!
مع أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث حول تاريخ موسى وبني إسرائيل والفراعنة والسامري المليء بالحوادث، وقد بيّنت في طيّاتها بحوثاً مختلفة، فإنّ القرآن الكريم بعد الإنتهاء منها يستخلص نتيجة عامّة فيقول: { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ}. ثمّ يضيف { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} قرآناً مليئاً بالدروس والعبر، والأدلّة العقليّة، وأخبار الماضين وما ينبّه المقبلين ويحذّرهم.
إنّ قسماً مهمّاً من القرآن المجيد يبيّن تاريخ وقصص الماضين، وذكر كلّ هذه الوقائع التاريخيّة التي جرت على السابقين في القرآن الذي هو كتاب يهتمّ بتربية الإنسان ليس أمراً إعتباطيّاً عبثيّاً، بل الغاية منه الإستفادة من الأبعاد المختلفة في تأريخ هؤلاء، عوامل الإنتصار والهزيمة، والسعادة والشقاء، والإستفادة من التجارب الكثيرة المخفية في طيّات تاريخ اُولئك السابقين.
وبصورة عامّة، فإنّ من أكثر العلوم إطمئناناً وواقعيّة هي العلوم التجريبيّة التي تخضع للتجارب في المختبر، وتظهر نتائجها الدقيقة. والتأريخ مختبر كبير لحياة البشر، وفي هذا المختبر سرّ شموخ الاُمم وسقوطها، نجاحها وفشلها، سعادتها وتعاستها، فكلّها وضعت تحت التجربة وظهرت نتائجها أمام أعيننا، ونحن نستطيع بالإستفادة من تلك التجارب أن نتعلّم قسماً من معارفنا الأكثر إطمئناناً في مجال اُمور حياتنا.
وبتعبير آخر، فإنّ حاصل حياة الإنسان ـ من جهة ـ هو التجربة، ولا شيء غيرها، والتاريخ ـ إذا كان خالياً من كلّ أشكال التحريف ـ هو حاصل حياة آلاف السنين من عمر البشر جمعت في مكان واحد في متناول الباحثين والدارسين. ولهذا السبب يؤكّد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في مواعظه الحكيمة لولده الإمام الحسن (عليه السلام) على هذه النقطة بالذات، فيقول:
«أي بني، إنّي وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتّى عدت كأحدهم، بل كأنّي بما أنتهي إليه من اُمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله»(2).
بناءً على هذا، فإنّ التاريخ مرآة يعكس الماضي، وحلقة تربط الحاضر بالماضي، ويوسّع ويطيل من عمر الإنسان بمقداره.
التأريخ معلّم يحكي لنا عن سرّ ورمز عزّة الاُمم وسقوطها، فيحذر الظالمين، ويجسّد المصير المشؤوم للظالمين السابقين الذين كانوا أشدّ منهم قوّة، ويبشّر رجال الحقّ ويدعوهم للإستقامة والثبات، ويحمسهم ويحفزّهم على المضي في مسيرهم.
التأريخ هو المشعل الذي يضيء مسير حياة البشر، ويفتح الطرق ويعبّدها لحركة الجيل الحاضر.
التأريخ مربّي الجيل الحاضر، وهم سيصنعون تأريخ الغدّ.
والخلاصة، فإنّ التأريخ أحد أسباب الهداية الإلهية.
ولكن ينبغي الإنتباه جيداً، فبمقدار ما يكون التأريخ الصحيح بنّاءً ملهماً مربّياً نجد أنّ التواريخ المزيّفة مدعاة للضلال والإنحراف، ومن هذا المنطلق فإنّ مرضى القلوب سعوا دائماً إلى تضليل البشر وصدّهم عن سبيل الله، بتحريف التأريخ، وينبغي أن لا ننسى أنّ التحريف في التأريخ كثير(3).
ويلزم بيان هذه الملاحظة أيضاً، وهي أنّ كلمة (ذكر) هنا، وفي آيات كثيرة أُخرى من آيات القرآن الكريم تشير إلى القرآن نفسه، لأنّ آياته سبب لتذكّر وتذكير البشر، والوعي والحذر.
ولهذا السبب فإنّ الآية التالية تتحدّث عن الذين ينسون حقائق القرآن ودروس التأريخ وعبره، فتقول: { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا}.
نعم .. إنّ الإعراض عن الله سبحانه يجرّ الإنسان إلى مثل هذه المتاهات التي تحمله أعباءاً ثقيلة من أنواع الذنوب والإنحرافات الفكريّة والعقائدية وكلمة (وزر) عادةً تعني بحدّ ذاتها الحمل الثقيل، وذكرها نكرة يؤكّد تأكيداً أكبر على هذه المسألة.
ثمّ تضيف: { خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} والملفت للنظر هنا أنّ ضمير (فيه) في هذه الآية يعود إلى (الوزر) أي أنّ هؤلاء سيبقون دائماً في وزرهم ومسؤوليتهم وحملهم الثقيل (ولا دليل لدينا كي نقدّر شيئاً هنا ونقول: إنّ هؤلاء سيخلدون في العذاب أو في الجحيم) وهذا بنفسه إشارة إلى مسألة تجسّم الأعمال، وإنّ الإنسان يرى الجزاء الحسن أو العقاب في القيامة طبقاً لتلك الأعمال التي قام بها في هذه الدنيا.
ثمّ تتطرّق الآيات إلى وصف يوم القيامة وبدايته، فتقول: { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} وكما أشرنا سابقاً، فإنّه يستفاد من آيات القرآن أنّ نهاية هذا العالم وبداية العالم الآخر ستتمّان بحركتين عنيفتين فجائيّتين، وعبّر عن كلّ منهما بـ(نفخة الصور)، وسنبيّن ذلك في سورة الزمر ذيل الآية 68 إن شاء الله تعالى.
لفظة «زُرق» جمع «أزرق» تأتي عادةً بمعنى زرقة العين، إلاّ أنّها تطلق أحياناً على القاتم جسده بسبب الشدّه والألم، فإنّ البدن عند تحمّل الألم والتعب والعذاب يضعف، ويفقد طراوته، فيبدو قاتماً وكأنّه أزرق.
وفسّر بعضهم هذه الكلمة بمعنى «العمى»، لأنّ الأشخاص زرق العيون يعانون ويبتلون عادةً بضعف شديد في البصر، وذلك يقترن عادةً بكون كلّ شعر بدنهم أبيضاً. إلاّ أنّ ما ذكرناه آنفاً من تفسير ربّما كان هو الأنسب.
في هذه الحال يتحدّث المجرمون فيما بينهم بإخفات حول مقدار مكوثهم وبقائهم في عالم البرزخ، فبعضهم يقول: لم تلبثوا إلاّ عشر ليال، أو عشرة أيّام بلياليها: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}(4).
لا شكّ أنّ مدّة توقّف هؤلاء كانت طويلة، إلاّ أنّها تبدو قصيرة جدّاً في مقابل عمر القيامة. وإنّ تخافتهم هذا بالكلام إمّا هو للرعب والخوف الشديد الذي ينتابهم عند مشاهدة أهوال القيامة، أو أنّه نتيجة شدّة ضعفهم وعجزهم.
وإحتمل بعض المفسّرين أن تكون هذه الجملة إشارة إلى مكثهم في الدنيا، والذي يعدّ أيّاماً قلائل بالنسبة للآخرة وحوادثها المخيفة.
ثمّ يضيف: { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} سواء تكلّموا بهمس أم بصراخ، وبصوت خفي أم عال { إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}.
ومن المسلّم به أنّه: لا العشر مدّةً طويلة، ولا اليوم كذلك، إلاّ أنّ هناك تفاوتاً بينهما، وهو أنّ اليوم الواحد إشارة إلى أقل أعداد الآحاد، والعشرة إشارة إلى أقلّ أعداد العشرات، ولذلك فإنّ الأوّل يشير إلى مدّة أقل، ولذلك عبّر القرآن عمّن قال به بـ(أمثلهم طريقة) لأنّ قصر عمر الدنيا أو البرزخ في مقابل عمر الآخرة، وكذلك كون كيفيتهما وحالهما لا شيء أمام كيفيّة وحال الآخرة، ويكون أنسب مع أقل الأعداد. (فلاحظوا بدقّة).
مشهد القيامة المهول:
تتابع هذه الآيات الكلام في الآيات السابقة عن الحوادث المرتبطة بإنتهاء الدنيا وبداية القيامة.
ويظهر من الآية الأُولى أنّ الناس كانوا قد سألوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مصير الجبال عند إنتهاء الدنيا، وربّما كان ذلك لأنّهم لم يكونوا يصدّقون إمكانية تصدّع وزوال هذه الجبال العظيمة التي إمتدّت جذورها في أعماق الأرض وشمخت رؤوسها إلى السّماء، وإذا كان بالإمكان قلعها من مكانها فأي هواء أو طوفان له مثل هذه القدرة؟ ولذلك يقول: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} والجواب: { فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}(5).
يستفاد من مجموع آيات القرآن حول مصير الجبال أنّها تمرّ عند حلول القيامة بمراحل مختلفة:
فهي ترجف وتهتزّ أوّلا: { يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ }( سورة المزمل، 14).
ثمّ تتحرّك: { وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا }( سورة الطور، 10).
وفي المرحلة الثّالثة تتلاشى وتتحوّل إلى كثبان من الرمل: { وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا}( سورة المزمل، 14)
وفي المرحلة الأخيرة سيزحزحها الهواء والطوفان من مكانها ويبعثرها في الهواء وتبدو كالصوف المنفوش: { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ }( سورة القارعة، 5)
ثمّ تقول الآية: إنّ الله سبحانه بعد تلاشي الجبال وتطاير ذرّاتها يأتي أمره إلى الأرض فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (6) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا }(7) وفي ذلك الحين يدعو الداعي الإلهي جميع البشر إلى الحياة والإجتماع في المحشر للحساب فيلبّي الجميع دعوته ويتّبعونه {يوم يتّبعون الداعي لا عوج له}.
هل إنّ هذا الداعي (إسرافيل) أم ملك آخر من ملائكة الله المقرّبين؟ القرآن لم يشخّص ويحدّد ذلك بدقة، وكائناً من كان فإنّ أمره نافذ لا يقدر أي أحد على التخلّف عنه.
وجملة «لا عوج» أيمكن أن تكون وصفاً لدعوة هذا الداعي، أو وصفاً لاتّباع المدعوين، أو لكليهما. وممّا يلفت النظر أنّه كما أنّ سطح الأرض يصبح صافياً ومستوياً بحيث لا يبقى فيه أي إعوجاج، فإنّ أمر الله والداعي أيضاً كلّ منهما صاف ومستقيم جلي، واتّباعه واضح لا سبيل لأي إنحراف وإعوجاج إليه.
عند ذلك: { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}(8). إنّ هدوء الأصوات أو خشوعها هذا إمّا هو لهيمنة العظمة الإلهيّة على عرصة المحشر حيث يخضع لها الجميع، أو خوفاً من الحساب ونتيجة الأعمال، أو لكليهما.
وبما أنّ بعض الغارقين في الذنوب والمعاصي قد يحتمل أن تنالهم شفاعة الشافعين وتنجيهم، فإنّه يضيف مباشرةً: { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} وهذا إشارة إلى أنّ الشفاعة هناك ليست إعتباطية وعشوائية، بل إنّ هناك تخطيطاً دقيقاً لها، سواء ما يتعلّق بالشافعين أو المشفوع لهم، وما دام الأفراد لا يملكون الأهلية والإستحقاق للشفاعة، فلا معنى حينئذ لها.
والحقيقة هي أنّ جماعة ينظرون إلى الشفاعة بمنظار خاطىء، فهم يتصورون أنّها لا تختلف عن أساليب الدنيا ومراوغاتها، في حين أنّ الشفاعة في منطق الإسلام مرحلة تربوية متقدّمة، وعامل مساعد لهؤلاء الذين يطوون طريق الحقّ بجدّ وسعي إلاّ أنّهم يبتلون أحياناً بالنقائص والزلاّت، ولعلّ من الممكن أن يعلو غبار اليأس والقنوط قلوبهم نتيجة هذه الزلاّت والهفوات، هنا تأتي إليهم الشفاعة كقوّة محرّكة وتقول: لا تيأسوا، واستمروا في طريقكم، ولا تكفوا أيديكم عن السعي والإجتهاد في هذا المسير، وإذا ما بدر منكم زلل وهفوات فإنّ هناك شفعاء سيشفعون لكم عند الله الرحمن الذي وسعت رحمته كلّ شيء فيأذن لهم بالشفاعة.
إنّ الشفاعة ليست دعوة للتقاعس، أو الفرار من تحمّل المسؤولية، أو أنّها ضوء أخضر لإرتكاب المعاصي، بل هي دعوة إلى الإستقامة في طريق الحقّ، وإجتناب الذنوب قدر الإمكان.
ومع أنّنا قد أوردنا بحث الشفاعة بصورة مفصّلة في ذيل الآية (47 ـ 48) من سورة البقرة، وفي ذيل الآية (255) من سورة البقرة، لكن لا بأس من أن نضيف هنا قصّة جميلة:
فقد روى العالم الربّاني المرحوم «ياسري» ـ أحد علماء طهران المحترمين ـ أنّ شاعراً يسمّى «حاجباً» كان قد اُبتلي بأفكار العوام في مسألة الشفاعة، فنظّم شعراً قال فيه:
ياحاجب إن كانت معاملتك مع علي في المحشر، فأنا ضامن لك النجاة واعمل ما شئت من الذنوب.
فرأى أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) في المنام، وكان مغضباً، وقال له: لم تحسن قول الشعر، فقال: فماذا أقول؟ فقال: أصلح شعرك وقل: ياحاجب: إن كانت معاملتك مع علي في المحشر فاستح منه وقلّل من ذنوبك ومعاصيك.
ولمّا كان حضور الناس في عرصات القيامة للحساب والجزاء لابدّ معه من علم الله سبحانه بأعمالهم وسلوكهم ومعاملاتهم، فإنّ الآية التالية تضيف: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}(9) فهو يعلم ما قدّم المجرمون وما فعلوه في الدنيا، وهو مطّلع على كلّ أفعالهم وأقوالهم ونيّاتهم في الماضي وما سيلاقونه من الجزء في المستقبل، إلاّ أنّهم لا يحيطون بعلم الله. وبهذا فإنّ إحاطة علم الله سبحانه تشمل العلم بأعمال هؤلاء وبجزائهم، وهذان الركنان في الحقيقة هما دعامة القضاء التامّ العادل، وهو أن يكون القاضي عالماً ومطّلعاً تماماً على الحوادث التي وقعت، وكذلك يعلم بحكمها وجزائها.
في ذلك اليوم: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}.
«العنت» من مادة العنوة، وقد وردت بمعنى الخضوع والذلّة، ولذلك يقال للأسير: «عاني»، لأنّه خاضع وذليل في يد الآسر. وإذا رأينا الخضوع قد نسب إلى الوجوه هنا، فلأنّ كلّ الإحساسات النفسية، ومن جملتها الخضوع، تظهر آثارها أوّلا على وجه الإنسان.
وإحتمل بعض المفسّرين أنّ الوجوه هنا تعني الرؤساء والزعماء وأولياء الاُمور الذين يقفون في ذلك اليوم أذلاّء خاضعين لله. إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أقرب وأنسب.
إنّ إنتخاب صفتي «الحي والقيّوم» هنا من بين صفات الله سبحانه، لأنّهما يناسبان النشور أو الحياة وقيام الناس جميعاً من قبورهم «يوم القيامة».
وتختتم الآية بالقول: { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} فالظلم والجور كالحمل العظيم الذي يثقل كاهل الإنسان، ويمنعه من السير والرقي إلى نعم الله الخالدة، وإنّ الظالمين ـ سواء منهم من ظلم نفسه أو ظلم الآخرين ـ لما يرون بأعينهم في ذلك اليوم خفيفي الأحمال يهرعون إلى الجنّة، وهم قد جثوا حول جهنّم ينظرون إلى أهل الجنّة يتملّكهم اليأس والخيبة والحسرة.
ولمّا كانت طريقة القرآن غالباً هي بيان تطبيقي للمسائل، فإنّه بعد أن بيّن مصير الظالمين في ذلك اليوم، تطرّق إلى بيان حال المؤمنين فقال: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}(10).
التعبير بـ(من الصالحات) إشارة إلى أنّهم إن لم يستطيعوا أن يعملوا كلّ الصالحات فليقوموا ببعضها، لأنّ الإيمان بدون العمل الصالح كالشجرة بلا ثمرة، كما أنّ العمل الصالح بدون إيمان كالشجرة من دون جذر، إذ قد تبقى عدّة أيّام لكنّها تجفّ آخر الأمر، ولذلك ورد قيد (وهو مؤمن) بعد ذكر العمل الصالح في الآية.
قاعدة: لا يمكن أن يوجد العمل الصالح بدون إيمان، ولو قام بعض الأفراد غير المؤمنين ـ أحياناً ـ بأعمال صالحة، فلا شكّ أنّها ستكون ضئيلة ومحدودة وإستثنائية، وبتعبير آخر: فإنّ العمل الصالح من أجل أن يستمر ويتأصّل ويتعمّق يجب أن يروى من عقيدة سالمة وإعتقاد صحيح.
______________
1- تفسير الامثل ،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص191-199.
2ـ نهج البلاغة. الرسالة 31. قسم الرسائل.
3ـ لقد بحثنا في مجال التاريخ وأهميته في بداية سورة يوسف ونهايتها وكذلك في ذيل الآية (120) من سورة هود.
4ـ العدد في لغة العرب من 3 إلى 10 يخالف المعدود في الجنس، فإذا كان العدد مذكّراً كان المعدود مؤنثاً، فإن (عشراً) لما جاءت هنا بصيغة المذكّر، فإنّ المضاف إليه هو (ليال) والذي يجب أن يكون مؤنثاً حتماً، أمّا لو كان المضاف إليه (أيّام) فكان يجب أن يقال: عشرة. إلاّ أنّ بعض أُدباء العرب نقل بأنّ العدد إذا ذكر مطلقاً وحذف تمييزه فلا تجري القاعدة السابقة، وبناءً على هذا فإنّ (عشراً) هنا إشارة إلى عشرة أيّام.
5ـ «نسف» في اللغة تعني وضع الحبوب الغذائية في الغربال وغربلتها، أو ذرها في الهواء لينفصل الحبّ عن القشر، وهنا إشارة إلى تلاشي الجبال وتهشّمها، ثمّ تناثرها في الهواء.
6 ـ «القاع»: الأرض المستوية، وفسّره البعض بأنّه المكان الذي يجتمع فيه الماء. وأمّا «الصفصف» فقد فسّرت أحياناً بأنّها الأرض الخالية من كلّ أنواع النباتات، وأحياناً بمعنى الأرض المستوية. ويستفاد من مجموع هذين الوصفين أنّ كلّ الجبال والنباتات ستمحى من على وجه الأرض في ذلك اليوم وستبقى الأرض مستوية خالية.
7 ـ «العوج» بمعنى الإعوجاج، و «الأمت» أي الأرض المرتفعة والربية، وبناءً على هذا فإنّ معنى الآية هو أنّه لا يرى في ذلك اليوم أي إرتفاع وإنخفاض على وجه الأرض.
8ـ «الهمس» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ يعني الصوت الخفي والمنخفض. وفسّره بعضهم بأنّه الصوت الخفي للقدم الحافية، والبعض بحركة الشفاه من دون أن يسمع معها صوت، ولا يوجد تفاوت كبير بين هذه المعاني.
9ـ احتمل بعض المفسّرين أنّ ضمائر الجمع في الجملة الأُولى تعود إلى الشافعين. وإحتمل البعض أيضاً أنّ الضمير في (به) يعود إلى أعمال المجرمين ونتائجها، ولكن ما ذكرناه أعلاه هو الأصحّ كما يبدو. دقّقوا ذلك.
10-ـ «الهضم» في اللغة بمعنى النقص، وإذا قيل لجذب الغذاء إلى البدن: هضم، فلأنّ الغذاء يقلّ ظاهراً وتبقى فضلاته.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|