أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-8-2020
10568
التاريخ: 4-8-2020
14406
التاريخ: 6-8-2020
5221
التاريخ: 6-8-2020
53745
|
قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [النور: 43 - 46].
{ألم تر} أي: ألم تعلم {أن الله يزجي سحابا} أي: يسوقه سوقا رفيقا إلى حيث يريد. {ثم يؤلف بينه} أي: يضم بعضه إلى بعض، فيجعل القطع المتفرقة منه قطعة واحدة. {ثم يجعله ركاما} أي: متراكما، متراكبا بعضه فوق بعض. {فترى الودق يخرج من خلاله} أي: ترى المطر والقطر، يخرج من خلال السحاب أي: مخارج القطر منه. {وينزل من السماء من جبال فيها من برد} أي:
وينزل من جبال في السماء تلك الجبال من برد بردا. والسماء: السحاب، لأن كل ما علا مطبقا فهو سماء. ويجوز أن يكون البرد يجتمع في السحاب كالجبال، ثم ينزل منها، عن البلخي، وغيره. وقيل: معناه وينزل من السماء مقدار جبال من برد، كما يقول: عندي بيتان من تبن أي: قدر بيتين، عن الفراء. وقيل: أراد السماء المعروفة فيها جبال من برد مخلوقة، عن الحسن، والجبائي.
{فيصيب به} أي: بالبرد أي: بضرره {من يشاء} فيهلك زرعه، وماله {ويصرفه عمن يشاء} أي: ويصرف ضرره عمن يشاء، فيكون إصابته نقمة، وصرفه نعمة. {يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} أي: يقرب ضوء برق السحاب من أن يذهب بالبصر، ويخطفه لشدة لمعانه، كما قال: {يكاد البرق يخطف أبصارهم}.
{يقلب الله الليل والنهار} أي: يصرفهما في اختلافهما، وتعاقبهما، وإدخال أحدهما في الآخر {إن في ذلك} التقليب {لعبرة} أي: دلالة {لأولي الأبصار} أي: لذوي العقول، والبصائر {والله خلق كل دابة} أي: كل حيوان يدب على وجه الأرض، ولا يدخل فيه الجن، والملائكة. {من ماء} أي: من نطفة. وقيل: عنى به الماء، لأن أصل الخلق من الماء، لأن الله خلق الماء، وجعل بعضه نارا، فخلق الجن منها، وبعضه ريحا، فخلق منه الملائكة، وبعضه طينا فخلق منه آدم عليه السلام.
فأصل الحيوان كله الماء، ويدل عليه قوله {وجعلنا من الماء كل شئ حي}.
{فمنهم من يمشي على بطنه} كالحية والحوت والدود {ومنهم من يمشي على رجلين} كالإنس والطير. {ومنهم من يمشي على أربع} كالأنعام والوحوش والسباع. ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع، لأنه كالذي يمشي على أربع في رأي العين، فترك ذكره لأن العبرة تكفي بذكر الأربع. قال البلخي: إن الفلاسفة تقول: كل ما له قوائم كثيرة، فإن اعتماده إذا سعى على أربعة قوائم فقط. وقال أبو جعفر عليه السلام: ومنهم من يمشي على أكثر من ذلك. {يخلق الله ما يشاء} أي:
يخترع ما يشاء وينشؤه من الحيوان وغيره. وقال المبرد: قوله {كل دابة}: للناس وغيرهم. وإذا اختلط النوعان حمل الكلام على الأغلب. فلذلك قال. {من} لغير ما يعقل. {إن الله على كل شئ قدير} يخلق هذه الأشياء لقدرته عليها. فاختلاف هذه الحيوانات مع اتفاق أصلها، يدل على أن لها قادرا خالقا، عالما حكيما. {لقد أنزلنا أيات مبينات} أي. دلالات واضحات بينات. {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} أي: من جملة تلك الدواب. وعنى به المكلفين دون من ليس بمكلف.
والصراط المستقيم. الإيمان، لأنه يؤدي إلى الجنة. وقيل: إن المراد يهدي في الآخرة إلى طريق الجنة.
__________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي ،ج7،ص259-261.
قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهً يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ } . يرسل سبحانه الرياح ، فتثير سحابا يسوقه من بلد إلى بلد ، ثم يجمع بعضه فوق بعض على هيئة الجبال ، وفي هذا السحاب ماء سائل ، ومتجمد في قطع ثلجية تسمى بردا يخرج من السحاب { فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ ويَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ } . يتصرف سبحانه في البرد على موجب حكمته ، فان اقتضت إهلاك زرع أو أي شيء أرسل عليه البرد ، والا صرفه عنه . وتقدم مثله في الآية 12 من سورة الرعد ج 4 ص 388 وقلنا هناك وفي مناسبات شتى : ان الظواهر الكونية تستند إلى أسبابها الطبيعية مباشرة ، وتنتهي إليه تعالى بالواسطة لأنه خالق الكون بما فيه .
{ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصارِ } . ضمير برقه يعود إلى السحاب ، ويذهب بها يخطفها ، قال تعالى : {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ والنَّهارَ } طولا وقصرا { إِنَّ فِي ذلِكَ } التقلب { لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصارِ } الذين لا يقفون عند الأسباب الظاهرة ، ويدركون مبدعها وموجدها .
{ واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ومِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ومِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ } . ان لقدرة اللَّه ووحدانيته شواهد وبينات لا يبلغها الإحصاء ، منها ما يتجلى في خلق الجماد ، ومنها ما نشاهده في خلق النبات ، ومنها في خلق الحيوان ، وما يدب على الأرض ، واليه الإشارة في هذه الآية ، ومحل الشاهد في الدابة على قدرة اللَّه وعظمته ان الماء عنصر أساسي في تكوين الدابة وتركيبها ، وحقيقة الماء واحدة مع أن الدابة التي خلقت منه متنوعة ، فمنها من يمشي على بطنه كالزواحف ، ومنها من يمشي على رجلين كالإنسان ، ومنها ما يمشي على أربع كالأنعام والخيل والبغال والحمير والوحوش . .
إلى غير ذلك من الأنواع التي أشار إليها سبحانه بقوله : { يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهً عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . ان الدواب جميعا من أدنى نوع إلى أعلاه يسير على أكمل نظام ، ويفعل ما يلائمه ويتفق مع مصلحته ، وهذا دليل قاطع على أن وراء ذلك خالقا عظيما ومدبرا حكيما .
{ لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ } . أقام سبحانه الدلائل على وجوده وعظمته ووحدانيته ، ومنها خلق الدابة بشتى أنواعها ، ولم يدع عذرا لمتعلل . قال الإمام علي (عليه السلام) : ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان وموات ، وساكن وذي حركات ، فأقام من شواهد البينات على لطيف صنعه ، وعظيم قدرته ما انقادت له معترفة به مسلمة له { واللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ } . لا شك ان من سلك الصراط المستقيم الذي أمر سبحانه بسلوكه فهو مهتد عند اللَّه ، أما من عصى أمره تعالى ، وحاد عن صراطه فهو ضال عند اللَّه وعند الناس ، ما في ذلك ريب .
____________________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنيه ، ج5 ، ص430-431.
قوله تعالى: { ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله } إلى آخر الآية. الازجاء هو الدفع، والركام المتراكم بعضه على بعض، والودق هو المطر، والخلال جمع الخلل وهو الفرجة بين الشيئين.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعنوان أنه سامع فيشمل كل سامع، والمعنى: ألم تر أنت وكل من يرى أن الله يدفع بالرياح سحابا متفرقا ثم يؤلف بينه ثم يجعله متراكما بعضه على بعض فترى المطر يخرج من خلله وفرجه فينزل على الأرض.
وقوله: { وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالابصار } السماء جهة العلو، وقوله: { من جبال فيها } بيان للسماء، والجبال جمع جبل وهو معروف، وقوله: { من برد } بيان للجبال، والبرد قطعات الجمد النازل من السماء، وكونه جبالا فيها كناية عن كثرته وتراكمه، والسنا بالقصر الضوء.
والكلام معطوف على قوله: { يزجي }، والمعنى: ألم تر أن الله ينزل من السماء من البرد المتراكم فيها كالجبال فيصيب به من يشاء فيفسد المزارع والبساتين وربما قتل النفوس والمواشي ويصرفه عمن يشاء فلا يتضررون به يقرب ضوء برقه من أن يذهب بالابصار . والآية - على ما يعطيه السياق - مسوقة لتعليل ما تقدم من اختصاصه المؤمنين بنوره، والمعنى: أن الامر في ذلك إلى مشيته تعالى كما ترى أنه إذا شاء نزل من السماء مطرا فيه منافع الناس لنفوسهم ومواشيهم ومزارعهم وبساتينهم، وإذا شاء نزل بردا فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء.
قوله تعالى: { يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار } بيان آخر الرجوع الامر إلى مشيته تعالى فقط. وتقليب الليل والنهار تصريفهما بتبديل أحدهما من الآخر، ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: { والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع } بيان آخر لرجوع الامر إلى مشيته تعالى محضا حيث يخلق كل دابة من ماء ثم تختلف حالهم في المشي فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات والديدان، ومنهم من يمشي على رجلين كالأناسي والطيور ومنهم من يمشي، على أربع كالبهائم والسباع، واقتصر سبحانه على هذه الأنواع الثلاثة - وفيهم غير ذلك - إيجازا لحصول الغرض بهذا المقدار.
وقوله: { يخلق الله ما يشاء } تعليل لما تقدم من اختلاف الدواب، مع وحدة المادة التي خلقت منها يبين أن الامر إلى مشية الله محضا فله أن يعمم فيضا من فيوضه على جميع خلقه كالنور العام والرحمة العامة، وله أن يختص بفيض من فيوضه بعضا من خلقه دون بعض كالنور الخاص والرحمة الخاصة.
وقوله: { إن الله على كل شئ قدير } تعليل لقوله: { يخلق الله ما يشاء } فإن إطلاق القدرة على كل شئ يستوجب أن لا يتوقف شئ من الأشياء في كينونته على أمر وراء مشيته وإلا كانت قدرته عليه مشروطة بحصول ذلك الامر وهذا خلف.
__________________
1- تفسير الميزان الطباطبائي، ج15 ، ص111-113.
جانب آخر من الخلق العجيب :
نواجه ثانية ـ في هذه الآيات ـ جانباً آخر من مسألة الخلق المدهشة، وما احتوته من آيات العلم والحكمه والعظمة، وكلّ ذلك من أدلّة توحيد ذاتِ اللهِ الطاهرة.
يخاطِبُ القرآنُ المجيد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم9 ثانية ويقول{ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثمّ يؤلف بينه ثمّ يجعله ركاماً} وبعد أن تتراكم السحب ترى قطرات المطر تخرج من بين السحاب وتهبط على الجبال والسهول والصحاري {فترى الودق يخرج من خلاله}.
وكلمة «يزجي» مشتقّة من «الإزجاء»، أي سوقه بأُسلوب لين لترتيب المخلوقات المتبعثرة هنا وهناك بقصد جمعها.
وهذا التعبير يصدق بالنسبة للسحب، حيث ترتفع كلّ قطعة منه من جانب من البحر. ثمّ تسوقها يد القدرة الإلهية. وتجمعها، فتراكم بعضها على بعض.
وكلمة «ركام» على وزن «غلام»، بمعنى الأشياء المتراكمة بعضها فوق بعض.
وأمّا «الودق» على وزن «شرق»، فيرى الكثيرون أنّها حبّات المطر، إلاّ أّن الراغب الأصفهاني يرى في مفرداته أنّها ذرات دقيقة من الماء، أي: الرذاذ الذي يتناثر في الفضاء حين هطول المطر.
والمعنى الأوّل أكثر ملاءمة هنا، فما يدلّ بشكل أكبر على عظمة الله هو ذرات المطر نفسها وليس رُذاذه، إضافة إلى أنَّ القرآن كُلَّما ذكر السحاب ونزول بركات الله من السماء، أشار فيها إلى المطر. فهو الذي يحيي الأرض بعد موتها ويبعث الحياة في الأشجار والنباتات، ويروي عطش البشر والحيوان.
وأشار القرآن إلى ظاهرة أُخرى من ظواهر السماء المدهشة، وهي السحاب، حيث قال: {وينزل من السماء من جبال فيها من برد} أي من جبال السحب في السماء تنزل قطرات المطر على شكل ثلج وَبَرَد، فتكون بلاء لمن يريد الله عذابه فتصيب هذه الثلوج المزارع والثمار وتتلفها وقد تصيب الناس والحيوانات فتؤذيهم {فيصيب به من يشاء} ومن لم يرد تعذيبه دفع عنه هذا البلاء {ويصرفه عمن يشاء}.
أجل، إنّه هو الذي ينزّل الغيث المخصب من سحابة تارة ... وهو الذي يُصيّره برَداً بأدنى تغيير بأمره فيصيب به {بالأذى} من يشاء، وربما يكون مُهلكاً أحياناً.
وهذا يدلّ على منتهى قُدرته وعظمته ـ إذ جَعَلَ نفع الإِنسان وضرره وموته وحياته متقارنة، بل مزج بعضها ببعض!
وفي نهاية الآية يشير إلى ظاهرة أخرى من الظواهر السماوية الّتي هي من آيات التوحيد فيقول سبحانه {يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار}.
فالسُحبُ المؤلفة في الحقيقة من ذرات الماء تحمل في طيّاتها الشحنات «الكهربائية»، وتُومض إيماضاً يُذهل برقها {العيون} والأبصار وَيَصُكّ رعدها السمع من صوته، وربّما اهتزت له جميع الاجواء.
إن هذه الطاقة الهائلة يبن هذا البخار اللطيف لمثيرةٌ للدهشة حقّاً!...
ردّ على استفسار:
السؤال الذي بقي هنا هو: ما هذا الجبل الذي في السماء ينزل منه البَرَد؟ أجاب المفسّرون عن هذا الإستفسار بأجوبة مختلفة، هي:
1 ـ قال البعض: إنَّ كلمة الجبال هنا كناية، مثلما نقول جبل من غذاء أو جبل من علم. وعلى هذا فإنّ مفهوم الآية السابقة، هو أنّ هناك بَرَداً متراكماً كالجبل في قلب السماء أوجد السحاب، وينزل قسم منه في المدن، وقسم آخر في الصحراء، ويصيب به من يشاء.
2 ـ وقال آخرون: المقصود من الجبال السحب المتراكمة بحيث تشبه الجبل.
3 ـ وذكر صاحب تفسير «في ظلال القرآن»، بياناً آخر هو الأوفق حسب الظاهر، وهو: «إن يدالله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان، ثمّ تؤلف بينه وتجمعه فإذا هو ركام بعضه فوق بعض، فإذا ثقل خرج منه الماء والويل الهاطل، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة، ومشهد السحاب كالجبال لا يبدو لنا كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها، فإذا المشهد مشهد جبال حقاً، بضخامتها ومساقطها وارتفاعها وانخفاضها، وإنّه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس إلاّ بعد ما ركبوا الطائرات»(2).
ويمكن أن يضاف إلى ذلك أنَّ العلماء يرون في كيفية تكون البَرد في السماء أنَّ قطرات المطر تنفصل من السحاب، وإذا مرت بطبقة باردة من الهواء أصبحتْ ثلجاً، ثمّ تدفعها أحياناً العواصف الموجودة هناك إلى الأعلى، فتدخل قطع الثلج هذه إلى داخل السحب، ويكتسب بعضها مياهاً جديدة ثمّ تهبط، فتجمد ثانية عند مرورها بطبقة من الهواء البارد جدّاً.
وكلما تكرر وقوع هذا العمل نَمَت هذه القطع من الثلج وآزداد وزنها، إلى أنْ تقع على الأرض بعد أن تعجز الأعاصير عَنْ دفعِها إلى الأَعلى مرّة أُخرى. أو أنَّ الإعصار يهدأ فيِسقط البرد على الأرض.
وبهذا الشرح العلمي يتّضح لنا المراد من كلمة «الجبال» التي وردت في هذه الآية، لأن تكوّن البَرَد بقطع كبيرة وثقيلة ممكن في حال تراكم السحب، حتى يقذف الإعصار حبّات البَرَد وسطها، لتكسب هذه الحبّات قدراً أكبر من مياه السحب.
وذلك ممكن في حالة وجودِ جبال مرتفعة من السحب، لتكون مصدراً جيداً لتكونَ البَرد.(3)
ونقرأ هنا تحليلا آخر ذكره بعضُ الكتّاب، وخلاصته كالآتي: «أشارت الآيات موضع البحث بصراحة إلى الجبال الثلج، أي الجبال التي فيها نوع من الثلوج.
وهذا يثير الإنتباه كثيراً، لأنّ اختراع الطائرات والتمكن من التحليق بها في مستوىً مرتفع زاد من آفاق علم البشر، فقد تمكّن العلماء من الوصول إلى سُحب مستورة ومتكونة من تراكمات ثلجية، وحقّاً ممكن أن تسمى بجبال الثلج.
وممّا يثير الدهشة أنَّ أحد علماء السوفيت استخدم ـ لعدة مرات ـ اسم «جبال السحب» و«جبال الثلج» خلال شرحه موضوع سُحُب العواصف الثلجية، وبهذا يتّضح لنا وجود جبال من الثلج في السماء.
وأشارت الآية التالية إلى إحدى معاجز الخلق ودلائل عظمة الله، وهو خلق الليل والنهار بما فيهما من خصائص، حيث تقول {يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}.
وذكرت لمعنى «يقلّب» عدّة تفاسير، فقال البعض: إنَّ تقلب الليل والنهار هو أنْه إذا حَلَّ أحدهما مَحَا الآخر.
وقال البعض: إنَّه قصر أحدهما وطولُ الآخر، ويَحْدُثُ ذلك بصورة تدريجية وله ارتباطٌ بالفصول الأربعة.
واعتبْر آخرون تقلبات الحرّ والبرد، وحوادث أُخرى تقع في الليل والنهار(4).
وليس بين هذا التفاسير أيُ تناقض، بل يمكن جمعُها في مفهوم عبارة «يقلب»، ولا ريب ـ وقَدْ برهن العلم على ذلك ـ أنَّ لتعاقب الليل والنهار والتغييرات التدريجية الحاصلة منه أثر فَعّال في استدامة الحياة وبقاء الإنسان، وفي ذلك عبرة لأُولي الأبصار.
وإذا كانت حرارة الشمس على نسق واحد، فإنَّها ترفع درجة حرارة الهواء، وتقتل الأحياء وتتعب الأعصاب، لكنَّ وقوع الليل بين نهارين يعدِّل من أثر الشمس القوي ويلائمه.
كما إنّ التغييرات التدريجية في ساعات الليل والنهار هي السبب في ظهور الفصول الأربعة، وعامِلٌ مؤثِّرٌ جدّاً في نمو النباتات وحياة جميع الأحياء وهطول المطر وتكوين المياه الجوقية التي هي مِنْ كنوزِ الأرض(5).
وأشارت آخر الآيات ـ موضع البحث ـ إلى أبرز صورة وأوضح دليل على التوحيد، وهي مسألة الحياة بصورها المختلفة، فقالت: {والله خلق كل دابّة من ماء} أي أنّ أصلها جميعاً من ماء، ومع هذا فلها صور مختلفة {فمنهم من يمشي على بطنه} كالزواحف. {ومنهم من يمشي على رجلين} كالإنسان والطيور {ومنهم من يمشي على أربع} كالدواب.
وليس الخلق محدداً بهذِهِ المخلوقات، فالحياة لها صور أُخرى متعددةٌ بشكل كبير، سواءَ كانت أحياء بحرية أم حشرات بأنواعها المتعددة التي تبلغ آلاف الأنواع، لهذا قالت الآية في الختام {يخلق اللّه ما يشاء إن الله على كل شيء قدير}.
{ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }.
الإيمان وقبول حكم الله :
تحدثت الآيات السابقة عن الإيمان بالله وعن دلائل توحيده وعلائمه في عالم التكوين، بينما تناولت الآيات ـ موضع البحث ـ أثَرَ الإيمان وانعكاس التوحيد في حياة الإنسان، وإذعانه للحقّ والحقيقة.
تقول أوّلا: {لقد أنزلنا آيات مبينات} آيات تنور القلوب بنور الإيمان والتوحيد، وتزيد في فكر الإنسان نوراً وبهجة، وتبدّل ظلمات حياته إلى نور على نور. وطبيعي أنّ هذه الآيات المبينات تُمهد للإِيمان، إلاّ أنَّ الهداية الإِلهية هي صاحبةُ الدور الأساسي {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.
وكما نعلم فإنّ إرادة الله ومشيئته ليست دون حساب، فهو سبحانه وتعالى يدخل نور الهداية إلى القلوب المستعدة لتقبله، أي التي أبدت المجاهدة في سبيل الله وقطعت خطوات للتقرب إليه، فأعانها على قَدرِ سَعْيِها في الوصول إلى لطفه سبحانه.
________________
1- تفسير الامثل ، مكارم الشيرازي، ج9،ص103-110.
2 ـ تفسير من ظلال القرآن المجلد (19 ـ 20) صفحة 109 ـ 110 ـ دار إحياء الكتب العربية ـ الطبعة الأُولى.
3 ـ تكرر حرف (من)ثلاث مرات في عبارة (وينزل من السماء من جبال فيها من يرد)
أولاها ابتدائية، وثانيتها لها نسبة مع إبتدائية، وأمّا الثّالثة فقد اختلف في تفسيرها كما ذكرنا أعلاه، فهي بحسب التّفسير الأوّل بيانية، ويكون مفهوم الجملة هو ينزل من السماء من جبال من برد. وقد حذف مفعول الفعل (ينزل)
وهو البرد، ويفهم ذلك من قرينة في الكلام، وعلى حسب التفسيرين الثّاني والثّالث اللذين اخترناهما تكون «من»
إمّا زائدة (حسبما نقله تفسير روح المعاني عن الأخفش) أو هي للتبعيض.
4 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، وتفسير مجمع البيان، وتفسير روح المعاني.
5 ـ بحثنا في هذا المجال في التّفسير الأمثل عند تفسير الآية (6) من سورة يونس.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|