أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-8-2016
584
التاريخ: 23-8-2016
856
التاريخ: 23-8-2016
883
التاريخ: 23-8-2016
801
|
إعلم أنّه صرّح شيخنا المرتضى قدّس سرّه في غير واحد من كلماته بأنّ وجه تقديم الأمارات على الاستصحاب هو الحكومة ، وضابطها على ما قرّره قدّس سرّه في مبحث التراجيح أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي ناظرا إلى مدلول دليل آخر بما هو مدلول الدليل، وكان بمنزلة «اعني» وبحيث لو لم يكن الدليل المحكوم كان لغوا، كما يكون كلمة «اعني» لغوا لو لم يكن مسبوقا بلفظ كان هو تفسيرا له، ولا يخفي وجه التقديم في كلّ دليلين كانا كذلك، ولكنّ الشأن في ثبوت هذا في موارد نحكم بالحكومة، كأدلّة نفي الضرر والعسر والحرج بالنسبة إلى أدلّة الأحكام، وكأدلّة الامارات بالنسبة إلى أدلّة الشكوك، وكقوله: لا شكّ لكثير الشكّ بالنسبة إلى أدلّة الشكوك في الصلاة.
ولا يخفي عدم تماميّته فيها، ووجه ذلك أنّه لا لغويّة في قوله: لا ضرر مثلا لو لم يكن في البين أدلّة الأحكام، سواء فسّرناه بنفي الحكم الضرري، أم بنفي الموضوع الضرري، أمّا على الاوّل فواضح، وأمّا على الثاني كما في قوله: «لا شكّ لكثير الشكّ» فلأنّ نفي الموضوع وإن كان لا بدّ وأن يكون بلحاظ نفي الحكم، ولكن لا يلزم أن يكون بلحاظ الحكم المدلول للفظ، بل ولا لقاعدة بما هو مدلول لهما، بل يكفي أن يكون بلحاظ نفي الحكم واقعا، كما هو الحال في قوله عليه السلام: «رفع ما لا يعلمون».
وهنا طريق آخر يمكن إرجاع كلام الشيخ إليه، وهو أن يقال: قد تعلّق الحكم على موضوع واقعي كقوله: أكرم العلماء، فإنّه إنشاء وجوب الإكرام في موضوع العلماء وقوله: لا تكرم العلماء إنشاء التحريم في موضوع العلماء وقوله: لا تكرم الفسّاق من العلماء، إنشاء التحريم في موضوع الفسّاق من العلماء، وحينئذ يتحقّق التعارض إمّا بالتباين الكلّي كما بين الأوّلين، أو بالجزئى كما بين الأوّل والثالث، وقد تعلّق الحكم على نفس الحكم كقوله: الحكم الضرري لم أجعله، وإيجاب إكرام الفاسق ما أنشأته، وهذا حاكم على قوله: أكرم العلماء؛ فإنّ العقلاء إذا لاحظوا هذين لم ينقدح في نفسهم التعارض، فإنّ إسناد إرادة المعنى الحقيقي في أصالة الحقيقة والعموم في أصالة العموم من اللفظ إلى المتكلّم يكون مغيّا بعدم إظهار من المتكلّم على خلافه، فإذا قال: ما أردت وجوب إكرام الفاسق، فأصالة الحقيقة وأصالة العموم المقتضيان لإرادة المتكلّم إيجاب إكرام الفاسق لا محلّ لهما.
وسرّ ذلك أنّ قولنا: أكرم العلماء، ليس معناه إسناد إرادة معناه إلى المتكلّم، وانّما هو متكفّل لنفس المعنى، وإسناد إرادة معناه إلى المتكلّم يكون بحكم العقلاء، وأمّا قولنا: ما أردت إيجاب إكرام الفاسق فمفاده اللفظي إسناد للإرادة إلى المتكلّم نفيا، فلا بدّ أن لا تعارض أصالة العموم في قوله: ما أردت الخ بأصالة العموم في قوله:
أكرم العلماء وإن فرض كون أصالة العموم في الثاني أرجح منها في الأوّل.
مثلا لو قال: جاءني أسد أعني الرجل الشجاع، وكان كلمة «أعني» مردّدة بين التفسير ومعنى آخر أجنبيّ عنه وكان ظاهرا في التفسير، فأصالة الحقيقة فيه يقتضى الحمل على التفسير، وأصالة الحقيقة في الأسد يقتضي الحمل على الحيوان المفترس، فهل ترى تردّدا من نفسك في تقديم الأصالة الاولى على الثانية ولو فرض كونها أقلّ ظهورا من الثانية؟، وهذا بخلاف ما لو قال: رأيت أسدا يرمي، فإنّه يجب مراعاة الأقوى ظهورا من اللفظين.
ومن هنا يظهر ما في ما ادّعاه بعض الأساتيد من اعتبار كون الدليل الحاكم أظهر في حيث شارحيّته من الدليل المحكوم، وهذا وإن كان ممكن الانطباق على دليل نفي الضرر ونحوه كما لا يخفي، ولكنّه غير ممكن الانطباق على ما نحن فيه من أدلّة الأمارات والاصول؛ فإنّه مبنيّ على أن يكون مفاد دليل اعتبار الأمارة تنزيل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع، وتنزيل الشكّ معها منزلة العدم واليقين حتّى يكون مرجع التنزيل الثاني إلى نفي الآثار المجعولة للشكّ، فيكون معنى «صدّق العادل»:
اعمل بمفاد قوله وألق احتمال الخلاف، ومن المعلوم أنّ مؤدّى دليل الاعتبار ليس إلّا تنزيل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع من دون تعرّض لحال احتمال الخلاف، مثلا لو أخبر البيّنة بأنّ هذا نجس، فمفاد دليل الاعتبار أنّه نجس واقعا من دون تعرّض لأنّ احتمال الطهارة يكون كالعدم.
وبالجملة، تقريب الحكومة متوقّف على استفادة هذين التنزيلين من دليل الأمارة، وهو إمّا غير معقول؛ لاستلزمه اجتماع اللحاظين المتنافيين- كما مرّ تفصيله في مبحث القطع- وإمّا لا يمكن استظهاره من دليل الأمارة، فمفاده تنزيل المؤدّى ليس إلّا، كما أنّ مفاد دليل الأصل أيضا تنزيل حكمه منزلة الواقع، فمن هذه الجهة لا فرق بينهما، فمفاد جميع أدلّة الاعتبار مفاد قوله: «العمري وابنه ثقتان، ما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان» وهو التنزيل منزلة الواقع فقط، وأمّا قوله: «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يؤدّي عنا ثقاتنا» فليس مفاده إلّا نفي التشكيك من جهة الأخذ بقوله، لا رفع التشكيك من جهة الواقع بمعنى رفع آثاره.
وحينئذ لا بدّ لوجه التقديم في ما نحن فيه من التماس طريق آخر، فنقول: كما أنّا قد قلنا في مبحث القطع بأنّ القطع المأخوذ في الموضوع قد يؤخذ على وجه الطريقيّة، وقد يؤخذ على وجه الصفتيّة، والمراد بالأوّل هو الجامع بين القطع وسائر الطرق، وهو مطلق انفتاح باب الواقع والتمكّن منه ووصول اليد إليه بحيث أمكن المكلّف أن يقول: هذا هو الواقع، سواء كان بطريق وجداني أم عقلائي، أم شرعي، والمراد بالثاني خصوص الكشف التامّ المانع عن النقيض، كذلك الشكّ المأخوذ موضوعا قد يؤخذ على وجه الصفتيّة وهو أن يكون المكلّف متزلزلا متردّدا بين الوجود والعدم وعدم الاحتمال المانع عن النقيض في شيء من الطرفين.
متردّدا بين الوجود والعدم وعدم الاحتمال المانع عن النقيض في شيء من الطرفين.
وقد يؤخذ على معنى انسداد باب الواقع على المكلّف وانقطاع يده عنه بالمرّة بحيث لم يكن له أن يقول: هذا واقع، ولا إشكال أنّ كلّا من الأمارة والأصل طريق إلى الواقع، فمع كلّ منهما يمكن للمكلّف أن يقول: هذا واقع، فإنّ مفاد قاعدة الطهارة أنّ هذا طاهر، يعني بمنزلة الطاهر الواقعي، ومفاد قاعدة الحلّ أنّ هذا حلال، يعني بمنزلة الحلال الواقعي، ومفاد الاستصحاب أنّ العمل السابق عملك في الحال، يعني أنّه بمنزلة العمل الواقعي، كما أنّ مفاد دليل حجيّة الأمارة أنّ مؤدّى الأمارة من الوجوب أو الحرمة أو غير ذلك يكون بمنزلة الواقع.
والفرق أنّ موضوع الأمارة هو الشكّ الوصفي والترديد في الواقع، وموضوع الأصل هو التحيّر في العمل المنسوب إلى الواقع بواسطة عدم الطريق لا إلى نفس الواقع ولا إلى بدله وما هو بمنزلته.
نعم حيث لا يمكن أن يكون الحكم رافعا لموضوعه وجب أن يكون الموضوع هو التحيّر مع قطع النظر عن حكم هذا الأصل، لا التحيّر المطلق؛ فإنّ الأصل أيضا- كما مرّ- طريق إلى ما هو بمنزلة الواقع، فلا تحيّر معه.
وحينئذ فقيام الأمارة يرفع التحيّر لو لا الأصل وجدانا، وقيام الأصل لا يرفع الشكّ والترديد في الواقع، وهذا معنى الورود، ولا فرق في ذلك بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة، فإنّ الخلّ الذي يحتمل انقلابه إلى الخمر- مثلا- إذا قام البيّنة على خمريّته يزول التحيّر في خمريّته؛ لوجود الطريق على الخمريّة، فيحكم بالنجاسة وحرمة الشرب، هذا.
ولكنّ الشأن في استظهار الشكّ اللاطريقي من لفظ الشكّ الواقع في قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» ومن الغاية في قوله: «كلّ شيء طاهر حتى تعلم» و«كلّ شيء حلال حتى تعلم» إلى غير ذلك من سائر ادلّة الاصول فنقول: يمكن استظهاره بوجهين:
الأوّل: بدعوى أنّ الغالب من حال من يكون بصدد بيان حال الشكّ في الواقعيّات أن يكون متعرّضا لحال انقطاع اليد عنها رأسا ومن جميع الوجوه، لا لحال وصف الترديد فيها وإن كان للمكلّف طريق إلى الواقع رافع لحيرته وجدانا، فالمراد من اليقين والشكّ في مثل قوله: «من كان على يقين فشكّ» الخ هو عدم التحيّر ووجود الطريق، ووجود التحيّر وعدم الطريق.
الثاني: من المعلوم أنّ اعتبار الأمارات والاصول إنّما هو في حقّ غير القاطع بالواقع، وأمّا القاطع بالوجود أو بالعدم فليس في حقّه أمارة ولا أصل، وهذا واضح يحكم به العقل، ولم يرد في شيء من أدلّة اعتبار الأمارات التقييد بصورة الشكّ، وجميع أدلّة الاصول مقيّدة بذلك، فيستكشف من هذا- يعنى تغيير الاسلوب في البابين- أنّ الشكّ المأخوذ في باب الاصول يكون المراد به الحيرة وعدم الطريق، فيكون في الاصول شيئا زائدا معتبرا علاوة على ما يعتبر في الأمارات أيضا بحكم العقل وهو الشكّ الوصفي.
ثمّ على فرض عدم استظهار الشكّ اللاطريقي من أدلّة الأصل فلا أقلّ من مساواته مع احتمال الشكّ الوصفي، لا ظهور الثاني، فيكفي في المطلوب ذلك أيضا لحصول الإجمال في دليل الأصل المسقط عن الاستدلال، فيكون إطلاق دليل الأمارة سليما عن المعارض هذا.
فإن قلت: التحيّر موجود ابتداء وإن كان بعد تقديم أصالة الإطلاق في دليل الأمارة يرفع حقيقة، ولكنّه بعد أوّل الكلام، فلم لا تقدّم أصالة الإطلاق في دليل الأصل؟.
قلت: وجهه أنّه لو عمل بأصالة الإطلاق أو العموم في دليل الأصل يلزم رفع اليد عن الحكم في دليل الأمارة مع وجود الموضوع، وهذا تقييد وتخصيص، ولو عمل بأصالة الإطلاق أو العموم في دليل الأمارة يلزم رفع اليد عن الحكم في دليل الأصل بارتفاع الموضوع، وهذا تقيّد وتخصّص، ومتى دار الأمر بين التقييد والتخصيص وبين التقيّد والتخصّص، فالتقيّد والتخصّص أولى.
وإن شئت قلت: إنّ العمل بأصالة الإطلاق أو العموم في دليل الأمارة ليس فيه مخالفة قاعدة أصلا، والعمل بأصالة الإطلاق أو العموم في دليل الأصل مستلزم لأحد محذورين، إمّا التقييد والتخصيص بلا جهة، وإمّا التقييد والتخصيص مع الجهة لكن على وجه دائر، وذلك لأنّ حكم الأصل إن لم يكن قرينة على التقييد والتخصيص في دليل الأمارة يلزم تقييد دليل الأمارة وتخصيصه بلا جهة؛ إذ المفروض عدم قرينة اخرى أيضا، وإن كان قرينة على التقييد والتخصيص فهذا متوقّف على وجود التحيّر توقّف الحكم على وجود الموضوع، ووجود التحيّر أيضا موقوف على قرينيّته على التخصيص أو التقييد كما هو واضح.
والعجب من شيخنا المرتضى قدّس سرّه حيث إنّه بعد البناء على أنّ المراد من الشكّ في الاصول عدم الدليل والطريق والتحيّر في العمل ومع قيام الدليل الاجتهادي، لا حيرة، قال ما لفظه: إنّه لا يرتفع التحيّر ولا يصير الدليل الاجتهادي قطعيّ الاعتبار في خصوص مورد الاستصحاب إلّا بعد إثبات كون مؤدّاه حاكما على مؤدّى الاستصحاب، وإلّا أمكن أن يقال: إنّ مؤدّى الاستصحاب وجوب العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها، سواء كان هناك الأمارة الفلانيّة أم لا، ومؤدّى دليل تلك الأمارة وجوب العمل بمؤدّاه، خالف الحالة السابقة أم لا، ولا يندفع مغالطة هذا الكلام إلّا بما ذكرنا من طريق الحكومة كما لا يخفي، انتهى.
إذ فيه أنّه كيف يمكن أن يكون للحكم إطلاق بالنسبة إلى وجود موضوعه وعدمه وحينئذ فيكفينا إطلاق دليل الأمارة من دون حاجة إلى إثبات الحكومة، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ كلامه قدّس سرّه مبنيّ على مقدّمة غير مذكورة في الكلام وهو أنّه بعد البناء على أنّ الموضوع في الاصول هو التحيّر يكون في الأمارات أيضا ذلك بشهادة القطع باتّحاد النسق في الأمارات والاصول، ومعلوم أنّ تقديم الأمارة حينئذ يبتني على تقريب الحكومة بأن يقال: إنّ مفاد دليل الأمارة أنّ المؤدّى بمنزلة الواقع، والتحيّر أيضا بلحاظ أثره الذي هو حكم الأصل بمنزلة العدم.
إلّا أن يقال: إنّ تقييد إطلاق دليل الأمارة بوجود الشكّ الوصفي معلوم بحكم العقل، وأمّا تقييده بالشكّ اللاطريقي فلا دليل عليه، فإطلاقه من هذه الجهة محفوظ.
وهنا تقريب آخر وهو أن يقال: إنّ الاصول أحكام في موضوع الشاكّ في الواقع، والأمارات أحكام لا في هذا الموضوع، بل في فرض الشكّ، والملحوظ فيها رفع الشكّ.
وتوضيح ذلك أنّه قد يكون الحكم في القضيّة الاخباريّة أو الإنشائيّة في فرض الشكّ وبغرض رفعه كما في غالب القضايا الإخباريّة، حيث إنّ المخبر له فيها ذات الخاطب، لا هو بوصف كونه جاهلا بمضمون القضية، لكنّ الغرض فيها إعلام المخاطب ورفع الشكّ عنه بحيث لو علم المتكلّم بعلم المخاطب لما أخبر إلّا في مثل «حفظت التوراة» ممّا يكون المقصود فيها إعلام المخاطب بعلم المتكلّم بمضمون القضيّة، وقد يكون الحكم معلّقا على عنوان الشكّ بحيث يكون عنوان الشاكّ محكوما بحكم كذا.
ووجه الجمع أنّ حكم الاصول مجعول في مرحلة بقاء الشكّ واستقراره، وحكم الأمارات مجعول في مرحلة ابتداء الشكّ بغرض رفعه، وحيث لا رفع حقيقة فيكون الرفع بلحاظ آثار الشكّ، وهذا تقريب الحكومة، لكن لا بمعنى أنّ لسان دليل الأمارة بمفاده اللفظي لسان الحكومة، بل بمعنى أنّ دليل الأمارة بمعاونة هذا الغرض حاكم على دليل الأصل، فهذا جمع بين الدليلين بحسب اللبّ لا بحسب المفاد اللفظي، وهذا سالم عن إشكال الجمع بين اللحاظين، فإنّ المستحيل هو اجتماعهما عرضا، وهذا جمع بينهما طولا وهو بمكان من الإمكان.
وعلى هذا فالعلم والشكّ في الاصول والأمارات مأخوذان على وجه الصفتيّة، ولكن لا يلزم من هذا البيان رفع الآثار الثابتة لوصف الشكّ إلّا من حيث التحيّر فى الواقع، ولا إثبات الآثار الثابتة لوصف العلم إلّا من حيث عدم التحيّر فيه، وأمّا الآثار الثابتة لهما من غير هذا الحيث- كقولك: إذا شككت في كذا فتصدّق بدرهم، وإذا علمت به فصلّ ركعتين- فلا؛ إذ ليس في دليل الأمارة نظر إلى تلك الآثار.
وأمّا وجه الاستظهار فهو أنّه كما أنّ نفس قول الصادق صلوات اللّه عليه يكون بغرض التنبيه والإعلام ورفع الشكّ وإزالة الجهل كذلك دليل تنزيل ما ينزّل بمنزلته من محكي قول العادل أيضا ظاهر في كونه بهذا المنوال، فكما أنّ قول الصادق صلوات اللّه عليه: الصلاة كذا، والصوم كذا ونحو ذلك يكون بغرض رفع الجهل، كذلك قوله عليه السلام: «ما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان» أيضا ظاهر في كونه بهذا الغرض، وكما أنّ الأخذ من نفس المعصوم يكون بغرض الاستفهام والاستعلام، كذلك الأمر بالأخذ في قوله: «خذ معالم دينك من فلان» أيضا ظاهر في كونه بغرض الإفهام والإعلام.
بل نقول: إنّ تنزيل الشكّ منزلة العدم والعلم هو المصرّح به في قوله عليه السلام: «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يروي عنا ثقاتنا» ويدلّ بالالتزام على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، فالأمر في هذا على عكسه في قوله: «ما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان»، فالمصرّح به فيه تنزيل المؤدّى، ويدلّ التزاما على تنزيل الشكّ، لكن هذا الخبر خبر الواحد، وبخبر الواحد لا يثبت كيفيّة حجيّة خبر الواحد.
ولبعض الأساطين تقريب آخر، قال: لا يخفي أنّ مجرّد الدليل على الخلاف وإن لم يوجب خروج المورد عن مورد الاستصحاب، إلّا أنّه يخرجه حقيقة عمّا تعلّق به النهي في أخبار الباب من النقض بالشكّ، فإنّه لا يكون معه نقضا بالشكّ، بل بالدليل، فلا يعمّه النهي فيها كما لا يخفي، وليس أفراد العام هاهنا هو أفراد الشكّ واليقين كي يقال: إنّ الدليل العلمي إنّما يكون مزيلا للشكّ بوجوده، بل أفراده أفراد نقض اليقين بالشكّ، والدليل المعتبر ولو لم يكن علميّا يكون موجبا لأن لا يكون النقض بالشكّ ولو مع الشكّ، بل بالدليل.
ثمّ أخذ في الإشكال بما أشرنا إليه من أنّ الورود إنّما يتمّ في صورة تقديم دليل الأمارة، وهو بعد أوّل الكلام والجواب عنه، ثمّ إبطال تقريب الحكومة.
ثمّ قال، لا يقال: قضيّة قوله في بعض أخبار الباب: «و لكنّه تنقضه بيقين آخر» هو النهي عن النقض بغير اليقين والدليل المعتبر غير موجب لليقين مطلقا، فكيف يقدّم كذلك.
لأنّا نقول: لا محالة يكون الدليل موجبا لليقين، غاية الأمر لا بالعناوين الأوّليّة للأشياء، بل بعناوينها الطارئة الثانوية، مثل ما لو قام على وجوبه أو حرمته خبر العدل، أو قامت البيّنة على ملكيّته ونجاسته بالملاقاة إلى غير ذلك من العناوين المنتزعة من سائر الأمارات، وبأدلّة اعتبارها علم أحكام هذه العناوين بلا كلام، فلا يكون نقض اليقين إلّا باليقين بالخلاف، ولا منافاة بين الشكّ فيه من وجه القطع من وجه آخر.
وبذلك انقدح وجه تقديم الأمارات على سائر الاصول، وذلك لأنّها أحكام لما شكّ في حكمه ولم يعلم بوجوبه أو حرمته بوجه، ضرورة أنّ ما علم حكمه ولو من وجه ليس محكوما بالحليّة ب «كلّ شيء لك حلال» مثلا، وقد علم بوجه وببعض العناوين حكم المشكوك عند قيام الأمارة، فما قامت الأمارة المعتبرة على حرمته أو خمريّته قد عرفت حرمته، فدخل في الغاية، فلا يعمّه حكم المغيّا في «كلّ شيء لك حلال» كما لا يخفي: انتهى كلامه، رفع مقامه.
ويشكل بأنّه بعد البناء على أنّ المراد باليقين في قوله: «و لكن تنقضه بيقين آخر» وبالعلم في غايات سائر الاصول هو المتعلّق بالأعمّ من الحكم الأوّلى المتعلّق بالعنوان الأوّلي والحكم الثانوي المتعلّق بالعنوان الثانوي.
وبعبارة اخرى: المتعلّق بالحكم الفعلي الأعمّ من الواقعي والظاهرى يؤول الأمر بالأخرة إلى جعل الشكّ في باب الاستصحاب مثل سائر الاصول متعلّقا بالحكم الفعلى(1) ، وحينئذ فما معنى قوله قدّس سرّه: وليس أفراد العام هاهنا الخ، بل المتعيّن أن يقال: إنّ الشكّ قد اخذ وصفا لا بمعنى التحيّر، ولكن وقع التصرّف في متعلّق الشكّ، حيث جعل الحكم الفعلي دون خصوص الواقعي، وحيث إنّ احتمال التناقض كقطعه مستحيل فلا بدّ من جعله الحكم الفعلي من غير جهة الشكّ لا من تمام الجهات.
وكذلك يبتنى على القول بجعل الحكم في الأمارات دون جعل الحجيّة، وكذا يجب أن يكون الموضوع هو الشكّ في الحكم الفعلي من غير جهة هذا الأصل، لئلّا يكون الحكم رافعا لموضوعه، وحينئذ فلا شبهة أنّه عند قيام الأمارة يرتفع الشكّ في الحكم الفعلي من غير جهة الأصل وجدانا، وهذا معنى الورود.
ولكن ينقدح حينئذ الإشكال بأنّه لا وجه لاختصاص هذا المطلب أعني كون المتعلّق هو الحكم الفعلي بالاصول، بل الحال في الأمارات أيضا كذلك، فالقاطع بالحكم الفعلي ليس موردا للأمارة، كما لا يكون موردا للأصل فلو قطع في مورد باعتبار الاستصحاب مثلا في قبال الأمارة كان ذلك ورودا بالنسبة إلى الأمارة لا تخصيصا، وحينئذ فلا محيص عن القول بأنّ الأمارات الملحوظ فيها رفع الشكّ، والاصول موضوعها الشاك؛ فإنّ جعل المتعلّق الحكم الفعلي تحقّق ورود الأمارة على الأصل؛ لارتفاع الشكّ في الحكم الفعلي من غير قبل الأصل حقيقة بقيام الأمارة، وإن جعل الحكم خصوص الحكم الواقعي تحقّق حكومة الأمارة على الأصل بالتقريب المتقدّم.
فاتّضح من هنا صحّة الكلام المتقدّم من شيخنا المرتضى طاب ثراه وعدم ورود الإيراد الذي أوردناه عليه.
ويشكل على ما ذكره قدّس سرّه أيضا بأنّه لا يتمّ في الشبهة الموضوعيّة؛ فإنّ متعلّق اليقين والشكّ فيها نفس الموضوع لا الحكم، والموضوع غير قابل للجعل، فلا يتبدّل الشكّ فيه بالقطع في مرحلة الفعليّة عند قيام الأمارة، فلو قطع بالفسق ثمّ شكّ في تبدّله بالعدالة وقامت البيّنة على العدالة، فبهذه البيّنة لا تصير العدالة مجعولة كما يصير الحكم في الشبهة الحكميّة مجعولا، بل الشكّ في العدالة والفسق بعد محفوظ، فلا يتمّ في هذه الشبهة تقريب الورود مع كون الشكّ مأخوذا على وجه الصفتيّة. نعم لو جعل بمعنى الحيرة وعدم الطريق تمّ تقريب الورود في هذه الشبهة أيضا، كما هو واضح.
____________
(1) لا يخفى الفرق بين هذا و بين ما ذكرنا، فإنّ الشكّ على هذا مأخوذ صفة، و المتعلّق هو الحكم الفعلي الأعمّ من الظاهري و الواقعي، و الشكّ على ما ذكرنا يكون بمعنى عدم الطريق، و المتعلّق نفس الواقع سواء كان حكما واقعيا أم موضوعا واقعيا. منه قدّس سرّه الشريف.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|