أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-9-2020
3839
التاريخ: 3-9-2020
4964
التاريخ: 2-9-2020
13116
التاريخ: 3-9-2020
28766
|
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُو شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا } [مريم: 73 - 76]
قال سبحانه { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } ومعناه: وإذا يتلى على الكافرين آياتنا المنزلة في القرآن ظاهرات الحجج والأدلة يمكن تفهم معانيها { قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا} أي: قال الذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا أنبياءه للذين صدقوا بذلك مستفهمين لهم وغرضهم الإنكار أي الفريقين أي أ نحن أم أنتم خير منزلا ومسكنا أي موضع إقامة {وأحسن نديا} أي: مجلسا وإنما تفاخروا بالمال وزينة الدنيا ولم يتفكروا في العاقبة ولبسوا على الضعفة بأن من كان ذا مال في الدنيا فكذلك يكون في الآخرة.
ثم نبههم سبحانه على فساد هذا الاعتقاد بأن قال:
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} قال ابن عباس : الأثاث المتاع وزينة الدنيا والرئي المنظر والهيأة والمعنى أن الله تعالى قد أهلك قبلهم أمما وجماعات كانوا أكثر أموالا وأحسن منظرا منهم فأهلك أموالهم وأفسد عليهم صورهم ولم تغن عنهم أموالهم ولا جمالهم كذلك لا يغني عن هؤلاء وقيل إن المعني بالآية النضر بن الحارث وذووه وكانوا يرجلون شعورهم ويلبسون خز ثيابهم ويفتخرون بشارتهم وهيأتهم على أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ثم قال سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) {قل} يا محمد {من كان في الضلالة} عن الحق والعدول عن اتباعه { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} هذا لفظ أمر معناه الخبر وتأويله أن الله سبحانه جعل جزاء ضلالته أن يمد له بأن يتركه فيها كما قال { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} إلا أن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر فكأن المتكلم يقول أفعل ذلك وأمر نفسي به فالمعنى فليعش ما شاء وأضاف ذلك إلى نفسه لأنه سبحانه يبقيه في الدنيا أي فليعش ما شاء الله من السنين والأعوام فإنه لا ينفعه طول عمره { حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ} أي: عذاب الاستئصال عن الأصم وقيل عذاب وقت البأس وقيل عذاب القبر وقيل عذاب السيف {وإما الساعة} أي: القيامة وعذاب النار {فسيعلمون} حين يرون العذاب {من هو شر مكانا} أي: أهم أم المؤمنون لأن مكانهم جهنم ومكان المؤمنين الجنة {وأضعف جندا} أي: ويعلمون أجندهم أضعف أم جند النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمين وهذا رد لقولهم { أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} .
ثم بين سبحانه حال المؤمن فقال سبحانه { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} قيل معناه ويزيد الله الذين اهتدوا بالمنسوخ هدى بالناسخ عن مقاتل وقيل يزيدهم هدى بالمعونة على طاعاته والتوفيق لابتغاء مرضاته وهو ما يفتحه لهم من الدلالات وما يفعله بهم من الألطاف المقربة من الحسنات { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} قد مر تفسيره في سورة الكهف وجملته أن الأعمال الصالحة التي تبقى ببقاء ثوابها وتنفع صاحبها في الدنيا والآخرة خير ثوابا من مقامات الكفارات التي يفتخرون بها كل الافتخار {وخير مردا} أي: خير عاقبة ومنفعة يقال هذا الشيء أرد عليك أي: أنفع وأعود عليك لأن العمل الصالح ذاهب عنه بفقده له فيرده الله تعالى عليه برد ثوابه إليه حتى يجده في نفسه.
____________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص443-447.
{ وإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وأَحْسَنُ نَدِيًّا } . ضمير عليهم يعود إلى مشركي قريش ، وآيات اللَّه البينات دلائله الواضحة ، والفريقان هما المؤمنون والمشركون ، والمعنى ان النبي والصحابة يحتجون على المشركين بمنطق العقل والفطرة ، والمشركون يجابهون هذا المنطق بمنطق المعدة وفلسفتها ويقولون : نحن أطيب وأوسع عيشا وافرة مسكنا ، وأحسن أثاثا .
فلسفة المعدة :
كان ابيقور من فلاسفة اليونان المعاصرين لتلامذة أرسطو ، وله مذهب انفرد به عمن عاصره وتقدم عليه ، ويتلخص بأن اللذة هي الخير الأسمى ، والألم هو الشر الأقصى ، وان الفضيلة تستمد قيمتها من اللذات المعنوية كالصداقة وحياة الهدوء والراحة ، ومن اللذات الحسية كالطعام والشراب . . وفي ضوء هذه الفلسفة قال : على الإنسان أن لا يندفع وراء أهوائه ورغباته من أجل لذة قصيرة الأمد يعقبها ألم طويل الأمد . . وبكلمة ان الخير كل الخير عند ابيقور يقوم في اللذة الدنيوية - هو لا يؤمن بالبعث - سواء أتمثلت اللذة في المعدة ، أو في غيرها ، وإذا اقترنت اللذة بالألم فالعبرة بالأكثر ، فما كان أكثر لذة فهو خير ، وما كان أكثر ألما فهو شر .
وهناك فلسفة قديمة تتفق مع ابيقور في أن كل الخير في اللذة الدنيوية ، ولكنها تختلف معه في التحديد ، فهو يقول : ان الخير في اللذة المعنوية والحسية معا ، وهي تقول : ان الخير في لذة المعدة ، وما إليها من المظاهر الحسية . . ومن أهل هذه الفلسفة فرعون ومشركو قريش . . فقد أنكر فرعون نبوة موسى ( عليه السلام ) ، وبرر إنكاره بقوله : « أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ولا يَكادُ يُبِينُ فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ » - 53 الزخرف . وقال أيضا : أنا ربكم الأعلى . .
ولما ذا ؟ فأجاب : « أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذِهِ الأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ » ؟
وأنكرت قريش نبوة محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، واحتجت بقولها : « لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ » - 12 هود . وكما قال فرعون : أليس لي ملك مصر ؟ وقالت قريش :
نحن أكثر مالا ، وأعز نفرا . . ولا تختص فلسفة المعدة هذه بفرعون ومشركي قريش ، ولا بالمترفين وأهل الثراء فكل من احترم شخصا وقدره لماله فهو من الذين آمنوا بفلسفة المعدة وحشوها ، ودانوا بأن الخير كل الخير فيها وفي امتلائها .
ولقد قرأت فيما قرأت كلمة لعميل مأجور قال فيها : ان الذين يلومون الولايات المتحدة على قواعدها الحربية ، وعلى ضربها قوى التحرر في كل مكان ، وعلى سلبها مقدرات الشعوب المستضعفة ، ان هؤلاء اللائمين ينسون أو يتناسون ان الولايات المتحدة أقوى علما ، وأكثر مالا من كل الشعوب ، ومن كان الأعلى علما ومالا يجب ان يطغى ويستبد . . وكنت أحسب ان فلسفة المعدة قد ولت مع عصر الظلمات حتى قرأت كلمة هذا الدخيل فأدركت ان لهذه الفلسفة جذورا عميقة في نفوس الأدعياء والعملاء .
{ وكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً ورِءْياً } . تقدم نظيره في الآية 6 من سورة الأنعام ج 3 ص 162 { قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وأَضْعَفُ جُنْداً }. أمر اللَّه نبيه الكريم ان يقول للذين يرون الخير في حشو المعدة : ان هذا الذي تفتخرون به من السعة في العيش هو ابتلاء يمتحن اللَّه به عباده ، ويمهلهم أمدا غير قصير ، فان شكروا أنعم اللَّه عليهم بالثواب وحسن المآب ، وان ازدادوا كفرا وطغيانا سلط عليهم من يسومهم سوء العذاب في الحياة الدنيا ، أو يعذبهم اللَّه العذاب الأكبر في اليوم الآخر . . وعندها يعلمون أي الفريقين أسوأ حالا : المؤمنين الفقراء ، أو الكافرين الأغنياء ؟ ولو أن إنسانا ملك كل ما طلعت عليه الشمس لم يكن هذا الملك شيئا مذكورا بالقياس إلى أدنى عذاب من حريق جهنم . . قال علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « ما خير بخير بعده النار ، وما شر بشر بعده الجنة ، وكل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية » .
{ ويَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً }. وذلك بأن يعرفهم بحقيقة أنفسهم ، وبمواقع الخطأ والصواب . . وهذه هي الهداية والنعمة الكبرى { والْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وخَيْرٌ مَرَدًّا }. والمرد هو المرجع والعاقبة ، والباقيات الصالحات العلم والعمل النافع ، وهما خير من المال والجاه لأنهما دائما باقيان لا ينقطع نفعهما وثوابهما ، أما الجاه والمال فإلى هلاك وزوال .
___________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 194-196.
هذا هو الفصل الثاني من كلماتهم المنقولة عنهم، و هو ردهم الدعوة النبوية بأنها لا تنفع في حسن حال المؤمنين بها شيئا و لو كانت حقة لجلبت إليهم زهرة الحياة الدنيا التي فيها سعادة العيش من أبنية رفيعة و أمتعة نفيسة وجمال وزينة، فالذي هم عليه من الكفر وقد جلب لهم خير الدنيا خير مما عليه المؤمنون وقد غشيهم رثاثة الحال وفقد المال وعسرة العيش، فكفرهم هو الحق الذي ينبغي أن يؤثر دون الإيمان الذي عليه المؤمنون وقد أجاب الله عن قولهم بقوله:{وكم أهلكنا} إلخ، وقوله:{قل من كان في الضلالة} إلخ، ثم عقب ذلك ببيان حال بعض من اغتر بقولهم.
قوله تعالى:{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا } إلى آخر الآية، المقام اسم مكان من القيام فهو المسكن، والندي هو المجلس وقيل خصوص مجلس المشاورة، ومعنى{ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} أنهم خاطبوهم فاللام للتبليغ كما قيل، وقيل: تفيد معنى التعليل أي قالوا لأجل الذين آمنوا أي لأجل إغوائهم وصرفهم عن الإيمان، والأول أنسب للسياق كما أن الأنسب للسياق أن يكون ضمير عليهم راجعا إلى الناس أعم من الكفار والمؤمنين دون الكفار فقط حتى يكون قوله:{قال الذين كفروا} من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر.
وقوله:{ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} أي للاستفهام والفريقان هما الكفار والمؤمنون، وكان مرادهم أن الكفار هم خير مقاما وأحسن نديا من المؤمنين الذين كان الغالب عليهم العبيد والفقراء لكنهم أوردوه في صورة السؤال وكنوا عن الفريقين لدعوى أن المؤمنين عالمون بذلك يجيبون بذلك لو سئلوا من غير تردد وارتياب.
والمعنى: وإذا تتلى على الناس - وهم الفريقان الكفار والمؤمنون - آياتنا وهي ظاهرات في حجتها واضحات في دلالتها لا تدع ريبا لمرتاب، قال فريق منهم وهم الذين كفروا للفريق الآخر وهم الذين آمنوا: أي هذين الفريقين خير من جهة المسكن وأحسن من حيث المجلس - ولا محالة هم الكفار - يريدون أن لازم ذلك أن يكونوا هم سعداء في طريقتهم وملتهم إذ لا سعادة وراء التمتع بأمتعة الحياة الدنيا فالحق ما هم عليه.
قوله تعالى:{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} القرن: الناس المقترنون في زمن واحد، والأثاث: متاع البيت، قيل: لا يطلق إلا على الكثير ولا واحد له من لفظه، والرئي بالكسر فالسكون: ما رئي من المناظر، نقل في مجمع البيان، عن بعضهم: أنه اسم لما ظهر وليس بالمصدر وإنما المصدر الرأي والرؤية يدل على ذلك قوله:{يرونهم مثليهم رأي العين} فالرأي: الفعل، والرئي: المرئي كالطحن والطحن والسقي والسقي والرمي والرمي. انتهى.
ولما احتج الكفار على المؤمنين في حقية ملتهم وبطلان الدعوة النبوية التي آمن به المؤمنون بأنهم خير مقاما وأحسن نديا في الدنيا وقد فاتهم أن للإنسان حياة خالدة أبدية لا منتهى لها وإنما سعادته في سعادتها والأيام القلائل التي يعيش فيها في الدنيا لا قدر لها قبال ما لا نهاية له ولا أنها تغني عنه شيئا.
على أن هذه التمتعات الدنيوية لا تحتم له السعادة ولا تقيه من غضب الله إن حل به يوما وما هو من الظالمين ببعيد فليسوا في أمن من سخط الله ولا طيب في عيش يهدده الهلاك ولا في نعمة كانت في معرض النقمة والخيبة.
أشار إلى الجواب عنه بقوله:{وكم أهلكنا قبلهم} والظاهر أن الجملة حالية وكم خبرية لا استفهامية، والمعنى: أنهم يتفوهون بهذه الشبهة الواهية - نحن خير منكم مقاما وأحسن نديا - استخفافا للمؤمنين والحال أنا أهلكنا قرونا كثيرة قبلهم هم أحسن من حيث الأمتعة والمناظر.
وقد نقل سبحانه نظير هذه الشبهة عن فرعون وعقبه بحديث غرقه وهلاكه، قال:{ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ؟ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ - إلى أن قال - فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ}: الزخرف: 56.
قوله تعالى:{ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} إلى آخر الآية، لفظة كان في قوله:{من كان في الضلالة} تدل على استمرارهم في الضلالة لا مجرد تحقق ضلالة ما، وبذلك يتم التهديد بمجازاتهم بالإمداد والاستدراج الذي هوإضلال بعد الضلال.
وقوله:{فليمدد} صيغة أمر غائب ويئول معناه إلى أن من الواجب على الرحمن أن يمده مدا، فإن أمر المتكلم مخاطبه أن يأمره بشيء معناه إيجاب المتكلم ذلك على نفسه.
والمد والأمداد واحد لكن ذكر الراغب في المفردات، أن أكثر ما جاء الأمداد في المحبوب والمد في المكروه والمراد أن من استقرت عليه الضلالة واستمر هو عليها - والمراد به الكفار كناية - فقد أوجب الله على نفسه أن يمده بما منه ضلالته كالزخارف الدنيوية في مورد الكلام فينصرف بذلك عن الحق حتى يأتيه أمر الله من عذاب أو ساعة بالمفاجاة والمباهتة فيظهر له الحق عند ذلك ولن ينتفع به.
فقوله:{ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ} إلخ، دليل على أن هذا المد خذلان في صورة إكرام والمراد به أن ينصرف عن الحق واتباعه بالاشتغال بزهرة الحياة الدنيا الغارة فلا يظهر له الحق إلا في وقت لا ينتفع به وهو وقت نزول البأس أو قيام الساعة.
كما قال تعالى:{ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ }: غافر : 85، وقال:{ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}: الأنعام: 158.
وفي إرجاع ضمير الجمع في قوله:{رأوا ما يوعدون} إلى{من} رعاية جانب معناه كما أن في إرجاع ضمير الإفراد في قوله:{فليمدد له} إليه رعاية جانب لفظه.
وقوله:{ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا} قوبل به قولهم السابق:{أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا} أما مكانهم حين يرون العذاب - والظاهر أن المراد به عذاب الدنيا - فحيث يحل بهم عذاب الله وقد كان مكان صناديد قريش المتلو عليهم الآيات حين نزول العذاب، قليب بدر التي ألقيت فيها أجسادهم وأما مكانهم يوم يرون الساعة فالنار الخالدة التي هي دار البوار، وأما ضعف جندهم فلأنه لا عاصم لهم اليوم من الله ويعود كل ما هيئوه لأنفسهم من عدد وعدة سدى لا أثر له.
قوله تعالى:{ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} إلى آخر الآية، الباقيات الصالحات الأعمال الصالحة التي تبقى محفوظة عند الله وتستعقب جميل الشكر وعظيم الأجر وقد وعد الله بذلك في مواضع من كلامه.
والثواب جزاء العمل قال في المفردات،: أصل الثوب رجوع الشيء إلى حالته الأولى التي كان عليها أوإلى الحالة المقدرة المقصودة بالفكرة - إلى أن قال - والثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله فيسمى الجزاء ثوابا تصورا أنه هو - إلى أن قال - والثواب يقال في الخير والشر لكن الأكثر المتعارف في الخير.
انتهى والمرد اسم مكان من الرد والمراد به الجنة.
والآية من تمام البيان في الآية السابقة فإن الآية السابقة تبين حال أهل الضلالة وتذكر أن الله سيمدهم فهم يعمهون في ضلالتهم منصرفين عن الحق معرضين عن الإيمان لاعبين بما عندهم من شواغل الحياة الدنيا حتى يفاجئهم العذاب أوالساعة وتنكشف لهم حقيقة الأمر من غير أن ينتفعوا به وهؤلاء أحد الفريقين في قولهم:{ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا} إلخ.
وهذه الآية تبين حال الفريق الآخر وهم المؤمنون وأن الله سبحانه يمد المهتدين منهم وهم المؤمنون بالهدى فيزيدهم هدى على هداهم فيوفقون للأعمال الباقية الصالحة وهي خير أجرا وخير دارا وهي الجنة ودائم نعيمها فما عند المؤمنين من أمتعة الحياة وهي النعيم المقيم خير مما عند الكافرين من الزخارف الغارة الفانية.
وفي قوله:{عند ربك} إشارة إلى أن الحكم بخيرية ما للمؤمنين من ثواب ومرد حكم إلهي لا يخطىء ولا يغلط البتة.
وهاتان الآيتان - كما ترى - جواب ثان عن حجة الكفار أعني قولهم:{ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}.
_______________
1- تفسير الميزان،الطباطبائي،ج14،ص80-83.
هذه الآيات تتابع ما مر في الآيات السابقة في الحديث عن الظالمين الذين لا إِيمان لهم، وتتعرض لجانب آخر من منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم.
ومن المعلوم أنّ أوّل جماعة آمنت بالرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا من المستضعفين الطاهري القلوب، والذين خلت أيديهم من مال الدنيا ومغرياتها .. هؤلاء المحرومون هم الذين جاءت الأديان الإِلهية من أجل إِنقاذهم من قبضة الظالمين الجائرين بلال وسلمان، وعمار، وخباب، وسمية، وأمثالهم مصاديق بارزة لهؤلاء المؤمنين المظلومين.
ولما كان المعيار في المجتمع الجاهلي في ذلك الزمان ـ وكذا في كل مجتمع جاهلي آخر ـ هو الذهب والزينة والمال والمقام والمنصب والهيئة الظاهرية، فكان الأثرياء الظالمون، كالنضربن الحارث وأمثاله يفتخرون على المؤمنين الفقراء بذلك ويقولون: إنّ علامة شخصيتنا معنا، وعلامة عدم شخصيتكم فقركم ومحروميتكم، وهذا بنفسه دليل على أحقيتنا وباطلكم! كما يقول القرآن الكريم في أول آيه من الآيات مورد البحث: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}.
خاصّة وأنّنا نقرأ في الرّوايات الإِسلامية أن هؤلاء الأشراف المترفين كانوا يلبسون أجمل ملابسهم، ويتزينون بأبهى زينة، ويتبخترون أمام أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانوا ينظرون إِليهم نظرة تحقير واستهزاء .. نعم، هذه طريقة هذه الطبقة في كل عصر وزمان.
«النديّ» أخذت في الأصل من (الندى) أي الرطوبة، ثمّ جاءت بمعنى الأفراد الفصحاء والخطباء، لأن أحد شروط القدرة على التكلم امتلاك القدر الكافي من اللعاب، ولذلك فإن (نديّ) تعني المجالسة والتحدث، بل يقال للمجلس الذي يجتمعون فيه للأنس والسمر، أو يجلسون فيه للتشاور: نادي، ومن هذا أخذت (دار الندوة) وهي المحل الذي كان في مكّة، وكان يجتمع فيه زعماؤها للتشاور.
وقد يعبر عن السخاء والبذل والعطاء بـ (الندى)(2) وهذه الآية يمكن أن تكون إِشارة إِلى كل هذه المعاني، أي: إِنّ مجلس أنسنا أجمل من مجلسكم، وإِن مالنا وثروتنا وزينتنا ولباسنا أبهى وأروع، وإِن كلامنا وأشعارنا الفصيحة والبليغة
أبلغ وأحسن!
إِلاّ أنّ القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماماً، وفي الوقت نفسه قاطع ومفحم، فيقول: كأن هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر، ولم ينظروا كم دمرنا من الأقوام السابقين عند تمردهم وعصيانهم: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا }(3) فهل استطاعت أموالهم وثروتهم، ومجالسهم الفاسقة، وملابسهم الفاخرة، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإِلهي وتقف أمامه؟ وإِذا كانت هذه الأُمور دليلا على شخصيتهم ومنزلتهم عند الله، فلماذا ابتُلوا بهذا المصير المشؤوم؟
إِنّ زخارف الدنيا وبهارجها متزلزلة إِلى حدّ أنّها تتلاشى وتزول بمجرّد أن يهب عليها أدنى نسيم هادىء.
«القرن» ـ كما قلنا سابقاً في ما مرّ في ذيل الآية (6) من سورة الأنعام ـ تعني عادة الزمان الطويل، لكن لما كانت قد أخذت من مادة الإِقتران، أي الإِقتراب، فإِنّها تقال أيضاً للقوم والأناس المجتمعين في زمان واحد.
ثمّ تحذرهم تحذيراً آخر، بأن لا تظنوا أيّها الظالمون الكافرون أنّ مالكم وثروتكم هذه رحمة، بل كثيراً ما تكون دليلا على العذاب الإِلهي: { قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} إِي إمّا العذاب في هذه الدنيا، وإِمّا عذاب الآخرة { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ}.
في الحقيقة، إِنّ مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يمكن هدايتهم (والملاحظ أن القران يقول: { مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ} وهو إِشارة إِلى الإِستمرار في الضلال) من أجل أن يروا العقاب الإِلهي الشديد، فإنّ الله سبحانه يجعلهم أحياناً يغوصون ويغرقون في النعم لتصبح سبباً لغرورهم، كما تكون سبباً لنزول العذاب عليهم، فإنّ سلب النعم عنهم حينئذ سيجعل لوعة العذاب أشد. وهذا هو ما ذكر في بعض آيات القرآن بعنوان عقاب «الإِستدراج»(4).
جملة { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} وإن كانت بصيغة الأمر، إِلاّ أنّها بمعنى الخبر، فمعناها: إنّ الله يمهل هؤلاء ويديم عليهم النعم.
وقد فسرها بعض المفسّرين بنفس معنى الأمر أيضاً، وأنّه يعني هنا اللعنة، أو وجوب مثل هذا العمل والمعاملة على الله. إِلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب.
وكلمة (العذاب) بقرينة وقوعها في مقابل (الساعة) فإنّها إِشارة إِلى العقوبات الإِلهية في عالم الدنيا، عقوبات كطوفان نوح، والزلزلة، والحجارة السماوية التي نزلت على قوم لوط. أو العقوبات التي اصيبوا بها على يد المؤمنين والمقاتلين في جبهات الحق، كما نقرأ في الآية (14) من سورة التوبة: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ}.
«الساعة» هنا إِمّا بمعنى نهاية الدنيا، أو العذاب الإلهي في القيامة. ويبدو لنا أن المعنى الثّاني هو الأنسب.
هذه عاقبة ومصير الظالمين المخدوعين بزخرف الدنيا وزبرجها، أمّا أُولئك الذين آمنوا واهتدوا، فإنّ الله يزيدهم هدىً و إِيماناً { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى }.
من البديهي أن للهداية درجات، فإِذا طوى الإِنسان درجاتها الأُولى فإنّ الله يأخذه بيده ويرفعه إِلى درجات أعلى، وكما أنّ الشجرة المثمرة تقطع كل يوم مرحلة جديدة إِلى التكامل والإِيناع، فكذلك المهتدون يرتقون كل يوم مراق أعلى في ظل الإِيمان والأعمال الصالحة التي يعملونها.
وفي النهاية تجيب الآية هؤلاء الذين اعتمدوا على زينة الدنيا السريعة الزوال، وجعلوها وسيلة للتفاخر على الآخرين، فتقول: { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا}(5).
_______________
1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص81-84.
2- مفردات الراغب، مادة (ندى).
3- (الأثاث) بمعنى المتاع وزينة الدنيا، و(رئي) بمعنى الهيئة والمنظر.
4- راجع ذيل الآيات 182، 183 من سورة الأعراف.
5- «مردّ» ـ على وزن نمدّ بتشديد الدال ـ إِمّا مصدر بمعنى الرّد والإِرجاع، أو اسم مكان بمعنى محل الرجوع، والمراد منه هنا الجنّة، إِلاّ أنّ الإِحتمال الأوّل أوفق لمعنى الآية.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|