أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-7-2020
3392
التاريخ: 18-7-2020
10270
التاريخ: 20-7-2020
3693
التاريخ: 16-7-2020
4692
|
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوالَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 2 - 4]
{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} لما ذكر الله سبحانه أنهم لا يؤمنون عرف الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق ويريد بالعمد: السواري والدعائم وقيل فيه قولان: أحدهما : أن المراد رفع السماوات بغير عمد وأنتم ترونها كذلك عن ابن عباس والحسن وقتادة والجبائي وأبي مسلم وهو الأصح. قال ابن عباس يعني ليس من دونها دعامة يدعمها ولا فوقها علاقة تمسكها قال الزجاج وفي ذلك من القدر والدلالة ما لا شيء أوضح منه لأن السماء محيطة بالأرض متبرية منها بغير عمد والآخر: أن يكون ترونها من نعت العمد فيكون المعنى بغير عمد مرئية فعلى هذا تعمدها قدرة الله عز وجل وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قد مضى تفسيره وإذا حملنا الاستواء على معنى الملك والاقتدار فالوجه في إدخال {ثم} فيه ولم يزل سبحانه كذلك أن المراد اقتداره على تصريفه وتقليبه وإذا كان كذلك فلا يكاد القديم سبحانه يوصف به إلا وقد وجد نفس العرش { وسخر الشمس والقمر } أي: ذللهما لمنافع خلقه ومصالح عباده.
{ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} أي: كل واحد منهما يجري إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي تكور عندها الشمس ويخسف القمر وتنكدر النجوم عن الحسن وقال ابن عباس: أراد بالأجل المسمى: درجاتهما ومنازلهما التي ينتهيان إليها ولا يجاوزانها وللشمس مائة وثمانون منزلا تنزل كل يوم منزلا حتى ينتهي إلى آخر منازله { يدبر الأمر} أي: يدبر الله كل أمر من أمور السماوات والأرض وأمور الخلق على وجه توجيه الحكمة وتقتضيه المصلحة { يفصل الآيات } أي: يأتي بآية في إثر آية فصلا مميزا بعضها عن بعض ليكون أمكن للاعتبار والتفكر وقيل: معناه يبين الدلائل بما يحدثه في السماوات والأرض { لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} أي: لكي توقنوا بالبعث والنشور وتعلموا أن القادر على هذه الأشياء قادر على البعث بعد الموت وفي هذا دلالة على وجوب النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى وعلى بطلان التقليد ولولا ذلك لم يكن لتفصيل الآيات معنى .
لما ذكر سبحانه وتعالى في الآية من نعمائه وآلائه على عباده في رفع السماوات وتسخير الشمس والقمر ودل بذلك على وحدانيته عقبه بذكر الأرض وما فيها من الآيات فقال { وهو الذي مد الأرض } أي: بسطها طولا وعرضا ليتمكن الحيوانات من الثبات فيها والاستقرار عليها { وجعل فيها رواسي } أي: جبالا ثوابت لتمسك الأرض ولوأراد أن يمسكها من غير جبال لفعل إلا أنه أمسكها بالرواسي لأن ذلك أقرب إلى أفهام الناس وأدعى لهم إلى الاستدلال والنظر { وأنهارا } أي: وشق فيها أنهارا تجري فيها المياه ولولا الأنهار لضاع أكثر المياه ولما أمكن الشرب والسقي { وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: وجعل في الأرض من كل الثمرات لمأكولهم ومطعومهم صنفين أسود وأبيض وحلوا وحامضا وصيفيا وشتويا ورطبا ويابسا عن ابن عباس وقيل: الزوج قد يكون واحدا وقد يكون اثنين يقال زوج نعل وزوج نعلين عن أبي عبيدة وإنما قال اثنين للتأكيد. والزوج في الحيوانات عبارة عن الذكر والأنثى وفي الثمار عبارة عن لونين.
وقال الماوردي : واحد الزوجين ذكر وأنثى كفحول النخل وإناثها وكذلك كل جنس من النبات وإن خفي الزوج الآخر حلو وحامض أوعذب ومالح أوأبيض وأسود أوأحمر وأصفر فإن كل جنس من النبات ذو نوعين فصارت كل ثمرة زوجين هما أربعة أنواع { يغشي الليل النهار} أي: يلبس ظلمة الليل ضياء النهار عن الحسن وقيل: يدخل الليل في النهار والنهار في الليل عن ابن عباس وقيل: معناه يأتي بالليل ليذهب بضياء النهار ويستره ليسكن الحيوانات فيه ويأتي بضياء النهار ليمحوظلام الليل وينصرف الناس فيه لمعايشهم { إن في ذلك} أي: فيما سبق ذكره { لآيات} أي: لدلالات واضحات على وحدانية الله تعالى { لقوم يتفكرون } فيها فيستدلون منها على أن لهم صانعا { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} أي: أبعاض متقاربات مختلفات في التفاضل منها جبل صلب ولا ينبت شيئا ومنها سهل حر ينبته ومنها سبخة لا تنبت عن ابن عباس ومجاهد والضحاك بين الله سبحانه باختلاف هذه الأرضين مع تجاورها وتقارب بعضها من بعض في الهيأة والمنظر أنه قادر على كل شيء من الأصناف المختلفة والمؤتلفة وقيل: إنها متجاورات بعضها عامر وبعضها غير عامر عن الزجاج { وجنات} أي: بساتين { أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ} أي: نخلات من أصل واحد.
{وغير صنوان} أي: نخلات من أصول شتى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والصنوالأصل يقال :هذا صنوه أي: أصله عن ابن الأنباري وقيل: إن الصنوان النخلة تكون حولها النخلات وغير صنوان النخل المتفرق عن البراء بن عازب وسعيد بن جبير وقيل: الصنوالمثل والصنوان الأمثال ومنها قوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عم الرجل صنوأبيه عن الجبائي {يسقي بماء واحد} أي: يسقي ما ذكرناه من القطع المتجاورة والجنات والنخيل المختلفة بماء الأنهار أوبماء السماء {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} أي: ويفضل الله ومن قرأ بالنون فالمعنى نفضل نحن بعضها على بعض في الطعم واللون والطبع مع أن البئر واحدة والشرب واحد والجنس واحد حتى يكون بعضها حامضا وبعضها حلوا وبعضها مرا فلوكانت بالطبع لما اختلف ألوانها وطعومها مع كون الأرض والماء والهواء واحدا وفي هذا أوضح دلالة على أن لهذه الأشياء صانعا قادرا أحدثها وأبدعها ودبرها على ما تقتضيه حكمته والأكل الثمر الذي يؤكل {إن في ذلك} أي: في اختلاف ألوانها وطعومها عن ابن عباس وقيل: إن فيما تقدم ذكره { لآيات } أي: حججا ودلالات { لقوم يعقلون} دلائل الله تعالى ويتفكرون فيها ويستدلون بها وروي عن جابر قال : سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول لعلي (عليه السلام) الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة ثم قرأ { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ} الآية .
_____________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص7-11.
{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها } . قلنا في فقرة الإعراب : ان الهاء في ترونها عائدة إلى السماوات ، وان الجملة الفعلية صفة لها ، لا للعمد ، وعليه يكون المعنى ان اللَّه رفع السماوات بأمره ، وهي مرفوعة في الواقع تماما كما ترونها في الظاهر من غير عمد . وفي مستدرك نهج البلاغة ان الإمام عليا ( عليه السلام ) وصف السماء بقوله : « رفع السماء بغير عمد - أي واقعا وظاهرا - وبسط الأرض على الهواء بغير أركان » . وفي نهج البلاغة : « أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها من غير قرار ، ورفعها بغير دعائم » .
{ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ } . هذا كناية عن انه تعالى يملك الكون ويدبر أمره بعلمه وحكمته ، كما قال في الآية نفسها : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ} ومرت هذه الجملة في الآية 54 من سورة الأعراف ، والآية 3 من سورة يونس ، { وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} بانتظام كما ترى أعيننا ، ولغاية معينة كما تدرك عقولنا . . والشمس تقطع فلكها في سنة ، والقمر في شهر ، كانا كذلك منذ ملايين السنين ، وسيبقيان كذلك إلى ما شاء اللَّه ، لا تختلف سنة عن سنة ، ولا لحظة عن لحظة ، وهذا دليل قاطع على وجود عليم حكيم ، أما الصدفة فيبطلها النظام والتكرار .
{ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} كل أمر بلا استثناء ومنه تسخير الشمس والقمر ، وإرسال الرسل ، وانزال الكتب . . إلى ما لا نهاية { يُفَصِّلُ الآياتِ} يبين الدلائل على وجوده . . ولما ذا { لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} خلق سبحانه الكون ، وأحكمه على أكمل الوجوه ، والعقول السليمة تدرك هذا التدبير والأحكام ، وتستدل به على وجود المدبر الحكيم ، وقدرته على إعادة الخلق ، لأن من قدر على إيجاد الكون من لا شيء ، ورتب ما فيه من الكواكب وغيرها في غاية الإحكام والدقة فبالأولى أن يقدر على جمعه بعد تفرّقه ، فإذا ثبتت القدرة على الإعادة بحكم العقل ، وقد أخبر الصادق الأمين عن الوحي بأنها سوف تقع لا محالة كان وقوعها حتما لا مفر منه .
وبعد ان ذكر سبحانه السماوات ذكر الأرض ، والغرض واحد ، وهوتنبيه الغافلين إلى الأدلة الكونية على وجود اللَّه وعظمته ، وأن من خلق هذا الكون الضخم بأرضه وسمائه قادر على أن يرسل الرسل ، وينزل الكتب ، ويحيي الموتى ، وهذه الأدلة منها سماوية كرفع السماوات بغير عمد ، وتسخير الشمس والقمر ، ومنها أرضية كالتي أشار إليها سبحانه بقوله :
1 - { وهُو الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ } . أي بسطها ومهدها ، قال تعالى في الآية 19 من سورة نوح : « واللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً » . أي واسعة . وفي الآية 30 من سورة النازعات : « والأرض بعد ذلك دحاها » . ودحوالشيء في اللغة بسطه وتمهيده . ومن الواضح ان بسط الأرض وسعتها وتمهيدها لا يدل من قريب أوبعيد على أنها مسطحة أوكرة ، لأن الجسم إذا كبر حجمه كالأرض كانت كل جهة منه ممتدة ومتسعة في الطول والعرض ، وان كان على شكل الكرة ، وعليه فلا شيء في الآية يمنع من القول بكروية الأرض التي لا ريب فيها ، قال الرازي عند تفسير هذه الآية : « انه ثبت بالدلائل ان الأرض كرة ، فكيف يمكن المكابرة في ذلك . . والأرض جسم عظيم ، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كانت كل قطعة منها تشاهد كالسطح » .
وكان علماء اليونان في عهد أرسطومتفقين على كروية الأرض ، ولكنهم قالوا بسكونها .
2 - { وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ } لفظ الرواسي صفة للثوابت من كل نوع ، ولكنه غلب على الجبال لكثرة الاستعمال ، بحيث إذا أطلق لفظ الرواسي من غير ذكر الموصوف فهم منه الجبال ، والحكمة من وجودها استقرار الأرض وثباتها ، قال تعالى : « أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهاداً والْجِبالَ أَوْتاداً - 7 النبأ » .
3 - { وأَنْهاراً } قرن سبحانه الأنهار بالجبال لأنها تتفجر من تحتها ، قال تعالى : « وجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً - 27 المرسلات » .
4 - { ومِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } . أي ان كل صنف من الثمر في نباته زوجان : ذكر وأنثى ظاهران كفحول النخل وإناثها ، أوخفيان كسائر النباتات ، قال الشيخ المراغي في تفسيره : « فقد أثبت العلم حديثا ان الشجر والزرع لا يولدان الثمر والحب الا من اثنين ذكر وأنثى ، وقد يكونان في شجرة كأغلب الأشجار ، أوشجرتين كالنخل » . وفي مجلة « العلوم » اللبنانية عدد آب 1967 مقال بعنوان « كيف تبعث الحياة في الكائنات » جاء فيه ان الحشرات تحمل على أجسامها اللقاح الضروري إلى أكمام الزهر دون أن تخطئ في التبليغ وان الطائر يلقح زهرة الزنبق بمنقاره . انها لمعجزة . . وفي الحرب العالمية الثانية نزل الحلفاء بكورسيكا فمرض الزيتون وقلّ ثمره ، وأرادت أمريكا مساعدة الأهالي فرشت الزيتون بمادة د . د . ت . فماتت الحشرة الضارة ، ولكن مات معها سائر الحشرات الأخرى ، فكانت النتيجة في السنة التالية لا شيء إطلاقا لأية شجرة من الزيتون والليمون واللوز . وبهذا يتبين ان الثمر لا يكون الا بلقاح الذكر للأنثى .
5 - { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ } مرّ تفسيره في الآية 54 من سورة الأعراف ج 3 ص 339 { إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في هذا الكون الذي يسير وفقا لقوانين ثابتة لا يحيد عنها بحال ، ولولا ثبوتها لاستحال على العلماء أن يرصدوها ويستفيدوا منها قواعد عامة ، ومن الواضح ان الدوام ينفي الصدفة ، ومن أجل هذا آمن الكثير من علماء الطبيعة بوجود اللَّه تعالى .
6 - { وفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ } ان اجزاء الأرض يلتصق بعضها ببعض ومع ذلك تتنوع إلى سهل وجبل وصلب ورخووخصب وجدب وتراب ورمل
وسواد وبياض ، وما أشبه . والسر هوأمر اللَّه وتدبيره في خلقه { وجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ } بساتين من الكرمة { وزَرْعٌ } من أنواع شتى { ونَخِيلٌ صِنْوانٌ } هي النخيلات من أصل واحد غير متنوع لأن النخل على أنواع { وغَيْرُ صِنْوانٍ } هي النخيلات من أصول متنوعة ، وخص الأعناب والنخيل بالذكر لأنهما الثمر الغالب أومظهر الثراء أوهما معا في ذاك العصر ، ويشعر بذلك قوله تعالى :
« واضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً - 32 الكهف » .
{ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ} كالمطر أوالبئر أوالنهر ، وأيضا المكان واحد بالقرب والمجاورة ، ومع ذلك يختلف الثمر لونا وحجما ورائحة وطعما ، والسر تدبير اللَّه وحكمته { ونُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ } على الرغم من أن وسائل التكوين والنموواحدة { إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . أي ان في هذا التفاوت مع وحدة المكان والماء والهواء دلائل واضحة على وجود المدبر الحكيم عند من لا يؤمن بشيء إلا بعد التفكر والتدبر . ومن أقوال الإمام علي : لا علم كالتفكر ، ولا حسب كالتواضع .
السيد الأفغاني والدهريون :
وأحسن شرح لهذه الآية بمجموعها ما جاء في رسالة الرد على الدهريين للسيد جمال الدين الأفغاني ، قال « إذا سئل داروين عن الأشجار القائمة في غابات الهند والنباتات المتولدة فيها من أزمان بعيدة لا يحدها التاريخ إلا ظنا ، وأصولها تضرب في بقعة واحدة ، وفروعها تذهب في هواء واحد ، فما السبب في اختلاف كل منها عن الأخرى في بنيتها وشكلها وأوراقها وطولها وقصرها وضخامتها ورقتها وزهرها وثمرها وطعمها ورائحتها ، فأي فاعل خارجي أثر فيها حتى خالف بينها مع وحدة المكان والماء والهواء ؟ . أظن أنه لا سبيل إلى الجواب سوى العجز عنه . .
وإذا قيل له : هذه أسماك بحيرة أورال وبحر قزوين مع تشاركها في المأكل والمشرب وتسابقها في الميدان ، نرى فيها اختلافا نوعيا وتباينا بعيدا في الألوان والأشكال والأعمال ، فما السبب في هذا التباين والتفاوت ؟ فلا أراه يلجأ في الجواب إلا إلى الحصر » . أي الضيق .
وتسأل : ان لدارون ان يجيب السيد الأفغاني بأن علماء النبات يعرفون الأسباب الطبيعية لهذا الاختلاف ، ويستطيعون الكشف عنها لكل طالب وراغب . . فلا ضرورة ، والحال هذه ، إلى افتراض وجود المدبر فيما وراء الطبيعة ؟ .
الجواب : لوسلمنا جدلا بأن علماء النبات يعرفون ذلك فان لمعرفتهم حدا تقف عنده ولا تتجاوزه ، وهو السبب القريب المباشر للتفاوت . . ولوسألوا عن السبب البعيد الذي أوجد السبب القريب لم يجدوا تفسيرا له إلا بأحد فرضين :
اما الصدفة ، واما وجود مدبر حكيم وراء الطبيعة ، والفرض الأول باطل لأن الصدفة لا تتكرر ولا تدوم ، فتعين الثاني . . وسبق البيان أكثر من مرة ان من عادة القرآن أن يسند للَّه جميع الحوادث الطبيعية المتولدة من أسبابها الكونية ، من باب اسناد الشيء إلى فاعله الأول لهدف التذكير باللَّه ، وانه خالق الكون بأرضه وسمائه .
وتقول : ان للدهريين أيضا ان يسألوا بدورهم عن السبب لوجود المدبر وراء الطبيعة ؟ .
ونجيب بأن هذا السؤال غير وارد من أساسه لأن الفرض ان المدبر لا سبب له ، وانه هوسبب الأسباب ، فالسؤال عن سببه تماما كالسؤال : من خلق اللَّه بعد الفرض انه خالق غير مخلوق ، وكالسؤال عن سبب صدق العين فيما ترى ، والأذن فيما تسمع مع الفرض انهما حجة قاطعة لكل شك وشبهة .
____________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، ص373- 377.
قوله تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات،: العمود ما تعتمد عليه الخيمة وجمعه عمد - بضمتين - وعمد - بفتحتين - قال: في عمد ممددة، وقرىء في عمد، وقال: بغير عمد ترونها انتهى.
وقيل: إن العمد بفتحتين اسم جمع للعماد لا جمع.
والمراد بالآية التذكير بدليل ربوبيته تعالى وحده لا شريك له وإن السماوات مرفوعة بغير عمد تعتمد عليها تدركها أبصاركم وهناك نظام جار وهناك شمس وقمر مسخران يجريان إلى أجل مسمى، ولا بد ممن يقوم على هذه الأمور فيرفع السماء وينظم النظام ويسخر الشمس والقمر ويدبر الأمر ويفصل هذه الآيات بعضها عن بعض تفصيلا فيه رجاء أن توقنوا بلقاء ربكم فالله سبحانه هوذاك القائم بما ذكر من أمر رفع السماوات وتنظيم النظام وتسخير الشمس والقمر وتدبير الأمر وتفصيل الآيات فهو تعالى رب الكل لا رب غيره.
فقوله:{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} رفع السماوات هو فصلها من الأرض فصلا يتسلط به على الأرض بإلقاء أشعتها وإنزال أمطارها وصواعقها عليها وغير ذلك فهي مرفوعة على الأرض من غير عمد محسوسة للإنسان تعتمد عليها فعلى الإنسان أن يتفطن أن لها رافعا حافظا لها أن تتحول من مكانها ممسكا لها أن تزول من مستقرها.
وذلك أن استقرار السماوات في رفيع مستقرها من غير عمد وإن لم يكن بأعجب من استقرار الأرض في مستقرها وهما محتاجتان في ذلك إليه تعالى قائمتان مقامهما بقدرته وإرادته ذلك من طريق أسباب مختصة بهما بإذنه تعالى، ولو كانت السماوات مرفوعة معتمدة على عمد منصوبة لم يغنها ذلك عن الحاجة إليه تعالى والافتقار إلى قدرته وإرادته فالأشياء كلها في حالاتها محتاجة إليه تعالى احتياجا مطلقا لا يزول عنها أبدا ولا في حال.
لكن الإنسان - في عين أنه يرى قانون العلية الكلي ويذعن بحاجة الحوادث إلى علل موجدة، وفي فطرته البحث عن علل الحوادث والأمور الممكنة - إذا وجد بعض الحوادث مقرونا بعلله وتكرر ذلك على حسه أقنعه ذلك ولم يتعجب من مشاهدته على حاله ولا بحث عنه فإذا رأى الأجرام الثقيلة تسقط على الأرض ثم وجد سقفا مرتفعا عن الأرض لا تسقط عليها تعجب وبحث عن ذلك حتى يحصل على أركان أو أعمدة يقوم عليها السقف وعند ذلك مع ما فيه من التكرر على الحس تقف نفسه عن البحث في كل مورد يشاهد فيه شيئا رفيعا معتمدا على أعمدة أوأركان.
أما إذا وجد أمرا يخرق هذه العادة المألوفة له كالأجرام العلوية القائمة على سمكها من غير عماد تعتمد عليه والطير الصافات ويقبضن فعند ذلك تنتزع نفسه إلى البحث عن السبب الفاعل له كالمتنبه من رقدته.
فقوله تعالى:{ رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} إنما وصف السماوات فيه بقوله:{بغير عمد ترونها} لا للدلالة على نفي مطلق العماد عنها على أن يكون قوله:{ترونها} وصفا توضيحيا لا مفهوم له، أوالدلالة على نفي العماد المحسوس فيفيد على التقديرين أنها لما لم تكن لها عمد كان الله سبحانه هوالرافع الممسك لها من غير توسيط سبب، ولوكانت لها أعمدة كسائر ما يعتمد على عماد لكانت الأعمدة هي الرافعة الممسكة لها من غير حاجة إلى الله سبحانه كما ربما يذهب إليه أوهام العامة أن الذي يستند إلى الله من الأمور هوما يجهل سببه كالأمور السماوية والحوادث الجوية والروح وأمثال ذلك.
فإن كلامه تعالى ينص أولا على أن كل ما يصدق عليه الشيء ما خلا الله فهومخلوق لله وكل خلق وأمر لا يخلوعن الاستناد إليه كما قال تعالى:{ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}: الرعد: 16، وقال:{ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}: الأعراف: 54.
وثانيا: على أن سنة الأسباب جارية مطردة وأنه تعالى على صراط مستقيم فلا معنى لكون حكم الأسباب جاريا في بعض الأمور الجسمانية غير جار في بعض.
واستناد بعض الحوادث كالحوادث الأرضية إليه تعالى بواسطة الأسباب، واستناد بعضها الآخر كالأمور السماوية مثلا إليه تعالى بلا واسطة، فإن قام سقف مثلا على عمود فقد قام بسبب خاص به بإذن الله، وإن قام جرم سماوي من غير عمود يقوم عليه فقد قام أيضا بسبب خاص به كطبيعته الخاصة أوالتجاذب العام مثلا بإذن الله.
بل إنما قيد رفع السماوات بقوله:{بغير عمد ترونها} لتنبيه فطرة الناس وإيقاظها لتنتزع إلى البحث عن السبب وينتهي ذلك لا محالة إلى الله سبحانه، وقد سلك نظير هذا المسلك في قوله في الآية التالية:{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا} على ما سنوضحه.
ولما كان المطلوب في المقام - على ما يهدي إليه سياق الآيات - هوتوحيد الربوبية وبيان أن الله سبحانه رب كل شيء لا رب سواه لا أصل إثبات الصانع عقب قوله:{رفع السماوات} إلخ بقوله:{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} إلخ، الدال على التدبير العام المتحد باتصال بعض أجزائه ببعض ليثبت به أن رب الجميع ومالكها المدبر لأمرها واحد.
وذلك أن الوثنية الذين يناظرهم القرآن لا ينكرون أن خالق الكل وموجده واحد لا شريك له في إيجاده وإبداعه، وهو الله سبحانه، وإنما يرون أنه فوض تدبير كل شأن من شئون الكون ونوع من أنواعه كالأرض والسماء والإنسان والحيوان والبر والحرب والسلم والحياة والموت إلى واحد من الموجودات القوية فينبغي أن يعبد ليجلب بها خيره ويتقي بها شره فلا ينفع في ردهم إلا قصر الربوبية في الله سبحانه وإثبات أنه رب لا رب سواه، وأما توحيد الألوهية بمعنى إثبات أن الواجب الوجود واحد لا واجب غيره وإليه ينتهي كل وجود فهوأمر لا تنكره الوثنية ولا يضرهم شيئا.
ومن هنا يظهر أن قوله:{الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} موضوع في صدر الآية توطئة وتمهيدا لقوله:{ثم استوى على العرش} إلخ من غير أن يكون مقصودا بالذات فيما سيق من البرهان فوزان هذا الصدر من ذيله وزان الصدر من الذيل في قوله تعالى:{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} إلخ: الأعراف: 54، يونس: 3، وما يشابهها من الآيات.
ويظهر أيضا: أن قوله:{بغير عمد} متعلق برفع و{ترونها} وصف للعمد والمراد رفعها بغير عمد محسوسة مرئية، وأما قول من يجعل:{ترونها} جملة مستأنفة تفيد دفع الدخل كأن السامع لما سمع قوله:{رفع السماوات بغير عمد} قال: ما الدليل على ذلك؟ فأجيب وقيل:{ترونها} أي الدليل على ذلك أنها مرئية لكم، فبعيد.
إلا على تقدير أن يكون المراد بالسماوات مجموع جهة العلوعلى ما فيها من أجرام النجوم والكواكب والهواء المتراكم فوق الأرض والسحب والغمام فإنها جميعا مرفوعة من غير عمد ومرئية للإنسان.
وقوله:{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} تقدم الكلام في معنى العرش والاستواء والتسخير في تفسير سورة الأعراف الآية 54.
وقوله:{ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} أي كل منهما يجري إلى أجل معين يقف عنده ولا يتعداه كذا قيل ومن الجائز بل الراجح أن يكون الضمير المحذوف ضمير جمع راجعا إلى الجميع والمعنى كل من السماوات والشمس والقمر يجري إلى أجل مسمى فإن حكم الجري والحركة عام مطرد في جميع هذه الأجسام.
وقد تقدم الكلام في معنى الأجل المسمى في تفسير سورة الأنعام الآية 1 فراجع.
وقوله:{يدبر الأمر} التدبير هو الإتيان بالشيء عقيب الشيء ويراد به ترتيب الأشياء المتعددة المختلفة ونظمها بوضع كل شيء في موضعه الخاص به بحيث يلحق بكل منها ما يقصد به من الغرض والفائدة ولا يختل الحال بتلاشي الأصل وتفاسد الأجزاء وتزاحمها يقال: دبر أمر البيت أي نظم أموره والتصرفات العائدة إليه بحيث أدى إلى صلاح شأنه وتمتع أهله بالمطلوب من فوائده.
فتدبير أمر العالم نظم أجزائه نظما جيدا متقنا بحيث يتوجه به كل شيء إلى غايته المقصودة منه وهي آخر ما يمكنه من الكمال الخاص به ومنتهى ما ينساق إليه من الأجل المسمى، وتدبير الكل إجراء النظام العام العالمي بحيث يتوجه إلى غايته الكلية وهي الرجوع إلى الله وظهور الآخرة بعد الدنيا.
وقوله:{ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} ظاهر السياق أن المراد بالآيات هي الآيات الكونية فالمراد بتفصيلها هو تمييز بعضها من بعض وفتقها بعد رتقها، وهذا من سنته تعالى يفصل الأشياء ويميز كل شيء من كل شيء ويخرج من كل شيء ما هو كامن فيه مستخف في باطنه فينفصل به النور من الظلمة والحق من الباطل والخير من الشر والصالح من الطالح والمثيب من المجرم.
ولذا عقبه بقوله:{لعلكم بلقاء ربكم توقنون} فإن يوم اللقاء هو الساعة التي سماها الله بيوم الفصل ووعد فيه تمييز المتقين من المجرمين والفجار قال:{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ}: الدخان 40، وقال:{ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}: يس: 59، وقال:{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}: الأنفال: 37.
والأشهر عند المفسرين أن المراد بالآيات آيات الكتب المنزلة من عند الله فالمراد بتفصيلها لغرض كذا شرحها وكشفها بالبيان في الكتب المنزلة على أنبياء الله ليتدبر فيها الناس ويتفكروا ويفقهوا فإن في ذلك رجاء أن يوقنوا بلقاء الله تعالى والرجوع إليه وما قدمناه من المعنى أوضح لزوما وأمس بالسياق.
وفي قوله:{لعلكم بلقاء ربكم} ولم يقل: لعلكم بلقائه، وضع الظاهر موضع المضمر والوجه فيه الإصرار على تثبيت الربوبية والتأكيد له والإشارة إلى أن الذي خلق العالم ودبر أمره فصار ربا له هو رب لكم أيضا فلا رب إلا رب واحد لا شريك له.
قوله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا} إلى آخر الآية الرواسي جمع راسية من رسا إذا ثبت وقر، والمراد بها الجبال لثباتها في مقرها، والزوج خلاف الفرد ويطلق على مجموع الأمرين وعلى أحدهما فهما زوج وهما زوجان، وربما يقيد الزوجان باثنين تأكيدا للدلالة على أن المراد هو اثنان لا أربعة كما في الآية.
وقوله:{هو الذي مد الأرض} أي بسطها بسطا صالحا لأن يعيش فيه الحيوان وينبت فيه الزرع والشجر، والكلام في نسبة مد الأرض إليه تعالى وكونه كالتوطئة والتمهيد لما يلحق به من قوله:{وجعل فيها رواسي وأنهارا} إلخ، نظير الكلام في قوله في الآية السابقة:{الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها}.
وقوله:{وجعل فيها رواسي وأنهارا} الضمير للأرض والكلام مسوق بحيث يستتبع بعض أجزائه بعضا والغرض - والله أعلم - بيان تدبيره تعالى أمر سكنة الأرض من إنسان وحيوان في حركته لطلب الرزق وسكونه للارتياح فقد مد الله سبحانه الأرض ولولا ذلك لم يصلح لبقاء نوع الإنسان والحيوان ولوكانت ممدودة فحسب من غير ارتفاع وانخفاض في سطحها لم تصلح لظهور ما ادخر فيها من خزائن الماء على سطحها لشرب الزروع والبساتين فجعل سبحانه فيها الجبال الرواسي وادخر فيها ما ينزل على الأرض من ماء السماء وشق من أطرافها أنهارا وفجر منها عيونا مطلة على السهل تسقي الزروع والجنان فيخرج به ثمرات مختلفة حلوة ومرة صيفية وشتوية برية وأهلية، وسلط على وجه الأرض الليل والنهار وهما عاملان قويان في رشد الأثمار والفواكه بتسليط الحرارة والبرودة المؤثرتين في النضج والنمووالانبساط والانقباض، وتسليط الضوء والظلمة النظامين لحركة الدواب والإنسان وسعيهما في طلب الرزق وسكونهما للنوم والرقدة.
فمد الأرض يسهل الطريق لجعل الجبال الرواسي وذلك لشق الأنهار وذلك لجعل الثمرات المزدوجة المختلفة وبالليل والنهار يتم المطلوب وفي ذلك كله تدبير متصل متحد يكشف عن مدبر حكيم واحد لا شريك له في ربوبيته، وإن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
وقوله:{ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي ومن جميع الثمرات الممكنة الكينونة جعل في الأرض أنواعا متخالفة نوعا يخالف آخر كالصيفي والشتوي والحلووغيره والرطب واليابس.
هذا هو المعروف في تفسير زوجين اثنين فالمراد بالزوجين الصنف يخالفه صنف آخر سواء كانا صنفين لا ثالث لهما أم لا، نظير ما تأتي فيه التثنية للتكرير كقوله تعالى:{ثم ارجع البصر كرتين}: الملك: 4 أريد به الرجوع كرة بعد كرة وإن بلغ من الكثرة ما بلغ.
وقال في تفسير الجواهر في قوله تعالى:{زوجين اثنين}: جعل فيها من كل أصناف الثمرات الزوجين اثنين ذكر وأنثى في أزهارها عند تكونها فقد أظهر الكشف الحديث أن كل شجر وزرع لا يتولد ثمره وحبه إلا من بين اثنين ذكر وأنثى.
فعضوالذكر قد يكون مع عضو الأنثى في شجرة واحدة كأغلب الأشجار وقد يكون عضوالذكر في شجرة والآخر في شجرة أخرى كالنخل، وما كان العضوان فيه في شجرة واحدة إما أن يكونا معا في زهرة واحدة، وإما أن يكون كل منهما في زهرة وحده والثاني كالقرع والأول كشجرة القطن فإن عضوالتذكير مع عضوالتأنيث في زهرة واحدة. انتهى.
وما ذكره وإن كان من الحقائق العلمية التي لا غبار عليها إلا أن ظاهر الآية الكريمة لا يساعد عليه فإن ظاهرها أن نفس الثمرات زوجان اثنان لا أنها مخلوقة من زوجين اثنين ولوكان المراد ذلك لكان الأنسب به أن يقال: وكل الثمرات جعل فيها من زوجين اثنين.
نعم لا بأس أن يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى:{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ}: يس: 36 وقوله:{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ }: لقمان: 10 وقوله:{ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}: الذاريات: 49.
وذكر بعضهم أن زوجين اثنين الذكر والأنثى والحلووالحامض وسائر الأصناف فيكون الزوجان أربعة أفراد الذكر والأنثى وكل منهما مختلف بصفات هي أكثر من واحد كالحلووغيره والصيفي وخلافه. وهو كما ترى.
وقوله:{يغشي الليل النهار} أي يلبس ظلمة الليل ضوء النهار فيظلم الهواء بعد ما كان مضيئا، وذكر بعضهم أن المراد به إغشاء كل من الليل والنهار غيره وتعقيب الليل النهار والنهار الليل، ولا قرينة تدل على ذلك.
ثم ختم الآية بقوله:{إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} فإن التفكر في النظام الجاري عليها الحاكم فيها القاضي باتصال بعضها ببعض وتلاؤم بعضها مع بعض المؤدي إلى توجه المجموع وكل جزء من أجزائها إلى غايات تخصها يكشف عن ارتباطها بتدبير واحد عقلي في غاية الإتقان والإحكام فيدل على أن لها ربا واحدا لا شريك له في ربوبيته عليما لا يعتريه جهل قديرا لا يغلب في قدرته ذا عناية بكل شيء وخاصة بالإنسان يسوقه إلى ما فيه سعادته الخالدة.
قوله تعالى:{وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان} إلى آخر الآية، قال الراغب: الصنوالغصن الخارج عن أصل الشجرة يقال: هما صنوا نخلة وفلان صنوأبيه والتثنية صنوان وجمعه صنوان قال تعالى: صنوان وغير صنوان.
انتهى، وقال: والأكل لما يؤكل بضم الكاف وسكونه قال تعالى:{أكلها دائم} والأكلة للمرة والأكلة كاللقمة. انتهى.
والمعنى أن من الدليل على أن هذا النظام الجاري قائم بتدبير مدبر وراءه يخضع له الأشياء بطبائعها ويجريها على ما يشاء وكيف يشاء أن في الأرض قطعا متجاورات متقاربة بعضها من بعض متشابهة في طبع ترابها وفيها جنات من أعناب والعنب من الثمرات التي تختلف اختلافا عظيما في الشكل واللون والطعم والمقدار واللطافة والجودة وغير ذلك، وفيها زرع مختلف في جنسه وصنفه من القمح والشعير وغير ذلك، وفيها نخيل صنوان أي أمثال نابتة على أصل مشترك فيه وغير صنوان أي متفرقة تسقي الجميع من ماء واحد ونفضل بعضها على بعض بما فيه من المزية المطلوبة في شيء من صفاته.
فإن قيل: هذه الاختلافات راجعة إلى طبائعها الخاصة بكل منها أوالعوامل الخارجية التي تعمل فيها فتتصرف في إشكالها وألوانها وسائر صفاتها على ما تفصل الأبحاث العلمية المتعرضة لشئونها الشارحة لتفاصيل طبائعها وخواصها، والعوامل التي تؤثر في كيفية تكونها وتتصرف في صفاتها.
قيل: نعم لكن ينتقل السؤال حينئذ إلى سبب اختلاف هذه الطبائع الداخلية والعوامل فما هي العلة في اختلافها المؤدية إلى اختلاف الآثار؟ وتنتهي بالأخرة إلى المادة المشتركة بين الكل المتشابهة الأجزاء، ومثلها لا يصلح لتعليل هذا الاختلاف المشهود فليس إلا أن هناك سببا فوق هذه الأسباب أوجد هوالمادة المشتركة، ثم أوجد فيها من الصور والآثار ما شاء، وبعبارة أخرى هناك سبب واحد ذي شعور وإرادة تستند هذه الاختلافات إلى إراداته المختلفة ولولاه لم يتميز شيء من شيء ولا اختلف في شيء هذا.
ومن الواجب على الباحث المتدبر في هذه الآيات أن يتنبه أن استناد اختلاف الخلقة إلى اختلاف إرادة الله سبحانه ليس إبطالا لقانون العلة والمعلول كما ربما يتوهم فإن إرادة الله سبحانه ليست صفة طارئة لذاته كإرادتنا حتى تتغير ذاته بتغير الإرادات بل هذه الإرادات المختلفة صفة فعله ومنتزعة من العلل التامة للأشياء فليكن عندك إجمال هذا المطلب حتى يوافيك توضيحه في محل يناسبه إن شاء الله.
ولما كانت الحجة مبنية على مقدمات عقلية لا تتم بدونها عقبها بقوله:{إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}.
وقد ظهر من البيان المتقدم أن نسبة اختلاف الأكل إليه تعالى من غير ذكر الواسطة أوالوسائط مثل نسبة رفع السماء بغير عمد مرئية ومد الأرض وجعل الجبال والأنهار إليه تعالى بإسقاط الوسائط، والمراد بذلك تنبيه فطرة السامعين لتنتزع إلى البحث عن سبب الاختلافات وتنتهي بالآخرة إلى الله عز من سبب.
وفي الآية التفات لطيف من الغيبة إلى التكلم بالغير وهو ما في قوله تعالى:{ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} ولعل النكتة فيه تعريف السبب الحقيقي بأوجز بيان كأنه قيل: ويفضل بعضها على بعض في الأكل وليس المفضل إلا الله سبحانه ثم عرف المتكلم نفسه وأظهر بلفظ التعظيم أنه هو السبب الذي يبحث عنه الباحثون وإلى حضرته ينتهي هذا التفضيل ثم أوجز هذا التفضيل فقيل:{ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} ولا يخلو التعبير بلفظ المتكلم مع الغير عن إشعار بأن هناك أسبابا إلهية دون الله سبحانه عاملة بأمره ومنتهية إليه سبحانه.
وقد ظهر مما تقدم أن الآية إنما سيقت حجة لتوحيد الربوبية لا لإثبات الصانع أوتوحيد الذات، وملخصها أن اختلاف الآثار في الأشياء مع وحدة الأصل يكشف عن استنادها إلى سبب وراء الطبيعة المشتركة المتحدة وانتظامها عن مشيته وتدبيره فالمدبر لها هو الله سبحانه وهو ربها لا رب غيره، فما يتراءى من المفسرين أن الآية مسوقة لإثبات الصانع في غير محله.
على أن الآيات على ما يظهر من سياقها مسوقة للاحتجاج على الوثنيين وهم إنما ينكرون وحدة الربوبية ويثبتون أربابا شتى ويعترفون بوحدة ذات الواجب الحق عز اسمه فلا معنى للاحتجاج عليهم بما ينتج أن للعالم صانعا، وقد تنبه به بعضهم فذكر أن الآية احتجاج على دهرية العرب المنكرين لوجود الصانع وهو مردود بأنه لا دليل من ناحية سياق الآيات يدل على ما ادعاه.
وظهر أيضا أن الفرق بين الحجتين أعني ما في قوله:{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} إلخ وما في قوله:{ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} إلخ أن الأولى تسلك من طريق الوحدة في الكثرة والارتباط والاتصال في التدبير المتعلق بهذه الأشياء المختلفة وذلك يؤدي إلى وحدة مدبرها، والثانية تسلك من طريق الكثرة في الوحدة واختلاف الآثار والخواص في الأشياء التي لها أصل واحد وذلك يكشف عن أن المبدىء المفيض لهذه الآثار والخواص المختلفة المتفرقة أمر وراء طبائعها وسبب فوق هذه الأسباب الراجعة إلى أصل واحد وهو رب الجميع لا رب غيره.
وأما الحجة الأولى المذكورة قبل الحجتين أعني ما في قوله تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} إلخ فهي كالسالكة من المسلكين معا فإنها تذكر التدبير وفيه توحيد الكثير وجمع متفرقات الأمور، والتفصيل وفيه تكثير الواحد وتفريق المجتمعات.
ومحصلها أن أمر العالم على تشتته وتفرقه تحت تدبير واحد فله رب واحد هو الله سبحانه، وأنه تعالى يفصل الآيات فيميز كل شيء من كل شيء فيفصل السعيد من الشقي والحق من الباطل وهو المعاد، ولذلك استنتج منها الربوبية والمعاد معا إذ قال:{ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}.
_________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي، ج11، ص235-243.
تتطرّق السورة إلى شرح القسم المهمّ من أدلّة التوحيد وآيات الله في الكون، وتتجوّل بالإنسان في عرض السّماوات وتريه الكواكب العظيمة وأسرار هذا النظام وحركته، حتّى يؤمن بالقدرة المطلقة والحكمة اللامتناهية { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}(2).
الجملة {بغير عمد ترونها} لها تفسيران:
1 ـ فكما ترون أنّ السّماء مرفوعة بدون عمد (أي انّها في الأصل بلا عمد كما ترونها فعلا).
2 ـ والثانية إن (ترونها) صفة للعمد فيكون المعنى: إنّ السّماء مرفوعة بعمد ولكن لا ترونها لأنّها غير مرئية!
وهذا هو الذي يراه الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، ففي حديث رواه الحسين بن خالد قال: سألت الإمام أبا الحسن الرضا (عليه السلام): ما المقصود في قوله تعالى: {والسّماء ذات الحبك}،الذاريات7. قال: هذه السّماء لها طرق إلى الأرض، فقلت له: كيف تكون لها طرق إلى الأرض في الوقت الذي يقول سبحانه وتعالى: {رفع السّماوات بغير عمد} فأجابه الإمام: «سبحان الله، أليس الله يقول بغير عمد ترونها؟ قلت بلى، فقال: ثمّ عمد ولكن لا ترونها»(3).
إنّ هذه الآية بالرغم من وجود هذا الحديث الذي يفسّرها، فإنّها تكشف عن حقيقة علمية لم تكن معروفة عند نزول الآيات الكريمة، لأنّه في ذاك الوقت كانت نظرية «بطليموس» في الهيئة تتحكّم بكلّ قواها في المحافل العلمية في العالم وعلى أفكار الناس، وطبقاً لهذه النظرية فإنّ السّماوات عبارة عن أجرام متداخلة تشبه قشور البصل، وإنّها لم تكن معلّقة وبدون عمد، بل كلّ واحدة منها تستند إلى الأُخرى.
ولكن بعد نزول هذه الآيات بألف سنة تقريباً توصل علم الإنسان إلى أنّ هذه الفكرة غير صحيحة، فالحقيقة إنّ الأجرام السّماوية لها مقرّ ومدار ثابت، ولا تستند إلى شيء، فالشيء الوحيد الذي يجعلها مستقرّة وثابتة في مكانها هو تعادل قوّة التجاذب والتنافر، فالأُولى تربط الأجرام فيما بينها، والأُخرى لها علاقة بحركتها.
هذا التعادل للقوّتين الذي يشكّل أعمدة غير مرئيّة يحفظ الأجرام السّماوية ويجعلها مستقرّة في مكانها.
وفي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بخصوص هذا الموضوع قال: «هذه النّجوم التي في السّماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور»(4).
وهل نجد أوضح من هذا الوصف «عمود غير مرئي» أو «عمود من نور» في أدب ذلك العصر لبيان أمواج الجاذبية وتعادل قوّتي الجذب والدفع. وللإطلاع أكثر راجع كتاب [القرآن وآخر الرسل] صفحة 166 وما بعدها.
{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في خصوص معنى العرش والإستواء عليه هناك شرح واف عنه في ذيل الآية 54 من سورة الأعراف.
وبعد أن بيّن خلق السّماوات وهيمنة الخالق عليها، تحدّث عن تسخير الشمس والقمر { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}.
ما أعظم هذا التسخير الذي يقع تحت إرادة ومشيئة الخالق، وفي خدمة الوجود الإنساني والكائنات الحيّة حيث يشعّ نورهما وتضيئان العالم، وتحافظان على دفء الكائنات وتساعدانها على النمو، وتخلقان ظاهرة الجزر والمدّ في البحار، وخلاصة القول إنّهما منشأ لجميع البركات، ولكن هذا النظام المادّي ليس أبديّاً، بل { كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}.
ثمّ يضيف بعد ذلك: إنّ هذه الحركات والتغيّرات في الأحوال ليست بدون حساب وكتاب، وبدون فائدة ونتيجة، بل { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }.
وتعقيباً للآيات السابقة التي نقلت الإنسان إلى السّماء لتريه الآيات الإلهيّة هناك، تنقله الآية الثانية من آيات التوحيد إلى كتاب الكون أي الأرض والجبال والأنهار وأنواع الثمار وشروق الشمس وغروبها، حتّى يتفكّر في محلّ إستقراره في البداية ماذا كان؟ وكيف أصبح الآن بهذه الصورة؟
قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} وبسطها بالشكل الذي تتهيّأ فيه لحياة الإنسان ونمو النباتات والحيوانات، وملأ الأودية والمنحدرات الصعبة بالتراب من خلال تفتّت الصخور الجبليّة، وجعل الأرض مسطّحة وقابلة للسكن، بعد أن كانت التضاريس مانعة من سكن الإنسان عليها.
وقد يحتمل في تفسير هذه الجملة {مدّ الأرض} الإشارة إلى ما يقوله علماء الطبيعة من أنّ الأرض كانت مغطاة بالماء. ثمّ إستقرّت المياه في الوديان ظهرت اليابسة، وبمرور الوقت اتّسعت حتّى أصبحت على ما نراه اليوم.
ثمّ يشير القرآن الكريم إلى ظهور الجبال {وجعل فيها رواسي} فهي تلك الجبال التي عبّرت عنها في آيات أُخرى بـ(الأوتاد) ولعلّ ذلك إشارة إلى أنّها متشابكة فيما بينها من الأسفل مثلها مثل الدرع الواقي وتغطّي سطح الأرض، فهي تبطل الضغوط الداخلية في الأسفل والضغط الخارجي المتمثّل بجاذبية القمر والمدّ والجزر. وكذلك تقضي على الإضطرابات والزلازل، وتجعل الأرض مستقرّة وساكنة وصالحة لحياة الإنسان.
إنّ ذكر القرآن الكريم الجبال بعد مدّ الأرض يُحتمل أن يكون المراد منه أنّ الأرض ليست منبسطة بشكل تامّ بحيث تنعدم فيها المرتفعات، ففي هذه الصورة لا تستقرّ فيها الأمطار والمياه، أو تتحوّل إلى مستنقعات وتجري فيها السيول وتتعرّض للطوفانات الدائمة، فخلق الجبال لتأمن البشرية من هذين الأمرين.
وليست الأرض كلّها جبالا وودياناً فتكون غير قابلة للسكن، بل تحتوي على مناطق منبسطة ومناطق جبلية ووديان، وهذه أفضل صيغة لحياة الإنسان والكائنات الحيّة. ثمّ تضيف الآية بعد ذلك الأنهار {وأنهاراً}.
رائع جدّاً نظام سقي الأرض بواسطة الجبال، وعلاقة الأنهار بالجبال، لأنّ كثيراً من الجبال تختزن المياه بشكل ثلوج على قممها وفي شقوق الوديان، ثمّ تذوب تدريجيّاً، وطبقاً لقانون الجاذبية تأخذ طريقها من المناطق المرتفعة إلى المناطق المنخفضة بدون أن تحتاج إلى قوّة أُخرى لمساعدتها، فهي تقوم بسقي كثير من المناطق وبشكل طبيعي على مدار السنة.
فلو لم يكن للأرض إنحدار كاف ولم تختزن الجبال المياه بهذا الشكل، لكان سقي كثير من المناطق اليابسة صعباً، وفي حالة الإمكان كُنّا نحتاج إلى صرف مبالغ هائلة لإيصال الماء إليها.
ثمّ يذكر القرآن بعد ذلك النباتات والأشجار التي تتكوّن من الأرض والمياه وأشعّة الشمس، والتي هي أفضل وسيلة لإمرار الإنسان بالغذاء: { وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}.
والآية تشير هنا إلى أنّ الفاكهة كائنات حيّة فيها الذكر والاُنثى، وبواسطة التلقيح تتكوّن الثمار.
فإذا كان العالم السويدي «لينه» المختص بعلم النبات هو الذي توصّل إلى هذه الحقيقة في حوالي منتصف القرن الثامن عشر الميلادي وهي أنّ التزويج في عالم النباتات يعتبر قانوناً عامّاً تقريباً كالحيوانات ولها نُطَف ذكرية واُنثوية وأنّ الثمرة تتكوّن من التلقيح. فالقرآن الكريم قبل ألف ومائة عام من ذلك كشف لنا عن هذه الحقيقة، وهذه واحدة من معاجز القرآن العلمية التي تبيّن عظمة هذا الكتاب السّماوي الكبير.
وليس من شكّ أنّ ما قبل «لينه» كان كثير من العلماء يعتقدون بوجود الذكور والإناث في بعض الأشجار، حتّى الناس العاديين كانوا يعلمون بذلك، ولكن لم يكن يعلم أي واحد أنّ هذا القانون عام، حتّى كشفه «لينه» ومن قبله القرآن الكريم.
وبما أنّ حياة الإنسان وكلّ الكائنات ـ وخصوصاً النباتات ـ لا يمكن لها الإستمرار إلاّ بوجود نظام دقيق للّيل والنهار، فإنّ القرآن يشير إلى ذلك في القسم الآخر من الآية {يغشي الليل النهار}.
ولولا ظلمة الليل وهدوؤه، لأحرقت الشمس بنورها المستمر كلّ النباتات، ولم تبق فاكهةً ولا أي كائن حي على وجه الأرض، فسطح القمر ليس له نهار دائم ومع هذا نجد أن حتّى هذا المقدار من نهاره الذي يعادل خمسة عشر يوماً من أيّام الأرض. نرى أنّ درجة فيها مرتفعة جدّاً بحيث لو وضعنا هناك ماءاً أو أي سائل آخر فسوف يغلي ويتبخّر، ولا يمكن لأي موجود حيّ في الأرض أن يتحمّل هذه الحرارة.
وتبيّن الآية في النهاية { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أُولئك الذين يتفكّرون في هذا النظام الرائع، في نظام النّور والظلام، وحركة الأجرام السّماوية، وتسخير الشمس والقمر وجعلها في خدمة الإنسان، وفي نظام مدّ الأرض وأسرار خلق الجبال والأنهار والنباتات، نعم! فهم يرون بوضوح في هذه الآيات الحكمة المطلقة والقدرة اللامتناهية للخالق العلاّم.
وفي الآية الأخيرة من هذه المجموعة يشير القرآن الكريم إلى عدّة نقاط حول علم الأرض وعلم النبات، والتي تعبّر عن النظام الدقيق للخلقة، يقول أوّلا { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ}(5) فبالرغم من أنّ هذه القطع متصلة مع بعضها البعض، فإنّ لكلّ واحد منها بناءه وتركيبه الخاص به، فبعضها قوي والآخر ضعيف، وبعضها مالح والآخر حلو، وكلّ قطعة لها الإستعداد في تربية نوع خاص من النباتات وأشجار الفاكهة والزراعة، لأنّ إحتياجات الإنسان والحيوان كثيرة ومتفاوتة، وقد تكون لكلّ قطعة من الأرض المسؤولية في تلبية إحدى هذه الحاجات. وأمّا إذا كانت في مستوىً واحد، أو لم تكن إستعداداتها مقسّمة بالشكل المطلوب، لكان الإنسان يمرّ بأزمة ونقص في مواده الغذائية والطبية وسائر الإحتياجات الأُخرى، ولكن هذا التقسيم المناسب للمسؤولية وتوزيعها على القطعات المختلفة للأرض سوف يسدّ الإحتياجات اللازمة للإنسان.
قوله تعالى: { وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ(6) صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}(7).
«صنوان» جمع «صنو» بمعنى الغصن الخارج من أصل الشجرة، وعليه فالكلمة تعني الأغصان المختلفة الخارجة من أصل الشجرة.
والملفت للنظر أنّه يمكن أن يكون لكلّ واحد من هذه الأغصان نوع خاصّ من الثمر، وهذه قد تشير إلى قابلية الأشجار للتركيب. ففي بعض الأحيان يتمّ تركيب عدّة أغصان مختلفة على ساق واحدة، وبعد نمو هذه التراكيب تعطي كلّ واحدة منها نوعاً خاصاً من الثمر، فالتربة واحدة والساق والجذر واحد ولكن الثمر مختلف.
والأعجب من ذلك أنّها تسقى بماء واحد { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ}.
وقد نرى كثيراً أنّه في الشجرة الواحدة أو في غصن واحد توجد ثمار من نفس الصنف ولكن لها أطعمة وألوان مختلفة، وفي العالم نشاهد أوراداً كثيرة، وقد يحمل الغصن الواحد أوراداً مختلفة الألوان.
أي مختبر للأسرار هذا الذي يعمل في أغصان الأشجار، والذي ينتج من مواد قليلة متحدة، تركيبات مختلفة تؤمّن إحتياجات الإنسان.
أليست هذه الأسرار تدلّ على وجود من يقود هذا النظام بالعلم والحكمة. وهنا في آخر الآية يقول تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
__________________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي،ج6،ص386-391.
2- (عَمد) على وزن (صَمد) «وعُمد» على وزن (زُحل) والإثنان جمع عمود، فالأوّل جمع، والثّاني اسم الجمع (مجمع البيان ذيل الآية).
3- الحديث في تفسير البرهان، عن علي بن إبراهيم عن العياشي (البرهان، المجلّد الثّاني، ص278).
4- سفينة البحار، المجلّد الثّاني، ص574 نقلا من تفسير علي بن إبراهيم القمّي.
5- متجاور بمعنى الجار وما يكون قريباً، فقوله: (قطع متجاورات) يقصد منه أنّ هذه القطع مختلفة وليست متساوية، وإلاّ لم يكن للجملة معنى.
6- «أعناب» جمع عنب و «النخيل» جمع نخلة، ويحتمل أنّهما ذكرتا بصيغة الجمع للدلالة على الأنواع المختلفة للعنب والتمر والتي قد تصل إلى مئات الأنواع في العالم.
7 ـ وقد ذكروا معنىً آخر لصنو، وهو الشبيه، ولكن يحتمل أنّ هذا المعنى مأخوذ من نفس المعنى الذي ذكرناه آنفاً.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|