أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-8-2020
4797
التاريخ: 30-7-2020
21526
التاريخ: 28-7-2020
3059
التاريخ: 1-8-2020
3703
|
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 87 - 99]
ذكر سبحانه ما خص به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) من النعم فقال{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي } وقد تقدم الكلام فيه وإن السبع المثاني هي فاتحة الكتاب وهو قول علي (عليه السلام) وابن عباس والحسن وأبي العالية وسعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد وقتادة وروي ذلك عن أبي عبد الله وأبي جعفر (عليه السلام) وقيل هي السبع الطوال وهي السور السبع من أول القرآن وإنما سميت مثاني لأنه يثني فيها الأخبار والعبر عن ابن عباس في رواية أخرى وابن مسعود وابن عمر والضحاك وقيل المثاني القرآن كله لقوله{ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } عن أبي مالك وطاووس وروي نحوذلك عن عباس ومجاهد.
ومن قال هي فاتحة الكتاب اختلفوا في سبب تسميتها مثاني فقيل: لأنها تثنى قراءتها في الصلاة عن الحسن وأبي عبد الله (عليه السلام) وقيل: لأنها تثني بها مع ما يقرأ من القرآن عن الزجاج وقيل: لأن فيها الثناء مرتين وهو الرحمن الرحيم وقيل: لأنها مقسومة بين الله وعبده على ما روي في الخبر وقيل: لأن نصفها ثناء ونصفها دعاء وقيل: لأنها نزلت مرتين تعظيما وتشريفا لها وقيل: لأن حروفها كلها مثناة نحوالرحمن الرحيم إياك وإياك والصراط وصراط وقيل: لأنها تثني أهل الفسق عن الفسق ومن قال المراد بالمثاني القرآن كله فإن من في قوله { من المثاني } يكون للتبعيض ومن قال إنها الحمد كان من للتبيين وقال الراجز :
نشدتكم بمنزل القرآن أم الكتاب السبع من مثاني
ثنتين من آي من القرآن والسبع سبع الطول الدواني
{ وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } تقديره وآتيناك القرآن العظيم وصفه بالعظيم لأنه يتضمن جميع ما يحتاج إليه من أمور الدين بأوجز لفظ وأحسن نظم وأتم معنى{ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ } أي: لا ترفعن عينيك من هؤلاء الكفار إلى ما متعناهم وأنعمنا عليهم به أمثالا في النعم من الأموال والأولاد وغير ذلك من زهرات الدنيا فإنها في معرض الزوال والفناء مع ما يتبعها من الحساب والجزاء وعلى هذا فيكون أزواجا منصوبا على الحال والمراد به الأشباه والأمثال.
وقيل: إن معناه لا تنظرن إلى ما في أيديهم من النعم التي هي أشباه يشبه بعضها بعضا فإن ما أنعمنا عليك وعلى من اتبعك من أنواع النعم وهي النبوة والقرآن والإسلام والفتوح وغيرها أكثر وأوفر مما آتيناهم وقيل إن معناه ولا تنظرن ولا تعظمن في عينيك ولا تمدهما إلى ما متعنا به أصنافا من المشركين والأزواج الأصناف ويكون على هذا مفعولا به نهى الله رسوله عن الرغبة في الدنيا فحظر عليه أن يمد عينيه إليها وكان رسول الله لا ينظر إلى ما يستحسن من الدنيا{ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي: على كفار قريش إن لم يؤمنوا ونزل بهم العذاب عن الكلبي وقيل: لا تحزن عليهم بما يصيرون إليه من عذاب النار بكفرهم عن الحسن وقيل: لا تحزن لما أنعمت عليهم دونك عن الجبائي.
{ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: ألن لهم جانبك وارفق بهم عن ابن عباس والعرب تقول فلان خافض الجناح إذا كان وقورا حليما وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثم خفضه فالمعنى تواضع للمؤمنين لكي يتبعك الناس في دينك{ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ } معناه: وقل إني أنا المعلم بموضع المخافة ليتقى المبين لكم ما تحتاجون إليه وما أرسلت به إليكم{ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} قيل فيه قولان أحدهما : إن معناه أنزلنا القرآن عليك كما أنزلنا على المقتسمين وهم اليهود والنصارى.
{ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أي: فرقوه وجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه عن قتادة قال آمنوا بما وافق دينهم وكفروا بما خالف دينهم وقيل سماهم مقتسمين لأنهم اقتسموا كتب الله تعالى ف آمنوا ببعضها وكفروا ببعضها عن ابن عباس والآخر: إن معناه إني أنذركم عذابا كما أنزلنا على المقتسمين الذين اقتسموا طرق مكة يصدون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) والإيمان به قال مقاتل وكانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم يقولون لمن أتى مكة لا تغتروا بالخارج منا والمدعي النبوة فأنزل الله بهم عذابا فماتوا شر ميتة ثم وصفهم فقال{ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أي: جزءوه أجزاء فقالوا سحر وقالوا أساطير الأولين وقالوا مفترى عن ابن عباس .
لما بين سبحانه كفرهم بالقرآن وتعضيتهم له بين عقيب ذلك لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه يسألهم عما فعلوه ويجازيهم عليه فقال{ فوربك } يا محمد لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } أقسم بنفسه وأضاف نفسه إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) تشريفا له وتنبيها للخلق على عظيم منزلته عنده لنسألن هؤلاء الكفار سؤال توبيخ وتقريع بأن نقول لهم لم عصيتم وما حجتكم في ذلك فيظهر عند ذلك خزيهم وفضيحتهم عند تعذر الجواب{ عما كانوا يعملون } معناه :عما عملوا فيما عملوا عن سفيان بن عيينة وقيل: عن لا إله إلا الله والإيمان برسله عن الكلبي وقيل: عما كانوا يعبدون وبما ذا أجابوا المرسلين عن أبي العالية.
{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } أي: أظهر وأعلن وصرح بما أمرت به غير خائف عن ابن عباس وابن جريج ومجاهد وابن زيد وقيل: معناه فافرق بين الحق والباطل بما أمرت به عن الجبائي والأخفش وقيل: أبن ما تؤمر به وأظهره عن الزجاج قال: وتأويل الصدع في الزجاج وفي الحائط أن تبين بعض الشيء عن بعض{ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي: لا تخاصمهم إلى أن تؤمر بقتالهم وقيل: معناه لا تلتفت إليهم ولا تخف عنهم عن أبي مسلم وقيل: وأعرض عن مجاوبتهم إذا آذوك عن الجبائي{ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} أي: كفيناك شر المستهزءين واستهزاءهم بأن أهلكناهم وكانوا خمسة نفر من قريش العاص بن وائل والوليد بن المغيرة وأبو زمعة وهو الأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والحرث بن قيس عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
وقيل: كانوا ستة رهط عن محمد بن ثور وسادسهم الحارث بن الطلاطلة وأمه عيطلة قالوا وأتى جبرائيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمستهزءون يطوفون بالبيت فقام جبرائيل ورسول الله إلى جنبه فمر به الوليد بن المغيرة المخزومي فأومى بيده إلى ساقه فمر الوليد على قين لخزاعة وهو يجر ثيابه فتعلقت بثوبه شوكة فمنعه الكبر أن يخفض رأسه فينزعها وجعلت تضرب ساقه فخدشته فلم يزل مريضا حتى مات ومر به العاص بن وائل السهمي فأشار جبرائيل إلى رجله فوطىء العاص على شوكة فدخلت في أخمص رجله فقال لدغت فلم يزل يحكها حتى مات ومر به الأسود بن المطلب بن عبد مناف فأشار إلى عينه فعمي وقيل رماه بورقة خضراء فعمي وجعل يضرب رأسه على الجدار حتى هلك ومر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى فمات وقيل: أصابه السموم فصار أسود فأتى أهله فلم يعرفوه فمات وهو يقول قتلني رب محمد ومر به الحارث بن الطلاطلة فأومى إلى رأسه فامتخط قيحا فمات وقيل: إن الحرث بن قيس أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فما زال يشرب حتى أنقد بطنه فمات.
ثم وصفهم سبحانه بالشرك فقال{ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي: اتخذوا معه إلها يعبدونه{ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} هذا وعيد لهم وتهديد{ ولقد نعلم أنك } يا محمد{ يَضِيقُ صَدْرُكَ } أي: قلبك{ بما يقولون } من تكذيبك والاستهزاء بك وهذا تعزية من الله تعالى لنبيه وتطييب لقلبه{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } أي: قل سبحان الله وبحمده{ وكن من الساجدين } أي: المصلين عن الضحاك وابن عباس قال وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة وقيل: معناه احمد ربك على نعمه إليك وكن من الذين يسجدون لله ويوجهون بعبادتهم إليه{ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } أي: إلى أن يأتيك الموت عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقيل: حتى يأتيك اليقين من الخير والشر عند الموت عن قتادة وسمي الموت يقينا لأنه موقن به ويحتمل أن يكون أراد حتى يأتيك العلم الضروري بالموت والخروج من الدنيا الذي يزول معه التكليف قال الزجاج: المعنى اعبد ربك أبد الآبدين ولوقال اعبد ربك بغير توقيت لجاز أن يكون الإنسان مطيعا إذا عبد الله مرة فإذا قال حتى يأتيك اليقين فقد أمر بالإقامة على العبادة أبدا ما دام حيا .
______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص129-134.
{ ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي والْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } . اختلفوا في المراد بالسبع المثاني ، وذكر المفسرون خمسة أقوال ، أرجحها - فيما نرى - انها سورة الفاتحة ، فهي سبع آيات ، ويثنى بها في الصلاة ، وتجمع بين ذكر الربوبية والعبودية .
إذن ، هي سبع بآياتها ، ومثاني بصفاتها .
{ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ } . يستعمل الزوج بالصنف ، ومنه قوله تعالى : « فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ - 52 الرحمن » أي صنفان .
وقوله : « وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ - 58 ص » أي أصناف . وقوله : « سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ - 36 يس » . وعلى هذا يكون المراد بالأزواج في الآية التي نفسرها أصناف الكفار المشركين وأهل الكتاب ، وبكلمة ثانية الكفار بجميع أصنافهم ، وضمير منهم يعود إلى الكفار ، ومحصل المعنى لا تنظر يا محمد أو لا تحفل بما تراه من الزينة التي يتمتع بها أصناف الكفار من المشركين وأهل الكتاب { ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } كان النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) يحزن ويتألم لنفور المشركين وعدم ايمانهم ، فأمره المولى جل وعلا بأن لا يهتم ولا يكترث ، ومثله : « فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهً عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ - 8 فاطر » { واخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } . تواضع للطيبين المخلصين لأن التواضع لهؤلاء تواضع للَّه ، والتكبر على الخونة المفسدين جهاد في سبيل اللَّه : « أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ - 54 المائدة » .
{ وقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ } . دعا محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) الناس دعوة الحق بالحجج والبينات ، وما زالت دعوته قائمة بأدلتها وبراهينها حتى اليوم والى آخر يوم ، وعلى كل عاقل أن ينظرها ويتدبرها ، فإن آمن بها آمن عن بينة ، وان رفضها رفض عن بينة ، أما من ينفر دون أن ينظر فهو ملام ومؤاخذ { كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } . المراد بالمقتسمين اليهود والنصارى لأنهم هم الذين جعلوا القرآن عضين أي فرّقوه وقسّموه أعضاء وأبعاضا ، حيث آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض ، كفروا بما يصطدم مع مصالحهم وتقاليدهم ، وآمنوا بما عدا ذلك ، ومحصل المعنى ان اللَّه أنزل القرآن على محمد كما أنزل التوراة على اليهود ، والإنجيل على النصارى الذين آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعض . فأي عجب أن ينزل على محمد كتاب من ربه ما دام قد نزل من قبله أكثر من كتاب ! .
{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ }. قرر القرآن في هذه الآية مسؤولية الإنسان عن أعماله ، وفي الآية 18 من سورة ق قرر مسؤوليته عن أقواله :
« ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ » . وفي الآية 19 من سورة غافر قرر مسؤوليته عن مقاصده ونواياه : « يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور » . ومتى أيقن الإنسان بأن عليه رقيبا قادرا عادلا خاف واتقى . . ومحال أن تنتظم الحياة الإنسانية بدون الشعور بالمسؤولية والالتزام بها .
{ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } ادع إلى ربك بالحجة والبرهان ، ولا تبال بإعراض من أعرض وإدبار من أدبر { إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } . ذكر المفسرون ، ومنهم الطبري والرازي والطبرسي : ان جماعة من مشركي قريش لهم قوة وشوكة كانوا يسخرون ويهزؤون من رسول اللَّه ( صلى الله عليه والخ وسلم ) . فأهلكهم اللَّه سبحانه بأهون الأسباب وأيسرها ، ومن هؤلاء الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وعدي بن قيس ، والأسود بن عبد يغوث .
{ ولَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } .
من الطبيعي ان يحزن النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) ويتألم إذا استهزأ به المشركون ، وقالوا عنه :
مجنون ومفتر على اللَّه ، من الطبيعي أن يضيق صدره بما يقول عنه الكافرون لأنه إنسان من لحم ودم يفرح بما يفرح به الناس ، ويحزن مما يحزنون ، ولكن ما هي العلاقة بين الحزن والعبادة ، حتى أمره اللَّه تعالى بأن يلجأ إليها إذا حزن وضاق صدره ؟ .
الجواب ، ان اللَّه سبحانه لم يأمر نبيه بالعبادة هنا ليبين له ان ضيق الصدر سبب للأمر بالعبادة ، كلا فإن الأمر بعبادة اللَّه غير مقيد بفرح ولا بحزن ، وانما الأمر بالعبادة هنا كناية عن الاتكال على اللَّه والفزع إليه وحده إذا ألمّ بالنبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) ما يؤلمه ويزعجه ، تماما كقوله تعالى : « وإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - 200 الأعراف » . أنظر ج 3 ص 439 .
{ واعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }. المراد باليقين هنا الموت لأنه واقع لا محالة والقصد أن يستمر الإنسان في العبادة والإخلاص للَّه مدة حياته : « وأَوْصانِي بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا - 31 مريم » .
__________________
1- التفسير الكاشف، ج 4، محمد جواد مغنية، ص 489-491.
قوله تعالى:{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} السبع المثاني هي سورة الحمد على ما فسر في عدة من الروايات المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) فلا يصغى إلى ما ذكره بعضهم: أنها السبع الطوال، وما ذكره بعض آخر أنها الحواميم السبع، وما قيل: إنها سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء، فلا دليل على شيء منها من لفظ الكتاب ولا من جهة السنة.
وقد كثر اختلافهم في قوله:{من المثاني} من جهة كون{من} للتبعيض أوللتبيين وفي كيفية اشتقاق لفظة المثاني ووجه تسميتها بالمثاني.
والذي ينبغي أن يقال - والله أعلم - أن{من} للتبعيض فإنه سبحانه سمى جميع آيات كتابه مثاني إذ قال:{ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ }: الزمر: 23 وآيات سورة الحمد من جملتها فهي بعض المثاني لا كلها.
والظاهر أن المثاني جمع مثنية اسم مفعول من الثني بمعنى اللوي والعطف والإعادة قال تعالى{يثنون صدورهم}: هود: 5، وسميت الآيات القرآنية مثاني لأن بعضها يوضح حال البعض ويلوي وينعطف عليه كما يشعر به قوله:{كتابا متشابها مثاني} حيث جمع بين كون الكتاب متشابها يشبه بعض آياته بعضا وبين كون آياته مثاني، وفي كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في صفة القرآن:{يصدق بعضه بعضا} وعن علي (عليه السلام): فيه:(ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض) أوهي جمع مثنى بمعنى التكرير والإعادة كناية عن بيان بعض الآيات ببعض.
ولعل في ذلك كفاية وغنى عما ذكروه من مختلف المعاني كما في الكشاف وحواشيه والمجمع وروح المعاني وغيرها كقولهم: إنها من التثنية أو الثني بمعنى التكرير والإعادة سميت آيات القرآن مثاني لتكرر المعاني فيها، وكقولهم: سميت الفاتحة مثاني لوجوب قراءتها في كل صلاة مرتين أولأنها تثنى في كل ركعة بما يقرأ بعدها من القرآن، أو لأن كثيرا من كلماتها مكررة كالرحمان والرحيم وإياك والصراط وعليهم، أو لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة أولما فيها من الثناء على الله، أولأن الله استثناها وادخرها لهذه الأمة ولم ينزلها على الأمم الماضين كما في الرواية، إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في التفاسير.
وفي قوله:{ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } من تعظيم أمر الفاتحة والقرآن ما لا يخفى أما القرآن فلتوصيفه من ساحة العظمة والكبرياء بالعظيم، وأما الفاتحة فلمكان التعبير عنه بالنكرة غير الموصوفة{سبعا} وفيه من الدلالة على عظمة قدرها وجلالة شأنها ما لا يخفى وقد قوبل بها القرآن العظيم وهي بعضه.
والآية - كما تبين - في مقام الامتنان وهي مع ذلك لوقوعها في سياق الدعوة إلى الصفح والإعراض تفيد أن في هذه الموهبة العظمى المتضمنة لحقائق المعارف الإلهية الهادية إلى كل كمال وسعادة بإذن الله عدة أن تحملك على الصفح الجميل والاشتغال بربك والتوغل في طاعته.
قوله تعالى:{ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ - إلى قوله - المبين} الآيتان في مقام بيان الصفح الجميل الذي تقدم الأمر به، ولذلك جيء بالكلام في صورة الاستئناف.
والمذكور فيهما أربعة دساتير: منفيان ومثبتان فقوله:{ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ } مد العينين إلى ما متعوا به من زهرة الحياة الدنيا كناية عن التعدي عن قصر النظر على ما آتاه الله من نعمة، والمراد بالأزواج الأزواج من الرجال والنساء أوالأصناف من الناس كالوثنيين واليهود والنصارى والمجوس، والمعنى لا تتجاوز عن النظر عما أنعمناك به من النعم الظاهرة والباطنة إلى ما متعنا به أزواجا قليلة أوأصنافا من الكفار.
وربما أخذ بعضهم قوله:{لا تمدن عينيك} كناية عن إطالة النظر وإدامته، وأنت تعلم أن الغرض على أي حال النهي عن الرغبة والميل والتعلق القلبي بما في أيديهم من أمتعة الحياة كالمال والشوكة والصيت والذي يكنى به عن ذلك هو النهي عن أصل النظر إليه لا عن إطالته وإدامته ويشهد به ما سننقله من آية الكهف.
وقوله:{ولا تحزن عليهم} أي من جهة تماديهم في التكذيب والاستهزاء وإصرارهم على أن لا يؤمنوا بك.
وقوله:{ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} قالوا: هو كناية عن التواضع ولين الجانب، والأصل فيه أن الطائر إذا أراد أن يضم إليه أفراخه بسط جناحه عليها ثم خفضه لها هذا.
والذي ذكروه وإن أمكن أن يتأيد بآيات أخر كقوله:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ }: آل عمران: 159، وقوله في صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):{بالمؤمنين رءوف رحيم}: التوبة: 128، لكن الذي وقع في نظير الآية مما يمكن أن يفسر به خفض الجناح هو صبر النفس مع المؤمنين وهو يناسب أن يكون كناية عن ضم المؤمنين إليه وقصر الهم على معاشرتهم وتربيتهم وتأديبهم بأدب الله أوكناية عن ملازمتهم والاحتباس فيهم من غير مفارقة، كما أن الطائر إذا خفض الجناح لم يطر ولم يفارق، قال تعالى:{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الآية: الكهف: 28.
وقوله:{ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} أي لا دعوى لي إلا أني نذير أنذركم بعذاب الله سبحانه مبين أبين لكم ما تحتاجون إلى بيانه، وليس لي وراء ذلك من الأمر شيء.
فهذه الأمور الأربعة أعني ترك الرغبة بما في أيديهم من متاع الحياة الدنيا وترك الحزن عليهم إذا كفروا واستهزءوا، وخفض الجناح للمؤمنين وإظهار أنه نذير مبين هو الصفح الجميل الذي يليق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولوأسقط منها واحد لاختل الأمر.
ومن ذلك يظهر أن قول بعضهم: إن قوله:{ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } منسوخ بآية السيف غير وجيه فإن هذا الصفح الذي تأمر به الآية ويفسره قوله:{لا تمدن عينيك} باق على إحكامه واعتباره حتى بعد نزول آية السيف فلا وجه لنسبة النسخ إليه.
قوله تعالى:{ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الذين جعلوا القرآن عضين} قال في المجمع: عضين جمع عضة وأصله عضوة فنقصت الواوولذلك جمعت عضين بالنون كما قيل: عزوة وعزون والأصل عزوة، والتعضية: التفريق مأخوذة من الأعضاء يقال: عضيت الشيء أي فرقته وبعضته قال رؤبة: وليس دين الله بالمعضي، انتهى موضع الحاجة.
وقوله:{ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ } لا يخلوالسياق من دلالة على أنه متعلق بمقدر يلوح إليه قوله:{ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ } أي بعذاب منزل ينزل عليكم كما أنزلنا على المقتسمين، والمراد بالمقتسمين هم الذين يصفهم قوله بعد:{الذين جعلوا القرآن عضين} وهم على ما وردت به الرواية قوم من كفار قريش جزءوا القرآن أجزاء فقالوا: سحر، وقالوا: أساطير الأولين، وقالوا: مفترى، وتفرقوا في مداخل طرق مكة أيام الموسم يصدون الناس الواردين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما سيأتي في البحث الروائي إن شاء الله.
وقيل قوله:{كما أنزلنا} متعلق بما تقدم من قوله:{ قَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} أي أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على المقتسمين، والمراد بالمقتسمين اليهود والنصارى الذين فرقوا القرآن أجزاء وأبعاضا وقالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
وفيه أن السورة مكية نازلة في أوائل البعثة ولم يبتل الإسلام يومئذ باليهود والنصارى ذاك الابتلاء وقولهم:{آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ }: آل عمران: 72، مما قالته اليهود بعد الهجرة وكذا ما أشبه ذلك والدليل على ما ذكرنا سياق الآيات.
وربما قيل: سموا مقتسمين لأنهم اقتسموا أنبياء الله وكتبه المنزلة إليهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، ويدفعه أن الآية التالية تفسر المقتسمين بالذين جعلوا القرآن عضين لا بالذين فرقوا بين أنبياء الله أوبين كتبه.
فالظاهر أن الآيتين تذكران قوما نهضوا في أوائل البعثة على إطفاء نور القرآن وبعضوه أبعاضا ليصدوا عن سبيل الله فأنزل الله عليهم العذاب وأهلكهم، وهم الذين ذكروا في الآيتين ثم يذكر الله مآل أمرهم بقوله:{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
قوله تعالى:{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} قال في المجمع: الصدع والفرق والفصل نظائر، وصدع بالحق إذا تكلم به جهارا، انتهى.
والآية تفريع على ما تقدم، ومن حقها أن تتفرع لأنها الغرض في الحقيقة من السورة أي إذا كان الأمر على ما ذكر وأمرت بالصفح الجميل وكنت نذيرا بعذابنا كما أنزلنا على المقتسمين فأظهر كلمة الحق وأعلن الدعوة.
وبذلك يظهر أن قوله:{ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} في مقام التعليل لقوله:{فاصدع} إلخ كما يشعر الكلام أويدل على أن هؤلاء المستهزءين هم المقتسمون المذكورون قبل، ومعنى الآية إذا كان الأمر كما ذكرناه وكنت نذيرا بعذابنا كما أنزلناه على المقتسمين{فاصدع بما تؤمر} وأعلن الدعوة وأظهر الحق{وأعرض عن المشركين إنا} أي لأننا{كفيناك المستهزءين} بإنزال العذاب عليهم وهم{الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون}.
قوله تعالى:{ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} رجع ثانيا إلى حزنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وضيق صدره من استهزائهم لمزيد العناية بتسليته وتطييب نفسه وتقوية روحه، وقد أكثر سبحانه في كلامه وخاصة في السور المكية من ذلك لشدة الأمر عليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى:{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وصاه سبحانه بالتسبيح والتحميد والسجدة والعبادة أوإدامة العبودية مفرعا ذلك على ضيق صدره بما يقولون ففي ذلك استعانة على الغم والمصيبة، وقد أمره في الآيات السابقة بالصفح والصبر، ويستفاد الأمر بالصبر أيضا من قوله:{ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} فإن ظاهره الأمر بالصبر على العبودية حتى حين، وبذلك يصير الكلام قريب المضمون من قوله تعالى لدفع الشدائد والمقاومة على مر الحوادث:{ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ }: البقرة: 153.
وبذلك يتأيد أن المراد بالساجدين المصلون وأنه أمر بالصلاة وقد سميت سجودا تسمية لها باسم أفضل أجزائها ويكون المراد بالتسبيح والتحميد اللفظي منهما كقول سبحان الله والحمد لله أوما في معناهما نعم لوكان المراد بالصلاة في آية البقرة التوجه إلى الله سبحانه أمكن أن يكون المراد بالتسبيح والتحميد - أوبهما وبالسجود - المعنى اللغوي وهو تنزيهه تعالى عما يقولون والثناء عليه بما أنعم به عليه من النعم والتذلل له تذلل العبودية.
وأما قوله:{ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} فإن كان المراد به الأمر بالعبادة كان كالمفسر للآية السابقة وإن كان المراد الأخذ بالعبودية - كما هوظاهر السياق، وخاصة سياق الآيات السابقة الآمرة بالصفح والإعراض ولازمهما الصبر كان بقرينة تقييده بقوله:{حتى يأتيك اليقين} أمرا بانتهاج منهج التسليم والطاعة والقيام بلوازم العبودية.
وعلى هذا فالمراد بإتيان اليقين حلول الأجل ونزول الموت الذي يتبدل به الغيب من الشهادة ويعود به الخبر عيانا، ويؤيد ذلك تفريع ما تقدم من قوله:{فاصفح الصفح الجميل} على قوله:{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ } فإنه بالحقيقة أمر بالعفووالصبر على ما يقولون لأن لهم يوما ينتقم الله منهم ويجازيهم بأعمالهم فيكون معنى الآية دم على العبودية واصبر على الطاعة وعن المعصية وعلى مر ما يقولون حتى يدركك الموت وينزل عليك عالم اليقين فتشاهد ما يفعل الله بهم ربك.
وفي التعبير بمثل قوله:{حتى يأتيك اليقين} إشعار أيضا بذلك فإن العناية فيه بأن اليقين طالب له وسيدركه فليعبد ربه حتى يدركه ويصل إليه وهذا هوعالم الآخرة الذي هوعالم اليقين العام بما وراء الحجاب دون الاعتقاد اليقيني الذي ربما يحصل بالنظر أوبالعبادة.
وبذلك يظهر فساد ما ربما قيل: إن الآية تدل على ارتفاع التكليف بحصول اليقين، وذلك لأن المخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد دلت آيات كثيرة من كتاب الله أنه من الموقنين وأنه على بصيرة وأنه على بينة من ربه وأنه معصوم وأنه مهدي بهداية الله سبحانه إلى غير ذلك.
مضافا إلى ما قدمناه من دلالة الآية على كون المراد باليقين هو الموت.
___________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج12،ص155-160.
ثمّ يواسي اللّه تعالى نبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم).. أنْ لا تقلق من وحشية الأعداء وكثرتهم وما يملكون من إِمكانات مادية واسعة، لأنّ اللّه أعطاك ما لا يقف أمامه شيء { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ }.
وكما هو معلوم، فإِنّ «السبع» هم العدد سبعة، و«المثاني» هو العدد اثنان، ولهذا اعتبر أكثر المفسّرون أنّ «سبعاً من المثاني» كناية عن سورة الحمد، والرّوايات كذلك تشير لهذا المعنى.
والداعي لذلك كونها تتأليف من سبع آيات، لأهميتها وعظمة محتواها فقد نزلت مرتين على النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو لأنّها تتكون من قسمين (فنصفها حمد وثناء للّه عزَّ وجلّ والنصف الآخر دعاء عبادة}(2)، أو لأنّها تقرأ مرّتين في كل صلاة(3).
واحتمل بعض المفسّرين أن «السبع» إِشارة إِلى السور السبع الطول التي ابتدأ بها القرآن، و«المثاني» كناية عن نفس القرآن، لأنّه نزل مرتين على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)مرّة بصورة كاملة، وأُخرى نزل نزولا تدريجياً حسب الإِحتياج إِليه في أزمنة مختلفة.
وعلى هذا يكون معنى {سبعاً من المثاني} سبع سور مهمات من القرآن.
ودليلهم في ذلك الآية الثّالثة والعشرون من سورة الزمر، حيث يقول تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ }، أيْ مرتين على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
ولكنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر صواباً، خصوصاً وأنّ روايات أهل البيت(عليهم السلام)تشير إِلى أنّ «السبع المثاني» هي سورة الحمد.
واعتبر الراغب في مفرداته أنّ كلمة «المثاني» أطلقت على القرآن لما يتكرر من قراءة آياته، وهذا التكرار هو الذي يحفظه من التلاعب والتحريف (إِضافة إِلى أنّ حقائق القرآن تتجلى في كل زمان بشكل جديد ينبغي له أن يوصف بالمثاني).
وعلى أية حال، فذكر عبارة «القرآن العظيم» بعد ذكر سورة الحمد، بالرغم من أنّها جزء منه، دليل آخر على شرف وأهمية هذه السورة المباركة، وكثيراً ما يذكر الجزء مقابل الكل لأهميته، وهو كثير الإستعمال في الأدب العربي وغيره.
وخلاصة المطاف أنّ اللّه تعالى قد صرّح لنبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّك قد ملكت سنداً عظيماً (القرآن)، ولا تستطيع أي قوة في عالم الوجود أن تصرعه.
سنداً كلّه نور، بركة، دروس تربوية، برامج عملية، هداية وتسديد، وبالذات سورة الفاتحة منه التي لها من المحتوى والأثر بحيث لو ارتبط العبد بربّه ولو للحظة واحدة لحلّقت روحه لساحة قدس الرّب، وهي تعيش حال التعظيم والتسليم والمناجاة والدّعاء.
وبعد هذه الهبة العظيمة يأمر اللّه تعالى نبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) بأربعة أوامر فيقول له أوّلاً: { لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ }(4).
فمتع الحياة الدنيا ليست دائمة ولا خالية من التبعات، والحفاظ عليها أمر صعب في أحسن الحالات.
ولهذا، لا تستحق الإِهتمام بها مقابل ما أعطاك اللّه عزَّوجلّ من العطاء المعنوي الجزيل (أيْ القرآن).
ثمّ يقول في الأمر الثّاني: { وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } لما عندهم من أموال ونعم مادية.
فالأمر الأوّل في الحقيقة يتعلق بعدم الإِهتمام والتوجه نحو النعم المادية، والأمر الثّاني يتعلق بعدم التأثر لفقدانها.
وقد جاء ما يشبه هذا المضمون في الآية (131) من سورة طه حيث يقول جل وعلا بتفصيل أكثر: {ولا تمدّن عينيك إِلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربّك خير وأبقى}.
والأمر الثّالث: جاء بخصوص ضرورة اللين والتواضع مع المؤمنين حيث يقول: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ }.
إِنّ هذا التعبير، كناية جميلة عن التواضع والمحبّة والملاطفة، فالطيور حينما تريد إِظهار حنانها لفراخها تجعلها تحت أجنحتها بعد خفضها، فتجسّم بذلك أعلى صور العاطفة والحنان وتحفظهم من الحوادث والأعداء، وتحميهم من التشتت.
والتعبير المذكور عبارة عن كناية مختصرة بليغة ذات مغزىً ومعان كثيرة جدّاً.
ويمكن أن يحمل ذكر هذه الجملة بعد الأوامر الثلاثة المتقدمة إِشارة تحذير بعدم إِظهار التواضع والإنكسار أمام الكفار المتنعمين بزهو الحياة الدنيا، بل لابدّ للتواضع والحب والعاطفة الفياضة لمن آمن وإِنْ كان محروماً من مال الدنيا.
ونصل إلى الأمر الرّابع: وقل لهؤلاء الكفرة المنعمين بكل حزم { إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ }.
قل: أنذركم من أمر اللّه بنزول عذابه عليكم { كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}(5)، أي الذين قسّموا الآيات القرآنية أصنافاً، فما كان ينفعهم أخذوه، وما لا ينسجم ومشتهياتهم تركوه.
فبدل أن يتخذوا كتاب اللّه هادياً وقائداً لهم، جعلوه كآلة بأيديهم ووسيلة للوصول لأهدافهم الشريرة، فلو وجدوا فيه كلمة واحدة تنفعهم لتمسكوا بها، ولو وجدوا ألف كلمة لا تنسجم مع منافعهم الدنيوية لتركوها بأجمعها!!
إصدع بما تؤمر!
يبيّن القرآن في أواخر سورة الحجر مصير المقتسمين الذين ذُكروا في الآيات السابقة فيقول: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.
إِنّ عالم السر والعلن ومَنْ لا يخفى عليه ذرة ما في السماوات والأرضين لا يسأل لكشف أمر خفي عليه (سبحانه وتعالى عن ذلك)، وإِنّما السؤال لتفهيم المسؤول قبح فعله، أو كون السؤال نوعاً من العقاب الروحي، لأنّ الجواب سيكون عن أُمور قبيحة ومصحوباً باللوم والتوبيخ، وذلك ما يكون له بالغ الأثر في ذلك المقام، حيث أنّ الإنسان عندها أقرب ما يكون إِلى الحقائق وإِدراكها.
وعلى هذا الأساس فالسؤال قسم من العقاب الروحي.
وعموم قوله تعالى: { عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } يرشدنا إِلى أنّ السؤال سيكون عن جميع أفعال الإِنسان بلا استثناء، وهو درس بليغ كي لا نغفل عن أفعالنا.
أمّا ما اعتبره بعض المفسّرين من اختصاص السؤال عن التوحيد والإِيمان بالأنبياء، أو هو مرتبط بما يعبد المشركون.. فهو كلام بلا دليل، ومفهوم الآية عام.
وقد يُشْكِلُ البعض من كون الآية المتقدمة تؤكّد على أنّ اللّه تعالى سيسأل عباده، في حين نقرأ في الآية التاسعة والثلاثين من سورة الرحمن { فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}.
وقد أجبنا عن ذلك سابقاً، وخلاصته: في القيامة مراحل، يُسأل في بعضها ولا يسأل في البعض الآخر حيث تكون الأُمور من الوضوح بحيث لا تستوجب السؤال، أو أن لا يكون السؤال باللسان، وهذا ما نستنتجه من الآية الخامسة والستين من سورة يس حيث تشير إِلى غلق الأفواه وبدأ أعضاء البدن ـ حتى الجلد ـ بالسؤال(6).
ثمّ يأمر اللّه تعالى نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}، أيْ لا تخف من ضوضاء المشركين والمجرمين، ولا تضعف أو تتردد أو تسكت، بل أدعهم إِلى رسالتك جهاراً.
{ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ }، ولا تعتنِ بهم.
«فاصدع»، من مادة (صدع) وهي لغةً بمعنى «الشق» بشكل مطلق، أو شق الأجسام المحكمة بما يكشف عمّا في داخلها، ويقال أيضاً لألم الرأس الشديد (صداع) وكأنّه من شدته يريد أن يشق الرأس!
وهي هنا.. بمعنى: الإِظهار والإِعلان والإِفشاء.
وعلى أية حال.. فالإِعراض عن المشركين هنا بمعنى الإهمال، أو ترك مجاهدتهم وحربهم، لأنّ المسلمين في ذلك الوقت لم تصل قدرتهم ـ بعد ـ لمستوى المواجهة مع الأعداء وحربهم.
ثمّ يطمئن اللّه تعالى نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) تقويةً لقلبه: { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}.
إِنّ مجيء الفعل بصيغة الماضي في هذه الآية مع أنّ المراد المستقبل يشير إِلى حتمية الحماية الرّبانية، أيّ: سندفع عنك شر المستهزئين، حتماً مقضياً.
وقد ذكر المفسّرون رواية تتحدث عن ست جماعات (أو أقل) كان منهم يمارس نوعاً من الإِستهزاء تجاه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
فكلما صدع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة قاموا بالإِستهزاء تفريقاً للناس من حوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّ اللّه تعالى ابتلى كلا منهم بنوع من البلاء، حتى شغلهم عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، (وقد ورد تفصيل تلك الإِبتلاءات في بعض التفاسير).
ثمّ يصف المستهزئين: {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
كأن القرآن يريد أن يقول: إِنّ أفكار وأعمال هؤلاء بنفسها عبث سخف حيث يعبدون ما ينحتونه بأيديهم من حجر وخشب، ودفعهم جهلهم لأن يجعلوا مع اللّه ما صنعوا بأيديهم آلهة! ومع ذلك.. يستهزؤون بك!
ولمزيد من التأكيد على اطمئنان قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، يضيف تعالى قائلا: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ }، فروحك اللطيفة وقلبك الطيب الرقيق لا يتحملان تلك الأقوال السيئة وأحاديث الكفر والشرك، ولذلك يضيق صدرك.
ولكنْ لا تحزن من قبح أقوالهم {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}.
لأنّ تسبيح اللّه يذهب أثر أقوالهم القبيحة من قلوب أحباء اللّه، هذا أوّلاً.. وثانياً، يعطيك قدرة وقوّة ونوراً وصفاءً، ويخلق فيك تجلياً وانفتاحاً، ويقوي إرتباطك مع اللّه، ويقوي إِرادتك ويبث فيك قدرة أكبر للتحمل والثبات والمجاهدة في قبال أعداء اللّه.
ولهذا نقرأ في رواية نقلا عن ابن عباس أنّه قال: كان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) إِذا أحزنه أمر فزع إِلى الصلاة.
ثمّ يعطي اللّه نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) آخر أمر في هذا الشأن: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.
المعروف والمشهور بين المفسّرين أنّ المقصود من «اليقين» هنا الموت، وسُمّي باليقين لحتميته، فربما يشك الإِنسان في كل شيء، إِلاّ الموت فلا يشك فيه أحد قط.
أو لأنّ الحجب تزال عن عين الإِنسان عند الموت فتتّضح الحقائق أمامه ويحصل له اليقين.
وفي الآيتين السادسة والأربعين والسابعة والأربعين من سورة المدّثر نقرأ عن لسان أهل جهنم: { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } أي الموت.
ومن هنا يتّضح خطأ ما نقل عن بعض الصوفية من أنّ الآية أعلاه دليل على ترك العبادة، فقالوا: أعبد اللّه حتى تحصل على درجة اليقين، فإِذا حصلت عليها فلا حاجة للعبادة بعدها!
ونقول:
أوّلا: اليقين هنا بمعنى الموت بشهادة الآيات القرآنية المشار إِليها، وهو ما يحصل للمؤمن والكافر سواء.
ثانياً: المخاطب بهذه الاية هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومقام اليقين للنّبي من المسلمات، وهل يجرؤ أحد أن يدّعي أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يصل لدرجة اليقين، حتى يخاطب بالآية المذكورة؟!!
ثانياً: المقطوع به أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يترك العبادة حتى آخر لحظات عمره الشريف، وكذا الحال بالنسبة لأمير المؤمنين علي(عليه السلام) وهو المستشهد في المحراب، وهو ما سار عليه بقية الأئمّة(عليهم السلام).
_______________
1- تفسير الامثل،مكارم الشيرازي،ج6،ص649-659.
2 ـ وفي حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : «إِن اللّه عزَّ وجلّ قال: قسّمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي» مجمع البيان، ج1، ص17.
3- تفسير نور الثقلين، ج3، ص28 و 29.
4 ـ أزواجاً: مفعول (متعنا). ومنهم: جار ومجرور متعلق بفعل مقدر. فيكون المعنى إِجمالا: مجموعات مختلفة من الكفار.
5 ـ عضين: (جمع عضة) أي التفريق، ويقال لكل جزء ممّا قسم عضين أيضاً.
6 ـ لمزيد من الإِيضاح، راجع ذيل تفسير الآية (7) من سورة الأعراف.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|