أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-9-2020
3840
التاريخ: 1-9-2020
4211
التاريخ: 3-9-2020
3224
التاريخ: 2-9-2020
21874
|
قال تعالى: {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا } [مريم: 1 - 6]
{ كهيعص} قد بينا في أول البقرة اختلاف العلماء في الحروف المعجم التي في أوائل السور وشرحنا أقوالهم هناك وحدث عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : أن كاف من كريم وها من هاد وياء من حكيم وعين من عليم وصاد من صادق وفي رواية عطا والكلبي عنه أن معناه كاف لخلقه هاد لعباده يده فوق أيديهم عالم ببريته صادق في وعده وعلى هذا فإن كل واحد من هذه الحروف يدل على صفة من صفات الله عز وجل وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في دعائه أسألك يا كهيعص { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} أي: هذا خبر رحمة ربك زكريا عبده ويعني بالرحمة إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد وزكريا اسم نبي من أنبياء بني إسرائيل كان من أولاد هارون بن عمران أخي موسى بن عمران وقيل إن معناه: ذكر ربك عبده بالرحمة { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} أي: حين دعا ربه دعاء خفيا خافيا سرا غير جهر يخفيه في نفسه لا يريد به رياء وفي هذا دلالة على أن المستحب في الدعاء الإخفاء وإن ذلك أقرب إلى الإجابة وفي الحديث خير الدعاء الخفي وخير الرزق ما يكفي وقيل إنما أخفاه لئلا يهزأ به الناس فيقول انظروا إلى هذا الشيخ يسأل الولد على الكبر { قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أي: ضعف وإنما أضاف الوهن إلى العظم لأن العظم مع صلابته إذا ضعف وتناقص فكيف باللحم والعصب وقيل إنما خص العظم لأنه شكا ضعف البطش والبطش إنما يكون بالعظم دون اللحم وغيره.
{ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} معناه: أن الشيب قد عم الرأس وهو نذير الموت عن أبي مسلم وقيل معناه تلألأ الشيب في رأسي لكثرته عن ابن الأنباري وصف حاله خضوعا وتذللا لا تعريفا { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} أي: ولم أكن بدعائي إياك فيما مضى مخيبا محروما والمعنى أنك قد عودتني حسن الإجابة وما خيبتني فيما سألتك ولا حرمتني الاستجابة فيما دعوتك فلا تخيبني فيما أسألك ولا تحرمني إجابتك فيما أدعوك يقال شقي فلان بحاجته إذا تعب بسببها ولم يحصل مطلوبه منها.
{ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} وهم الكلالة عن ابن عباس وقيل: العصبة عن مجاهد وقيل هم العمومة وبنوالعم عن أبي جعفر (عليه السلام) وقيل بنو العم وكانوا أشرار بني إسرائيل عن الجبائي وقيل هم الورثة عن الكلبي { من ورائي } أي من خلفي { وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} أي: عقيما لا تلد { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} أي: ولدا يليني فيكون أولى بميراثي { يرثني } إن قرأته بالجزم فالمعنى أن تهبه لي يرثني وإن رفعته جعلته صفة لولي والمعنى وليا وارثا لي { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} وهو يعقوب بن ماتان وأخوه عمران بن ماتان أبومريم عن الكلبي ومقاتل وقيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لأن زكريا كان متزوجا بأخت أم مريم بنت عمران ونسبها يرجع إلى يعقوب لأنها من ولد سليمان بن داود (عليهماالسلام) وهو من ولد يهوذا بن يعقوب وزكريا من ولد هارون وهو من ولد لاوي بن يعقوب عن السدي.
ثم اختلف في معناه قيل: معناه يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة عن أبي صالح وقيل معناه يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب عن الحسن ومجاهد واستدل أصحابنا بالآية على أن الأنبياء يورثون المال وأن المراد بالإرث المذكور فيها المال دون العلم والنبوة بأن قالوا إن لفظ الميراث في اللغة والشريعة لا يطلق إلا على ما ينتقل من الموروث إلى الوارث كالأموال ولا يستعمل في غير المال إلا على طريق المجاز والتوسع ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة أيضا فإن زكريا (عليه السلام) قال في دعائه { وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} أي: اجعل يا رب ذلك الولي الذي يرثني مرضيا عندك ممتثلا لأمرك ومتى حملنا الإرث على النبوة لم يكن لذلك معنى وكان لغوا عبثا أ لا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحد اللهم ابعث لنا نبيا واجعله عاقلا مرضيا في أخلاقه لأنه إذا كان نبيا فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في النبوة ويقوي ما قلناه أن زكريا صرح بأنه يخاف بني عمه بعده بقوله { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} وإنما يطلب وارثا لأجل خوفه ولا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون النبوة والعلم لأنه (عليه السلام) كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيا من ليس بأهل للنبوة وأن يورث علمه وحكمته من ليس لهما بأهل ولأنه إنما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس فكيف يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته.
فإن قيل إن هذا يرجع عليكم في وراثة المال لأن في ذلك إضافة الضن والبخل إليه قلنا معاذ الله أن يستوي الأمران فإن المال قد يرزق المؤمن والكافر والصالح والطالح ولا يمتنع أن يأسى على بني عمه إذا كانوا من أهل الفساد أن يظفروا بماله فيصرفوه فيما لا ينبغي بل في ذلك غاية الحكمة فإن تقوية الفساق وإعانتهم على أفعالهم المذمومة محظورة في الدين فمن عد ذلك بخلا وضنا فهو غير منصف وقوله { خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} يفهم منه أن خوفه إنما كان من أخلاقهم وأفعالهم ومعاني فيهم لا من أعيانهم كما أن من خاف الله تعالى فإنما خاف عقابه فالمراد به خفت تضييع الموالي مالي وإنفاقهم إياه في معصية الله تعالى .
_____________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص401-403.
{ كهيعص } تقدم نظيره مع التفسير في أول سورة البقرة { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } . في هذه الآيات يقص سبحانه على نبيه محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) : كيف رحم عبده ونبيه زكريا ، وأنعم عليه بولده يحيى . . وزكريا من نسل سليمان ابن داود ، وكان متزوجا بخالة مريم ، وكان كافلا لها ، وتقدمت الإشارة إلى ذلك عند تفسير الآية 38 من سورة آل عمران ج 2 ص 53 . وقيل إن زكريا كان نجارا { إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا } . دعا اللَّه بينه وبينه :
و{ قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ولَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا } . تقدم السن بزكريا دون أن يرزق ولدا ، ولذا تضرع إلى اللَّه شاكيا ضعفه وشيخوخته ، وقال فيما قال : « رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ » - 89 الأنبياء » . أدعوك يا إلهي ، وأنا غير يائس من فضلك ورحمتك :
كيف ؟ ولم تخيب من قبل رجائي فيك ، وحاشاك ان توجهني في حاجتي إلى سواك .
{ وإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ويَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا }. زكريا شيخ كبير ، وامرأته عجوز عقيم ، فخاف ان جاء أجله ان يرثه بنوعمومته ، وهم من بني إسرائيل ، وقيل : انهم كانوا من شرار الناس . . وليس هذا ببعيد على إسرائيل . .
فإذا ورثوه أساؤا إلى الناس ، وأفسدوا عليهم دينهم ودنياهم ، ورغم شيخوخة زكريا وعقم زوجته فإنه كان عظيم الثقة بخالقه ، ولذا دعاه أن يجبر كسره ، ويقضي حاجته .
______________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 169.
غرض السورة على ما ينبىء عنه قوله تعالى في آخرها:{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} إلخ، هو التبشير والإنذار غير أنه ساق الكلام في ذلك سوقا بديعا فأشار أولا إلى قصة زكريا ويحيى وقصة مريم وعيسى وقصة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وقصة موسى وهارون وقصة إسماعيل وقصة إدريس وما خصهم به من نعمة الولاية كالنبوة والصدق والإخلاص ثم ذكر أن هؤلاء الذين أنعم عليهم كان المعروف من حالهم الخضوع والخشوع لربهم لكن أخلافهم أعرضوا عن ذلك وأهملوا أمر التوجه إلى ربهم واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ويضل عنهم الرشد إلا أن يتوب منهم تائب ويرجع إلى ربه فإنه يلحق بأهل النعمة.
ثم ذكر نبذة من هفوات أهل الغي وتحكماتهم كنفي المعاد، وقولهم: اتخذ الله ولدا، وعبادتهم الأصنام، وما يلحقهم بذلك من النكال والعذاب.
فالبيان في السورة أشبه شيء ببيان المدعى بإيراد أمثلته كأنه قيل: إن فلانا وفلانا وفلانا الذين كانوا أهل الرشد والموهبة كانت طريقتهم الانقلاع عن شهوات النفس والتوجه إلى ربهم وسبيلهم الخضوع والخشوع إذا ذكروا بآيات ربهم فهذا طريق الإنسان إلى الرشد والنعمة لكن أخلافهم تركوا هذا الطريق بالإعراض عن صالح العمل، والإقبال على مذموم الشهوة ولا يؤديهم ذلك إلا إلى الغي خلاف الرشد، ولا يقرهم إلا على باطل القول كنفي الرجوع إلى الله وإثبات الشركاء لله وسد طريق الدعوة ولا يهديهم إلا إلى النكال والعذاب.
فالسورة كما ترى تفتح بذكر أمثلة ثم تعقبها باستخراج المعنى الكلي المطلوب بيانه وذلك قوله:{أولئك الذين أنعم الله عليهم} الآيات، فالسورة تقسم الناس إلى ثلاث طوائف: الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأهل الاجتباء والهدى.
وأهل الغي، والذين تابوا وآمنوا وعملوا صالحا وهم ملحقون بأهل النعمة والرشد ثم تذكر ثواب التائبين المسترشدين وعذاب الغاوين وهم قرناء الشياطين وأولياؤهم.
والسورة مكية بلا ريب تدل على ذلك مضامين آياتها وقد نقل على ذلك اتفاق المفسرين.
قوله تعالى:{كهيعص} قد تقدم في تفسير أول سورة الأعراف أن السور القرآنية المصدرة بالحروف المقطعة لا تخلومن ارتباط بين مضامينها وبين تلك الحروف فالحروف المشتركة تكشف عن مضامين مشتركة.
ويؤيد ذلك ما نجده من المناسبة والمجانسة بين هذه السورة وسورة ص في سرد قصص الأنبياء، وسيوافيك بحث جامع إن شاء الله في روابط مقطعات الحروف ومضامين السور التي صدرت بها، وكذا ما بين السور المشتركة في بعض هذه الحروف كهذه السورة وسورة يس وقد اشتركتا في الياء، وهذه السورة وسورة الشورى وقد اشتركتا في العين.
قوله تعالى:{ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} ظاهر السياق أن الذكر خبر لمبتدء محذوف والمصدر بمعنى المفعول، والمال بحسب التقدير: هذا خبر رحمة ربك المذكور، والمراد بالرحمة استجابته سبحانه دعاء زكريا على التفصيل الذي قصة بدليل قوله تلوا:{إذ نادى ربه}.
قوله تعالى:{ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} الظرف متعلق بقوله:{رحمة ربك} والنداء والمناداة الجهر بالدعوة خلاف المناجاة، ولا ينافيه توصيفه بالخفاء لإمكان الجهر بالدعوة في خلاء من الناس لا يسمعون معه الدعوة، ويشعر بذلك قوله الآتي:{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ}.
وقيل: إن العناية في التعبير بالنداء أنه تصور نفسه بعيدا منه تعالى بذنوبه وأحواله السيئة كما يكون حال من يخاف عذابه.
قوله تعالى:{ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} إلى آخر الآية، تمهيد لما سيسأله وهو قوله:{ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}.
وقد قدم قوله:{رب} للاسترحام في مفتتح الدعاء، والتأكيد بإن للدلالة على تحققه بالحاجة، والوهن هو الضعف ونقصان القوة وقد نسبه إلى العظم لأنه الدعامة التي يعتمد عليها البدن في حركته وسكونه، ولم يقل: العظام مني ولا عظمي للدلالة على الجنس وليأتي بالتفصيل بعد الإجمال.
وقوله:{ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} الاشتعال انتشار شواظ النار ولهيبها في الشيء المحترق قال في المجمع،: وقوله:{ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} من أحسن الاستعارات والمعنى اشتعل الشيب في الرأس وانتشر، كما ينتشر شعاع النار، وكان المراد بالشعاع الشواظ واللهيب.
وقوله:{ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} الشقاوة خلاف السعادة، وكان المراد بها الحرمان من الخير وهو لازم الشقاوة أو هو هي، وقوله:{بدعائك} متعلق بالشقي والباء فيه للسببية أوبمعنى في والمعنى وكنت سعيدا بسبب دعائي إياك كلما دعوتك استجبت لي من غير أن تشقيني وتحرمني، أولم أكن محروما خائبا في دعائي إياك عودتني الإجابة إذا دعوتك والتقبل إذا سألتك، والدعاء على أي حال مصدر مضاف إلى المفعول.
وقيل: إن{دعائك} مصدر مضاف إلى الفاعل، والمعنى لم أكن بدعوتك إياي إلى العبودية والطاعة شقيا متمردا غير مطيع بل عابدا لك مخلصا في طاعتك والمعنى الأول أظهر.
وفي تكرار قوله:{رب} ووضعه متخللا بين اسم كان وخبره في قوله:{ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} من البلاغة ما لا يقدر بقدر، ونظيره قوله:{ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}.
قوله تعالى:{وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا} تتمة التمهيد الذي قدمه لدعائه، والمراد بالموالي العمومة وبنوالعم، وقيل: الكلالة وقيل: العصبة، وقيل: بنوالعم فحسب، وقيل: الورثة، وكيف كان فهم غير الأولاد من صلب والمراد خفت فعل الموالي من ورائي أي بعد موتي وكان (عليه السلام) يخاف أن يموت بلا عقب من نسله فيرثوه، وهو كناية عن خوفه أن يموت بلا عقب.
وقوله:{ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} العاقر المرأة التي لا تلد يقال: امرأة عاقر لا تلد ورجل عاقر لا يولد له ولد.
وفي التعبير بقوله:{وكانت امرأتي} دلالة على أن امرأته على كونها عاقرا جازت حين الدعاء سن الولادة.
وظاهر عدم تكرار أن في قوله:{وكانت امرأتي} إلخ أن الجملة حالية ومجموع الكلام أعني قوله:{وإني خفت إلى قوله: عاقرا} فصل واحد أريد به أن كون امرأتي عاقرا اقتضى أن أخاف الموالي من ورائي وبعد وفاتي، فمجموع ما مهده للدعاء يئول إلى فصلين أحدهما أن الله سبحانه عوده الاستجابة مدى عمره حتى شاخ وهرم والآخر أنه خاف الموالي بعد موته من جهة عقر امرأته، ويمكن تصوير الكلام فصولا ثلاثة بأخذ كل من شيخوخته وعقر امرأته فصلا مستقلا.
قوله تعالى:{ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} هذا هو الدعاء، وقد قيد الموهبة الإلهية التي سألها بقوله:{من لدنك} لكونه آيسا من الأسباب العادية التي كانت عنده وهي نفسه وقد صار شيخا هرما ساقط القوى.
وامرأته وقد شاخت وكانت قبل ذلك عاقرا.
وولي الإنسان من يلي أمره، وولي الميت هو الذي يقوم بأمره ويخلفه فيما ترك، وآل الرجل خاصته الذين يئول إليه أمرهم كولده وأقاربه وأصحابه وقيل: أصله أهل، والمراد بيعقوب على ما قيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهما السلام)، وقيل هو يعقوب بن ماثان أخوعمران بن ماثان أبي مريم وكانت امرأة زكريا أخت مريم وعلى هذا يكون معنى قوله:{ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يرثني ويرث امرأتي وهي بعض آل يعقوب، والأشبه حينئذ أن تكون{من} في قوله:{من آل يعقوب} للتبعيض وإن صح كونها ابتدائية أيضا.
وقوله:{ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} الرضي بمعنى المرضي، وإطلاق الرضا يقتضي شموله للعلم والعمل جميعا فالمراد به المرضي في اعتقاده وعمله أي اجعله رب محلى بالعلم النافع والعمل الصالح.
وقد قص الله سبحانه هذه القصة في سورة آل عمران وهي مدنية متأخرة نزولا عن سورة مريم المكية بقوله في ذيل قصة مريم{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}: آل عمران: 38.
ولا يرتاب المتدبر في الآيتين أن الذي دعا زكريا ودفعه إلى دعائه بما دعا هو ما شاهده من حال مريم وكرامتها على الله سبحانه في عبوديتها وإخلاصها العمل فأحب أن يخلفه خلف له من القرب والكرامة ما شاهد مثله في مريم ثم ذكر ما هو عليه من الشيب ونفاد القوة وما عليه امرأته من كبر السن والعقر وله موال لا يرتضيهم فوجد لذلك وهو ذاكر ما عوده ربه من استجابة الدعوة وكفاية كل مهمة ففزع إلى ربه بالدعاء واستيهاب ذرية طيبة.
فقوله في سورة آل عمران:{ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} بحذاء قوله في سورة مريم:{ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} وقوله هناك:{طيبة} بحذاء قوله هنا:{واجعله رب رضيا} والمراد به ما شاهده من القرب والكرامة عند الله لمريم وعملها الصالح فيبقى قوله هناك:{هب لي من لدنك ذرية}، بحذاء قوله هنا:{ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} وهو يفسره فالمراد بقوله:{وليا يرثني} إلخ، ولد صلبي يرثه.
ومن هنا يظهر فساد ما قيل: إنه (عليه السلام) طلب بقوله:{ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي} إلخ، من يقوم مقامه ويرثه ولدا كان أوغيره، وكذا ما قيل: إنه أيس أن يولد له من امرأته فطلب من يرثه ويقوم مقامه من سائر الناس.
وذلك لصراحة قوله في نفس القصة في سورة آل عمران:{ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} في طلب الولد.
على أن التعبير بمثل{هب لي} المشعر بنوع من الملك لا يستقيم في سائر الناس من الأجانب وإنما الملائم له التعبير بالجعل ونحوه كما في قوله تعالى:{ وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}: النساء: 75.
ومن هنا يظهر أيضا أن المراد بقوله:{وليا يرثني} الولد كما عبر عنه في آية آل عمران بالذرية فالمراد بالولي الذرية وهو ولي في الإرث، والمراد بالوراثة وراثة ما تركه الميت من الأموال وأمتعة الحياة، وهو المتبادر إلى الذهن من الإرث بلا ريب إما لكونه حقيقة في المال ونحوه مجازا في غيره كالإرث المنسوب إلى العلم وسائر الصفات والحالات المعنوية وإما لكونه منصرفا إلى المال إن كان حقيقة في الجميع فاللفظ على أي حال ظاهر في وراثة المال ويتعين بانضمامه إلى الولي كون المراد به الولد، ويزيد في ظهوره في ذلك قوله قبل:{ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} على ما سيأتي من البيان إن شاء الله.
وأما قول من قال: إن المراد به وراثة النبوة وأنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرثه النبوة فيدفعه ما عرفت آنفا أن الذي دعاه (عليه السلام) إلى هذا الدعاء والمسألة هو ما شاهده من مريم ولا خبر في ذلك عن النبوة ولا أثر فأي رابطة بين أن يشاهد منها عبادة وكرامة فيعجبه ذلك وبين أن يطلب من ربه ولدا يرثه النبوة؟.
على أن النبوة مما لا يورث بالنسب وهو ظاهر ولوأصلح ذلك بأن المراد بالوراثة مجرد إتيان نبي بعد نبي أوظهور نبي من ذرية نبي بنوع من العناية مجازا ظهر الإشكال من جهة أخرى وهي عدم ملائمة ذلك قوله بعد:{ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} إذ لا معنى لقول القائل: هب لي ولدا نبيا واجعله رضيا، ولو حمل على التأكيد كان من تأكيد الشيء بما هو دونه، وكذا احتمال أن يكون المراد بالرضى المرضي عند الناس لمنافاته إطلاق المرضي كما تقدم مع عدم مناسبته لداعيه كما مر.
ويقرب منه في الفساد قول من قال: إن المراد به وراثة العلم وأنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرثه علمه، إذ لا معنى لأن يشاهد زكريا من مريم عبادة وكرامة فيعجبه ذلك فيطلب من ربه ولدا يرثه علمه من دون أي مناسبة بين الداعي والمدعوإليه.
والقول بأن المراد بالوراثة وراثة العلم وبقوله:{ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} العمل الصالح ومجموع العلم النافع والعمل الصالح يقرب مما شاهده من مريم من الإخلاص والعبادة والكرامة.
يدفعه أن قوله:{ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} يكفي وحده في الدلالة على طلب العلم النافع والعمل الصالح لمكان الإطلاق، وإنما الإنسان المحسن عملا مع الغض عن العلم مرضي العمل ولا يسمى مرضيا مطلقا البتة، ونظير ذلك القول بأن المراد بالرضى المرضي عند الناس.
ويقرب منه في الفساد احتمال أن يكون المراد بالوراثة وراثة التقوى والكرامة وأنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرث ما له من القرب والمنزلة عند الله إذ المناسب لذلك أن يطلب ولدا له ما لمريم من القرب والكرامة أومطلق القرب والكرامة لا أن يطلب ولدا ينتقل إليه ما لنفسه من القرب والكرامة.
على أنه لا يلائمه قوله:{ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} إذ ظاهر السياق أنه يطلب ولدا يرثه وينتقل إليه ما لولاه لانتقل ذلك إلى الموالي وهو يخاف منهم أن يتلبسوا بذلك بعد وفاته، ولا معنى لأن يخاف (عليه السلام) تلبس مواليه بالقرب والمنزلة واتصافهم بالتقوى والكرامة لا قبل وفاته ولا بعدها فساحة الأنبياء أنزه وأطهر من هذه الضنة ولا أمنية لهم إلا صلاح الناس وسعادتهم.
وقول بعضهم إن مواليه (عليه السلام) كانوا شرار بني إسرائيل فخاف أن لا يحسنوا خلافته في أمته بعده، فيه أن هذه الخلافة إن كانت خلافة باطنية إلهية فهي مما لا يورث بالنسب قطعا، على أنها لا تخطىء المورد الصالح لها ولا يتلبس بها إلا أهلها ولا وجه للخوف من ذلك، وإن كانت خلافة ظاهرية دنيوية تورث بالنسب ونحوه فهي قنية اجتماعية ومن أمتعة الحياة الدنيا نظير المال فلا جدوى لصرف الوراثة في الآية عن وراثة المال إلى وراثة الخلافة والملك.
على أن يحيى (عليه السلام) لم يتقلد من هذه الخلافة والملك شيئا حتى يكون هو ميراثه الذي منع موالي أبيه أن يرثوه منه، ولم يكن لبني إسرائيل ملك في زمن زكريا ويحيى بل كانت الروم مستولية عليهم حاكمة فيهم.
فإن قلت: يؤيد حمل الوراثة في الآية على وراثة العلم ونحوه دون المال أنه ليس في الأنظار العالية والهمم العليا للنفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم المنقطع الفاني واتصلت بالعالم الباقي ميل إلى المتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة لا سيما زكريا (عليه السلام) فإنه كان مشهورا بكمال الانقطاع والتجرد فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال والمتاع الذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر أويظهر من أجله الكلف والحزن والخوف ويستدعي من ربه ذلك النحومن الاستدعاء وهو يدل على كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا وزخارفها.
والقول بأنه خاف أن يصرف مواليه ماله بعد موته فيما لا ينبغي فطلب لذلك عن ربه وارثا مرضيا فاسد فإنه إذا مات الرجل وانتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال الوارث فصرفه على ذمته صوابا أوخطأ ولا مؤاخذة في ذلك على الميت ولا عتاب.
مع أن دفع هذا الخوف كان ميسرا له (عليه السلام) بأن يصرفه قبل موته ويتصدق به كله في سبيل الله ويترك بني عمه الأشرار خائبين لسوء أحوالهم وقبح أفعالهم فليس قصده (عليه السلام) من مسألة الولد سوى إجراء أحكام الله تعالى وترويج الشريعة وبقاء النبوة في أولاده.
قلت: الإشكال مبني على كون قوله:{ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي} مسوقا لبيان طلب الوراثة المالية لولده والواقع خلافه فليس المقصود من قوله:{وليا يرثني} بالقصد الأول إلا طلب الولد كما هو الظاهر أيضا من قوله في سورة آل عمران:{ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً} وقوله في موضع آخر:{ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا}: الأنبياء: 89.
وإنما قوله:{يرثني} قرينة معينة لكون المراد بالولي في الكلام ولاية الإرث التي تنطبق على الولد لكون الولاية معنى عاما ذا مصاديق مختلفة لا يتعين واحد منها إلا بقرينة معينة كما قيدت بالنصرة في قوله:{ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ}: الشورى: 46، والمراد به ولاية النصرة، وقيدت بالأمر والنهي في قوله:{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}: التوبة: 71، والمراد ولاية التدبير.
إلى غير ذلك.
ولولا أن المراد به الوراثة المالية وأنها قرينة معينة لم يبق في الكلام ما يدل على طلب الولد الذي هو المقصود الأصلي بالدعاء فإن وراثة العلم أوالنبوة أو العبادة والكرامة لا إشعار فيها بكون الوارث هو الولد كما اعترف به بعض من حمل الوراثة في الآية على شيء من هذه المعاني فيبقى الدعاء خاليا عن الدلالة على المطلوب الأصلي وكفى به سقوطا للكلام.
وبالجملة، العناية إنما هي متعلقة بإفادة طلب الولد، وأما الوراثة المالية فليست مقصودة بالقصد الأول وإنما هي قرينة معينة لكون المراد بالولي هو الولد نعم هي في نفسها تدل على أنه لو كان له ولد لورثه ماله، وليس في ذلك ولا في قوله:{وإني خفت الموالي من ورائي} وحاله حال قوله:{وليا يرثني} دلالة على تعلق قلبه (عليه السلام) بالدنيا الفانية ولا بزخارف حياتها التي هي متاع الغرور.
وأما طلب الولد فهو مما فطر الله عليه النوع الإنساني سواء في ذلك الصالح والطالح والنبي ومن دونه وقد جهز الجميع بجهاز التوالد والتناسل وغرز فيهم ما يدعوهم إليه، فالواحد منهم لولم ينحرف طباعه ينساق إلى طلب الولد ويرى بقاء ولده بعده بقاء لنفسه واستيلاءهم على ما كان مستوليا عليه من أمتعة الحياة - وهذا هو الإرث - استيلاء نفسه وعيش شخصه هذا.
والشرائع الإلهية لم تبطل هذا الحكم الفطري ولا ذمت هذه الداعية الغريزية بل مدحته وندبت إليه، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك كقوله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام):{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}: الصافات: 100، وقوله:{الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء}: إبراهيم: 39}، وقوله حكاية عن المؤمنين:{ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}: الفرقان: 74 إلى غير ذلك من الآيات.
فإن قلت: ما تقدم من الوجه في معنى الوراثة كان مبنيا على أن يستفاد من قوله:{هنالك دعا زكريا ربه} الآية، أن الذي دعاه إلى طلب الولد هو ما شاهده من عبادة مريم وكرامتها عند الله سبحانه فأحب أن يرزق ولدا يماثلها في العبادة والكرامة لكن يمكن أن يكون داعيه غير ذلك فقد ورد في بعض الآثار أن زكريا كان يجد عند مريم فواكه في غير موسمها ثمرة الشتاء في الصيف وثمرة الصيف في الشتاء فقال في نفسه: إذا كان الله لا يعز عليه أن يرزقها ثمرة الشتاء في الصيف وثمرة الصيف في الشتاء لم يعز عليه أن يرزقني ولدا في غير وقته وأنا شيخ فان وامرأتي عاقر فقال: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي}.
فمشاهدة الثمرة في غير موسمها بعثه إلى طلب الولد في غير وقته لكن هذا النبي الكريم أجل من أن يطلب الولد ليرث ماله فهو إنما طلبه ليرث النبوة أوالعلم أوالعبادة والكرامة.
قلت: لا دليل من جهة السياق اللفظي على كون المراد بالرزق في قوله:{ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} هي الثمرة في غير موسمها، وأن الذي دعا زكريا (عليه السلام) إلى طلب الولد مشاهدة ذلك أوقول مريم:{إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} ولوكان كذلك لكانت الإشارة إليه بوجه أبلغ بل ظاهر السياق وخاصة صدر الآية{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} أن العناية بإفادة كون مريم ذات كرامة عند ربها يرزقها لا من طريق الأسباب العادية فهذا هو الداعي لزكريا (عليه السلام) إلى طلب ذرية طيبة وولد رضي.
ولو سلم ذلك كان مقتضاه أن ينبعث زكريا بالقصد الأول إلى طلب الذرية والولد وإذ كان نبيا كريما لا إربة له في غير الولد الصالح دعا ثانيا أن يكون طيبا مرضيا كما يدل عليه استئناف الدعاء بقوله:{واجعله رب رضيا} والتقييد بالطيب في قوله:{ذرية طيبة}.
وقد أفاد مقصوده هذا على ما حكى عنه في سورة آل عمران بقوله:{هب لي من لدنك ذرية} وفي هذه السورة بعد تقديم ذكر شيخوخته وعقر امرأته وخوفه الموالي بقوله:{ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي} فالمراد بقوله:{وليا يرثني} هو الولد بلا شك، وقد عبر عنه وأشير إليه بعنوان ولاية الإرث.
وولاية الوراثة التي تصلح أن تكون عنوانا معرفا للولد هي ما يختص به من ولاية وراثة التركة، وأما ولاية وراثة النبوة لو جازت تسميتها ولاية وراثة وكذا ولاية وراثة العلم كما يرث التلميذ علم أستاذه وكذا ولاية وراثة المقامات المعنوية والكرامات الإلهية فهذه الولايات أجنبية عن النسب والولادة ربما جامعتها وربما فارقتها فلا تصلح أن تجعل معرفة ومرآة لها إلا مع قرينة قوية، وليس في الكلام ما يصلح لذلك، وكل ما فرض صالحا له فهو صالح لخلافه فيكون قد أهمل في الدعاء ما هو المقصود بالقصد الأول واشتغل بما وراءه، وكفى به سقوطا للكلام.
_____________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص5-13.
دعاء زكريا المستجاب:
مرّة أُخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة، ولما كنّا قد بحثنا تفسير هذه الحروف المقطعة بصورة مفصلة في بداية ثلاث سور مختلفة فيما سبق ـ سورة البقرة وآل عمران والأعراف ـ فلا نرى حاجة للتكرار هنا.
ولكن ما ينبغي اضافته هنا هو وجود طائفتين من الرّوايات في المصادر الإِسلامية تتعلق بالحروف المقطعة في هذه السورة.
الأُولى: تقول بأن كل حرف من هذه الحروف يشير إِلى اسم من أسماء الله الحسنى، فالكاف يشير إِلى الكافي، وهو من أسماء الله الحسنى، والهاء تشير إِلى الهادي، والياء إِشارة إِلى الولي، والعين إِشارة إِلى العالم، والصاد إِشارة إِلى صادق الوعد(2).
الثّانية: تفسر هذه الحروف المقطعة بحادثة ثورة الإِمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء، فالكاف إِشارة إِلى كربلاء، والهاء إِشارة إِلى هلاك عترة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والياء إِشارة إِلى يزيد، والعين إِشارة إِلى مسألة العطش، والصاد إِشارة إِلى صبر وثبات الحسين وأصحابه المضحين(3).
وكما قلنا مراراً، فإِن لآيات القرآن أنوار معان مختلفة، وتبيّن أحياناً مفاهيم من الماضي والمستقبل، ومع تنوعها واختلافها فإنّه لا يوجد تناقض بينها، في حين أننا إِذا حصرنا المعنى وفسّرناه تفسيراً واحداً، فمن الممكن أن نبتلى بإشكالات من ناحية وضع و سبب نزول الآية و زمانه.
وبعد ذكر الحروف المقطعة، تشرع الكلمات الأُولى من قصّة زكريا(عليه السلام)فتقول: { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}(4). وفي ذلك الوقت الذي كان زكريا(عليه السلام)مغتماً ومتألماً فيه من عدم إِنجاب الولد، توجه إِلى رحمة ربّه: { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} بحيث لم يسمعه أحد، وذكر في دعائه وهن وضعف العظام باعتبارها عمود بدن الإِنسان ودعامته وأقوى جزء من اجزائه: { قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا }.
إِن تشبيه آثار الكبر بالشعلة التي عمت كل الرأس تشبيه جميل، لأنّ خاصية شعلة النّار أنّها تتسع بسرعة، وتلتهم كل ما يحيط بها.
ومن جهة ثانية فإِنّ شعلة النّار لها بريق وضياء يجلب الإِنتباه من بعيد.
ومن ناحية ثالثة، فإِنّ النّار إِذا اشتعلت في محل له، فإِنّ الشيء الذي يبقي منه هو الرماد فقط.
لقد شبه زكريا نزول الكبر، وبياض كل شعر رأسه باشتعال النّار، والرماد الأبيض الذي تتركه، وهذا التشبيه جميل وبليغ جداً.
ثمّ يضيف: { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} فقد عودتني دائماً ـ فيما مضى ـ على استجابة أدعيتي، ولم تحرمني منها أبداً، والآن وقد أصبحت كبيراً وعاجزاً فأجدني أحوج من السابق إلى أن تستجيب دعائي ولا تخيبّني.
إنّ الشقاء هنا بمعنى التعب والأذى أي إِنّي لم أتعب ولم أتاذَّ في طلباتي منك، لأنّك كنت تقضيها بسرعة.
ثمّ يبيّن حاجته: { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} أي إنّي أخشى من أقربائي أن يسلكوا سبيل الانحراف والظلم { وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} أي مرضياً عندك.
________________
1- تفسير الامثل،الشيخ مكارم الشيرازي،ج8،ص9-11.
2- نور الثقلين، الجزء 3، ص 320.
3- المصدر السّابق.
4 ـ كلمة «ذكر» خبر لمبتدأ محذوف، وعليه فالتقدير: هذا ذكر رحمة ربّك.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|