بحث حول البداء ومقاماته في الآية الكريمة {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [الرعد: 39] |
4638
11:07 صباحاً
التاريخ: 5-2-2020
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-11-2014
862
التاريخ: 5-2-2020
442
التاريخ: 20-11-2014
1440
التاريخ: 10-4-2018
607
|
بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد وهو المستعان
إن الله جل شأنه قد اقتضت حكمته ولطفه بعباده - في دلالتهم على مقام إلهيته في علمه وقدره وإرادته - أن يجعل نظام العالم - في أحواله وأدواره ومواليده - مبنيا - نوعا - على قوانين الأسباب والتسبيب في المسببات، المرتبطة بالغايات والحكم، والدالة على قصدها.
وهو الخالق للسبب والمسبب، والجاعل للتسبيب، وبيده الأسباب وتسبيباتها، في وجودها وبقائها وتأثيرها، وتحكيم بعضها على بعض، فقد يعدم السبب، وقد يبطل تأثيره، وقد يمنع تأثيره بسبب آخر، وقد يعدم ما يحسب الناس أنه موضوع القانون المقرر ويقيم غيره مقامه.
وهذا هو مقام البداء والمحو والإثبات، وهو - جل شأنه - عالم منذ الأزل بما تؤدي إليه مشيئته من المحو والإثبات، وهذا العلم هو " أم الكتاب " .
فالمحو إنما هو لما له نحو ثبوتي بتقدير الأسباب وتسبيباتها، وسيرها في التسبيب.
وعلى ذلك يجري ما روي في " أصول الكافي " في صحيفة هشام وحفص، عن أبي عبد الله عليه السلام:
" هل يمحى إلا ما كان ثابتا؟!... " الرواية (1).
إذ لا يعقل محو ما هو ثابت الوقوع بعينه في علم الله وأم الكتاب.
وأما كون المراد من المحو هو إفناء الموجود، ومن الإثبات إيجاد المعدوم أو إبقاء الموجود - كما ذكر في صدر السؤال (2) -:
فيدفعه أولا: أنه خلاف ظاهر الآية الكريمة وسوقها، لأن استعمال المحو ومقابلته بأم الكتاب إنما يناسب مقام التسجيل والكتابة، التي هي كناية عن التقدير والتسجيل بسير الأسباب - وإن كان نوعيا -.
ولا يناسب في المقام إفناء العين الموجودة ، مضافا إلى أنه عند إرادة الإفناء لا يبقى لقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]معنى تأسيسي ترتبط به أطراف الكلام في الآية، ويناسب ذكر المحو والإثبات، كما لا ينبغي أن يخفى.
ويدفعه ثانيا: احتجاج الإمام عليه السلام بهذه الآية للبداء، وكذا الكثير من استشهادات الأئمة بهذه الآية.
وأما البداء فهو بمعنى الظهور. مأخوذ من : بدا يبدو بدوا وبدوا وبداءة وبداء وبدوء، فيقال: فلان بدا له في الرأي، أي ظهر له ما كان مخفيا عنه، وفلان برز فبدا له من الشجاعة ما كان مخفيا عن الناس (3).
فمعنى " بدا " في المثالين واحد، ولكن الاختلاف فيهما جاء من ناحية اللام وربطها للظهور. فالبداء المنسوب إلى الله جل شأنه إنما هو بمعنى المثال الثاني. أي: ظهر لله من المشيئة ما هو مخفي على الناس، وعلى خلاف ما يحسبون.
هذا ما يقتضيه العقل.
ويشهد له من صريح الأحاديث ما رواه في " أصول الكافي " في صحيح عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام:
" ما بدا الله في شئ إلا كان في علمه قبل ى أن يبدو له " (4).
ورواية عمرو بن عثمان، عنه عليه السلام :
" إن الله لم يبد له من جهل " (5).
وصحيحة فضيل - الآتية - عن أبي جعفر عليه السلام.
وصحيفة منصور بن حازم: " سألت أبا عبد الله عليه السلام: هل يكون اليوم شئ لم يكن في علم الله بالأمس؟
قال عليه السلام: لا من قال هذا فأخزاه الله.
قلت: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، أليس في علم الله؟!
قال عليه السلام: بلى، قبل أن يخلق الخلق " (6).
أقول :
وإن قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] ينادي بأن مقام المحو والإثبات هو غير مقام أم الكتاب، وعلم الله المكنون، ومشيئته وإرادته الأزلية.
بل هو في مقام الظاهر في سير الأسباب وتسبيباتها.
فقد تقتضي مشيئته - جل اسمه - أن يمنع أسباب البقاء وطول العمر عن الزاني وقاطع الرحم، وقد يمنع الأسباب المهلكة عن واصل الرحم والمتصدق والداعي مثلا، فيمحو في هذه الموارد ما جعله لنوع الأسباب من التسبيب، وقد لا يمحوه في بعض الموارد لحكمة أخرى، فيكون قد أثبته، أي أبقاه ثابتا.
وقد يراد من قوله تعالى: " يثبت " أنه يثبت حين المحو خلاف المحو، والله العالم.
قد كان الناس يحسبون أن إسماعيل بن الصادق عليه السلام هو الإمام بعد أبيه، لما عملوه من أن الإمامة للولد الأكبر ما لم يكن ذا عاهة، ولأن الغالب في الحياة الدنيا وأسباب البقاء أن يبقى إسماعيل بعد أبيه عليه السلام ، فبدا وظهر بموت إسماعيل أن الإمام هو الكاظم عليه السلام، لأن عبد الله كان ذا عاهة، فظهر لله (7) وبدا للناس ما هو في علمه المكنون.
وكذا في موت محمد بن الهادي عليهما السلام، حيث ظهر للشيعة أن الإمام بعد الهادي والحسن العسكري عليه السلام.
وهذا الظهور للشيعة هو الأمر الذي أحدثه الله بموت محمد، كما قال الهادي للعسكري عليهما السلام عند موت محمد: " أحدث لله شكرا، فقد أحدث فيك أمرا " (8).
فالإمامة ثابتة للكاظم والعسكري منذ الأزل، وقد جاء في الأحاديث البالغة حد التواتر - أو ما يقاربه - عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة ممن هو قبل الكاظم والعسكري عليهم السلام ما يتضمن النص على إمامتهما في جملة الأئمة عليهم السلام، وقد ذكر [نا] (9) بعض هذه الأخبار بنحو الإشارة إليها في كتاب " نصائح الهدى " (10).
وإلى ما ذكرناه في معنى البداء والمحو يرشد ما رواه في أصول الكافي:
كصحيحة زرارة، عن أ حدهما عليهما السلام : " ما عبد الله بشئ مثل البداء " (11).
ومعتبرة هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام:
" ما عظم الله (بشئ مثل) البداء " (12).
وصحيحة الريان، عن الرضا عليه السلام :
" ما بعث الله نبيا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء " (13).
ونحوها معتبرتا مرازم وجهم، عن أبي عبد الله عليه السلام (14).
فإن الاعتراف بمجرد أنه يظهر لله من الأمور ما لم يكن محتسبا - بل كان المحتسب غيره - ليس له أهمية بالنسبة إلى جلال الله.
إذن، فالفضل المذكور والأهمية الكبرى للاعتراف بالبداء ما هو إلا لأنه يرجع إلى الاعتراف بحقيقة الإلهية، وأن الموجد للعالم إنما هو إله موجد بالإرادة والقدرة على مقتضى الحكمة، متصرف بقدرته بما يتراءى من العلل وتعليلاتها التي هي من صنعه وإيجاده، والخاضعة لتصرف مشيئته فيها، لا أن وجود العالم منوط بالتعليلات الطبيعية ومحض اقتضاء الطبيعة العمياء فاقدة الشعور والإرادة، تعالى الله عما يقولون.
وعلى ذلك تجري صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام:
" ما بعث الله نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار [له] (15) بالعبودية، وخلع الأنداد، وأن الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء " (16).
فالبداء، وأن الله يمحو ما يشاء ويثبت ، وعنده أم الكتاب، يكون الاعتراف بحقيقتها المعقولة ومدلول الأحاديث، هو الفارق بين الإلهية والطبيعية، وهو الفارق بين الاعتراف بحقيقة الإلهية وبين المزاعم المستحيلة في مسألة العقول العشرة المبنية على التقليد الأعمى للفلسفة اليونانية ومزاعم أوهامها، مع الخبط في أمر الإيجاد بالإرادة والتعليل الطبيعي.
ثم إن مقتضى دلالة العقل والنقل هو أن البداء والمحو لا يقعان فيما أخبر الله به أنبياءه وأوصياءهم، وأخبروا به عنه جل اسمه.
أما دلالة العقل، فلأن وقوع ذلك يستلزم عدم وثوق الناس بهم وبأخبارهم، وحمل الناس لهم على الجهل والكذب على الله، فيسقط محلهم، وينقض الغرض من نصبهم للنبوة والإمامة، ونقض الغرض قبيح ومحال على الله جل اسمه.
وأما النقل، فمنه ما رواه في أصول الكافي ، في صحيحة الفضلي، عن أبي جعفر عليه السلام :
" العلم علمان: فعلم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه، وعلم علمه ملائكته ورسله فإنه سيكون، لا يكذب الله نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون يقدم منه ما يشاء، ويؤخر منه ما يشاء، ويثبت ما يشاء " (17).
ونحوها صحيحته الأخرى عن أبي جعفر عليه السلام (18) ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام (19).
وأيضا: أن الأنبياء والأئمة لا يخبرون عن المغيبات من اطلاعهم على الأسباب وقوانينها، التي هي معرض للبداء والمحو - كما يسميها الناس ب " النفوس الفلكية والألواح القدرية " - إن هي إلا أسماء - فإنه اعتماد على الظن، وهو خلاف وظيفتهم الكريمة، ويلزم من ذلك أن يجعلوا أنفسهم معرضا لعدم الوثوق بهم، وعد الناس لهم من الكاذبين حينما يظهر خلاف ما أخبروا به، وهذا نقض لغرضهم في دعوة الناس إلى الله وإلى قبول أقوالهم وإرشادهم وتصديقهم، ونقض الغرض قبيح مستحيل على المعصوم.
إذن، فلا يخبرون الناس بالغيب اعتمادا على الأسباب أو الألواح القدرية - كما يقال ويزعم -، وإن كانوا أكمل البشر في تلك العلوم .
ومما يشهد لذلك ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله في بعض المواطن: " ولولا آية سبقت في كتاب الله - وهي قوله تعالى:
" يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " لأخبرتكم بما يكون إلى يوم القيامة " (20).
يريد - صلوات الله عليه - أن هذه العلوم المستندة إلى سير الأسباب والتسبيبات والتقدير هو أعلم الناس بها، وأكملهم فيها، ولكنه لا يعتمد عليها، ولا يخبر الناس بمداليلها، لأنها معرض للمحو.
فالمحصل مما ذكرناه :
أن المحو والإثبات في الآية الكريمة ليس المراد منها إفناء الموجود وإبقاءه، أو تجديد موجود آخر.
وأن البداء والمحو لا يتعلق بما في أم الكتاب، ولا بما يخبر الله به أنبياءه والأئمة، ولا بما يخبرون به عن الله من أنباء الغيب، ولا يخبرون عما هو معرض للبداء والمحو، صلوات الله وسلامه عليهم. والحمد لله أولا وآخرا
_______________
(1) الكافي ١ / ١١٤ ح ٢، وتتمته: وهل يثبت إلا ما لم يكن؟!
(2) يشير المؤلف - نور الله مرقده - إلى ورود سؤال عن " البداء " إليه، وإلى تحرير هذه الرسالة جوابا عن ذلك السؤال.
(3) أنظر مادة " بدا " من: لسان العرب ١٤ / ٦٥ والصحاح ٦ / 2278.
(4) الكافي ١ / ١١٤ ح ٩.
(5) الكافي ١ / ١١٥ ح ١٠.
(6) الكافي ١ / 115 ح 11.
(7) أي: من الله.
(8) الكافي ١ / ٢٦٢ ح ٤ و٥ و٨.
(9) أثبتناها لضرورة السياق.
(١0) نصائح الهدى: ٢٢ وما بعدها، وراجع في أمر النص على إمامة الإمامين موسى الكاظم والحسن العسكري عليهما السلام: الكافي ١ / ٢٤٥ - ٢٤٨ و٢٦١ - ٢٦٤ و٤٤١ ح ١ و٤٤٢ ح ٣، كفاية الأثر: ٢٥٥ - ٢٦٣ - و٢٨٢ - ٢٨٨ ومواضع أخرى مختلفة منه، الإرشاد ٢ / 216 - 220 و314 - 320، إعلام الورى: 294 - 300 و367 - 370.
(11) الكافي ١ / ١١٣ ح ١.
(12) الكافي ١ / ١١٣ ذ ح ١، وفيه بدل ما بين القوسين: " بمثل ".
(١3) - الكافي ١ / ١١٥ ح ١٥.
(14) قال مرازم: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: " ما تنبأ نبي قط حتى يقر لله بخمس خصال: بالبداء، والمشيئة، والسجود، والعبودية، والطاعة ".
الكافي ١ / ١١٥ ح ١٣.
وقال جهم عمن حدثه -: قال أبو عبد الله عليه السلام: " أن الله عزو جل أخبر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بما كان منذ كانت الدنيا ، وبما يكون إلى انقضاء الدنيا، وأخبره بالمحتوم من ذلك، واستثنى عليه فيما سواه ".
الكافي ١ / 115 ح 14.
(15) أثبتناه من المصدر.
(16) الكافي ١ / 114 ح 3.
(17) الكافي ١ / ١١٤ ح ٦.
(18) قال الفضيل: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: " من الأمور أمور موقوفة عند الله ، يقدم منها ما يشاء ويؤخر منها ما يشاء ".
الكافي ١ / ١١٤ ح ٧.
(19) قال أبو بصير: قال أبو عبد الله عليه السلام: " أن لله علمين، علم مكنون مخزون، لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه ".
الكافي ١ / 114 ح 8.
(20) ورد الحديث باختلاف يسير في المصادر التالية: التوحيد: ٣٠٥، أمالي الصدوق: ٢٨٠ ب ٥٥ ح ١، الإحتجاج: ٢٥٨، قرب الإسناد: ٣٥٣ ح ١٢٦٦، وعنها في بحار الأنوار ٤ / 97 ح 4 و5.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|