أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-8-2020
4837
التاريخ: 1-9-2020
3146
التاريخ: 28-8-2020
1902
التاريخ: 31-8-2020
2921
|
قال تعالى : {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات : 38 - 49] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
خاطب الله تعالى الكفار فقال {إنكم} أيها المشركون {لذائقوا العذاب الأليم} على كفركم ونسبتكم إياه إلى الشعر والجنون {وما تجزون إلا ما كنتم تعملون} أي على قدر أعمالكم ثم استثنى من جملة المخاطبين المعذبين فقال {إلا عباد الله المخلصين} الذين أخلصوا العبادة لله وأطاعوه في كل ما أمرهم به فإنهم لا يذوقون العذاب وإنما ينالون الثواب .
ثم بين سبحانه ما أعده لعباده المخلصين من أنواع النعم فقال {أولئك لهم رزق معلوم} جعل لهم التصرف فيه وحكم لهم به في الأوقات المستأنفة في كل وقت شيئا معلوما مقدرا ثم فسر ذلك الرزق بأن قال {فواكه} وهي جمع فاكهة يقع على الرطب واليابس من الثمار كلها يتفكهون بها ويتنعمون بالتصرف فيها {وهم مكرمون} مع ذلك أي معظمون مبجلون وضد الإكرام الإهانة {في جنات النعيم} أي وهم مع ذلك في بساتين فيها أنواع النعيم يتنعمون بها {على سرر} وهي جمع سرير {متقابلين} يستمتع بعضهم بالنظر إلى وجوه بعض ولا يرى بعضهم قفا بعض .
{يطاف عليهم بكأس} وهو الإناء بما فيه من الشراب {من معين} أي من خمر جارية في أنهار ظاهرة العيون عن الحسن وقتادة والضحاك والسدي وقيل شديد الجري ثم وصف الخمر فقال {بيضاء} وصفها بالبياض لأنها في نهاية الرقة مع الصفاء واللطافة النورية التي لها قال الحسن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن وذكر أن قراءة ابن مسعود صفراء فيحتمل أن يكون بيضاء الكأس صفراء اللون .
{لذة} أي لذيذة {للشاربين} ليس فيها ما يعتري خمر الدنيا من المرارة والكراهة {لا فيها غول} أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها ولا تصيبهم منها وجع في البطن ولا في الرأس ويقال للوجع غول لأنه يؤدي إلى الهلاك {ولا هم عنها ينزفون} أي يسكرون ولا ينزفون لا يفنى خمرهم وتحمل هذه القراءة على هذا لزيادة الفائدة وعلى القراءة الأولى فيحمل الغول على الصداع والوجع وأذى الخمار قال ابن عباس معناه ولا يبولون قال وفي الخمر أربع خصال السكر والصداع والقيء والبول فنزه الله سبحانه خمر الجنة عن هذه الخصال .
{وعندهم قاصرات الطرف} قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهن لحبهن إياهم وقيل معناه لا يفتحن أعينهن دلالة وغنجا {عين} أي واسعات العيون والواحدة عيناء وقيل هي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها عن الحسن {كأنهن بيض مكنون} شبههن ببيض النعام مكنة بالريش من الغبار والريح عن الحسن وابن زيد وفي معناه قول امرىء القيس :
كبكر المقاناة البياض بصفرة *** غذاها نمير الماء غير محلل (2)
وقيل شبههن ببطن البيض قبل أن يقشر وقبل أن تمسه الأيدي والمكنون المصون .
________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص303-306 .
2- هذا البيت من معلقته المعروفة . والبكر من كل صنف : ما لم يسبقه مثله . والمراد هنا : بيض النعام ، واضافته الى المقاناة من قبيل قوله تعالى {وللدار الاخرة} والمقاناة : المخالطة . والنمير : الماء النامي في الحسد . وقيل : العذب من الماء . وغير محلل أي : غير يسير ، او من قولهم : مكان محلل : اذا أكثر الناس به الحلول اي : لم يكثر حلول الناس عليه فيكدره ذلك ، يصف معشوقته عنيزة ، وشبه لونها بيض نعام تشوب بياضها صفرة . وفي قوله (البياض) تجوز الحركات الثلاث ، وذكروا للبيت معان اخر ذكرها الزوزني في (شرح المعلقات) فراجع .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الأَلِيمِ وما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . بعد ان قال سبحانه : ان المجرمين في العذاب مشتركون قال لهم : ان عذابكم هو جزاء لما كسبت أيديكم ، ولا تظلمون فتيلا .
{إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} . هذا على عادة القرآن ، يذكر المجرمين وعقابهم ، ويعقب بذكر الطيبين وثوابهم ، وهو بالإجمال رزق معلوم عند اللَّه وعندهم ، وه وبالتفصيل ( فواكه ) مما يشتهون {وهُمْ مُكْرَمُونَ} لأن الفواكه والطعام والشراب مع الإهانة سموم وهموم ، وفي الأمثال اللبنانية :
{استقبلني ولا تطعمني} . {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} تجري من تحتها الأنهار {عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ} ينظر بعضهم إلى بعض بغبطة وسرور {يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} يحمل الولدان إليهم أنواعا من الشراب الذي لا ينضب له معين {بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} مشرقة اللون طيبة الطعم {لا فِيها غَوْلٌ} لا صداع من شرابها ولا أوجاع {ولا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ} أي لا يفنى شرابها ، يقال : نزف ماء البئر إذا استخرجه بكامله . ونزف الرجل إذا ذهب عقله ، ومن ثم قال بعض المفسرين : المراد ان عقولهم لا تذهب من شرابها {وعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ} . فواكه وتكريم وسرر وخدم وشراب ، وفوق ذلك حور عفيفات جميلات واسعات العيون {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} هذا كناية عن صيانتهن وبعدهن عن لمس الأيدي ونظرات الأعين .
المرأة والفتيان :
بالأمس القريب جاءني كتاب من إحدى الطالبات الكويتيات ، تقول فيه :
جرى حديث بينها وبين أترابها في حقوق المرأة ، فقالت هي : الإسلام لا يفرق بين الرجال والنساء . . فاعترضن عليها بأن القرآن نصّ صراحة على أن اللَّه غدا يكافئ الرجال الطيبين بالحور العين ، وسكت عن مكافأة النساء الطيبات بالشبان والفتيان الفوارس الأشاوس . . ولو كانت الحقوق سواء لوجب أن يكون الجزاء من نوع واحد . .
وتقول الآنسة : انها عجزت عن الجواب . ورغبت إليّ ان أكتب به إليها ، لتقنع الفتيات المعترضات .
ويدلنا هذا الحوار البريء على أن المرأة تماما كالرجل في غرائزه وميوله ، وان الرجل على شرطها هي وشروطها أفضل جزاء لها وثواب - طبعا والرجل كذلك - وأيضا يدل هذا الحوار على أن غيرة المرأة من الرجل تماما كغيرة الضرائر والنظائر .
وقلت في جوابي لها : ان القرآن الكريم نص صراحة على المساواة بين الذكر والأنثى كمبدأ عام ، وذلك حيث يقول : {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثى} [آل عمران - 195] : {ومَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثى وهُو مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ولا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء - 124] . .
وليس من شك أن من دخل الجنة وجد فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ذكرا كان أو أنثى كما في الآية 71 من الزخرف . . هذا ، إلى أن القرآن الكريم ذكر الولدان المخلدين كما ذكر الحور العين ، وإذا وصف الحور بالبيض المكنون فقد وصف الولدان باللؤلؤ المنثور كما في الآية 19 من سورة الدهر .
وغير بعيد أن يكون السكوت عن مكافأة النساء بالفتيان والشبان جاريا على المألوف بين الناس ، حيث يقولون للشاب لم لا تتزوج ؟ ومتى تتزوج ؟ ولا يقولون ذلك للفتيات والآنسات حيث يغلب عليهن الحياء ، وقديما قيل : أشد حياء من فتاة . . وأيضا قيل : ان ملذات الجنة كلها روحية ، لا شائبة فيها لمادة أو جنس ، وان ذكر الحور والفاكهة والكأس هو مجرد رمز وإشارة بلذة الجسم إلى لذة الروح ، وان السرر كناية عن الدرجات والمراتب .
_________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص338-339 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : {إنكم لذائقوا العذاب الأليم} تهديد لهم بالعذاب لاستكبارهم ورميهم الحق بالباطل .
قوله تعالى : {وما تجزون إلا ما كنتم تعملون} أي لا ظلم فيه لأنه نفس عملكم يرد إليكم .
قوله تعالى : {إلا عباد الله المخلصين - إلى قوله - بيض مكنون} استثناء منقطع من ضمير {لذائقوا} أومن ضمير {ما تجزون} ولكل وجه والمعنى على الأول لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم وليسوا بذائقي العذاب الأليم والمعنى على الثاني لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم وراء جزاء عملهم وسيجيء الإشارة إلى معناه .
واحتمال كون الاستثناء متصلا ضعيف لا يخلو من تكلف .
وقد سماهم الله سبحانه عباد الله المخلصين فأثبت لهم عبودية نفسه والعبد هو الذي لا يملك لنفسه شيئا من إرادة ولا عمل فهؤلاء لا يريدون إلا ما أراده الله ولا يعملون إلا له .
ثم أثبت لهم أنهم مخلصون بفتح اللام أي إن الله تعالى أخلصهم لنفسه فلا يشاركه فيهم أحد فلا تعلق لهم بشيء غيره تعالى من زينة الحياة الدنيا ولا من نعم العقبى وليس في قلوبهم إلا الله سبحانه .
ومن المعلوم أن من كانت هذه صفته كان التذاذه وتنعمه غير ما يلتذ ويتنعم غيره وارتزاقه بغير ما يرتزق به سواه وإن شاركهم في ضروريات المأكل والمشرب ومن هنا يتأيد أن المراد بقوله : {أولئك لهم رزق معلوم} الإشارة إلى أن رزقهم في الجنة - وهم عباد مخلصون - رزق خاص لا يشبه رزق غيرهم ولا يختلط بما يتمتع به من دونهم وإن اشتركا في الاسم .
فقوله : {أولئك لهم رزق معلوم} أي رزق خاص متعين ممتاز من رزق غيرهم فكونه معلوما كناية عن امتيازه كما في قوله : {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } [الصافات : 164] والإشارة بلفظ البعيد للدلالة على علو مقامهم .
وأما ما فسره بعضهم أن المراد بكون رزقهم معلوما كونه معلوم الخصائص مثل كونه غير مقطوع ولا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة ، وكذا ما ذكره آخرون أن المراد أنه معلوم الوقت لقوله : {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } [مريم : 62] وكذا قول القائل : إن المراد به الجنة فهي وجوه غير سديدة .
ومن هنا يظهر أن أخذ قوله : {إلا عباد الله المخلصين} استثناء من ضمير {وما تجزون} لا يخلو من وجه كما تقدمت الإشارة إليه .
وقوله : {فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم} الفواكه جمع فاكهة وهي ما يتفكه به من الأثمار بيان لرزقهم المعلوم غير أنه تعالى شفعه بقوله : {وهم مكرمون} للدلالة على امتياز هذا الرزق أعني الفاكهة مما عند غيرهم بأنها مقارنة لإكرام خاص يخصهم قبال اختصاصهم بالله سبحانه وكونه لهم لا يشاركهم فيه شيء .
وفي إضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى ذلك فقد تقدم في قوله : {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء : 69] ، وقوله : {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة : 3] وغيرهما أن حقيقة النعمة هي الولاية وهي كونه تعالى هو القائم بأمر عبده .
وقوله : {على سرر متقابلين} السرر جمع سرير وهو معروف وكونهم متقابلين معناه استئناس بعضهم ببعض واستمتاعهم بنظر بعضهم في وجه بعض من غير أن يرى بعضهم قفا بعض .
وقوله : {يطاف عليهم بكأس من معين} الكأس إناء الشراب ونقل عن كثير من اللغويين أن إناء الشراب لا يسمى كأسا إلا وفيه الشراب فإن خلا منه فهو قدح والمعين من الشراب الظاهر منه من عان الماء إذا ظهر وجرى على وجه الأرض ، والمراد بكون الكأس من معين صفاء الشراب فيها ولذا عقبه بقوله : {بيضاء} .
وقوله : {بيضاء لذة للشاربين} أي صافية في بياضها لذيذة للشاربين فاللذة مصدر أريد به الوصف مبالغة أوهي مؤنث لذ بمعنى لذيذ كما قيل .
وقوله : {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} الغول الإضرار والإفساد ، قال الراغب : الغول إهلاك الشيء من حيث لا يحس به انتهى .
فنفي الغول عن الخمر نفي مضارها والإنزاف فسر بالسكر المذهب للعقل وأصله إذهاب الشيء تدريجا .
ومحصل المعنى : أنه ليس فيها مضار الخمر التي في الدنيا ولا إسكارها بإذهاب العقل .
وقوله : {وعندهم قاصرات الطرف عين} وصف للحور التي يرزقونها وقصور طرفهن كناية عن نظرهن نظرة الغنج والدلال ويؤيده ذكر العين بعده وهو جمع عيناء مؤنث أعين وهي الواسعة العين في جمال .
وقيل : المراد بقاصرات الطرف أنهن قصرن طرفهن على أزواجهن لا يردن غيرهم لحبهن لهم ، وبالعين أن أعينهن شديدة في سوادها شديدة في بياضها .
وقوله : {كأنهن بيض مكنون} البيض معروف وهو اسم جنس واحدته بيضة والمكنون هو المستور بالادخار قيل : المراد تشبيههن بالبيض الذي كنه الريش في العش أو غيره في غيره فلم تمسه الأيدي ولم يصبه الغبار ، وقيل : المراد تشبيههن ببطن البيض قبل أن يقشر وقبل أن تمسه الأيدي .
______________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص113-115 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
يعد الله المستكبرين ، فإنّهم سيذوقون العذاب الإلهي الأليم {إنّكم لذائقوا العذاب الأليم} .
ولا تتصوّروا أنّ الله منتقم ، وأنّه يريد الإنتقام لنبيّه منكم ، كلاّ ليس كذلك (وما تجزون إلاّ ما كنتم تعملون) .
وحقيقة الأمر أنّ أعمالكم سوف تتجسّد أمامكم ، لتبقى معكم لتؤذيكم وتعذّبكم ، وجزاؤكم إنّما هو نتيجة أعمالكم وتكبّركم وكفركم وعدم إيمانكم بالله وزعمكم بأنّ آيات الله هي (شعر) ورسوله (مجنون) إضافةً إلى ظلمكم وإرتكابكم القبائح .
آخر آية في هذا البحث ، والتي هي ـ في الحقيقة ـ مقدّمة للبحث المقبل ، تستثني مجموعة من العذاب ، وهي مجموعة عباد الله المخلصين {إلاّ عباد الله المخلصين} (2) .
وكلمة (عباد الله) يمكنها لوحدها أن تبيّن إرتباط هذه المجموعة بالله سبحانه وتعالى ، وعندما تضاف إليها كلمة (مخلصين) فإنّها تعطي لتلك الكلمة عمقاً وحياةً ، و«مخلَص» (بفتح اللام) جاءت بصيغة اسم مفعول ، وتعني الشخص الذي أخلصه الله سبحانه وتعالى لنفسه ، أخلصه من كلّ أشكال الشرك والرياء ومن وساوس الشياطين وهوى النفس .
نعم فهذه المجموعة لا تحاسب على أعمالها ، وإنّما يعاملها الله سبحانه وتعالى بفضله وكرمه ، ويمنحها من الثواب بغير حساب .
وقوله تعالى : {اُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ (41) فَوَكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُر مُّتَقَبِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْس مِّن مَّعِين (45) بَيْضَاءَ لَذَّة لِّلشَّرِبِينَ (46) لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ (47) وَعِندَهُمْ قَصِرَتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ}
جوانب من النعم لأهل الجنّة :
الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدّثت عن عباد الله المخلصين ، أمّا آيات بحثنا هذا فإنّها تستعرض العطايا والنعم غير المحدودة التي يهبها الله سبحانه وتعالى لأهل الجنّة ، ويمكن توضيحها في سبعة أقسام :
تقول الآية أوّلا : إنّ لهم رزقاً معلوماً ومعيّناً {اُولئك لهم رزق معلوم} .
فهل هذه هي خلاصة لتلك النعم التي ستبيّنها الآيات فيما بعد ، وتوضيح للنعم التي ستغدق عليهم بصورة خفيّة .
أو إشارة إلى نعم معنوية غير معروفة وغير قابلة للوصف ، تتصدّر نعم أهل الجنّة .
بعض المفسّرين فسّرها بالشكل الأوّل ، فيما فسّرها آخرون بالشكل الثاني ، وتناسب البحث يتواءم مع المعنى الثاني ، وبهذا فإنّ النعمة الاُولى من النعم السبع ـ التي وردت في آيات بحثنا ـ هي الهبات المعنوية والمتع الروحية ودرك مظاهر ذات الله ، وتناول الشراب الطاهر والغمرة في عشق الله . اللذّة التي لا يمكن أن يدركها العبد ما لم يتذوّقها ويعيش رحابها .
والسبب في أنّ العطايا الماديّة في الجنّة قد ذُكرت في آيات القرآن الكريم بالتفصيل والهبات المعنوية والملذّات الروحية استعرضت بصورة خفيّة ، فهو أنّ الأُولى قابلة للوصف دون الثانية .
وأمّا بشأن معنى (رزق معلوم) فلقد قيل عنها الكثير ، هل هي بمعنى معلوم الوقت ، أم بقاءه ودوامه ، أم سائر خصائصه؟ ولكن كما قلنا قبل قليل فانّ «معلوم» تعبير خفي ومجمل عن المواهب التي لا تقبل الوصف .
ثمّ ينتقل إلى بيان نعم اُخرى ، ويعدّد قبل كلّ شيء بعض نعم الجنّة التي تقدّم لأهل الجنّة بكل إحترام وتكريم {فواكه وهم مكرمون} .
وليس بتلك الصورة التي يرمى فيها الطعام أمام الحيوان لتناوله ، وإنّما يقدّم لهم الطعام بكلّ إحترام وكأنّهم ضيوف أعزّاء .
هنا نترك الحديث عن أنواع الفواكه التي تقدّم لأهل الجنّة باحترام وتجليل ، لنتطرّق إلى أماكنهم في الجنّة ، حيث أنّ القرآن الكريم يقول : إنّ أماكنهم في حدائق خضراء مملوءة بنعم الجنّة (في جنّات النعيم) .
فأي نعمة يتمنّونها موجودة هناك ، وكلّ ما يطلبون يجدونه أمامهم .
وأشارت الآيات إلى النعمة الرابعة ، وهي إستئناس أهل الجنّة بمجالس السمر التي يعقدونها مع أصدقائهم في جو ملؤه الصفاء ، إذ يجلسون على سرر متقابلة وينظر كلّ منهم إلى الآخر (على سرر متقابلين) .
يتذاكرون في كلّ شيء ، فمرّة تراهم يتحدّثون عن ماضيهم في الدنيا ، واُخرى عن النعم العظيمة التي أغدقها عليهم الباري عزّوجلّ في الآخرة ، وأحياناً يستعرضون صفات الجمال والجلال عند الله ، وفي أوقات يتحدّثون عن مقام الأولياء وكراماتهم ، ويتذاكرون قضايا اُخرى قد لا ندركها نحن المسجونون في هذه الدنيا .
«سرر» هي جمع (سرير) وهي الأسرّة التي يجلس عليها الناس في مجالس سمرهم ، كما أنّ لهذه الكلمة معان أوسع ، حتّى أنّها تطلق أحياناً على تابوت الميّت ، ويحتمل أن يكون إطلاق هذه التسمية على تابوت الميّت برجاء أن يكون التابوت مركب بهجة يسير به إلى الرحمة الإلهية وجنّة الخلد .
أمّا القسم الخامس فيتحدّث عن نعمة اُخرى من النعم التي تغدق على أهل الجنّة ، إذ تطرّق إلى الشراب الطهور الذي يطاف به عليهم بكؤوس مملوءة بأنواع الخمور الطاهرة ، ومتى ما أرادوا فإنّهم يسقون من ذلك الخمر ليغرقوا في عالم من النشاط والروحية {يطاف عليهم بكأس من معين} .
وهذه الكؤوس ليست في مكان معيّن يذهبون إليها لأخذها ، وإنّما يطاف بها عليهم {يطاف عليهم} .
كلمة (كأس) يطلقها أهل اللغة على إناء الشراب المملوء ، فيما يطلقون كلمة (قدح) عليه إن كان خالياً ، وقال الراغب في مفرداته : الكأس الإناء بما فيه من الشراب .
أمّا كلمة (معين) مشتقّة من (معن) على وزن (صحن) وتعني الجاري ، إشارة إلى أنّ هناك عيوناً جارية من الخمر الطاهر ، تملأ منها ـ في كلّ لحظة ـ الكؤوس ، ومن ثمّ يطاف بها على أهل الجنّة ، وهذه العيون الجارية من الخمر الطاهر لا تنضب ولا تفسد ، إضافةً إلى أنّ الحصول عليها لا يحتاج إلى أي مشقّة أو تعب .
ثمّ ينتقل الحديث إلى وصف كؤوس الشراب ، إذ يقول : إنّها بيضاء اللون ومتلألئة وتعطي لذّة للشاربين بها {بيضاء لذّة للشاربين} .
وكلمة (بيضاء) إعتبرها بعض المفسّرين صفة لكؤوس الشراب ، فيما إعتبرها البعض الآخر صفة للشراب الطهور ، ويعني أنّ ذلك الشراب ليس كالأشربة الملوّنة في الدنيا ، بل إنّها أشربة طاهرة ، خالية من الألوان الشيطانية ، وبيضاء اللون شفّافة .
وبالطبع فإنّ المعنى الثاني أنسب لجملة (لذّة للشاربين) .
الآية السابقة التي تطرّقت إلى الشراب والكؤوس ربّما تجلب إلى الأذهان مفاهيم اُخرى ، أمّا الآية التي تليها فتطرد في جملة قصيرة كافّة تلك المفاهيم عن الأذهان {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} .
أي أنّ ذلك الخمر هو شراب طاهر لا يفسد العقل ، ولا يؤدّي إلى السكر والغفلة ، وإنّما يؤدّي إلى اليقظة والنشاط وفيه متعة للروح .
وكلمة (غول) على وزن (قول) تعني الفساد الذي ينفذ إلى الشيء بصورة غير محسوسة ، ولهذا يقال في الأدب العربي لعمليات القتل التي تتمّ بصورة سريّة أو خفية بأنّه (قتل غيلة) .
وكلمة (ينزفون) من مادّة (نزف) على وزن (حذف) وتعني فقدان الشيء تدريجيّاً ، وعندما تستخدم هذه الكلمة بشأن آبار المياه ، فإنّها تعطي معنى إستخراج الماء من البئر تدريجيّاً حتّى ينضب ، ويقال «نزيف الدم» وهو خروج الدم من الجسد تدريجيّاً حتّى ينتهي تماماً .
على أيّة حال ، فإنّ المقصود في هذه الآية ذهاب العقل تدريجيّاً والوصول إلى حالة السكرة ، أمّا خمر الجنّة الطاهر فإنّه لا يسكر على الإطلاق ، إذ لا يذهب بالعقل ولا يسبّب أي مضارّ .
هاتان العبارتان تتطرّقان في آن واحد ـ بصورة ضمنية ودقيقة ـ إلى الشراب في عالم الدنيا والذي ينفذ إلى حياة الإنسان بصورة تدريجية وسرية ، ويوجد عنده حالات الفساد والضياع ، حيث أنّها لا تؤدّي بعقل الإنسان وأعصابه إلى الدمار فحسب ، بل إنّ تأثيرها السلبي والذي لا يمكن إنكاره يمتدّ إلى جميع أعضاء جسم الإنسان ، إلى القلب وحتّى الشرايين ، وإلى المعدة والكلية والكبد ، وأحياناً تودي بحياة الإنسان وكأنّها تقتله غيلة ، وكذلك تأثيرها على عقل وذكاء الإنسان يشبه عملية سحب ماء البئر تدريجيّاً حتّى يجفّ .
ولكن الشراب الطهور الإلهي في يوم القيامة لا يحمل هذه الصفات (3) .
أمّا القسم السادس ، فإنّه يشير إلى الحور العين في جنّات النعيم (وعندهم قاصرات الطرف عين) ، أي نرزقهم زوجات لا يعشقن سوى أزواجهن ويقصرن طرفهن عليهم فقط ، ولهذه الزوجات أعيناً واسعة وجميلة .
(طرف) في الأصل تعني جفن العين ، وهذه الكلمة كناية عن النظر ، إذ أنّ أجفان العين تتحرّك عندما ينظر الإنسان إلى شيء ما ، إذن فإنّ عبارة (قاصرات الطرف) تعني النساء اللواتي ينظرن نظرة قصيرة ، كما أنّ هناك تفسيرات متعدّدة وردت بهذا الشأن يمكن درجها كالتالي :
الأوّل : هو أنّهن ينظرن إلى أزواجهنّ فقط ، ولا تمتد أبصارهنّ إلى سواهم .
والثاني : هذا التعبير كناية عن كونهنّ لا يعشقن إلاّ أزواجهنّ ، وقلوبهم متيّمة بمحبّتهم ، ولا توجد محبّة اُخرى في قلوبهنّ ، وهذا هو أكبر إمتياز للمرأة التي تحبّ زوجها وتتأمّل به .
والتّفسير الثالث : هو أنّ لهنّ أعين سكرى ، هذه الحالة الخاصّة التي طالما وصف فيها الشعراء جمال العين في قصائدهم (4) .
وبالطبع فإنّ المعنى الأوّل والثاني يبدوان أنسب ، مع أنّه لا مانع من الجمع بين المعاني .
كلمة (عِين) على وزن (سين) وجمعها (عيناء) وتعني المرأة ذات العين الواسعة .
وأخيراً ، فإنّ آخر آية في بحثنا هذا تعطينا وصفاً آخر لزوجات الجنّة ، إذ توضّح طهارتهنّ وقداستهن من خلال هذه العبارة {كأنّهنّ بيض مكنون} أي إنّهن نظيفات وظريفات ، وذوات أجسام بيضاء صافية كالبيض الذي كنه الريش في العشّ فلم تمسّه الأيدي ولم يصبه الغبار .
(بيض) جمع بيضة .
(مكنون) مشتقّة من (كن) على وزن (جنّ) وتعني المستور بالإدّخار .
هذا التشبيه القرآني يتّضح بصورة جيّدة إذا نظر الإنسان إلى البيضة في اللحظة التي تنفصل فيها عن الدجاجة ، ولم تمسّها بعد يد الإنسان لتستقرّ تحت جناح الدجاجة وريشها ، إذ تبدو عليها شفافية وصفاء عجيبان .
وبعض المفسّرين يرى بأنّ كلمة (مكنون) تعني المحتويات الداخلية للبيضة المختفية تحت القشرة ، وفي الواقع فإنّ التشبيه المذكور يشير إلى بيضة مطبوخة قد اُزيلت قشرتها الخارجية لتوّها ، وقد بدا عليها البياض اللامع والنعومة واللطافة .
الملاحظ أنّ عبارات القرآن المجيد الخاصّة بتوضيح الحقائق ، عميقة ومفعمة بالمعاني ، فعبارة قصيرة ولطيفة واحدة توضّح حقائق كثيرة وباُسلوب لطيف .
_____________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج11 ، ص248-254 .
2 ـ العبارة هذه (استثناء منقطع) من ضمير (تجزون) أو(لذائقو) .
3 ـ الضميران (فيها) و(عنها) يعودان على «الخمر» التي لم ترد بصورة مباشرة في الجملة ، لكن ذلك يتّضح من سياق الكلام ، وكما هو معروف فإنّ الخمرة هي مؤنث مجازي و(عن) في (عنها) إنّما هي لبيان العلّة ، وتعني أنّ هذه الخمرة لا تسكر هؤلاء ولا تفقد عقلهم وشعورهم ، ويجب الإلتفات إلى أنّ للخمر معنيان مشتركان ، إذ هي أحياناً تطلق على شراب يثير الفساد ويذهب بالعقل (إنّما الخمر والميسر . . .) (المائدة ـ 90) ، وأحياناً تطلق على الشراب الطاهر الذي يعطى لعباد الله المخلصين في جنان الخلد (وأنهار من خمر لذّة للشاربين) (محمّد ـ 15) .
4 ـ روح المعاني ، المجلّد 33 ، صفحة 81 .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
في مستشفى الكفيل.. نجاح عملية رفع الانزلاقات الغضروفية لمريض أربعيني
|
|
|