المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24



مختارات الشعر العربي  
  
5226   01:16 صباحاً   التاريخ: 16-12-2019
المؤلف : ناصر الدين الأسد
الكتاب أو المصدر : مصادر الشعر الجاهلي
الجزء والصفحة : ص573-591ج1
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الجاهلي /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-03-2015 1594
التاريخ: 23-03-2015 3943
التاريخ: 22-03-2015 3690
التاريخ: 22-03-2015 8105

المختارات
-1
أما مختارات الشعر العربي فأقدم ما وصل إلينا منها المجموعة التي اختارها المفضل بن محمد الضبي -رأس علماء الكوفة في عصره- والتي عرفت بالمفضليات .
ولم يبلغنا أن أحدًا قبل المفضل اختار شيئًا من الشعر وجمعه في مجموعة مستقلة إلا ما قدمناه من أمر المعلقات .
وتحتوي المفضليات التي بين أيدينا على مائة وست وعشرين قصيدة -أضيف إليها أربع قصائد وجدت في إحدى النسخ- لسبعة وستين شاعرًا، منهم ستة شعراء إسلاميون، وأربعة عشر مخضرمون، والباقون وهم سبعة وأربعون شاعرًا جاهليون لم يدركوا الإسلام.
ويبدو أن كثيرين من تلامذة المفضل رووا هذه المختارات عنه، ولذلك اضطربت روايتها بعض الشيء، وأصح رواياتها هي التي رواها أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي تلميذ المفضل وربيبه، قال ابن النديم(1) "وهي مائة وثمانٍ وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص، وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية عنه، الصحيحة التي رواها عنه ابن الأعرابي..". ولم يشرح المفضل هذه المختارات، إذ إن المعروف عنه أنه "إنما كان يروي شعرًا مجردًا، ولم يكن بالعالم بالنحو ولا كان يشدو منه شيئًا(2)"، "وكان يقول: إني لا أحسن شيئًا
(1/573)

من الغريب ولا من المعاني ولا تفسير الشعراء"(3).
وما في هذه المفضليات من شرح إنما صنعه أبو محمد القاسم بن محمد بن بشار الأنباري "المتوفى سنة 304" وقد أخذها إملاء مجلسًا مجلسًا عن أبي عكرمة عامر بن عمران الضبي "المتوفى سنة 250"، وأخذها أبو عكرمة عن ابن الأعرابي "المتوفى سنة 232"؛ ولم يكتف أبو محمد بن الأنباري بذلك، وإنما كان يرجع إلى علماء آخرين مثل: أبي عمرو بندار الكرخي، وأبي بكر العبدي، وأبي عبد الله محمد بن رستم، وأبي الحسن على بن سنان الطوسي، فيسألهم عن الشيء بعد الشيء منها؛ فلما فرغ منها كلها عرضها على أبي جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح "المتوفى سنة 273" وقرأها عليه: شعرها وغريبها. فلما تم له ذلك أقرأها تلامذته، فكان ممن قرأها عليه ابنه أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، وقرأها على أبي بكر هذا أبو بكر أحمد بن محمد الجراح الخزاز؛ وبذلك تمت لهذه المجموعة روايتها في إسناد متصل من ابن الجراح إلى المفضل الضبي. وقد فصل ذلك كله تفصيلًا دقيقًا في مطلع النسخة التي بين أيدينا، وهذا نصه "أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد الجراح الخزاز قراءة عليه، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنبارين قال: قرأت على أبي هذا الكتاب: الشعر والتفسير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم كثيرًا سرمدًا دائمًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. قال أبو محمد القاسم بن محمد بن بشار الأنباري: أملى علينا عامر بن عمران أبو عكرمة الضبي هذه القصائد المختارة المنسوبة إلى المفضل بن محمد الضبي إملاءً مجلسًا مجلسًا من أولها إلى آخرها، وذكر أنه أخذها عن أبي عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، وذكر أنه أخذها عن المفضل الضبي. قال أبو محمد: وكنت أسأل أبا عمرو بندار الكرخي، وأبا بكر العبدي، وأبا عبد الله محمد بن رستم، والطوسي وغيرهم، عن الشيء
(1/574)

بعد الشيء منها، فيزيدونني على رواية أبي عكرمة البيت والتفسير، وأنا أذكر ذلك في موضعه إن شاء الله. فلما فرغنا منها صرت إلى أبي جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح فقرأتها عليه من أولها إلى آخرها شعرها وغريبها، فأنكر على أبي عكرمة أشياء أنا مبينها في مواضعها ومسند إلى أبي جعفر ما فسر وروى في موضعه إن شاء الله؛ والمعين الله جل وعز والحول له والقوة به. وعمود الكتاب على نسق أبي عكرمة وروايته ."
ومع هذا الإسناد، والرواية الكاملة، والتحقيق والاستقصاء اللذين بلغا الغاية في الدقة، فإن هذه المجموعة من المختارات لم تسلم من الشك في عدد قصائدها وفي أنها جميعًا مما روى المفضل. وتفصيل ذلك: أن أبا علي القالي قال(4): "وقرأت على أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش في المفضليات قصيدة عبد يغوث بن وقاص الحارثي ... وقال أبو الحسن علي بن سليمان: حدثني أبو جعفر محمد بن الليث الأصفهاني قال: أملى علينا أبو عكرمة الضبي المفضليات من أولها إلى آخرها، وذكر أن المفضل أخرج منها ثمانين قصيدة للمهدي، وقرئت بعدُ على الأصمعي فصارت مائة وعشرين. قال أبو الحسن، أخبرنا أبو العباس ثعلب: أن أبا العالية الأنطاكي والسدري، وعافية بن شبيب -وهؤلاء كلهم بصريون من أصحاب الأصمعي- أخبروه أنهم قرؤوا عليه المفضليات، ثم استقرءوا الشعر فأخذوا من كل شاعر خيار شعره، وضموه إلى المفضليات، وسألوه عما فيه مما أشكل عليهم من معاني الشعر وغريبه فكثرت جدًّا".
ونحن نرى من هذا النص أمورًا، منها: أن ثمة تلميذًا غير أبي محمد القاسم بن محمد بن بشار الأنباري، أخذ المفضليات إملاءً عن أبي عكرمة، وهو أبو جعفر محمد بن الليث الأصفهاني. وأن أبا جعفر هذا قال إن أبا عكرمة ذكر أن أصل المفضليات التي اختارها المفضل ثمانون قصيدة فقط، ثم قرئت
(1/575)

على الأصمعي فصارت مائة وعشرين. ثم إن ثعلبًا روى عن ثلاثة من أصحاب الأصمعي أنهم قرءوا عليه المفضليات، وأنهم بعد ذلك استقرءوا الشعر فأخذوا من كل شاعر خيار شعره وضموه إلى المفضليات وسألوا الأصمعي عن معانيه وغريبه، وبذلك كثرت المفضليات جدًّا .
فإذا صحت هذه الرواية، فمعنى ذلك أن ثلثي القصائد المذكورة في هذه المجموعة فقط من اختيار المفضل، وأن سائرها من الزيادات التي أضافها الأصمعي وتلاميذه. غير أن في هذا الخبر ما يستوقف الباحث، وذلك أن أبا محمد القاسم بن محمد بن بشار الأنباري قد أخذ هذه المفضليات إملاء مجلسًا مجلسًا عن أبي عكرمة الضبي، فلو أن أبا عكرمة ذكر في مجالسه "أن المفضل أخرج ثمانين قصيدة للمهدي، وقرئت بعدُ على الأصمعي فصارت مائة وعشرين" لسمعها ابن الأنباري -كما سمعها محمد بن الليث الأصفهاني فيما روى الأخفش- ولأثبتها في هذه المقدمة المفصلة التي بيَّن لنا فيها كيف أخذ المفضليات وشرحها. هذه واحدة؛ ثم إن أبا عكرمة ذكر أنه أخذ هذه القصائد عن ابن الأعرابي ما عدا ستًّا منها وهي في المطبوعة بتحقيق ليل رقم 3و 13 و 16 و 19 و 30 و 32، إذ إن ابن الأنباري لم يروها عن أبي عكرمة وإنما ذكر أنه رواها عن أبي جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح، وأبو جعفر هذا سمع ابن الأعرابي وأخذ عنه، وقد عاصر ابن الأعرابي الأصمعي، ولكنه كان شديد العصبية للكوفيين، ولشيخه المفضل خاصة، خصمًا للأصمعي كثير النيل منه والتنقص له. فإذا كانت هذه القصائد الست والعشرون كلها رواها ابن الأعرابي عن المفضل كما ذكر ابن الأنباري؛ فإن من غير المحتمل أن يكون ابن الأعرابي قد روى -زيادة على ما اختاره المفضل- الإضافات التي زادها الأصمعي وتلامذته. هذه ثانية؛ وأما الثالثة: فإن ابن النديم قد ذكر في كتابه "الذي كتبه سنة 377" أن المفضليات(5) "مائة وثمانٍ وعشرون قصيدة.... والصحيحة التي رواها عنه ابن الأعرابي".
(1/576)

وقد تنبه ليل لكل ذلك وأورده في مقدمة طبعته من المفضليات(6)، وانتهى من ذلك إلى قوله "ولهذه الأسباب يبدو أننا لا نستطيع أن نسلم بالخبر الذي رواه الأخفش؛ ومع ذلك فإن هذه المسألة ليست مما يمكن حله حلًّا قاطعًا؛ أما مسألة صحة هذا الشعر ونسبة قصائده إلى قائليها، فإن مكانة الأصمعي في الرواية والحكم على مثل هذه الأمور لا تقل في قيمتها وعلوها عن مكانة المفضل".
ولكن يبدو أن الأستاذين أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون لم يطمئنا إلى ما اطمئن إليه ليل، وإنما أعادا -في طبعتهما للمفضليات- هذا الموضوع جذعًا، فأكدا "أن هذه الثمانين هي أصل الكتاب عن المفضلين لم يتجاوزها، ثم قرئت على الأصمعي، فأقرها وزادها قصائد، وزاد في بعض قصائدها أبياتًا، واختار قصائد أخر. ثم جاء من بعد الأصمعي، وزادوا في القصائد -أصلها ومزيدها- أبياتًا دخلت في روايتي المفضل والأصمعي، حتى اختلطت كلها، فلم يكن ميسورًا أن يجزم جازم بما كان أصلًا وما كان مزيدًا، إلا قليلاً، ونحن موقنون أن السبعين التي بُني عليها الكتاب، والعشرة التي زادها المفضل، ليست الثمانين الأولى من هذه المجموعة، وإنما هي ثمانون قصيدة مفرقة في الكتاب، لا نوقن في قصيدة بعينها أنها منها أو من غيرها إلا قليلًا أيضًا(7)".
وواضح أن هذا الكلام مأخوذ من الخبر الذي رواه الأخفش وأورده القالي في أماليه، ولكن الأستاذين المحققين، قد بحثا بحثًا طويلًا، فيه استقصاء دقيق، عن أدلة يؤيدان بها هذا الخبر، وأن قصائد من الأصمعيات أدخلت في المفضليات. وقد فصلا القول في ذلك في مقدمة طبعتهما، ولسنا بحاجة إلى أن نعيده هنا فليراجع في موطنه؛ غير أننا قد نذكر بعضه موجزًا في الحديث التالي.
(1/577)

2
أما الأصمعيات فاثنتان وتسعون قصيدة ومقطعة(8)، لواحد وسبعين شاعرًا؛ منهم ستة شعراء إسلاميون، وأربعة عشر شاعرًا مخضرمون، وأربعة وأربعون جاهليون، وسبعة مجهولون ليست لهم في المظان تراجم تكشف عن عصرهم .
وليس في النسخة الخطية التي طبع عنها وليم بن الورد الطبعة الأوربية، ولا في النسخة الخطية المحفوظة في دار الكتب التي طبع عنها الأستاذان عبد السلام هارون وأحمد محمد شاكر الطبعة المصرية إسناد يكشف عن الرواية التي انتقلت بها هذه المختارات من الأصمعي. وذلك -في رأينا- عيب النسختين الخطيتين نفسهما، أو عيب النسخة أو النسخ التي نقلت عنها هاتان النسختان، وليس عيبًا في تاريخ الرواية الأدبية؛ لأننا قد رأينا حرص العلماء الرواة على ذكر الإسناد الذي انتقلت إليهم به الدواوين والمجموعات الشعرية؛ ولو وصلت إلينا النسخ الأصلية القديمة التي كتبها العلماء أنفسهم لرأينا في كل نسخة -على عادتهم التي لا يشذون عنها- إسنادًا متصلًا، ورواية تامة يكونان مصدرًا خصبًا للدراسة والبحث.
أما إسناد الأصمعي عمن قبله، فقد ذكرنا من قبل أن الأصمعي ومن في طبقته من علماء المدرستين: البصرية والكوفية، كانوا الطبقة الأولى من الرواة العلماء، وأن مَن بعدهم قد روى عنهم وأسند روايته حتى ارتفعت إليهم ثم انتهت عندهم، وأنهم هم لم يكونوا يسندون إلا في القليل النادر، وأضفنا إلى ذلك أن إغفال الطبقة الأولى للإسناد لا يعني انقطاع الرواية، بل لقد وضحنا أن الرواية كانت متصلة مسلسلة من آخر العصر الجاهلي وصدر الإسلام حتى
(1/578)

زمن هؤلاء الرواة العلماء من رجال الطبقة الأولى، لم تنقطع خلال هذا الزمن فترة مهما تكن قصيرة. وذكرنا في مواطن متفرقة من هذا البحث أن مصادر هذه الطبقة الأولى من العلماء كانت ثلاثة: الصحف والمدونات التي وصلت إليهم من العصور السابقة؛ والأخذ عن الشيوخ العلماء من رجال المدرسة الواحدة أو المدرستين معًا بالرواية الشفهية وبالقراءة وبالإملاء، ثم الرواية عن الرواة من الأعراب. ثم قلنا إن هؤلاء العلماء كانوا يجمعون كل ذلك وينقدونه ويمحصونه ثم يبقون منه ما رجحت لهم صحته، فيدونونه في نسختهم الخاصة التي يرويها عنهم تلاميذهم.
ومع هذا كله، فقد كان علماء الطبقة الأولى يسندون أحيانًا، وكذلك فعل الأصمعي في بعض مختاراته هذه، فنص في ست منها على أنه رواها عن أبي عمرو بن العلاء وهي:
 "قال المنخل بن عامر..اليشكري، قال أبو سعيد:قرأتها على أبي عمرو بن العلاء(9)"-1    
 "قال أبو الفضل الكناني، قال أبو سعيد: أنشدنيها أبو عمرو بن العلاء"(10). -2
 "-  قال أبو سعيد، قال أبو عمرو بن العلاء: قال عمرو بن الأسود. هذه القصيدة يوم3 ذي قار"(11).
 "قال أبو سعيد: سمعت أبا عمرو بن العلاء ينشد هذه القصيدة لامرئ القيس"(12). - 4
 "- قال الأصمعي، سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: ساب يزيد5
(1/579)

ابن الصعق رجلًا من بني أسد، فقال يزيد في ذلك ... ، فأجابه الأسدي(13)".
 "وأنشدني أبو عمرو بن العلاء لطرفة بن العبد..(14)". - 6
ونص في واحدة منها على أنه رواها عن خلف الأحمر قال عبد الله بن جنح النكري قال الأصمعي: أنشدنيها خلف الأحمر(15)".
ونص في أخرى على أنه رواها عن أعرابي سماه من أهل نجد عن أبيه عن الشاعر نفسه، وذلك قوله(16): "قال أبو سعيد، عن حبيب بن شوذب، ورجل من أهل نجد مسن، عن أبيه، أنشدنيها كعب بن سعد موافقًا لي براذان".
وكذلك نص في واحدة على أنه رواها عن راوية من قبيلة الشاعر نفسه، وذلك قوله(17): "قال الأصمعي: حدثنا رجل من بني رياح قال: جاء رجل إلى الأخوص والأبيرد -وهما من ولد عتاب بن هرمي- يطلب هناءً، فقالا: إن بلغت عنا سحيم بن وثيل بيتًا وأتيتنا بجوابه. قال: نعم، هاتياه. فأنشداه:
إن بداهتي وجراء حولي
لذو شق على الحطم الحرون
فلما أنشده إياه أخذ عصاه، وجعل يهدج في الوادي ويقول:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا...... "القصيدة".
ونص في الأخيرة منها على أنه أخذها عن الحارث بن مطرف، وذلك قوله(18):
"وقال الأصمعي، خبرني الحارث بن مطرف قال: استب حجل ومعاوية بن شكل عند بعض الملوك.. فقال حجل".
بقي أمر آخر يتصل برواية الأصمعيات، وهو ما ذكره ابن النديم في
(1/580)

قوله(19): "وعمل الأصمعي قطعة كبيرة من أشعار العرب ليست بالمرضية عند العلماء لقلة غريبها واختصار روايتها". وفي هذا الحكم -الذي انفرد بذكره ابن النديم- إشكالان يبدو أنه لا سبيل إلى حلهما حلًّا قاطعًا يقينيًّا. الأول: ما الذي يقصده ابن النديم بهذه القطعة الكبيرة من أشعار العرب؟ أهي القصائد التي اختارها الأصمعي فنسبت إليه وسميت الأصمعيات؟ أم هي جميع الدواوين الشعرية التي عملها الأصمعي؟ ولقد كان من الجائز أن يكون المقصود بها الأصمعيات -كما ذهب إلى ذلك ليل(20)- لولا أمران، الأول: أنه وصفها بأنها "قطعة كبيرة" والأصمعيات ليست كذلك، أو على الأقل ما بين أيدينا منها ليس كذلك، والمفضليات أكبر منها كثيرًا(21).
أما الدواوين التي عملها الأصمعي فهي "قطعة كبيرة" حقًّا. ثم إن ابن النديم يستخدم أحيانًا لفظة "القطعة" من الأشعار ويقصد بها دواوين الشعر، فمن ذلك قوله عن السكري إنه عمل "قطعة من القبائل"(22). والأمر الثاني الذي يجعلنا نشك في أنه يريد بقوله هذا الأصمعيات هو أنه ذكره في آخر حديثه عن الأصمعي، بعد أن ذكر أسماء كتبه في اللغة والحديث، ولم يذكر له مما عمله من الشعر إلا كتاب "القصائد الست! "(23)، فلعله أغفل ذكر الدواوين التي عملها الأصمعي ليجملها في هذا اللفظ العام "قطعة كبيرة من أشعار العرب".
هذا هو الإشكال الأول في نص ابن النديم، أما الإشكال الثاني ففي قوله "واختصار روايتها". ونحن نرى أن "الرواية" هنا قد تعني أحد أمرين: إما إسناد الرواية، وإما الشعر المروي نفسه. فإذا كان المقصود الإسناد، فله وجهان أيضًا::
(1/581)

- إسناد الأصمعي عمن قبله من العلماء الذي أخذ عنهم؛ وقد فهمه بهذا المعنى ليل في1 مقدمة طبعة المفضليات(24). غير أننا نستبعد أن يكون هذا المعنى هو الذي ذهب إليه ابن النديم؛ لأننا قد عرفنا من دراستنا المفصلة أن علماء الطبقة الأولى كانوا منتهى الإسناد، وأنهم لم يكونوا يسندون إلى من قبلهم من العلماء إلا في القليل النادر، وأن ذلك لم يكن عيبًا ولا نقصًا فيهم، ولا فيما يروون حتى تكون "ليست بالمرضية عند العلماء".
 إسناد الرواية بعد الأصمعي حتى زمن ابن النديم، ويكون معنى ذلك -إذا كان -2 المقصود به الأصمعيات- أن هذه القصائد المختارة لم يروها عن الأصمعي تلامذته، وأن إسناد الرواية بعد الأصمعي غير مكتمل الحلقات.
وأما الأمر الثاني الذي قد تعنيه لفظة "الرواية" في هذا النص، وهو الشعر المروي نفسه، فلعل معناه -إذا كان المقصود به الأصمعيات- أن الأصمعي حين اختار هذه الأشعار، لم يرو في كثير منها القصيدة كاملة، وإنما اختار منها أبياتًا أو قطعة صغيرة، وأغفل ذكر سائرها. وفي الأصمعيات التي بين أيدينا شعراء لم يورد لهم الأصمعي إلا بيتين أو ثلاثة أو أربعة. فلعل هذا معنى قوله "اختصار روايتها".
3
وثمة ضرب آخر من المختارات يختلف عن المفضليات والأصمعيات في أنه بُني على أساس معلوم في اختياره، ثم في تقسيمه وتبويبه. وهذا الضرب مجموعتان: حماسة أبي تمام، وجمهرة أشعار العرب.
أما الحماسة فقد بُني اختيار ما فيها من الشعر على أبواب المعاني: فباب لشعر الحماسة وهو أول الأبواب وأكبرها وبه سميت المجموعة كلها، وباب للمراثي، وباب للأدب، وباب للنسيب، وباب للهجاء، وباب للأضياف والمديح، وباب للصفات، وباب للسير والنعاس، وباب للملح، وباب لمذمة
(1/582)

النساء. وأما جمهرة أشعار العرب فقد قُسم ما فيها من الشعر سبعة أقسام هي
السموط، المجمهرات، المنتقيات، المذهبات، المراثين المشوبات، الملحمات.
أما المفضليات والأصمعيات(25) فلم يبين فيهما أساس الاختيار، وليس فيهما تبويب وتقسيم، وقد التقت الحماسة والجمهرة في هذه الصفة وحدها ثم اختلفتا في غيرها؛ فانضمت الجمهرة إلى المفضليات والأصمعيات في أنها قصائد كاملة طوال. أما الحماسة فأبيات مقتطفات ومقطعات قصار؛ ولذلك قال التبريزي(26):
"ومن أجود ما اختاروه من القصائد المفضليات، ومن المقطعات الحماسة".
وليس من شأننا في هذا البحث أن نتناول بالحديث الشعر نفسه من حيث خصائصه وميزاته، وإنما هدفنا أن نقصر الحديث على رواية القصائد ورواية المجاميع جملةً. وسنرى أن حديثنا عن هاتين المجموعتين من المختارات حديث موجز نتخذه معبرًا نصل منه إلى ما سنجمله في آخر هذا الفصل من رواية كتب المختارات وقيمتها التاريخية من حيث هي مصدر من مصادر الشعر الجاهلي.
أما الحماسة فليست لها رواية انتقلت بها إلى أبي تمام، ولا رواية أخذت بها عن أبي تمام، وإنما أخذها أبو تمام من الكتب، وانتقاها من الدواوين والمجاميع، في حديث طويل سنذكره بعد قليل. ثم كتب أبو تمام ما اختاره، وبقي كتابه دهرًا مطويًّا لم يقرأه عليه أحدن كما لم يقرأه هو على أحد، إلى أن أتيح له أن يُنشر ويظهر بعد وفاة أبي تمام(27)؛ فأخذ ما فيه من الصحف المكتوبة نفسها لا عن العلماء. وهذا المرزوقي شارح الحماسة، وبينه وبين أبي تمام نحو مائتي عام، لا يذكر إسنادًا انتقل إليه به الكتاب، بل إنه لينص على أنه أخذه من الكتب، وأنه كانت بين يديه نسخ عدة منه فهو يقابل بينها ويثبت ما يجد فيها(28) .
وليس فقدان الرواية والإسناد هو الأمر الوحيد الذي يباعد بين الحماسة
(1/583)

وبين بحثنا هذا، بل إن ثمة شيئًا آخر لا يقل عن سابقة في المباعدة بين هذا الكتاب وبين بحثنا، وهو صنيع أبي تمام فيما اختاره من تغيير للنص الشعري مما أوضحه المرزوقي في مقدمته، قال(29): "وهذا الرجل لم يعمد من الشعراء إلى المشتهرين منهم دور الأغفال، ولا من الشعر إلى المتردد في الأفواه، المجيب لكل داع، فكان أمره أقرب؛ بل اعتسف في دواوين الشعراء جاهليهم ومخضرمهم وإسلاميهم ومولدهم، واختطف منها الأرواح دون الأشباح، واخترف الأثمار دون الأكمام، وجمع ما يوافق نظمه ويخالفه؛ لأن ضروب الاختيار لم تخف عليه، وطرق الإحسان والاستحسان لم تستتر عنه، حتى إنك تراه ينتهي إلى البيت الجيد فيه لفظة تشينه، فيجبر نقيصته من عنده، ويبدل الكلمة بأختها في نقده. وهذا يبين لمن رجع إلى دواوينهم، فقابل ما في اختياره بها".
من أجل هذا كله رأينا أننا لا نستطيع أن نتحدث عن الحماسة حديثًا يتصل بموضوعنا، فأوجزنا الكلام إيجازًا يغني عن التطويل، ويكفي لأن نصل به بعد قليل ما يدخل في بحثنا إلى الصميم.
وأما الجمهرة فتحتاج إلى بحث مستفيض قائم بذاته مستقل عن بحثنا هذا، فنسبتها إلى صاحبها عقدة تحتاج إلى حل، والتعريف بصاحبها وترجمته عقدة أخرى لا تقل عن الأولى، وأكثر الرواة الذين يروي عنهم مجاهيل لم نجد لهم ذكرًا فيما بين أيدينا من كتب الرجال والطبقات، وهي عقدة ثالثة تنافس في الصعوبة سابقتها. وتفصيل ذلك أن هذا الكتاب -في طبعاته الثلاث: طبعة بولاق سنة 1311هـ، وطبعة المطبعة الخيرية سنة 1331هـ، وطبعة المطبعة التجارية، وهي كلها عن أصل واحد ولا اختلاف بينها- قد نُسب إلى أبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي؛ وهو مجهول ليس له أدنى ذكر في جميع كتب
(1/584)

الطبقات والرجال، فلم يذكر مع المحدثين ورواة الحديث، ولا مع اللغويين والنحويين، ولا مع الشعراء والأدباء، ولا مع مؤلفي الكتب وجامعي الدواوين.
ثم تتبعنا ذكره وذكر جمهرته فيما بين أيدينا من كتب الأدب عامة، فوجدناه مذكورًا في خزانة الأدب للبغدادي(30)، وفي المزهر للسيوطي(31)، وفي العمدة لابن رشيق(32) أما في الخزانة فقد ذكره البغدادي ست مرات لم يسمه في أربع منها، وإنما ذكر الكتاب من غير نسبة مرة، وقال في مرة أخرى: صاحب جمهرة أشعار العرب وقال في المرتين الأخريين: شارح جمهرة أشعار العرب وسماه في الموطنين الباقيين باسم محمد بن أبي الخطاب، ومن غير كنية ومن غير نسبة بعد الاسم. غير أنه في أحد هذين الموطنين نقل اسمه من العمدة، فقال: "وفي العمدة لابن رشيق: قال محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب". فلعله في الموطن الثاني الذي سماه فيه قد تأثر بتسمية ابن رشيق له، ولعله أيضًا كان بين يديه كتاب الجمهرة فنقل منه ما نقل من غير أن يسميه لأنه كان في شك من أمر نسبته إلى صاحبه.
وأما السيوطي في المزهر فقد ذكره في موطن واحد، ونقل ما جاء في العمدة عنه.
فمرد تسمية صاحب الجمهرة في هذين الكتابين -كما رأينا- إلى ابن رشيق في العمدة حيث سماه في موطنين، فقال مرة: "وقال محمد بن أبي الخطاب في كتابه الرسوم بجمهرة أشعار العرب" وقال مرة أخرى: "وزعم ابن الخطاب". وعند كتاب العمدة ينتهي بحثنا عن صاحب كتاب الجمهرة، ويكون بذلك ابن رشيق أقدم من ذكر محمد بن أبي الخطاب ونسب إليه الجمهرة، فإذا كانت تسمية هذا الرجل مما جرى به قلم ابن رشيق حقًّا، ولم يكن زيادة أقحمها
(1/585)

أحد النساخ، فإن معنى ذلك أن محمد بن أبي الخطاب قد عاش قبل منتصف القرن الخامس الهجري "مات ابن رشيق سنة 463هـ".
ثم إننا وجدنا في معهد إحياء المخطوطات العربي صورة من نسخة أصلها في مكتبة كوبريلي، وعنوانها "جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، وما وافق القرآن على ألسنتهم واشتقت بهم لغتهم وألفاظهم". والنسخة مكتوبة في سنة 683 هجرية كما هو مذكور في آخرها. وهي تتفق مع النسخة المطبوعة في العنوان وفي المحتويات، وإن كان بينهما من الاختلاف ما يكون عادة بين النسخ الخطية المتعددة للكتاب الواحد. غير أن هذه النسخة المصورة مذكور في أولها أن مؤلفها وشارحها هو: محمد بن أيوب العزيزي ثم العمري!! وهو مجهول أيضًا لم نعثر له على ترجمة، أفيكون رجلًا آخر غير محمد بن أبي الخطاب؟ أم أنه هو هو؟ ويكون بذلك أبوه أيوب هو أبا الخطاب كنية؟
وأمر ثالث: هل محمد بن أبي الخطاب أو محمد بن أيوب هو مؤلف هذا الكتاب، أو شارحه وراويه؟ ولرب قائل يقول: إن محمد بن أبي الخطاب أو محمد بن أيوب هو مؤلف الكتاب من غير ريب. وأن على ذلك دليلين؛ الأول: نص واضح في أول الكتاب، ففي المطبوعة "هذا الكتاب جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام. تأليف أبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي.."، وفي المخطوطة "ألفه وشرحه محمد بن أيوب العزيزي ثم العمري". والدليل الثاني: أن أكثر الأخبار والروايات في القسم الأول من الكتاب وهو مقدمته، مصدرة بقوله "قال محمد" ثم يذكر إسناد الرواية.
ومع أن هذين الدليلين كان يصح أن يكفيا للتدليل على أن هذا الرجل هو مؤلف الكتاب إلا أننا لا نستطيع، بعد الدرس، أن نسلم بهذه النتيجة وذلك لأننا وجدنا أن محمدا هذا يروي الكثرة الغالبة من أخبار مقدمته عن رجل بعينه هو "أبو عبد الله المفضل بن عبد الله بن محمد بن المجبر(33) بن
(1/586)

عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب". حتى إذا وصل في مقدمته إلى القسم المهم منها، وهو هذا القسم السباعي للشعر الذي يورده -وهو تقسيم لم يرد في غير هذا الكتاب فيما نعرف- ذكر هذا التقسيم وذكر سبعة شعراء سماهم بأسمائهم في كل قسم، ثم قال(34)، "قال المفضل: فهذه التسع والأربعون قصيدة عيون أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، وأنفس شعر كل رجل منهم" فيكون إذن هذا التقسيم، مع النص على الشعراء بأسمائهم وذكر القصائد بذواتها، من صنع المفضل هذا، لا من صنع محمد، ويكون فضل محمد في أنه روى هذا التقسيم والشعر عن المفضل، ثم شرحه ذلك الشرح الموجز الموجود في الكتاب.
والمفضل بن عبد الله المجبري هذا مجهول كذلك لم تذكره كتب الرجال والطبقات، غير أنه في هذا الكتاب يروي "عن أبيه عن الأصمعي"(35)، و" عن أبيه عن جده عن أبي عبيدة"(36)، فيكون المفضل بذلك من رجال القرن الثالث ومطلع القرن الرابع، ويكون محمد راوي الجمهرة وشارحها من رجال القرن الرابع؛ وسائر الأسانيد التي عن غير المفضل في المقدمة تتفق في هذه النتيجة على وجه التقريب. أما ما ذكره سركيس في معجم المطبوعات من أن محمدا توفي في سنة 170هـ فأمر عجيب لا ندري كيف وصل إليه، ولعله استنتجه استنتاجًا حين رأى محمدًا في أول النسخة يروي عن المفضل بن محمد الضبي، وهو خطأ محض، صوابه ما في المخطوطة الأخرى المثبت على هامش الصفحة الثالثة من أنه "المفضل بن عبد الله المجبري" ويؤيد ذلك تكرار هذا
(1/587)

الاسم بهذا النسب في صفات المقدمة.
وهذا التاريخ التقريبي الذي وصلنا إليه من رواية المقدمة -وهو أن محمدًا هذا قد عاش في خلال القرن الرابع الهجري- يؤيده، بعض الشيء، ما ذكرناه من أن مؤلف كتاب جمهرة أشعار العرب لا بد أن يكون قد عاش قبل منتصف القرن الخامس لأن ابن رشيق القيرواني روى عنه في العمدة، وابن رشيق مات سنة 463هـ.
ونحب أن نكتفي بهذا القدر من بحث هذا الكتاب ودراسته، ونترك مواصلته وإكماله لمن سيستقل في المستقبل بعبء تحقيقه ونشره. فإذا أضفنا إلى ذلك أن جميع ما في كتاب جمهرة أشعار العرب من إسناد ورواية محصور في المقدمة نفسها وما فيها من أخبار وأحكام نقدية، وأما القسم الثاني من الكتاب وهو الشعر نفسه فخال من أي إسناد ورواية، إذا أضفنا هذا إلى كل ما تقم تبين لنا في وضوح أن فيما أسلفنا من حديث ما يغني عن الإطالة.
4
وبعد، فإننا لم نتحديث عن أخطر ما في مجموعات القصائد المختارة من دلالات تتصل ببحثنا عن تاريخ الرواية ومصادر الشعر، وقد اقتطعنا هذا الجزء من البحث من مواضعه المتفرقة وادخرناه لنختم به هذا الفصل؛ ولا نريد أن نستعجل ذكره وبيانه، وإنما نريد أن نمهد بإيراد بعض النصوص والأخبار التي تنتهي بنا إلى ما نريد:
 قال التبريزي(37): "وكان سبب مع أبي تمام الحماسة أنه قصد عبد الله بن طاهر، -1 وهو بخراسان، فمدحه، وكان عبد الله لا يجيز شاعرًا إلا إذا
(1/588)

رضيه أبو العميثل وأبو سعيد الضرير؛ فقصدهما أبو تمام وأنشدهما القصيدة التي أولها.
أهن عوادي يوسف وصواحبه ... فعزما فقدمًا أدرك السؤل طالبه
فلما سمعا هذا الابتداء أسقطاها، فسألهما استتمام النظر فيها، فمرَّا بقوله:
وركب كأطراف الأسنة عرسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه
لأمر عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه
فاستحسنا هذين البيتين وأبياتًا أخرى ... فعرضا القصيدة على عبد الله، وأخذا له ألف دينار. وعاد من خراسان يريد العراق، فلما دخل همذان اغتنمه أبو الوفاء بن سلمة، فأنزله وأكرمه؛ فأصبح ذات يوم وقد وفع ثلج عظيم قطع الطرق ومنع السابلة، فغم أبا تمام ذلك وسر أبا الوفاء، فقال له: وطِّن نفسك على المقام فإن هذا الثلج لا ينحسر إلا بعد زمان. وأحضره خزانة كتبه، فطالعها واشتغل بها، وصنف خمسة كتب في الشعر منها: كتاب الحماسة، والوحشيات وهي قصائد طوال، فبقي كتاب الحماسة في خزانة آل سلمة، يضنون به، ولا يكادون يبرزونه لأحد، حتى تغيرت أحوالهم، وورد همذان رجل من أهل دينور يعرف بأبي العواذل، فظفر به، وحمله إلى أصبهان، فأقبل أدباؤها عليه، ورفضوا ما عداه من الكتب المصنفة في معناه، فشهر فيهم ثم فيمن يليهم".
  وروي عن المفضل أنه قال(38): "كان إبراهيم بن عبد الله بن الحسن متواريًا-2 عندي، فكنت أخرج وأتركه، فقال لي: إنك إذا خرجت ضاق صدري، فأخرج إليَّ شيئا من كتبك أتفرج به. فأخرجت إليه كتبًا من الشعر، فاختار منها السبعين قصيدة التي صدرت بها اختيار الشعراء، ثم أتممت عليها باقي الكتاب".
(1/589)

-  وروى النجيرمي أن العباس بن بكار قال للمفضل(39): "ما أحسن اختيارك للأشعار؛3 فلو زدتنا من اختيارك! فقال: والله ما هذا الاختيار لي، ولكن إبراهيم بن عبد الله استتر عندي، فكنت أطوف وأعود إليه بالأخبار، فيأنس ويحدثني. ثم عرض لي خروج إلى ضيعتي أيامًا، فقال لي: اجعل كتبك عندي لأستريح إلى النظر فيها، فتركت عنده قمطرين فيهما أشعار وأخبار، فلما عدت وجدته قد علَّم على هذه الأشعار، وكان أحفظ الناس للشعر، فجمعته وأخرجته، فقال الناس: اختيار المفضل".
 وقال أبو عكرمة الضبي(40): "مر أبو جعفر المنصور بالمهدي وهو ينشد المفضل -4 قصيدة المسيب التي أولها: أرحلت، وهي هذه:
رحلت من سلمى بغير متاع ... قبل العطاس ورعتها بوداع
فلم يزل واقفًا من حيث لا يشعر به، حتى استوفى سماعها؛ ثم صار إلى مجلس له وأمر بإحضارهما. فحدث المفضل بوقوفه واستماعه لقصيدة المسيب واستحسانه إياها، وقال له: لو عمدت إلى أشعار الشعراء المقلين واخترت لفتاك لكل شاعر أجود ما قال لكان ذلك صوابًا؛ ففعل المفضل".
وأحسب أن هذه النصوص، بهذا النسق الذي أوردناها فيه، وبهذه الخطوط التي وضعناها تحت بعض عباراتها قد دلت على ما نريد أن ننتهي إليه؛ وخلاصته: أن العلماء في القرن الثاني كانوا قد فرغوا من تدوين أشعار الشعراء المكثرين، ومن دراسة دواوين الشعراء المشهورين، ومن أجل هذا كان لابد لهم من أن يعمدوا "إلى أشعار الشعراء المقلين" فيختاروا منها "لكل شاعر أجود ما قال". ثم إن الرواية عن الشيخ: قراءة وإملاء، كانت وسيلة من وسائل
(1/590)

اختيار بعض هذه المختارات -كما رأينا في بعض القصائد الأصمعيات- غير أن الوسيلة الكبرى التي كانت أكثر اتباعًا في اختيار المختارات كانت الرجوع إلى دواوين الشعراء وكتب الشعر التي كانت متوفرة بين يدي علماء القرن الثاني. فأبو تمام "المتوفى في نحو سنة 228هـ" يجد أمامه في همذان -في شرق الدولة الإسلامية- خزانة كتب، لا كتابًا أو كتابين، فيطالعها ويشتغل بها ويختار منها قصائد ومقطعات تكفي لأن يؤلف منها خمسة كتب. وإذا كان الباحث في تاريخ الرواية الأدبية وتدوين الشعر يأسى لأن الأخبار التي بين يديه لا تعينه على معرفة تاريخ كتابة هذه الكتب الموجودة في خزانة آل سلمة في همذان، ولا تدله على أكثر من أن هذه الكتب كانت مدونة في آخر القرن الثاني الهجري، فإن مما يخفف أسى هذا الباحث أن بين يديه نصًّا آخر، لا يحتمل الشك ولا التأويل، يشير إلى أن خزائن كتب الشعر ودواوين الشعراء كانت موجودة منذ مطلع القرن الثاني وربما نهاية القرن الأول الهجري، وبذلك استطاع المفضل الضبي أن يترك بين يدي إبراهيم بن عبد الله "في نحو سنة 145هـ" "قمطرين فيهما أشعار وأخبار". وأن يعلِّم إبراهيم على سبعين قصيدة منها يصدر بها المفضل اختياره، ثم يتم عليها باقي كتابه حين يدعوه المنصور إلى تأديب ابنه المهدي، ويطلب منه أن يعمد إلى أشعار الشعراء المقلين فيختار لكل شاعر أجود ما قال.
إن هذا المعلم الواضح الذي نصبناه في طريق بحثنا في نهاية القرن الأول الهجري ومطلع القرن الثاني ليكشف لنا عن وجود دواوين الشعراء وكتب الشعر منذ هذا العهد المبكر هذا المعلم الواضح يدعم ما قدمنا الحديث عنه من معالم، استخرجناها من النصوص الكثيرة التي جمعناها في طريق بحثنا لتحدد لنا اتجاهه، ولتبين لنا أن مدونات الشعر الجاهلي قد انتقلت إلى القرن الثاني والطبقة الأولى من الرواة العلماء من القرن الأول الهجري، وأن بعضها ربما كتب منذ صدر الإسلام. وبذلك يكون التدوين: في الصحف المتفرقة وفي الدواوين المجموعة رافدًا كبيرًا يساير الرافد الآخر، وهو الرواية الشفهية، ويعاصره، ولا يقل عنه قيمة؛ وهما معًا يكونان هذا الجدول العظيم الذي نسميه: الرواية الأدبية .

(1/591)

 

 

 

__________
 الفهرست: 102. (1)
 مراتب النحويين: 115. (2)

 مراتب النحويين: 114. (3)

 الأمالي 3: 130. (4)

 الفهرست: 102. (5)

 ص15-16. (6)
 المفضليات ط. دار المعارف: 12. (7)

 (8)ذلك عددها في الطبعة المصرية بتحقيق الأستاذين عبد السلام هارون وأحمد محمد شاكر، وأما الطبعة الأوربية بتحقيق وليم بن الورد فليس فيها إلا سبع وسبعون قصيدة ومقطعة.

 الأصمعيات - ط. دار المعارف: 52.(9)
 المصدر السابق: 75.(10)
 المصدر السابق: 77.(11)
 المصدر السابق: 142.(12)

 الأصمعيات: 161-162. (13)
 المصدر السابق: 166. (14)
 المصدر السابق: 120. (15)
 المصدر السابق: 94. (16)
 المصدر السابق: 3-5. (17)
 المصدر السابق: 153-154. (18)

 الفهرست: 83.(19)
 مقدمة المفضليات 2: 16.(20)
 (21)  الأصمعيات 92 قصيدة فيها 1439 بيتًا، والمفضليات: 130 قصيدة فيها 2664 بيتًا . 
 الفهرست: 117.(22)
 المصدر السابق: 82.(23)

 ص16. (24)

 (25)ليست كل الأصمعيات قصائد، بل فيها مقطعات قصار، وإن كانت القصائد أكثر عددًا.       
 شرح ديوان الحماسة: 3.(26)
 مروج الذهب 4: 74.(27)
 شرح ديوان الحماسة 1: 255.(28)

 شرح ديوان الحماسة: 13-14. (29)

 1: 10، 61؛ 2: 55؛ 4: 163، 538، 545. (30)
 2: 480. (31)
 1: 78-79. (32)

 (33) في المطبوعات الثلاث "المحبر" وهو تصحيف، صوابه "المجبر" بالجيم المعجمة ففي نسب قريش للمصعب الزبيري ص356 "وأما عبد الرحمن الأصغر "ابن عمر بن الخطاب" فهلك وترك ابنًا له، فسمي به، فسمته حفصة بنت عمر: عبد الرحمن، ولقبته "المجبر"، قالت "يجبره الله" فولده يعرفون ببني المجبر". وانظر أيضا جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص146.

 جمهرة أشعار العرب: 35. (34)
 المصدر السابق: 16. (35)
 المصدر السابق: 17 هامش: 4. (36)

 شرح ديوان الحماسة 1: 3-4. (37)

 مقاتل الطالبيين: 372-373.(38)

 المزهر 2: 319. (39)
 القالي: الأمالي 3: 130. (40)

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.