المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24



النحل والوضع في الشعر الجاهلي  
  
22141   03:34 مساءاً   التاريخ: 23-03-2015
المؤلف : ناصر الدين الأسد
الكتاب أو المصدر : مصادر الشعر الجاهلي
الجزء والصفحة : ص377-ص428
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الجاهلي /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-03-2015 2928
التاريخ: 22-03-2015 20905
التاريخ: 16-12-2019 5226
التاريخ: 22-03-2015 15012

أول من شق طريق البحث في هذا الموضوع من العرب المحدثين هو الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتابه "تاريخ آداب العرب" الذي صدر في سنة 1911م. وقد خص الرواية والرواة بباب كامل من الجزء الأول نيفت صفحاته على مائة وخمسين(1)، حشد فيه من المادة ما لم يجتمع مثله -من قبله ولا من بعده حتى يومنا هذا- في صعيد واحد من كتاب. لَمَّ فيه شتات الموضوع من أطرافه كلها، واستقصاه استقصاء، غير أنه في كل ذلك كان يحكي ما أورده المؤلفون القدماء: يجمع ما تفرق من هذا الحديث في الكتب الكثيرة أو في مواطن شتى من الكتاب الواحد، ثم يرتب ما تجمع له في فصول ينتظم كل فصل منها عنوان يدل عليه. ولكنه، على هذا الجهد العظيم الذي تكلفه، اكتفى، في أكثر حديثه، بالسرد المجرد والحكاية عمن مضى. ولم يتجاوز ذلك إلى البحث في هذه الأخبار والروايات بحثًا علميًّا ولا إلى نقدها نقدًا يميز زائفها من صحيحها إلا في القليل النادر، وحتى في هذا القليل النادر كان يتعجل المضي، فلا يكاد يقف عند خبر أو رواية حتى يدعها وينتقل إلى غيرها. ومع ذلك فللرافعي فضل السبق وفضل الاستقصاء في الجمع. وسنقف عند حديثه عن "وضع الشعر"(2) وقفة نُلم فيها بما بينه من "البواعث على وضع الشعر في الإسلام"(3) وسنحاول أن نرتبها هنا في نسق، وكان قد أرسلها في كتابه إرسالًا:

1- تكثر القبائل لتعتاض مما فقدته بعد أن راجعت الرواية، وخاصة القبائل التي قلت وقائعها وأشعارها، وكانت أولاها قبيلة قريش، فقد وضعت على حسان أشعارًا كثيرة(4) على نحو ما ذكره ابن سلام في طبقاته وأوردناه في الفصل الثاني من هذا الباب.

2- شعر الشواهد "وهو النوع الذي يدخل فيه أكثر الموضوع، لحاجة العلماء إلى الشواهد في تفسير الغريب ومسائل النحو(5)... وشعر الشواهد في اصطلاح الرواة على ضربين: شواهد القرآن وشواهد النحو(6). والكوفيون أكثر الناس وضعًا للأشعار التي يستشهد بها؛ لضعف مذاهبهم وتعلقهم على الشواذ واعتبارهم منها أصولًا يقاس عليها... قال الأندلسي في شرح المفصل: والكوفيون لو سمعوا بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلًا وبوبوا عليه، بخلاف البصريين(7)... ولهذا وأشباهه اضطر الكوفيون إلى الوضع فيما لا يصيبون له شاهدًا إذا كانت العرب على خلافهم".

3- الشواهد التي كان بعض المعتزلة والمتكلمين يولدونها للاستشهاد بها على مذاهبهم(8) وقد أورد ما ذكره ابن قتيبة في "التأويل" من أنهم ذهبوا إلى أن معنى كرسي في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض} هو العلم، وجاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف، وهو قول الشاعر: ولا يكرسئ علم الله مخلوق. وأورد كذلك ما ذكره الجاحظ في "الحيوان" من أنهم كانوا يدفعون أن الرجوم كانت حجة للنبي صلى الله عليه وسلم، واحتجوا على ذلك بأبيات وضعوها على شعراء الجاهلية.

4- الشواهد على الأخبار(9) ".. فلما كثر القصاصون وأهل الأخبار اضطروا من أجل ذلك أن يصنعوا الشعر لما يلفقونه من الأساطير حتى يلائموا بين رقعتي الكلام، وليحدروا تلك الأساطير من أقرب الطرق إلى أفئدة العوام، فوضعوا من الشعر على آدم فمن دونه من الأنبياء وأولادهم وأقوامهم، وأول من أفرط في ذلك محمد بن إسحاق..." ثم ذكر أن مما يدخل في هذا الباب شعر الجن وأخبارها(10)...

5- الاتساع في الرواية(11) "وهو سبب من أسباب الوضع، يقصد به فحول الرواة أن يتسعوا في روايتهم فيستأثروا بما لا يحسن غيرهم من أبوابها؛ ولذا يضعون على فحول الشعراء قصائد لم يقولوها، ويزيدون في قصائدهم التي تعرف لهم، ويدخلون من شعر الرجل في شعر غيره..." ثم يمثل على ذلك بحماد الراوية وخلف الأحمر.

وهكذا نرى أن الرافعي قد دار مع القدماء من العرب في فلكهم، وسرد ما رواوه من أخبار، وما انبث في كتبهم من أحاديث، وحصر الموضوع في الدائرة نفسها التي حصره فيها القدماء: لم يحمل نصًّا أكثر مما يحتمل، ولم يعتسف الطريق اعتسافًا إلى الاستنتاج والاستنباط ولا إلى الظن والافتراض، ولم يجعل من الخبر الواحد قاعدةً عامة، ولا من الحالات الفردية نظرية شاملة.

ثم استقر الموضوع بين يدي الدكتور طه حسين، فخلق منه شيئًا جديدًا، لم يعرفه القدماء، ولم يقتحم السبيل إليه العرب المحدثون من قبله، ثم أنكره بعدُ كثير من المحدثين إنكارًا خصبًا يتمثل في هذه الكتب التي ألفوها للرد عليه ونقض كتابه. وقد استقى الدكتور طه حسين أكثر مادته -حيث يستشهد ويتمثل بالأخبار والروايات- من العرب القدماء، وسلك بها سبيل مرجوليوث في الاستنباط والاستنتاج، والتوسع في دلالات الروايات والأخبار، وتعميم الحكم الفردي الخاص واتخاذه قاعدة عامة، ثم صاغ تلك المادة وهذه الطريقة بإطار من أسلوبه الفني وبيانه الأخاذ، حتى انتهى إلى ما انتهى إليه من "أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًّا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين"(12). و"إن هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء، ولا أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر القرآن"(13). ثم يكاد يعتدل بعض الشيء فيقسم الشعر الجاهلي ثلاثة أضرب ويقول: "إنا نرفض شعر اليمن في الجاهلية، ونكاد نرفض شعر ربيعة أيضًا... وأقل ما توجبه علينا الأمانة العلمية أن نقف من الشعر المضري الجاهلي، لا نقول موقف الرفض أو الإنكار، وإنما نقول موقف الشك والاحتياط".

فنحن إذن بإزاء نظرية عامة: لم نرها فيما عرضنا من آراء العرب القدماء، ونحسب أنها لم تدر لهم ببال، ولكننا رأيناها واضحة المعالم فيما عرضنا من آراء مرجوليوث، ولم يكتف بالإشارة عابرة، وإنما نص عليها نصًّا صريحًا في عبارات متكررة تختلف ألفاظها وتتفق مراميها. وجاء الدكتور طه حسين فلم يقنع كما قنع مرجوليوث بأن يدلنا عليها في مقالة أو مقالتين، وإنما فصل لنا القول فيها في كتاب كامل قائم بذاته، وساقها في أسلوبه الأخاذ الذي يلف القارئ به لفًّا حتى يكاد أن ينسيه نفسه ويصرفه عن مناقشة رأيه ومن آيات ذلك أننا حينما قرأنا تلخيصنا لرأي الدكتور -بعد أن جردناه من أسلوبه- أحسسنا فرقَ ما بين الملخص والكتاب، وأدركنا أن هذا التلخيص يغمط الكتاب حقه، ويفقده كثيرًا من أثره في النفس.

وحديث الدكتور طه، في هذا، ينقسم ثلاثة أقسام، الأولان منها عامان، أولهما: الدوافع التي دفعته إلى الشك في هذا الشعر، وثانيهما: الأسباب التي يرى أنها أدت إلى نحل الشعر الجاهلي ووضعه. أما القسم الثالث فخاصٌّ يتحدث فيه عن شعراء بذاتهم.

دوافع شكه:

نظر الدكتور طه في هذا الشعر الذي يسمى جاهليًّا فرأى فيه أشياء رابته، فشك فيه، وانتهى إلى أن كثرته المطلقة ليست جاهلية وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام. ومن هذه الأمور التي رابته:

1- "أنه لا يمثل الحياة الدينية والعقلية والسياسية والاقتصادية للعرب الجاهليين(14) وقد فصل القول في كل جانب من هذه الجوانب:

أ- الحياة الدينية: فرأى أن "هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين يظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي والعاطفة الدينية المتسلطة على النفس والمسيطرة على الحياة العملية. وإلا فأين تجد شيئًا من هذا في شعر امرئ القيس أو طرفة أو عنترة؟ أو ليس عجيبًا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين؛ وأما القرآن فيمثل لنا حياة دينية قوية تدعو أهلها إلى أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال. فإذا رأوا أنه قد أصبح قليل الغناء لجئوا إلى الكيد ثم إلى الاضطهاد؟ ثم إلى إعلان الحرب التي لا تبقي ولا تذر. أفتظن أن قريشًا كانت تكيد لأبنائها وتضطهدهم وتذيقهم ألوان العذاب ثم تخرجهم من ديارهم ثم تنصب لهم الحرب وتضحي في سبيلها بثروتها وقوتها وحياتها لو لم يكن لها من الدين إلا ما يمثله هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين؟ كلا...(15)".

ب- الحياة العقلية: ثم يجد في هذا الجدال الديني ما يجعله ينتقل إلى الحياة العقلية والحضارية، فيقول(16): "أفتظن قومًا يجادلون في هذه الأشياء جدالًا يصفه القرآن بالقوة ويشهد لأصحابه بالمهارة، أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة بحيث يمثلهم لنا هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين؟ كلا! لم يكونوا جهالًا ولا أغبياء، ولا غلاظًا ولا أصحاب حياة خشنة جافية، وإنما كانوا أصحاب علم وذكاء، وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة...".

ج- الحياة السياسية: ثم يرى أن العرب "كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم، بل كانوا على اتصال قوي، قسمهم أحزابًا وفرقهم شيعًا. أليس القرآن يحدثنا عن الروم وما كان بينهم وبين الفرس من حرب انقسمت فيها العرب إلى حزبين مختلفين: حزب يشايع أولئك وحزب يناصر هؤلاء؟ أليس في القرآن سورة تسمى "سورة الروم"؟... لم يكن العرب إذن كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلي معتزلين. فأنت ترى أن القرآن يصف عنايتهم بسياسة الفرس والروم. وهو يصف اتصالهم الاقتصادي بغيرهم من الأمم في السورة المعروفة: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْف} وكانت إحدى هاتين الرحلتين إلى الشام حيث الروم، والأخرى إلى اليمن حيث الحبشة والفرس"(17).

د- الحياة الاقتصادية: ثم يقول الدكتور طه(18): "فأنت تستطيع أن تقرأ امرأ القيس كله وغير امرئ القيس، وأنت تستطيع أن تقرأ هذا الأدب

الجاهلي كله دون أن تظفر بشيء ذي غناء يمثل لك حياة العرب الاقتصادية فيما بينهم وبين أنفسهم". ثم يتحدث عما في القرآن من إشارات إلى الحياة الاقتصادية لدى عرب الجاهلية فيقول(19): "وأنت إذا قرأت القرآن رأيت أنه يقسم العرب إلى فريقين آخرين: فريق الأغنياء المستأثرين بالثروة المسرفين في الربا، وفريق الفقراء المعدمين أو الذين ليس لهم من الثروة ما يمكنهم من أن يقاوموا هؤلاء المرابين أو يستغنوا عنهم. وقد وقف الإسلام في صراحة وحزم وقوة إلى جانب هؤلاء الفقراء المستضعفين وناضل عنهم وذاد خصومهم والمسرفين في ظلمهم... أفتظن أن القرآن كان يُعنى هذه العناية كلها بتحريم الربا والحث على الصداقة وفرض الزكاة لو لم تكن حياة العرب الاقتصادية الداخلية من الفساد والاضطراب بحيث تدعو إلى ذلك؟ فالتمس لي هذا أو شيئًا كهذا في الشعر الجاهلي، وحدثني أين تجد في هذا الأدب: شعره ونثره، ما يصور لك نضالًا ما بين الأغنياء والفقراء.." ثم يتحدث عن ناحية أخرى فيقول(20): "كنا ننتظر أن يمثلها الشعر لأنها خليقة به وتكاد تكون موقوفة عليه، نريد هذه الناحية النفسية الخالصة، هذه الناحية التي تظهر لنا الصلة بين العربي والمال... فالشعر الجاهلي يمثل لنا العرب أجوادًا كرامًا مهينين للأموال مسرفين في ازدرائها، ولكن في القرآن إلحاحًا في ذم البخل وإلحاحًا في ذم الطمع، فقد كان البخل والطمع إذن من آفات الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الجاهلية... فالعرب في الجاهلية لم يكونوا كما يمثلهم هذا الشعر أجوادًا متلفين للمال مهينين لكرامته، وإنما كان منهم الجواد والبخيل، وكان منهم المتلاف والحريص، وكان منهم من يزدري المال ومنهم من يزدري الفضيلة والعاطفة في سبيل جمعه وتحصيله". ثم يتحدث عما في القرآن من تنظيم للصلة بين الدائن والمدين.

هـ- الحياة الاجتماعية: ثم ينتهي إلى الحديث عن حياة العرب الاجتماعية.

في الجاهلية، فيقول(21): "فهذا الشعر لا يعنى إلا بحياة الصحراء والبادية، وهو لا يعنى بها إلا من نواح لا تمثلها تمثيلًا تامًّا. فإذا عرض لحياة المدر فهو يمسها مسًّا رفيقًا ولا يتغلغل في أعماقها، وما هكذا نعرف شعر الإسلام. ومن عجيب الأمر أنا لا نكاد نجد في الشعر الجاهلي ذكر البحر أو الإشارة إليه، فإذا ذكر فذكر يدل على الجهل لا أكثر ولا أقل. أما القرآن فيمنُّ على العرب بأن الله قد سخر لهم البحر وبأن لهم في هذا البحر منافع كثيرة...".

2- اختلاف اللغة: ويرى الدكتور طه حسين أن هذا الشعر "بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه"(22).

ثم يقول: "إن هناك خلافًا قويًّا بين لغة حمير "وهي العرب العاربة" ولغة عدنان "وهي العرب المستعربة"(23). ويستند في ذلك إلى أمرين، الأول: ما قاله أبو عمرو بن العلاء، وهو -كما أورده الدكتور طه-: ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا!! والثاني: أن البحث الحديث أثبت خلافًا جوهريًّا بين اللغة التي كان يصطعنها الناس في جنوب البلاد العربية، واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمال هذه البلاد. ثم يشير إلى هذه النقوش الحميرية التي اكتشفت وإلى ما أورده جويدي في كتابه: المختصر في علم اللغة العربية الجنوبية القديمة.

ثم ينتهي من كل ذلك إلى قوله(24): "وإذن فما خطب هؤلاء الشعراء الجاهليين الذين ينسبون إلى قحطان، والذين كانت كثرتهم تنزل اليمن وكانت قلتهم من قبائل يقال إنها قحطانية قد هاجرت إلى الشمال! ما خطب هؤلاء الشعراء، وما خطب فريق من الكهان والخطباء يضاف إليهم نثر وسجع، وكلهم يتخذ لشعره ونثره اللغة العربية الفصحى كما نراها في القرآن؟ أما أن هؤلاء الناس كانوا

 

يتكلمون لغتنا العربية الفصحى ففرض لا سبيل إلى الوقوف عنده فيما يتصل بالعصر الجاهلي، فقد ظهر أنهم كانوا يتكلمون لغة أخرى، أو قل لغات أخرى".

ثم يعرض لما يقال من احتمال اتخاذ أهل الجنوب اللغة العدنانية لغة أدبية، فينفيه لأن "السيادة السياسية والاقتصادية -التي من شأنها أن تفرض اللغة على الشعوب- قد كانت للقحطانيين دون العدنايين"(25).

3- اختلاف اللهجات: وبعد أن ينتهي من الشعر الذي يضاف إلى القحطانيين ينتقل إلى الشعر الذي يضاف إلى العدنانيين فيقول(26): "فالرواة مجمعون على أن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة قبل أن يظهر الإسلام فيقارب بين اللغات المختلفة ويزيل كثيرًا من تباين اللهجات. وكان من المعقول أن تختلف لغات العرب العدنانية وتتباين لهجاتهم قبل ظهور الإسلام ولا سيما إذا صحت النظرية التي أشرنا إليها آنفًا وهي نظرية العزلة العربية.. فإذا صح هذا كله كان من المعقول جدًّا أن تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها ومذهبها في الكلام. وأن يظهر اختلاف اللغات وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل الذي قيل قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة ولهجات متقاربة. ولكننا لا نرى شيئًا من ذلك في الشعر العربي الجاهلي. فأنت تستطيع أن تقرأ هذه المطولات أو المعلقات التي يتخذها أنصار القديم نموذجًا للشعر الجاهلي الصحيح، فسترى فيها مطولة لامرئ القيس وهو من كندة أي من قحطان، وأخرى لزهير، وأخرى لعنترة، وثالثة للبيد، وكلهم من قيس، ثم قصيدة لطرفة، وقصيدة لعمرو بن كلثوم، وقصيدة أخرى للحارث بن حلزة وكلهم من ربيعة... تستطيع أن تقرأ هذه القصائد السبع دون أن تشعر فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافًا في اللهجة، أو تباعدًا في اللغة، أو تباينًا في مذهب الكلام: البحر العروضي هو هو، وقواعد القافية هي هي، والألفاظ مستعملة في معانيها كما تجدها عند شعراء المسلمين، والمذهب الشعري هو هو.....

فنحن بين اثنتين: إما أن نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي، وإما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل وإنما حمل عيها بعد الإسلام حملًا. ونحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى فالبرهان القاطع قائم على أن اختلاف اللغة واللهجة كان حقيقة واقعة بالقياس إلى عدنان وقحطان".

4- الاستشهاد بالشعر الجاهلي على ألفاظ القرآن والحديث: قال الدكتور طه فيما قال(27): "إنا نلاحظ أن العلماء قد اتخذوا هذا الشعر الجاهلي مادة للاستشهاد على ألفاظ القرآن والحديث ونحوهما ومذاهبهما الكلامية. ومن الغريب أنهم لا يكادون يجدون في ذلك مشقة ولا عسرًا، حتى إنك لتحس كأن هذا الشعر الجاهلي إنما قُدَّ على قد القرآن والحديث كما يقد الثوب على قد لابسه لا يزيد ولا ينقص عما أراد طولًا وسعة. إذن فنحن نجهر بأن هذا ليس من طبيعة الأشياء، وأن هذه الدقة في الموازاة بين القرآن والحديث والشعر الجاهلي لا ينبغي أن تحمل على الاطمئنان إلا الذين رُزقوا حظًّا من السذاجة لم يُتح لنا مثله. إنما يجب أن تحملنا هذه الدقة في الموازاة على الشك والحيرة، وعلى أن نسأل أنفسنا: أليس يمكن ألا تكون هذه الدقة في الموازاة نتيجة من نتائج المصادفة وإنما هي شيء تُكلف وأنفق فيه أصحابه بياض الأيام وسواد الليالي؟".

5- أما آخر الأمور التي لحظها الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي، وبعثت في نفسه الشك والريبة، ودفعته إلى أن يصمه بأنه منحول موضوع، فهو أنه لم يصلنا إلا عن طريق الرواية الشفهية، وهو لا يتحدث عن هذا الأمر حديثًا مفصلًا كما صنع في الأمور الأربعة السابقة، وإنما اكتفى بأن يشير إليه إشارات عابرة لا يقف عندها طويلًا، وإن كان حديثه في جملته يتضمن أثر هذا الدافع الأخير وهو الرواية الشفهية في نفسه، ولعل أصرح جملة عن هذا الأمر قوله(28): "وحسبي أن شعر أمية بن أبي الصلت لم يصل إلينا إلا من طريق الرواية والحفظ لأشك في صحته كما شككت في شعر امرئ القيس والأعشى وزهير...".

وبعد؛

فقد ختم الدكتور طه فصله الذي تحدث فيه عن دوافع شكه في الشعر الجاهلي بعبارة فيها جماع ما ذكر، وفيها تمهيد لما سيذكر، وذلك قوله(29): "إن من الحق علينا لأنفسنا وللعلم أن نسأل: أليس هذا الشعر الجاهلي الذي ثبت أنه لا يمثل لغتهم، أليس هذا الشعر قد وضع وضعًا وحمل على أصحابه حملًا بعد الإسلام؟ أما أنا فلا أكاد أشك الآن في هذا. ولكننا محتاجون بعد أن ثبتت لنا هذه النظرية أن نتبين الأسباب المختلفة التي حملت الناس على وضع الشعر والنثر ونحلهما بعد الإسلام".

أسباب النحل:

ومن أجل ذلك تراه في "الكتاب الثالث" يبسط "أسباب نحل الشعر"، بسطًا أفرغ فيه كثيرًا من الجهد حتى لقد وصل بنا إلى أن "كل شيء في حياة المسلمين في القرون الثلاثة الأولى كان يدعو إلى نحل الشعر وتلفيقه سواء في ذلك الحياة الصالحة حياة الأتقياء والبررة، والحياة السيئة حياة الفسق وأصحاب المجون"(30).

وهو يرى أن هذه الأسباب التي دعت إلى نحل الشعر ووضعه مردها إلى خمسة أمور:

أولًا- السياسة:

وهو لا يعني السياسة بمعناها الواسع الذي نفهمه منها الآن، وإنما يحصر مدلول السياسة في العصبية القبلية، وحتى هذه العصبية لا يتحدث عنها حديثًا شاملًا، ولكنه يكتفي بمثالين:

1- العصبية "بين المهاجرين والأنصار، أو بعبارة أصح: بين قريش والأنصار(31)". ويورد، لتأييد رأيه، روايتين، الأولى: ما يُروَى من أن عمر بن الخطاب نهى عن رواية الشعر الذي تهاجي به المسلمون والمشركون أيام النبي، ويرى الدكتور طه أن "هذه الرواية نفسها تثبت رواية أخرى وهي أن قريشًا والأنصار تذاكروا ما كان قد هجا به بعضهم بعضًا أيام النبي وكانوا حراصًا على روايته، ويجدون في ذلك من اللذة والشماتة ما لا يشعر به إلا صاحب العصبية القوية إذا وتر أو انتصر"(32). ويدعم رأيه هذا بما يُروى أيضًا عن عمر من قوله لأصحاب النبي: "قد كنت نهيتكم عن رواية هذا الشعر لأنه يوقظ الضغائن، فأما إذ أبوا فاكتبوه". ويعقب الدكتور طه على ذلك بقوله(33):

"وسواء أقال عمر هذا أم لم يقله، فقد كان الأنصار يكتبون هجاءهم لقريش على ألا يضيع".

والثانية: ما ذكر من أن ابن سلام قال: وقد نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثرت منه في الإسلام. وعقب عليه الدكتور بقوله(34): وليس من شك عندي في أنها استكثرت بنوع خاص من هذا الشعر الذي يهجي به الأنصار.

2- وأما المثال الثاني فهو لا يورده في هذا الفصل الذي عقده عن العصبية القبلية، وإنما ينثره في الكتاب الذي يليه حين يتحدث عن امرئ القيس وشعره فيقول(35): "ونحن نذهب هذا المذهب نفسه في تفسير هذه الأخبار والأشعار التي تمس تنقل امرئ القيس في قبائل العرب، فهي محدثة نُحلت حتى تنافست القبائل العربية في الإسلام، وحين أرادت كل قبيلة أن تزعم لنفسها من الشرف والفضل أعظم حظ ممكن".

ولم يكتف الدكتور بذلك بل يقول(36): "ونحن لا نقف عند استخلاص هذه النتيجة وتسجيلها وإنما نستخلص منها قاعدة علمية، وهي أن مؤرخ الآداب مضطر حين يقرأ الشعر الذي يسمى جاهليًّا أن يشك في صحته كلما رأى شيئًا من شأنه تقوية العصبية أو تأييد فريق من العرب على فريق. ويجب أن يشتد هذا الشك كلما كانت القبيلة أوالعصبية التي يؤيدها هذا الشعر قبيلةً أو عصبية قد لعبت -كما يقولون- دورًا في الحياة السياسية للمسلمين".

ثاينًا- الدين:

وهو يدخل في باب الدين ما يلي من الأمثلة:

1- "فكان هذا النحل في بعض أطواره يقصد به إلى إثبات صحة النبوة وصدق النبي، وكان هذا النوع موجهًا إلى عامة الناس. وأنت تستطيع أن تحمل على هذا كل ما يُروَى من هذا الشعر الذي قيل في الجاهلية ممهدًا لبعثة النبي وكل ما يتصل بها من هذه الأخبار والأساطير التي تُروَى لتقتنع العامة بأن علماء العرب وكهانهم، وأحبار اليهود ورهبان النصارى، كانوا ينتظرون بعثة نبي عربي يخرج من قريش أو من مكة. وفي سيرة ابن هشام وغيرها من كتب

التاريخ والسير ضروب كثيرة من هذا النوع"(37).

2- "وأنت تستطيع أن تحمل على هذا لونًا آخر من الشعر المنحول لم يضف إلى الجاهليين من عرب الإنس، وإنما أضيف إلى الجاهليين من عرب الجن(38).

... والغرض من هذا النحل -فيما نرجح- إنما هو إرضاء حاجات العامة الذين يريدون المعجزة في كل شيء، ولا يكرهون أن يقال لهم: إن من دلائل صدق النبي في رسالته أنه كان منتظرًا قبل أن يجيء بدهر طويل، تحدثت بهذا الانتظار شياطين الجن وكهان الإنس...(39)".

3- "ونوع آخر من تأثير الدين في نحل الشعر وإضافته إلى الجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش...(40)".

4- "نحو آخر من تأثير الدين في نحل الشعر، وهو هذا الذي يلجأ إليه القصاص لتفسير ما يجدونه مكتوبًا في القرآن من أخبار الأمم القديمة البائدة كعاد وثمود ومن إليهم، فالرواة يضيفون إليهم شعرًا كثيرًا. وقد كفانا ابن سلام نقده وتحليله حين جد في طبقات الشعراء في إثبات أن هذا الشعر وما يشبهه مما يُضاف إلى تُبع وحمير موضوع منحول وضعه ابن إسحاق ومن إليه من أصحاب القصص...(41)".

5- "ونحو آخر من تأثير الدين في نحل الشعر، وذلك حين ظهرت الحياة العلمية عند العرب بعد أن اتصلت الأسباب بينهم وبين الأمم المغلوبة.

فأرادوا هم أو الموالي أو أولئك وهؤلاء أن يدرسوا القرآن درسًا لغويًّا ويثبتوا صحة ألفاظه ومعانيه. ولأمر ما شعروا بالحاجات إلى إثبات أن القرآن كتاب عربي مطابق في ألفاظه للغة العرب، فحرصوا على أن يستشهدوا على كل كلمة من كلمات القرآن بشيء من شعر العرب يثبت أن هذه الكلمة القرآنية عربية لا سبيل إلى الشك في عربيتها...(42)".

6- "وهنا نوع جديد من تأثير الدين في نحل الشعر، فهذه الخصومات بين العلماء كان لها تأثير غير قليل في مكانة العالم وشهرته... ومن هنا كان هؤلاء العلماء حراصًا على أن يظهروا دائمًا بمظهر المنتصرين... وأي شيء يتيح لهم هذا مثل الاستشهاد بما قالته العرب قبل نزول القرآن... وهم مجمعون على أن هؤلاء الجاهليين الذين قالوا في كل شيء كانوا جهلة غلاظًا فظاظًا أفترى إلى هؤلاء الجهال الغلاظ يُستشهد بجهلهم وغلظتهم على ما انتهت إليه الحضارة العباسية من علم ودقة فنية؟ فالمعتزلة يثبتون مذاهبهم بشعر العرب الجاهليين، وغير المعتزلة من أصحاب المقالات ينقضون آراء المعتزلة معتمدين على شعر الجاهليين... لأمر ما كان البدع في العصر العباسي عند فريق من الناس أن يرد كل شيء إلى العرب حتى الأشياء التي استحدثت أو جاء بها المغلوبون من الفرس والروم وغيرهم(43)...".

7- ويعرض لما يُروَى من وجود أفراد قبل الإسلام كانوا يحتفظون بالحنيفية دين إبراهيم وكان في أحاديثهم ما يشبه الإسلام، فيقول(44): "فأحاديث هؤلاء الناس قد وضعت لهم وحملت عليهم بعد الإسلام لا لشيء إلا ليثبت أن للإسلام في بلاد العرب قدمة وسابقة. وعلى هذا النحو تستطيع أن تحمل كل ما تجد من هذه الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلى الجاهليين والتي يظهر بينها وبين ما في القرآن والحديث شبه قوي أو ضعيف".

8- ثم يتحدث عن المسيحية واليهودية فيقول(45): "ليس من المعقول أن ينتشر هذان الدينان في البلاد العربية دون أن يكون لهما أثر ظاهر في الشعر العربي قبل الإسلام. وقد رأيت أن العصبية العربية حملت العرب على أن ينحلوا الشعر ويضيفوه إلى عشائرهم في الجاهلية بعد أن ضاع شعر هذه العشائر، فالأمر كذلك في اليهود والنصارى: تعصبوا لأسلافهم من الجاهليين، وأبوا إلا أن يكون لهم شعر كشعر غيرهم من الوثنيين، وأبوا إلا أن يكون لهم مجد وسؤدد كما كان لغيرهم مجد وسؤدد، فنحلوا كما نحل غيرهم ونظموا شعرًا أضافوه إلى السموءل بن عادياء وإلى عدي بن زيد وغيرهما من شعراء اليهود والنصارى...".

ثالثًا- القصص:

وقد عرض للقصص والقصاصين غير مرة فيما سبق من فصول كتابه، ولكنه في هذا الفصل يخص القصص والقصاصين بالحديث كله. فبعد أن يتحدث عن نشأة القصص وقيام طائفة القصص يقول(46): "وأنت تعلم أن القصص العربي لا قيمة له ولا خطر في نفس سامعيه إذا لم يزينه الشعر من حين إلى حين.... وإذن فقد كان القصص أيام بني أمية وبني العباس في حاجة إلى مقادير لا حد لها من الشعر يزينون بها قصصهم، ويدعمون بها مواقفهم المختلفة فيه. وهم قد وجدوا من هذا الشعر ما كانوا يشتهون. ولا أكاد أشك في أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يستقلون بقصصهم، ولا بما يحتاجون إليه من الشعر في هذا القصص، وإنما كانوا يستعينون بأفراد من الناس يجمعون لهم الأحاديث والأخبار ويلفقونها، وآخرين ينظمون لهم القصائد وينسقونها. ولدينا نص يبيح لنا أن نفترض هذا الفرض، فقد حدثنا ابن سلام أن ابن إسحاق كان يعتذر عما يروي من غثاء الشعر فيقول: لا علم لي بالشعر، إنما أوتَى به فأحمله. فقد كان هناك قوم إذن يأتون بالشعر وكان هو يحمله. فمن هؤلاء القوم؟ أليس

من الحق لنا أن نتصور أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يتحدثون إلى الناس فحسب،

وإنما كان كل واحد منهم يشرف على طائفة غير قليلة من الرواة والملفقين ومن النظام والمنسقين، حتى إذا استقام لهم مقدار من تلفيق أولئك وتنسيق هؤلاء طبعوه بطابعهم ونفخوا فيه من روحهم وأذاعوه بين الناس". ثم يخص بالذكر ثلاثة ضروب من القصص: قصص لتفسير طائفة من الأمثال والأسماء والأمكنة(47).

وقصص المعمرين وأخبارهم(48). وقصص أيام العرب وأخبارها(49).

رابعًا: الشعوبية:

ثم يتحدث عن الخصومة بين العرب والموالي في الإسلام فيقول(50): "أما نحن فنعتقد أن هؤلاء الشعوبية قد نحلوا أخبارًا وأشعارًا وأضافوها إلى الجاهليين والإسلاميين. ولم يقف أمرهم عند نحل الأخبار والأشعار، بل هم قد اضطروا خصومهم ومناظريهم إلى النحل والإسراف فيه.." ويقول (51): "كانت الشعوبية تنحل من الشعر ما فيه عيب للعرب وغض منهم. وكان خصوم الشعوبية ينحلون من الشعر ما فيه ذود عن العرب ورفع لأقدارهم". ثم يعيد ما أشار إليه عند حديثه عن الدين، فيقول(52): "ونوع آخر من النحل دعت إليه الشعوبية، تجده بنوع خاص في كتاب الحيوان للجاحظ وما يشبهه من كتب العلم التي ينحو بها أصحابها نحو الأدب. ذلك أن الخصومة بين العرب والعجم دعت العرب وأنصارهم إلى أن يزعموا أن الأدب العربي القديم لا يخلو أو لا يكاد يخلو من شيء تشتمل عليه العلوم المحدثة؛ فإذا عرضوا لشيء مما في هذه العلوم الأجنبية فلا بد من أن يثبتوا أن العرب قد عرفوه أو ألموا به أو كادوا يعرفونه ويلمون به.

خامسًا: الرواة:

والرواة في رأيه "بين اثنين: إما أن يكونوا من العرب، فهم متأثرون بما كان يتأثر به العرب، وإما أن يكونوا من الموالي، فهم متأثرون بما كان يتأثر به الموالي من تلك الأسباب العامة, وهم على تأثرهم بهذه الأسباب العامة متأثرون بأشياء أخرى هي التي أريد أن أقف عندها وقفات قصيرة. ولعل أهم هذه المؤثرات التي عبثت بالأدب العربي وجعلت حظه من الهزل عظيمًا: مجون الرواة وإسرافهم في اللهو والعبث، وانصرافهم عن أصول الدين وقواعد الأخلاق إلى ما يأباه الدين وتنكره الأخلاق"(53).

ثم يتحدث عن حماد وخلف وأبي عمرو الشيباني، وبعد أن يعرض ما يُروى عن مجونهم وفسقهم ووضعهم الأشعار يقول(54): "وإذا فسدت مروءة الرواة كما فسدت مروءة حماد وخلف وأبي عمرو الشيباني، وإذا أحاطت بهم ظروف مختلفة تحملهم على الكذب والنحل ككسب المال والتقرب إلى الأشراف والأمراء والظهور على الخصوم والمنافسين، ونكاية العرب نقول: إذا فسدت مروءة هؤلاء الرواة وأحاطت بهم مثل هذه الظروف، كان من الحق علينا ألا نقبل مطمئنين ما ينقلون إلينا من شعر القدماء... وهناك طائفة من الرواة غير هؤلاء ليس من شك في أنهم كانوا يتخذون النحل في الشعر واللغة وسيلة من وسائل الكسب. وكانوا يفعلون ذلك في شيء من السخرية والعبث نريد بهم هؤلاء

الأعراب الذين كان يرتحل إليهم في البادية رواة الأمصار يسألونهم عن الشعر والغريب..".

شكله في شعر شعراء سماهم:

أما القسم الثالث من كتابه، وهو القسم الخاص الذي يتحدث فيه عن شكه في شعر الشعراء بذواتهم، فقد خصص للحديث له الكتاب الرابع. وقد أعاد في هذا القسم كثيرًا مما كان قد ذكره في القسمين السابقين: فصَّل بعضه وأطال شرحه، وأوجز بعضه أو اكتفى بالإشارة إليه والتذكير به. وسنعرض فيما يلي ما ذهب إليه عرضًا موجزًا إيجازًا مركزًا يدل على المعنى المقصود في جملته، وإن كان يتحيف منه لأنه لا ينقل جو الحديث كما رسمه الدكتور طه بأسلوبه.

امرؤ القيس:

وأول من عرض له من هؤلاء الشعراء هو امرؤ القيس. وقد شك فيه وفي شعره لأسباب، أولها: تضارب الرواة في اسمه وكنيته ونسبه وحياته(55).

وثانيها: أن قسمًا من شعره يدور على قصة حياته يفسرها ويؤيدها، وهو يرى أن هذا القسم موضوع نُحِل ليفسر هذه القصة(56). وثالثها: أن القسم الآخر من شعره المستقل عن الأهواء السياسية والحزبية موضوع منحول كذلك لأن "الضعف فيه ظاهر والاضطراب فيه بيِّن، والتكلف والإسفاف فيه يكادان يُلمسان باليد"(57). ورابعها: أنه يستثني من هذا القسم الأخير قصيدتين هما:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

و:

ألا أنعم صباحًا أيها الطلل البالي

ومع ذلك فهو يشك فيهما من وجوه: الوجه الأول: "أن امرأ القيس -إن

صحت أحاديث الرواة- يمني، وشعره قرشي اللغة، لا فرق بينه وبين القرآن في لفظه وإعرابه وما يتصل بذلك من قواعد الكلام. ونحن نعلم -كما قدمنا- أن لغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغة الحجاز، فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز، بل في لغة قريش خاصة؟ سيقولون: نشأ امرؤ القيس في قبائل عدنان، وكان أبوه ملكًا على بني أسد، وكانت أمه من بني تغلب، وكان مهلهل خاله، فليس غريبًا أن يصطنع لغة عدنان ويعدل عن لغة اليمن. ولكننا نجهل هذا كله، ولا نستطيع أن نثبته إلا من طريق هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس، ونحن نشك في هذا الشعر ونصفه بأنه منحول"(58).

والوجه الثاني: أن امرأ القيس لم يذكر قصة البسوس ولم يذكر شيئًا عن خاليه مهلهل وكليب ابني ربيعة(59). والوجه الثالث: "أن الرواة يختلفون اختلافًا كثيرًا في رواية القصيدة: في ألفاظها وفي ترتيبها، ويضعون لفظًا مكان لفظ وبيتًا مكان بيت"(60).

علقمة:

وهو يشك في علقمة لقلة ما يعرفه العلماء من أخباره "فلا يكاد الرواة يذكرون عنه شيئًا إلا مفاخرته لامرئ القيس، ومدحه ملكًا من ملوك غسان،... وإلا أنه كان يتردد على قريش ويناشدها شعره، وإلا أنه مات بعد ظهور الإسلام أي في عصر متأخر جدًّا بالقياس إلى امرئ القيس(61)...

عبيد بن الأبرص:

وشكه في عبيد من وجهين: لأن "الرواة لا يحدثوننا عن عبيد بشيء يقبل التصديق: إنما عبيد عند الرواة والقصاص شخص من أصحاب الخوارق والكرامات، كان صديقًا للجن والإنس معًا، عُمِّر عمرًا طويلًا(62)".

وأما شعره "فليس أشد من شخصيته وضوحًا. فالرواة يحدثوننا بأنه مضطرب ضائع... فأما شعره الآخر الذي عارض فيه امرأ القيس وهجا فيه كندة فلا حظَّ له من الصحة فيما نعتقد، وذلك أن فيه إسفافًا وضعفًا وسهولة في اللفظ والأسلوب لا يمكن أن تضاف إلى شاعر قديم(63)...".

عمرو بن قميئة:

ويشك في عمرو لسببين أيضًا هما: غموض حياته، فهو يرى "أن عمرو بن قميئة ضاع كما ضاع امرؤ القيس من الذاكرة، ولم يُعرف من أمره شيء إلا اسمه هذا، كما لم يعرف من أمر امرئ القيس ولا من أمر عبيد إلا اسمهما؛ ووضعت له قصة كما وضع لكل من صاحبيه قصة، وحمل عليه شعر كما حمل على صاحبيه الشعر أيضًا"(64). والثاني أن في شعره سهولة ولينًا(65).

مهلهل:

وهو يعيد في مهلهل، كما أعاد فيمن قبله وسيعيد فيمن بعده، الأسباب نفسها مع قليل من النقص أو الزيادة، فهو يشك في مهلهل للأسباب التالية: غموض شخصيته(66)، واضطراب شعره واختلاطه(67)، واستقامة وزن شعره، واطراد قافيته، وملاءمته قواعد النحو ومع أنه أقدم شعر قالته العرب(68)، وسهولة لفظه ولينه وإسفافه(69).

عمرو بن كلثوم:

ويشك في عمرو بن كلثوم وشعره لثلاثة أسباب: كثرة الأساطير في حياته(70)، ورقة لفظ شعره وسهولته وقرب فهمه(71)،

واضطراب أبيات قصيدته "المعلقة" وتكرار بعضها(72).

الحارث بن حلزة:

حتى إذا ذكر الحارث بن حلزة لم يقدم لنا سببًا لشكه، غير أنه يورد أبياتًا من معلقة عمرو بن كلثوم، ويذكر أن قصيدة الحارث أمتن وأرصن(73). ثم يقول(74): "ولسنا نتردد في أن نعيد ما قلناه من أن هاتين القصيدتين وما يشبههما مما يتصل بالخصومة بين بكر وتغلب إنما هو من آثار التنافس بين القبيلتين في الإسلام لا في الجاهلية".

طرفة: ويشك في شعر طرفة لسببين، الأول: شذوذه عن شعراء ربيعة في قوة متنه وشدة أسره وإغرابه حتى صار شعره "أشبه بشعر المضريين منه بشعر الربعيين(75)"، والثاني: اختفاء شخصيته في القصائد الأخرى غير المعلقة أو غير أبيات من المعلقة(76). والغريب أنه يورد أبياتًا من المعلقة ويقول: "في هذا الشعر شخصية بارزة قوية، لا يستطيع من يلمحها أن يزعم أنها متكلفة أو منحولة أو مستعارة"، ثم يقول: "ولست أدري أهذا الشعر قد قاله طرفة أم قاله رجل آخر. وليس يعنيني أن يكون طرفة قائل هذا الشعر، بل ليس يعنيني أن أعرف اسم صاحب هذا الشعر، وإنما الذي يعنيني هو أن هذا الشعر صحيح لا تكلف فيه ولا نحل!!".

المتلمس:

وهو يشك في شعر المتلمس لما "فيه من رقة وإسفاف وابتذال"(77) كشعر ربيعة الذي قدم الإشارة إليه، ولأن تكلف القافية، وخاصة في سينيته، ظاهر ملموس، ثم يقول(78): "وأكبر الظن أن كل ما يضاف إلى المتلمس

من شعره أو أكثره -على أقل تقدير- مصنوع، الغرض منه تفسير طائفة من الأمثال وطائفة من الأخبار...".

الأعشى:

وهو يشك في الأعشى للسبب نفسه الذي دعاه إلى الشك في كثير غيره ممن قدمنا، وذلك لتناقض الأخبار عنه، فهو يقول(79): "... ولكن الرواة بعد هذا لا يعرفون من أمر الأعشى إلا طائفة من الأحاديث لا سبيل إلى الثقة بها أو الاطمئنان إليها. بعض هذه الأحاديث فيه رائحة الأساطير، وبعضها ظاهر فيه الكذب والنحل، وبعضها يستنبط من أبيات من الشعر شائعة على هذا النحو الذي يستنبط به القدماء أخبارهم من شعر لا يعرف من أين جاء". ثم هو يشك في شعره بعد أن يقسمه إلى قسمين، الأول: شعر المدح: ويرى أنه منحول عليه وأنه "مظهر من مظاهر العصبية في الإسلام"(80)، وأن "الكثرة من شعر الأعشى قد صنعت في الإسلام في الكوفة، وكانت مظهر التحالف العصبي بين ربيعة واليمن على مضر(81)". والثاني: شعر الغزل وهو يقول عنه(82): "ولكني أجد في غزل الأعشى لينًا شديدًا أعرفه في شعر ربيعة، وأعلله بالتكلف والنحل". ثم يلخص رأيه في الأعشى بقوله(83): "إنه شاعر عاش في آخر العصر الجاهلي، وتصرف في فنون من الشعر أظهرها الغزل والخمر والوصف، ومدح طائفة من أشراف العرب، ولكن العصبية استغلت هذا المدح، ولعله كان قد ضاع فأضافت إليه مكانه مدحًا كثيرًا لليمنيين ومدحًا قليلًا للمضريين ولا شك في أن بين هذا الشعر الذي يضاف إلى الأعشى مقطوعات وأبياتًا يمكن أن يكون الأعشى قد قالها حقًّا، ولكن تمييز هذه الأبيات والمقطوعات مما يحيط بها من المنحول المتكلف ليس بالشيء اليسير. على أن هذا

المنحول الذي يضاف إلى الأعشى مختلف أشد الاختلاف، ففيه الجيد والمتقن وفيه الضعيف السخيف...".

الشعر المضري :

كان أكثر حديثه السابق عن شعراء اليمن وربيعة، وأما خلاصة رأيه في الشعر المضري فتتمثل في قوله(84): "نحن لا نقف من الشعر المضري الجاهلي موقف الرفض أو الإنكار لأن الصعوبة اللغوية التي اضطرتنا إلى أن نرفض شعر الربعيين واليمنيين لا تعترضنا بالقياس إلى المضريين. فقد بينا لك غير مرة أنا نعتقد أن لغة القرشيين قد ظهرت في الحجاز ونجد قبيل الإسلام، وأصبحت لغة أدبية في هذا القسم الشمالي من بلاد العرب. وإذن فليس يبعد بوجه من الوجوه أن يكون الشعراء الذين نجموا في هذه الناحية قد قالوا الشعر في هذه اللغة القرشية الجديدة، بل نحن لا نشك في هذا ولا نتردد في القطع به... لسنا نشك في أن قد كان لمضر شعر في الجاهلية، ولسنا نشك أيضًا في أن هذا الشعر قديم العهد بعيد السابقة أقدم وأبعد مما يظن الرواة والمتقدمون من العلماء. ولكننا لا نشك أيضًا في أن هذا الشعر قد ذهب وضاعت كثرته ولم يبق لنا منه إلا شيء قليل جدًّا لا يكاد يمثل شيئًا، وهذا المقدار القليل الذي بقي لنا من شعر مضر قد اضطرب وكثر فيه الخلط والتكلف والنحل، حتى أصبح من العسير جدًّا، إن لم يكن من المستحيل، تلخيصه وتصفيته.

مقياسه في الحكم على صحة الشعر الجاهلي:

ثم ينتقل بنا إلى الحديث عن المقياس الذي نعرف به صحة الشعر الجاهلي، فيرى أن نقد السند وحده لا يكفي "لتصحيح ما يصل إلينا من طريقه. ولا بد لنا من أن نتجاوز هذا النقد الخارجي إلى نقد داخلي، إن صح هذا التعبير، إلى نقد يتناول النص الشعري نفسه في لفظه ومعناه ونحوه وعروضه وقافيته"(85).

ولكنه سرعان ما يستدرك ويبين أن هذا الضرب من النقد "ليس يسيرًا ولا منتجًا الآن بالقياس إلى الشعر الجاهلي. فنحن لا نستطيع أن نقول في يقين أو ترجيح علمي أن هذا النص ملائم من الوجهة اللغوية للعصر الجاهلي أو غير ملائم؛ لأن لغة هذا العصر الجاهلي لم تضبط ضبطًا تاريخيًّا ولا علميًّا صحيحًا، وكل ما صح لنا منها صحة قاطعة، ولكنها في حاجة إلى التدوين، إنما هي لغة القرآن. ولكن من ذا الذي يستطيع أن يزعم أن القرآن قد استعمل كل الألفاظ التي كانت شائعة مألوفة بين المضريين أيام النبي؟..(86)".

ويعنينا أن نذكر رأيه في غرابة اللفظ وكيف يتخذها بعضهم مقياسًا لتحقيق الشعر الجاهلي، ويصف هذا المذهب بأنه مذهب خداع(87). ويقول: "لا ينبغي أن تُتخذ غرابة اللفظ دليلًا على الصحة والقدم، ولا ينبغي أن تتخذ سهولة اللفظ دليلًا على النحل والجدة...(88)".

ثم ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن "المقياس المركب" فيقول(89): "يجب أن ننبه من الآن إلى أننا لم نوفق بعد لمقياس علمي نستطيع أن نطمئن إليه حقًّا، ولكننا مع ذلك لم نيأس من الوصول إلى مقياس أو مقاييس، إلا تفد اليقين، فقد تفيد الظن، وقد تنتهي أحيانًا إلى الترجيح الذي يقرب إلى اليقين. نحن لا نعتمد على اللفظ وحده، ولا نعتمد على اللفظ والمعنى ليس غير، وإنما نعتمد على اللفظ والمعنى وعلى أشياء أخرى فنية وتاريخية". وهو لا يكتفي باللفظ والمعنى لأنهما وحدهما لا يمنعان "إمكان التقليد والتزييف". أما هذه الأشياء الأخرى التي ذكرها فهي "الخصائص الفنية. وهذه الخصائص الفنية يمكن أن تُلتمس عند شاعر واحد، عند زهير مثلًا، ويمكن أن تلتمس عند طائفة من الشعراء..." ثم يتحدث عن أن هذه الخصائص الفنية إذا اجتمعت لطائفة من الشعراء أصبحت هذه الطائفة "مدرسة شعرية" ثم يفصل القول في إحدى هذه المدارس وهي المدرسة التي تتألف من: أوس بن حجر وزهير والحطيئة وكعب بن زهير.

وكان لكتاب "في الشعر الجاهلي" أثر كبير، ودوي شديد؛ فأشرع كثير من العلماء والأدباء أقلامهم وتناولوا الكتاب وما فيه بالنقد والنقض، وتفاوت نقدهم واختلفت طرائقهم: فاعتدل بعضهم والتزم حدود الموضوع، ومضوا ينقدون في أسلوب هادئ ولفظ عف، وغلا بعضهم فاشتد واشتط، وتجاوزوا الكتاب إلى صاحب الكتاب. ونُشر أكثر ذلك في صحف ذلك العهد، ثم جمع بعضه في كتب هي: كتاب "نقد كتاب الشعر الجاهلي" للأستاذ محمد فريد وجدي، وكتاب "الشهاب الراصد" للأستاذ محمد لطفي جمعة، وكتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" للسيد محمد الخضر حسين، وكتاب"محاضرات في بيان الأخطاء العلمية التاريخية التي اشتمل عليها كتاب في الشعر الجاهلي" للأستاذ الشيخ محمد الخضري، وكتاب "النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي" للأستاذ محمد أحمد الغمراوي، وله مقدمة مفصلة بقلم الأمير شكيب أرسلان؛ وفصول كثيرة في كتاب "تحت راية القرآن" للأستاذ مصطفى صادق الرافعي.

وتخليص النقد الموضوعي في كل تلك الكتب، ثم تلخيصه، أمران فيهما من المشقة وبذل الجهد شيء كثير. وسنحاول في هذه الصفحات جمع ما تفرق في تضاعيف هذه الكتب، وترتيبه في فصول ذات موضوع واحد أو موضوعات متقاربية يجمعها عنوان واحد.

نقد منهج الكتاب وطريقته:

1- فقد أعلن الدكتور منهجه في وضوح حين قال(90): "أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه "ديكارت" للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث". فقام بعضهم ينكر عليه فهم هذا المنهج من أساسه، ويرد عليه في صفحات طويلة(91)، فذهب إلى أن منهج ديكارت لم يكن منهج شك للشك ذاته، وإنما يتخذ الشك وسيلة لليقين، وأن خلاصة هذا المنهج ألا يقبل المرء أمرًا على أنه حقيقة إلا إذا قامت الدلائل البينة على صحته، وأن ديكارت مع ذلك كان يسلم بوجود أشياء لا يجادل فيها، فهو بذلك يكون منهجًا إيجابيًّا لا سلبيًّا، ويستشهد على كل ذلك بقول أحد دارسي تاريخ المذاهب الفلسفية من الفرنسيين(92): "وقد آلى ديكارت على نفسه أن لا يقبل المعلومات مهما كانت صفتها وقوة الثقة الملازمة لها، ما عدا الحقائق الخاصة بالعقيدة فإنه لم يطبق عليها هذه الطريقة".

2- ولكن آخرين ردوا عليه من وجه آخر فقالوا إنه لم يلتزم المنهج الذي أعلن أنه يريد أن يصطنعه، وهذا صاحب كتاب "في الشعر الجاهلي" على الرغم من قبضه على منهج ديكارت، ونعيه الاطمئنان إلى ما يقوله القدماء، قد اطمأن في كثير من هذا النحو الجديد من البحث إلى ما يرويه صاحب الأغاني وغيره...(93)، "ولكنه بغلوه في تحري أسباب الاختلاق على الجاهليين التقط من كتب المحاضرات جميع ما فيها مما يتعلق بالاختلاق، وبالعوامل التي حملت عليه، وبالمطامع التي دفعت إليه، ولم يسر في ذلك على ما يقضي به عليه مذهب ديكارت من النقد والتمحيص، بل وثق به ثقة مطلقة حملته على إصدار الأحكام جزافًا..."(94) وكان من أثر ذلك أن الدكتور أورد في كتابه أخبارًا وروايات كانت جديرة أن تنال منه بعض عنايته في الوقوف عندها ونقدها وتمحيصها وتبيين زائفها ثم ردها، وقد أورد ناقدوه أمثلة كثيرة على ذلك نكتفي بالإشارة إلى بعض أرقام الصفحات التي وردت فيها في كتبهم(95).

3- وذهب بعضهم إلى أن مؤلف الكتاب قد جافى الطريقة العلمية، ولم يؤسس "لنظريته بالتثبت أولًا من الحقائق قبل أن يدخل في دور الفرض..."(96) وأنه يبدأ بالفرض، ثم يبني عليه فرضًا آخر، ثم ينتهي بالقطع والجزم والثبوت.

وقدموا لذلك أمثلة كثيرة منها: أنه يورد ثلاث جمل يبرهن على الأولى منها بقوله: "فليس يبعد!" وعلى الثانية بقوله: "فليس ما يمنع!" وعلى الثالثة بقوله: "فما الذي يمنع!" ويبني على هذه الكلمات الثلاث قوله: "أمر هذه القصة إذًا واضح"!

ويعقب الناقد على ذلك بقوله(97): "نعم قد اتضح بنفي البعد في الأولى! وعدم المانع في الأخريين! وما علمنا بمنطق في العالم يكتفي في إقامة البرهان على عدم صحة خبر من الأخبار بأنه لا يبعد ضده أو أنه لا مانع من ضده!". ومن ذلك أن الدكتور طه يحتج في نفي الشعر المستشهد به على القرآن بقوله: "أليس من الممكن أن تكون قصة ابن عباس ونافع بن الأزرق قد وضعت في تكلف وتصنع؟ ثم قال: "بل أليس من الممكن أن تكون قصة ابن عباس هذه قد وضعت في سذاجة وسهولة ويسر، لا لشيء إلا لهذا الغرض التعليمي اليسير؟"

فأجابه ناقده بقوله(98): "بلى! هذا ممكن، كما يمكن أن يكون الخبر صحيحًا... كما يمكن أن يكون بعضه صحيحًا وبعضه غير صحيح، كل ذلك ممكن. ولكن الذي يجب أن تجيب عنه هو: بم ترجح عندك أن الخبر مكذوب كله؟ أهو غير معقول؟ أم هو مخالف لطبائع التعليم؟..." ومن ذلك أيضًا أن الدكتور طه قال: "وعلى هذا النحو تستطيع أن تحمل كل ما تجد من هذه الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلى الجاهليين والتي يظهر بينها وبين ما في القرآن والحديث من شبه قوي أو ضعيف". فعقب عليه الناقد بقوله(99): "من شاء أن ينظر إلى قاعدة تمتد إلى غير نهاية، ولا تتصل بما يمسكها أن تزول إلا إرادة هذا المؤلف، فلينظر إلى هذه الفقرة التي تمثل قلمًا يشتهي أن يكتب فينتكس ويرمي بالحديث في غير قياس. كل شعر أو خبر أو حديث يضاف إلى الجاهليين ويكون بينه وبين آية من القرآن شبه قوي أو ضعيف فهو مصنوع! أليس من الجائز أن ينطق العرب بحكمة فيأتي القرآن بهذه الحكمة على وجه أبلغ وأرقى؟ أمن الحق أن ننكر أن العرب قالوا مثلًا: القتل أنفى للقتل، لمجرد شبهه بقول القرآن {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}. أوَمن الحق أن ننكر أن زهيرًا قال:

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم

لأن له شبهًا قويًّا أو ضعيفًا بقول القرآن: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}.

ومما يتصل بهذا أنه ينص على النتائج من غير ذكر للمقدمات، فهو مثلًا يعقد فصلًا كاملًا عن "الشعوبية ونحل الشعر"، ولكنه "لم يأت برواية تدل على أن بعض الشعوبية انتحل "نحل" شعرًا جاهليًّا(100)". و"قال المؤلف عن الشعوبية ما شاء أن يقول، واغترف من كتاب الأغاني قصصًا عن أبي العباس الأعمى وإسماعيل بن يسار، وقصارى ما تدل عليه هذه القصص أن الأول كان يهجو آل الزبير، وأن الثاني كان يبغض آل مروان، وله شعر يفخر فيه بالأعاجم، وزعم أنه وصل بهذا إلى ما كان يريده من تأثير الشعوبية في انتحال "نحل" الشعر، ولكنه لم يستطع أن يضرب لك مثلًا يريك كيف انتحلت "نحلت" الشعوبية شعرًا جاهليًّا، فضاق بمنهج ديكارت ذرعًا...(101)" وكذلك الفصل الذي عقده عن "السياسة ونحل الشعر"، فقد تحدث فيه عن الأنصار وقريش والخصومات بينهم، فعقب عليه ناقده بقوله(102): "كل ذلك مفهوم مفروغ منه، وليس فيه من جديد. أما الجديد الذي فاجأ به القراء فهو قوله بعد ذكر هذه العصبية: "يستطيع الكاتب في تاريخ الأدب أن يضع سفرًا مستقلًّا فيما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام وفي الشعر الذي انتحله الفريقان على شعرائهما في الجاهلية".

مع أن مقدمته الطويلة لم يوجد بها كلمة واحدة نتصل بأن فريقًا من الفريقين اختلق شعرًا ونسبه إلى شعرائه في الجاهلية، وإنما الأحاديث كلها في الشعراء الذين كانوا في أول العهد الإسلامي يتقارضون الشعر، وفي العهد الذي يلي ذلك".

4- ومن جملة ما أخذوه به التناقض الذي وقع فيه. فهو يقول: "وهذا البحث ينتهي بنا إلى أن أكثر هذا الشعر الذي يضاف لأمرئ القيس ليس من امرئ القيس في شيء، وإنما هو محمول عليه ومختلق عليه اختلاقًا". فيعقب ناقده بقوله(103) "ذهب المؤلف في بعض الصحف من كتابه إلى أن هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون له ومقتضى تمسكه بأن امرأ القيس يمني مولدًا ونشأةً، وأن لغة قحطان نازلة من لغة عدنان منزلة اللغات غير العربية. أن يكون جميع هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس منحولًا، فإنا لم نجد شيئًا منه على غير اللغة التي ينظم فيها شعراء نجد والحجاز. ولكن المؤلف يقول في هذه الصفحة: إن البحث ينتهي به إلى أن أكثر هذا الشعر ليس من امرئ القيس في شيء ومعنى هذا أن في الشعر المضاف إلى امرئ القيس شعرًا هو منه في شيء. وأظن أن المؤلف سيجد كثيرًا من المشقة والعناء ليحل هذه المشكلة.." وقال الدكتور طه أيضًا: "ولا سيما إذا صحت النظرية التي أشرنا إليها آنفًا وهي نظرية العزلة العربية. وثبت أن العرب كانوا متقاطعين متنابذين، وأنه لم يكن بينهم من أسباب المواصلات المادية والمعنوية ما يمكن من توحيد اللهجة". فتعقبه الناقد بقوله(104): "أتدري ما هي نظرية العزلة التي أشار إليها آنفًا؟ هي تلك النظرية التي رماها على أكتاف "الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في درس الحياة العربية قبل الإسلام"، وشن عليها الغارة بنكير لا هوادة فيه... أنكر المؤلف نظرية

العزلة العربية حين رآها تعترض ما أراده من أن للجاهليين اتصالًا بالعالم الخارجي وود في هذا الفصل أن تستقيم له لأنها تؤيد نظرية عدم التقارب بين لغات القبائل العربية". وقال الدكتور طه أيضًا إنه يستثني من النحل قصيدتين لعلقمة مع شيء من التحفظ ثم يقول: "وصحة هاتين القصيدتين لا تمس رأينا في الشعر الجاهلي" فيعقب عليه ناقده بقوله(105): "ولعله نسي -وأمثاله لا ينسون كثيرًا- ما كتبه تحت عنوان الشعر الجاهلي واللهجات حين قال "ومن المعقول جدًّا أن تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها ومذهبها في الكلام، وأن يظهر اختلاف اللغات وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل الذي قيل قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة ولهجات متقاربة". ومن المعروف أن علقمة من بني تميم، والقصيدتان اللتان استثناهما ورضي بقبولهما لا تخرجان عن هذه اللغة الأدبية التي يسميها لغة قريش، فقبوله لهاتين القصيدتين ينقض أساس ذلك الفصل...".

ومن ذلك أيضًا قول الناقد إن الدكتور طه قد(106) "نبهه النقد منذ أكثر من عام إلى أن ثبوت اختلاف لغة الجنوب عن لغة الشمال، لو ثبت أنهما كانتا مختلفتين في العصر الجاهلي القريب، لا يصلح دليلًا على أن أدب يمانية الشمال موضوع؛ لأن قبائل اليمن في الشمال كانت هاجرت من الجنوب إلى الشمال منذ أمد بعيد، فلم يكن هناك بد لمن نشأ في الشمال من ذرياتها أن ينشأ على لغة الشمال، ويتخذها لغة أدب ولغة خطاب، فجاء صاحب الكتاب هذا العام يجيب على هذا بلهجة المستوثق مما يقول، فهل تدري بماذا أجاب؟ أجاب بأن هجرة فريق من عرب اليمن إلى الشمال غير ثابتة! وأن صحة يمانية من انتسب إلى اليمن من قبائل الشمال غير ثابتة! وإذن يسقط ذلك الاعتراض! إن من المؤلم حقًّا أن يلج الأستاذ في المماراة إلى هذا الحد. فلا يدرك أن جوابه هذا مسقط كل ما قال، وأنه إذا صح أن التاريخ القديم والتاريخ الحديث أجمعا على خطأ فلم تكن هجرة، ولم يكن في الشمال يمانيون لم يكن هناك أدنى شبهة لغوية يمكن أن يعترض بها على صحة كلام مثل امرئ القيس؛ إذ يصير امرؤ القيس ومن معه بذلك مضريين، ويصير من السخف أن يقال بعد ذلك إن كلامهم وشعرهم منحول لأن لغته ليست لغة نقوش حميرية اكتشفت في الجنوب، حتى ولو كانت لغة النقوش تمثل لغة اليمن في عصر امرئ القيس لكن صاحب الكتاب يدافع عن باطل...".

وحسبنا ما قدمنا من أمثلة التناقض، وتجد طائفة أخرى منها اكتفينا بالإشارة إلى أرقام صفحات الكتب التي تشير إليها في الهامش(107).

5- وأمر آخر يتصل بمجافاة الطريقة العلمية، وهو إيراد النصوص على وجه يختلف عما كانت عليه في حقيقتها، والاستدلال بها على ما لا تدل عليه في أصلها لو أوردت كاملة. ومن أمثلة ذلك أن الدكتور طه يقول: "فأما خلف فكلام الناس في كذبه كثير، وابن سلام ينبئنا بأنه كان أفرس الناس ببيت شعر..." فالدكتور طه يريد أن يتخذ من كلام ابن سلام حجة على كذب خلف، ويريد أن يوجه قوله "أفرس الناس ببيت شعر" توجيهًا يوحي بأنه لتمكنه وقدرته ومهارته كان قادرًا على نحل الشعر ووضعه. ولكن ابن سلام لم يرد إلى هذا بل أراد نقيضه! ونصه بكامله هو: "أجمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر، وأصدقه لسانًا، كنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبرًا أو أنشدنا شعرًا ألا نسمعه من صاحبه. وأي توثيق لخلف أوثق من هذا؟(108). ومن ذلك أيضًا أن الدكتور يذكر أن أبا عمرو بن العلاء قال: "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا" ولكن نص ابن سلام هو "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا" فحذف الدكتور قوله "وأقاصي اليمن"، ثم غير قوله "ولا عربيتهم بعربيتنا" فجعله "ولا لغتهم بلغتنا" والفرق بين ما أورد الدكتور وبين النص الحقيقي فرق كبير له دلالته التي بينها ناقده(109).

ومن ذلك أيضًا أن الدكتور طه يورد شعرًا ثم يقول عنه: "والعجب أن أصحاب الرواية مقتنعون بأن هذا الكلام من شعر الجن، وهم يتحدثون في شيء من الإنكار والسخرية بأن الناس قد أضافوا هذا الشعر إلى الشماخ بن ضرار". وقد أورد أحد ناقديه الروايات التي ذكرت هذا الشعر(110)، فلم يكن فيها إنكار ولا سخرية، بل نسبته كلها إلى الشماخ أو إلى أخيه مزرد، ما عدا خبرًا واحدًا ذكر أن عائشة حينما سمعت الشعر قالت: "فكنا نتحدث أنه من الجن...". وفي آخر الخبر نفسه أن عائشة سألت: من صاحب هذه الأبيات؟ فقالوا مزرد بن ضرار، ولكن مزردًا بعد ذلك أنكر أنها له! والدكتور طه يكتفي أحيانًا بذكر رواية واحدة من روايات متعددة، فقد أورد قصة فيها نحل الشعر، وفيها تجريح لأحد رواته، فعقب عليه ناقده بذكر روايات أخرى تنقضها(111)، ثم يقول: "أفلا ترى بعد ذلك أن الدكتور اتبع الهوى، فبادر إلى تصديق حكاية سخيفة من غير أن يؤيدها ما يقويها، وذكرها وحدها دون أن يذكر الروايات الأخرى إرادة أن يخدع عقول القراء، فيفهموا أن هذه هي الرواية، فيتبعوه فيما يريد أن يثبته من تجريح الناس وإشاعة السوء فيهم؟ ألا يدعونا ذلك إلى القول بأنه متعصب لرأي معين يصطاد له من الأقوال ما يؤيده، تاركًا التحقيق العلمي الذي يوصل إلى الحق أينما كان؟".

6- ومما أخذه ناقدوه أيضًا أن الدكتور طه "أغار على كتب عربية وأخرى غربية فالتقط منها آراء وأقوالًا، نظمها في خيط من الشك والتخيل(112)".

"وأن مؤلف الشعر الجاهلي على الرغم من تعظيمه قدر بحثه بوصفه بالحداثة والطرافة والابتداع فإنه لم يبرز فكرة جديدة لامعة، بل لم يُعن بالبحث عناية الذين ألموا به من القدماء والمحدثين، بل أخذ بعض أفكارهم وابتكاراتهم ولم يعرها رونقًا ولا جزالة، وجرد من نظريتهم رسالة"(113). وقد سعى بعض ناقديه إلى الكشف عما أخذه الدكتور من مرجوليوث خاصة، فوجوده شيئًا كثيرًا(114)؛ حتى لقد ذهب بعضهم إلى أن الدكتور طه(115) "أغار على نظرية الشك في الشعر الجاهلي، ولم يفترق عن مرجوليوث إلا في تسليمه بأن هناك شعرًا جاهليًّا، فأخذ أصل النظرية وأقوى الشبه التي استند إليها مرجوليوث، وجعل يقول لك: إنني شككت في الشعر الجاهلي، ويداعبك بقوله: ألححت في الشك أو قل ألح عليَّ الشك؛ والحديث في صدق وأمانة خير من هذه المداعبة". وقال ناقد آخر(116): "لقد كتب صاحب الكتاب بحثه ليثبت دعوى جديدة ينسبها هو لنفسه وتنتسب في الحقيقة لمرجوليوث". ولا سبيل إلى الإطالة بإيراد ما ذكروه، ولا بعضه، فقد بسطنا رأي مرجليوس وبسطنا رأي الدكتور طه حسين، ثم أشرنا في هامش هذه الصفحة إلى المواطن التي ذكر فيها الناقدون ما رأوا أن الدكتور أخذه من مرجوليوث؛ ومن كل ذلك نستطيع أن نستبين أثر مرجوليوث في كتاب الدكتور طه حسين وخاصة في نقطتين أساسيتين لعلهما عماد بحث الدكتور، هما: الدليل الديني، والدليل اللغوي!

نقد الأدلة:

وبعد أن عرضنا، في إيجاز شديد، ما أخذه الناقدون على منهج الدكتور وطريقته، نعرض في إيجاز، لعله أشد من سابقه، ما نقدوا به أدلته وحججه.

1- فقد ذكر الدكتور طه، كما مر بنا، أن الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا لا يمثل الحياة الدينية في الجاهلية، وأن القرآن، وهو عنده مرآة الحياة الجاهلية، يمثل العرب في الجاهلية أمة متدينة قوية التدين. فرد عليه السيد محمد الخضر حسين، وبين أن "هذه الشبهة مما استلبه المؤلف من مقال مرجوليوث"(117).

ثم أورد ما جاء في مقال مرجوليوث وما جاء في كتاب الدكتور طه ليظهر ما بينهما من تشابه، وبعد أن عرض لرد إدورد براونلش على مرجوليوث، قال(118):

"وخلاصة الجواب أن معظم شعر العرب كان في الفخر والحماسة وأن المسلمين صرفوا عنايتهم عن رواية الشعر الذي يمثل دينًا غير الإسلام ولا سيما دين اللات والعزى، وعلى الرغم من هذا كله وصلت إلينا بقية من الشعر الذي يحمل شيئًا من الروح الديني، تجده في كتاب الأصنام لابن الكلبي وغيره". وأما الأستاذ محمد لطفي جمعة فقد وجد أن خير رد على الدكتور طه أن يجمع بعض الشعر الجاهلي الذي يشير إلى الحياة الدينية في الجاهلية، فجمع طرفًا منه، لشعراء متعددين(119)، ثم قال(120): "من العجيب أن المؤلف يدعي أن الشعر الجاهلي كله عجز عن تصوير الحياة الدينية، وهو لم يتقدم إلينا بدليل ولم يستقرئ دواوين الشعر الجاهلي". وأما الأستاذ الغمراوي فينكر أن القرآن يصور العرب في الجاهلية أمة متدينة قوية التدين، ويرى أن هذا "لا ينطبق إلا على أهل مكة والمدينة ومن حولهما، ولا ينطبق على من حولهما مثل ما ينطبق عليهما. ومكة والمدينة وما حولهما ليست هي كل بلاد العرب، وأهل مكة والمدينة ومن جاورهم لم يكونوا جملة العرب ولا جمهرتهم، فمن الخطأ الواضح إذن أن يجعل الدكتور ما ينطبق عليهم ينطبق على جميع العرب، وأن يستند في ذلك على القرآن(121)".

2- وذكر الدكتور طه أيضًا أن الشعر الجاهلي لا يمثل الحياة العقلية في الجاهلية، ومضى يصف هذه الحياة العقلية كما رآها في القرآن الكريم، فالقرآن الكريم يمثل حياة عقلية قوية، يمثل قدرة على الجدال والخصام أنفق القرآن في جهادها حظًّا عظيمًا... أفتظن قومًا يجادلون في هذه الأشياء جدالًا يصفه القرآن بالقوة ويشهد لأصحابه بالمهارة، أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة بحيث يمثلهم لنا هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين...".

وقد رد عليه السيد محمد الخضر حسين بقوله(122): "في الشعر الجاهلي معانٍ سامية وحكمة صادقة، ومن يقرؤه خالي الذهن من كل ما قيل فيه يقضي العجب من ذكاء منشئيه وسعة خيالهم، وإقصائهم النظر في تأليف المعاني والتصرف في فنون الكلام..." وأما الأستاذ الغمراوي فينكر أيضًا أن يكون القرآن يمثل العرب في الجاهلية أمة مستنيرة لها حياة عقلية قوية، وبعد أن يتحدث في ذلك يقول(123) "فأما الحظ الذي أنفقه القرآن في الجهاد بالحجة فعظيم، لكن عظمة لم يكن ناشئًا عن عظم قدرة على الجدال كانت عند المجادلين، ولا عن حسن بصرهم بمواطن الحجة، بل كان ناشئًا عن عظم رسوخ ما كان يجاهده القرآن فيهم من اعتقادات وعادات تأصلت فيهم على مر القرون، فالقرآن أنفق ذلك الحظ العظيم في جهاد العادة لا في جهاد مقدرة على المخاصمة... وإنك لو استقريت مواقف المحاجة التي وردت في القرآن لا تكاد تجد فيها موقفًا قابل المجادلون الحجة فيه بالحجة وقارعوا الدليل بالدليل..." ويرى أيضًا أن الدكتور طه "استشهد على ما يريد بآيتين اثنتين ليس فيهما شاهد على ما يريد، وأنه قد ترك كثيرًا من الآيات التي تنقض معناه الذي أراد...(124)".

3- وذكر الدكتور طه أيضًا أن الشعر الجاهلي يمثل العرب أمة معتزلة

تعيش في صحرائها، لا تعرف العالم الخارجي، ولا يعرفها العالم الخارجي، أما القرآن فيصف عناية العرب بسياسة الفرس والروم وصلاتهم بغيرهم من الأمم. وقد رد عليه السيد محمد الخضر حسين بقوله(125): "وهل يصدق أحد أن من يدرسون الشعر الجاهلي يتصورون العرب أمة معتزلة في صحراء..." ثم يورد شعرًا جاهليًّا فيه دلالات على معرفة العرب بالأمم المجاورة وعلى صلاتهم بهم. أما الأستاذ الغمراوي فقد ذكر أن الدكتور طه "لم يستشهد على ذلك إلا بآيتين اثنتين جرى في تأويلهما على ذلك النحو الذي رأيت..."(126) بل إنه يرى أنه ليس في إحدى الآيتين "المعنى الذي أراد ولا ظله". وقد عجب من أن الدكتور يذهب إلى "أن الأدب الجاهلي على ما هو عليه الآن لا يبين صلة العرب بالعالم الخارجي، وأن القرآن وحده هو الذي يبينها"(127)، مع أنه لم يستقرئ الأدب الجاهلي ولم يوازن بين ما فيه وما في القرآن.

4- وذكر الدكتور أيضًا أن الشعر الجاهلي لا يمثل الحياة الاقتصادية الخارجية والداخلية لعرب الجاهلية، وأن في القرآن وصفًا لهما يصورهما فيه. وقد رد عليه السيد محمد الحضر حسين بأنه استشهد على الحياة الاقتصادية الخارجية بآية واحدة ليس فيها إلا إشارة موجزة، وأن في الشعر الجاهلي تفصيلًا لهذه الإشارة(128).

وأورد الأستاذ محمد لطفي جمعة من الشعر الجاهلي ما يرى فيه تصويرًا لحياة العرب الاقتصادية الداخلية في الجاهلية(129). أما الأستاذ الغمراوي فيرى أن "الحق أن الأدب الجاهلي لم يخل من هذا. والعجب أن يجهل أستاذ الأدب العربي شيئًا مثل هذا، فلو أنه قرأ القليل المكتوب عن ابن الزبعري في طبقات ابن سلام لوجد فيه ما لا يقل في دلالته الاقتصادية عن آية لإيلاف قريش(130)... هذا موضع واحد من الأدب الجاهلي. ولسنا نشك في وجود مواضع أخرى تدل على ما كان هنالك في الجاهلية من اتصال تجاري محدود بين أطراف جزيرة العرب ووسطها(131)... وكما لم يُلم صاحب الكتاب بمواطن الأدب الجاهلي التي تدل على الحياة الاقتصادية الخارجية كما يحب أن يسميها، كذلك لم يلم بمواطن الأدب الجاهلي التي تدل على ما يسميه الحياة الاقتصادية الداخلية.. وكما تكلف واستنتج الحياة الخارجية كلها من آية واحدة في القرآن، فقد تكلف واستنتج الحياة الاقتصادية الداخلية من تحريم القرآن الربا وفرضه الصدقات(132).

أما عن زعمه أن الأدب الجاهلي كله لم يذكر الربا فنحن على ثقة من أنه هنا أيضًا لم يستعرض الأدب الجاهلي كله فيحكم عليه من هذه الناحية حكمًا مبنيًّا على الواقع. ومع ذلك فمثل هذه النواحي إذا ذكرت في الأدب لا تذكر إلا عرضًا؛ لأن التجارة وما اتصل بها من ربًا أو غيره ليست من الأمور التي تسمو حتى تصير في متناول الشعر والنثر الأدبي في عصرنا هذا فضلًا عن العصر الجاهلي(133).

فإذا كان الأدب الجاهلي قد خلا حقًّا من ذكر الربا فلن يكون في ذلك دليل على أن الأدب الجاهلي موضوع (134)...".

5- الدليل اللغوي: وقد أفاض الناقدون في نقد هذا الدليل ونقضه، وذلك لأنه، لو صح، لكان أقوى الحجج التي ساقها المؤلف وأدلها على ما يريد أن يصل إليه. فالسيد محمد الخضر حسين يرى أن الدكتور طه قد أخذ هذا الدليل من مرجوليوث، فأورد بعض كلام الدكتور وما يقابله من كلام مرجوليوث في مقالته التي بسطنا فيها القول. وليس من سبيل إلى ذكر جميع ما رد به السيد محمد الخضر حسين، فقد فصل القول في رده تفضيلًا(135)، وحسبنا أن نشير إلى بعضه، قال(136) "وأخذ المؤلف يذكر الشاهد الأقوى على اصطناع الشعر الجاهلي، وهو أن اللغة القحطانية غير اللغة العدنانية، والشعر المنسوب إلى بعض شعراء اليمن لا يختلف عن شعر العدنانية، وهذا مما استشهد به مرجوليوث قبله... لا ننازع فيما دلت عليه الآثار المخطوطة من أن اللغة القحطانية كانت كلغة أجنبية عن العدنانية، كما أن مرجوليوث والمؤلف لا ينازعان في أن اللغتين اشتد الاتصال بينهما بعد ظهور الإسلام وأصبحتا كلغة واحدة. والذي نراه قابلًا لأن يكون موضع جدال بيننا وبين مرجوليوث والمؤلف هو حال الاختلاف بين اللغتين في عهد يتقدم ظهور الإسلام بعشرات من السنين، فنحن لا نرى ما يقف أمامنا إذا قلنا: إن الاختلاف بين اللغتين قد خف لذلك العهد وزال منه جانب من الفوارق ولم تبق القحطانية من العدنانية بمكان بعيد. والذي جعل اعتقادنا يدنو من هذه النظرية... أن قبول اللغة القحطانية لأن تتحد مع اللغة العدنانية بعد ظهور الإسلام لا يكون إلا عن تقارب وتشابه هيئتهما لأن يكونا لغة واحدة، فإن انقلاب لغة إلى أخرى تخالفها في مفرداتها وقواعد نحوها وصرفها ليس بالأمر الميسور حتى يمكن حصوله في عشرات قليلة من السنين". ثم يرى أن العثور على نقوش باللغة الحميرية يرجع تاريخها إلى المائة الخامسة والسادسة للميلاد لا ينقض هذا الرأي، وذلك لأن التقارب بين اللغتين لم تبدأ به القبائل القحطانية والعدنانية في وقت واحد "بل سبقت إليه القبائل المجاورة للعدنانية ثم أخذ يتدرج فيما وراءها من القبائل... فالوقوف على أثر مخطوط قبل الإسلام بنحو مائة سنة أو ما دونها إنما يدل على أن سكان الناحية التي انطوت على هذا الأثر لم يزالوا على لسان حمير القديم، وهذا لا ينفي أن يكون غيرها من القبائل القحطانية قد ارتاضت ألسنتهم بلغة تشبه اللغة العدنانية.

ومن الممكن القريب أيضًا أن يكون أهل المكان الذي عثر فيه على هذه المخطوطات الأثرية ينطقون باللغة القريبة من اللغة العدنانية، ولكنهم استمروا في الكتابة على لغتهم التي كانت اللسان الرسمي لسياستهم أو ديانتهم، وقد حكى التاريخ لهذا الوجه نظائر..."(137)، وبعد أن يسرد هذه النظائر يستدل على تقارب اللغتين بما يُروَى في السيرة من خطب الوافدين من أهل اليمن على الرسول صلى الله عليه وسلم، "ولو كانت اللغتان مختلفتين في المفردات وقواعد النحو والصرف لم يسهل على العدناني أو القحطاني فهم لغة الآخر إلا أن يأخذها بتعلم أو مخالطة غير قليلة"(138). ثم يتطرق إلى عبارة أبي عمرو بن العلاء التي أوردها الدكتور طه، وأصلها "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا"، فقال إن الدكتور مسَّ هذه العبارة "بالتحريف مسًّا رفيقًا" و"حوَّل قوله: ولا عربيتهم بعربيتنا، إلى قوله: وما لغتهم بلغتنا، لقصد المبالغة في الفصل بين اللغتين وليصرف ذهن القارئ عن أن يفهم من قول أبي عمرو: ولا عربيتهم بعربيتنا، أن تلك اللغة عربية وإنما تختلف عن العدنانية اختلافًا يسوغ له أن يقول: وما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا. ومس المؤلف عبارة أبي عمرو بالتحريف مرة أخرى، فقد حذف قوله: وأقاصي اليمن، حتى لا يأخذ منها القراء أن لغة غير الأقاصي، وهي القبائل المجاورة للقبائل المضرية، ليس بين عربيتها وعربية مضر هذا الاختلاف(139)". "هذا شأن الاختلاف بين اللغتين أما تشابه الشعر القحطاني والعدناني فله سبيل غير هذا السبيل، والرأي الذي يوافق إجماع الروايات ويؤيده النظر ولا يعترضه البحث الحديث أن الشعراء في جنوب الجزيرة وشمالها أصبحوا من قبل الإسلام ينظمون الشعر بلهجة واحدة أو متقاربة"(140).

ثم يمضي في بيان رأيه هذا وتفصيله. ثم يرد على هذا الدليل من جانب آخر، قال(141): "ومما يتعذر قبوله أيضًا أن يضع غير اليمانيين أشعارًا في لهجة قرشية ويعزوها إلى القدماء من شعراء اليمن دون أن يجدوا من اليمنيين أو ممن يعرف لهجة شعراء اليمنيين من ينكر صنيعهم، ويناضلهم بحجة أن هذا الشعر غير منطبق على لهجة أولئك الشعراء".

ثم رد عليه حديثه على أن لهجات القبائل العدنانية نفسها، وهي مختلفة، غير ظاهرة في هذا الشعر الجاهلي، فقال(142): "هذه الشبهة علقت بذهن المؤلف فيما علق من مقال مرجوليوث، وهي مطرودة بنظرية وجود لغة أدبية يحتذيها الشعراء على اختلاف قبائلهم منذ عهد الجاهلية".

وأما الأستاذ محمد لطفي جمعة فيقول(143): "اعتمد المؤلف على أقوال الرواة ثم يؤكد لنا أن الرواة يضيفون شيئًا كثيرًا من الشعر الجاهلي إلى قوم ينتسبون إلى عرب اليمن... ويؤيد مخالفة اللغة القحطانية للغة العرب برواية أحد الرواة وهو أبو عمرو بن العلاء، فكأن الرواة الذين كانوا يعلمون اختلاف اللغتين من أقدم الأزمنة رووا، على الرغم من علمهم هذا، شعرًا كثيرًا بالعربية العدنانية وحملوه على شعراء اليمن... وهذا الكلام ظاهر البطلان، والتلفيق فيه لا يحتاج إلى برهان؛ لأن الراوية الذي يعرف اختلاف الأمتين واختلاف اللغتين إذا أراد الوضع والاختلاق لا يقع في مثل هذا الخطأ المفضوح سيما وأن المؤلف قال في ص120 عن حماد الراوية: أما حماد فرجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم فلا يزال يقول الشعر يشبه مذهب رجل ويدخله في شعره...

أفيعقل أن راوية كحماد العالم باللغات والمعاني والمذاهب يخطئ مثل هذا الخطأ؟" ثم يقول(144): "وكيف يثبت لنا المؤلف أن أبا عمرو بن العلاء أراد اختلاف اللغتين في زمن الجاهلية، وقد عجز المؤلف عن تحديد زمن هذا الاختلاف لعلمه بجواز تطبيق هذا القول على زمن الراوية أبي عمرو نفسه، فقد قصد بذلك أن اللهجة العربية الحميرية التي كانت شائعة في زمنه في بقايا حمير في بلاد اليمن تخالف اللهجة العربية الفصحى... وحينئذٍ يفلت هذا الدليل من يد مؤلف الشعر الجاهلي". وبعد أن يتحدث المؤلف عن "اللغة الأدبية" التي كان ينظم بها شعراء الجاهلية أورد أبياتًا من الشعر الجاهلي ما تزال تظهر فيها بقايا من اختلاف اللهجات العدنانية(145).

وأما الأستاذ الشيخ الخضري فبعد أن تحدث عن هذا الموضوع وأورد أدلة الدكتور وأشار إلى تحريفه في النص الذي ذكره أبو عمرو بن العلاء، قال(146): "وأكثر الشعر اليماني إنما هو لشعراء من سبأ كانوا بالشمال، إما بالمدينة وإما بالعراق، وإما بالصحراء الشمالية وإما بالشام، أو لعرب عدنانيين... فالأستاذ يرى بعد ذلك أنه إذا سلمت مقدمته بأنه كان هناك خلاف بين لغة حمير ولغة عدنان، فإن ذلك لا ينتج شيئًا؛ لأن العربية القديمة عربية حمير لم يؤثر شيء من شعرها، وابن سلام في الطبقات إنما ساق عبارة أبي عمرو في هذا الصدد وهو نفي أن يكون هناك شعر تصح نسبته إلى عاد وثمود.."، ثم يقول عن اختلاف اللهجات(147): "لا ندري كيف يظهر في الشعر تباين اللهجات؟ فإن اللهجة كما قدمنا إنما هي ما يرجع إلى الأداء، والشيء الواحد قد يؤدَّى بلهجات مختلفة، وهو هو في حركاته وسكناته، كما اختلف الأداء في القرآن نفسه، والقرآن هو هو". "لا ندري كيف يكون اختلاف اللهجات مؤثرًا في الشعر، في أوزانه وتقاطيعه وبحوره وقوافيه بوجه عام؟... لا أفهم تأثير الإمالة والتفخيم في بحر الشعر وقافيته. فإن مفخم الألف ينشد "قفا نبك في ذكرى حبيب ومنزل" بألف مفخمة كما ينشدها المميل بألف ممالة، فلا يتغير في البيت حركة ولا سكون، وهما اللذان تُبنى عليها تفاعيل الشعر. وكما لا يتغير شيء من ذلك بالإمالة والتفخيم لا يتغير بالإدغام والإظهار...(148)".

وأما الأستاذ الغمراوي فيتحدث عن هذا الموضوع في صفحات متفرقة من كتابه(149)، وقد عرض لذكر بعض ما قدمناه ثم قال(150): إن الدكتور طه قد "نبهه النقد منذ أكثر من عام إلى أن ثبوت اختلاف لغة الجنوب عن لغة الشمال، لو ثبت أنهما كانتا مختلفتين في العصر الجاهلي القريب، لا يصلح دليلًا على أن أدب يمانية الشمال موضوع لأن قبائل اليمن في الشمال كانت هاجرت من الجنوب إلى الشمال منذ أمد بعيد فلم يكن هناك بد لمن نشأ في الشمال من ذرياتها أن ينشأ على لغة الشمال ويتخذها لغة أدب ولغة خطاب. فجاء صاحب الكتاب هذا العام يجيب على هذا بلهجة المستوثق مما يقول فهل تدري بماذا أجاب؟ أجاب بأن هجرة فريق من عرب اليمن إلى الشمال غير ثابتة! وأن صحة يمانية من انتسب إلى اليمن من قبائل الشمال غير ثابتة! وإذن يسقط ذلك الاعتراض! إن من المؤلم حقًّا أن يلج الأستاذ في المماراة إلى هذا الحد، وينزل به اللجاج إلى هذا الدرك، فلا يدرك أن جوابه هذا مسقط كل ما قال، وأنه إذا صح أن التاريخ القديم والتاريخ الحديث أجمعا على خطإ، فلم تكن هجرة ولم يكن في الشمال يمانيون، لم يكن هناك أدنى شبهة لغوية يمكن أن يُعترض بها على صحة كلام مثل امرئ القيس. إذ يصير امرؤ القيس ومن معه بذلك مضربين،

ويصير من السخف أن يقال بعد ذلك إن كلامهم وشعرهم منحول لأن لغتهم ليست لغة نقوش حميرية اكتشفت في الجنوب...".

ويتحدث الأستاذ الغمراوي حديثًا مفصلًا عن اللهجات جاء فيه أن الدكتور طه حسين ذكر في الطبعة الثانية من كتابه "أن اللغة الفصحى الموجودة في القرآن والحديث لغة قريش، فإذا اعترض القارئ بأن هذه اللغة قد كانت تُفهم في غير قريش في قبائل الحجاز ونجد، كقيس وتميم المضريتين، والأوس والخزرج اليمنيتين، وقبائل اليهود في شمال الحجاز، كان جواب صاحب الكتاب أنك قد عرفت رأيه "في النسب وانتماء هذه القبائل إلى اليمن أو إلى مضر"! يشير إلى رأيه الذي أورده في فصل الأدب الجاهلي واللغة. وغفل هنا كما غفل هناك عن أن إنكاره نسبة تلك القبائل إلى غير قريش يدخلها في قريش ويذهب باعتراضه على الشعر الجاهلي العدناني من طريق اللهجة كما ذهب هناك باعتراضه على الشعر الجاهلي القحطاني من طريق اللغة"(151).

نقد أسباب النحل:

وننتقل بعد ذلك إلى عرض آراء النقاد فيما ذكره الدكتور طه حسين من أسباب نحل الشعر الجاهلي، وقد جعلها الدكتور، كما مر بنا خمسة: السياسة، والدين، والقصص، والشعوبية، والرواة.

1- السياسة ونحل الشعر: أجمع النقاد على أن الدكتور طه لم يورد شيئًا من الشعر الجاهلي الذي دعت السياسة إلى نحله، مع أن فصله معقود لهذا، ومع أنه أطنب في الحديث عن المقدمات الظنية والفروض المتخيلة، ولكنه لم ينته بها إلى النهاية التي يدل عليها عنوان الفصل. قال السيد محمد الخضر حسين(152) "عقد المؤلف الفصل في نحو عشرين صحيفة قضاها في الحديث عن أمر كتب فيه القدماء والمحدثون، وهو شأن العصبية في صدر الإسلام وعهد الأمويين، وما كان من التهاجي بين بعض شعراء الأنصار وآخرين من قريش... ولم يستطع المؤلف أن يضرب في هذا الفصل الطويل مثلًا لشعر جاهلي اخترعته نزعة سياسية... ومن أراد أن يقرر أن من الشعر الجاهلي ما افتعل لغرض سياسي، ويضع لذلك عنوانًا يكتبه بأحرف ممتازة، فليأت ولو بمثل أو مثلين واضحين ويريح القارئ من أقوال لا تقع في عين الموضوع فضلًا عما فيها من صبغ بعض الوقائع بألوان لا تلائمها..." وقال الأستاذ محمد لطفي جمعة(153) "وقد سود المؤلف تسع صفحات في هذه المسألة وحدها "يقصد المهاجاة بين الأنصار وقريش" وعنوان "الفصل السياسة وانتحال الشعر" اسم فخم وعنوان ضخم، ولكن اللب منعدم والمقصد غامض... أين السياسة من بحثه وأين الشعر المنتحل ومن واضع الشعر المحمول؟" وقال أيضًا(154): "إلى هنا ولا نجد في هذا الفصل الطويل الذي عنونه المؤلف "السياسة وانتحال الشعر" يقصد بذلك الشعر الجاهلي- شيئًا خاصًا بانتحال ذلك الشعر الجاهلي..." وقال الشيخ محمد الحضري إن الدكتور طه قال: "يستطيع الكاتب في تاريخ الأدب أن يضع سفرًا مستقلًّا فيما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام وفي الشعر الذي انتحله الفريقان على شعرائهما في الجاهلية"، ثم عقب عليه بقوله(155): "مع أن مقدمته الطويلة لم يوجد بها كلمة واحدة تتصل بأن فريقًا من الفريقين اختلق شعرًا ونسبه إلى شعرائه في الجاهلية، إنما الأحاديث كلها في الشعراء الذين كانوا في أول العهد الإسلامي يتقارضون الشعر، وفي العهد الذي يلي ذلك". ويقول أيضًا(156): "وبعد ذلك كله ألم يكن من واجب المؤلف، وهو أستاذ كبير، أن يذكر لقراء كتابه بعض الشعر الذي وضعته قريش في الإسلام ونسبته إلى بعض شعرائهم في الجاهلية وكان الداعي إلى وضعه السياسة؟ إنما لم يذكر شيئًا من ذلك، وكل كلامه حول الشعر الذي قيل في العهد الإسلامي، وليس لهذا وضع الشيخ كتابه".

2- الدين ونحل الشعر: قال السيد محمد الخضر حسين(157): "ينكر المؤلف كل ما يُروَى من الشعر والأخبار الممهدة للبعثة النبوية، وإنكارها على هذا الوجه إنما تسمعه ممن ربط قلبه على نفي النبوة، إذ ليس من المحتمل عنده أن يقال فيها شعر أو يرد عنها خبر قبل أن يدعيها صاحبها. أما الذين يعتقدون بأن نبوة أفضل الخلق حق فمن الجائز عندهم أن يسبقها شعر أو خبر يتصل بها وشأنهم أن يفحصوا ما يرد في هذا الصدد ويضعوه بمنزلته من الوضع أو الضعف أو الصحة، وكذلك فعل علماء الإسلام فحكموا على جانب مما كان من هذا القبيل بالوضع، كالأخبار والأشعار المعزوة إلى قس بن ساعدة". ثم يعرض لما ذكره الدكتور طه من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن رواية شعر أمية، وأن هذا وحده كاف لأن يضيع هذا الشعر. فرد عليه بأن في الحديث الصحيح أن النبي استنشد رجلًا شعر أمية فظل ينشده حتى أنشد مائة بيت. وقال إنه لو صح أن النبي نهى عن شعره لكان هذا النهي مقصورًا على قصيدة أمية التي رثى بها قتلى قريش في وقعة بدر، "على أنا نجد هذه القصيدة التي يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن روايتها واردة في بعض كتب السير والمغازي، وقد رواها ابن هشام في نحو ثلاثين بيتًا..."(158) وقال الأستاذ محمد لطفي جمعة(159): "يريد مؤلف كتاب الشعر الجاهلي أن يخدع القارئ ويوهمه أن كل ما ورد في الأدب العربي من نثر وشعر عن الجن ووجودها وأخبارها إنما وضع بعد الإسلام وضعًا لتبرير سورة الجن التي جاءت في الكتاب المنزل على أفصح العرب... وأن كل ما نسب إلى العرب في أدبهم من هذه الناحية إنما اصطنع اصطناعًا مجاراةً للعقيدة التي اقتضتها هذه السورة القرآنية. والحقيقة أن عرب الجاهلية كانوا يعتقدون بالجن، ونظموا شعرًا جاهليًّا كثيرًا عن علاقة الجن بالشعر والشعراء، وذكرنا بعضه في ص52 من هذا الكتاب... ولم تكن أمة سامية أو آرية تخلو من الاعتقاد بالجن أو الأرواح الخيرة والشريرة". ثم تحدث عن شعر أمية بن أبي الصلت، ونفى أن المسلمين محوه أو حاربوه، وأورد شيئًا من شعره...(160)، وأما الشيخ الخضري، فيعرض لما تحدث به الدكتور طه من أمر الشعر الممهد للبعثة النبوية، فيقول الشيخ الخضري إن انتظار بعض علماء العرب وكهانهم وأحبار اليهود ورهبان النصارى لبعثة نبي عربي من المسائل التي ذكرها القرآن، "والمؤلف نفسه قال في الصحيفة الثامنة من كتابه: وأنا أزعم مع هذا كله أن العصر الجاهلي القريب من الإسلام لم يضع، وأنا نستطيع أن نتصوره تصورًا واضحًا قويًّا صحيحًا، ولكن بشرط ألا نعتمد على الشعر بل على القرآن من ناحية، والتاريخ والأساطير من ناحية أخرى..."(161)، وعرض بعد ذلك لقول الدكتور طه: "وفي سيرة ابن هشام وغيرها من كتب التاريخ والسير ضروب كثيرة من هذا النوع"، فقال الشيخ الخضري(162) "وهذا الكلام غير صحيح، فقد قرأنا هذه السيرة مرارًا، ولا سيما فيما يمهد لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم نجد بيتًا واحدًا في الموضوع الذي ذكره، وإنما الشعر الذي رأيناه في فصل عنوانه: أمر الأربعة المتفرقين عن عبادة الأوثان في طلب الأديان، وفي هذا الفصل قطع شعرية كلها في التوحيد وترك عبادة الأوثان". ثم قال(163): "ذكر الأستاذ بعد ذلك من منحول الشعر ما أورده المفسرون زاعمًا أنهم أوردوه لإثبات عربية القرآن! ثم غلا فقال: فحرصوا أن يستشهدوا على كل كلمة من كلمات القرآن بشيء من شعر العرب يثبت أن الكلمة عربية لا شك في عربيتها". فعقب على ذلك بقوله: "وهذه الجملة فيها غلو وفيها خطأ: أما الغلو ففي قوله إنهم استشهدوا على كل كلمة منه؛ بين أيدينا التفسيران الكبيران اللذان عُنيا بهذا الاستشهاد أتم عناية، وهما تفسير الإمام الكبير أبي جعفر الطبري وتفسير الكاتب العظيم أبي عمر الزمخشري، ومع ما فيهما من الشواهد الكثيرة فإن ادعاء الاستشهاد على كل كلمة لا يؤيده الواقع، إن شواهد الكشاف عددها 727 شاهدًا، وليس هذا عدد كلمات القرآن... وأما الخطأ ففي ظنه أن هذه الشواهد كلها جاهلية جيء بها لإثبات عربية القرآن! أكثر هذه الشواهد لشعراء إسلاميين، وقليل منها ما هو لشعراء جاهليين أو مجهولين... وليس الاستشهاد لإثبات عربية القرآن كما يزعم، وإنما هو لبيان مفهوم الكلمات التي يعدها الناس أحيانًا غريبة، على أن هذا المعنى قد يُلحظ أحيانًا، وهو أن القرآن ليس ببدع في اللغة، وإنما جاء بلغة العرب لم تشذ فيه كلمة عن مناهجهم".

3- القصص ونحل الشعر:

وقد ذهب هؤلاء النقاد إلى أن الدكتور لم يأت بشيء جديد لم يذكره القدماء، ولكنه زاد عليهم بأن عمم وأطلق أحكامًا كلية، قال السيد محمد الخضر حسين(164): "كتب المؤلف في القصص ولم يأت بجديد، وإنما مد يده إلى ما تحدث به الكتَّاب من قبله وسماه نظرية له، ثم انهال علينا بكليات عرضها ما بين اليمامة وحضرموت..." وقال الشيخ محمد الخضري (165): "قد ذكر المؤلف نفسه ما كان من نَقَدَة الآداب أمام هذا الشعر فقال: "وقد فطن العلماء إلى ما في هذا الشعر من تكلف حينًا ومن سخف وإسفاف حينًا آخر، وفطنوا إلى أن بعض هذا الشعر يستحيل أن يكون قد صدر عن الذين ينسب إليهم" وهذا هو الذي نريد أن نقوله، وهو أن النقاد في العصور الماضية لم يقصروا في تمييز طيب الشعر من خبيثه، وقد عبدوا الطريق لم يخلفهم حتى لا يزعجهم كذب كاذب، أو تلفيق ملفق، فيرفضون جميع ما روي من الشعر، كما فعل مؤلف الشعر الجاهلي، بل يتبعون سيرة أولئك الأسلاف في النقد الأدبي الذي أساسه الرواية والدراية...".

4- الشعوبية ونحل الشعر:

قال السيد محمد الخضر حسين إن الدكتور طه عقد فصلًا للشعوبية ونحل الشعر الجاهلي، ولكنه "لم يقم دليلًا على التلازم بينهما، بل لم يأت برواية تدل على أن بعض الشعوبية انتحل شعرًا جاهليًّا..."(166)، وقال أيضًا بعد أن ذكر أن الدكتور أورد قصصًا عن أبي العباس الأعمى وإسماعيل بن يسار "وزعم أنه وصل بهذا إلى ما كان يريده من تأثير الشعوبية في انتحال الشعر، ولكنه لم يستطع أن يضرب مثلًا يريك كيف انتحلت الشعوبية شعرًا جاهليًّا.."(167)، وكذلك قال الأستاذ محمد لطفي جمعة(168): "لا نجد في هذا الفصل ما يدل على انتحال الشعر الجاهلي"، وأما الشيخ محمد الخضري فذهب إلى أن حديث الدكتور في هذا الفصل عن الشعوبية ونحل الشعر الجاهلي قائم على الفرض والتخيل لا على الحقائق، وبعد أن رد عليه قال(169): "ومتى كان الأمر كذلك

ضعف مقدار هذا التخيل وسقط الفرض من أساسه".

5- الرواة ونحل الشعر:

أشار السيد محمد الخضر حسين إلى ما في حديث الدكتور في هذا الفصل -وفي غيره من الفصول- من تعميم ومبالغة، وذلك حين قال الدكتور إن الرواة "بين اثنتين: إما أن يكونوا من العرب، فهم متأثرون بما كان يتأثر به العرب، وإما أن يكونوا من الموالي فهم متأثرون بما كان يتأثر به الموالي..." وعقب عليه السيد محمد الخضر حسين بقوله(170): "ويريد من التأثير -بطبيعة السياق- الوجه الذي يحمل على صنع الشعر وعزوه إلى الجاهلية، ومعنى هذا نفي أن يكون لطائفة من الرواة خطة ثابتة وهي ألا يتأثروا بشيء من هذه الأسباب تأثرًا يستهينون معه أن بموبقة الافتراء على الناس كذبًا. وهذه المبالغة لا تأويل لها إلا أن المؤلف يحب أن يكون هذا الشعر الجاهلي منحولًا". ثم تعرض لما تعرض له الدكتور من ذكر حماد الراوية وخلف الأحمر، وقال إنهما ليسا "مرجع الرواية كلها ولا أن الطعن فيهما طعن في الرواية جميعًا"(171). ومع ذلك فقد ذكر بعض الروايات التي تطعن في حماد وخلف ونقدها وبيَّن ضعف بعضها. ثم ذكر أن الدكتور رمى أبا عمرو الشيباني بالكذب والوضع، مع أن أحدًا من القدماء لم يرمه بذلك حتى إن خصومه قد وثقوه، ولم يكتف الدكتور بذلك بل قال عنه: "وأكبر الظن أنه كان يأجر نفسه للقبائل يجمع لكل واحدة منها شعرًا يضيفه إلى شعرائها" فقال السيد محمد الخضر حسين إن إيجار عالم كأبي عمرو الشيباني لا يمكن أن يكون قد حدث من غير أن يتنبه له القدماء ويشيروا إليه(172)، وأن الدكتور لم يبنِ حكمه هذا إلا على الظن والتخيل.

أما الأستاذ محمد لطفي جمعة فقد رد عيه من وجه آخر وذلك قوله(173): "وإن كان بعض المتعاصرين والأنداد من الرواة طعن بعضهم في بعض، فليس في الطعن حجة أو دليل على صحة التهمة؛ لأن اتحاد الحرفة والمنافسة في الشهرة والمزاحمة على نيل الحظوة قد تدفع ببعض الرواة إلى الحسد والغيرة، لهذا قال الأقدمون "إن المعاصرة حجاب"، حتى إن رواة ثقات كالأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد كانوا يتطاعنون ويضعِّف كل منهم رواية صاحبه، ولكن المحققين ينزهونهم عن الكذب... فلا يجوز إذن أن نأخذ بما يقوله الرواة بعضهم في بعض، وقد عقد ابن جني فصلًا في كتابه "الخصائص" على ما يكون من قدح أكابر الأدباء بعضهم في بعض وتكذيب بعضهم بعضًا، كرواية المفضل الضبي في حق حماد، وهي لم تمحص ولم تنتقد وإن صح إسنادها فوليدة أحقاد معاصرة، فإن كلام الأقران بعضهم في بعض لا يقدح في العدالة، وهذا رأى علماء الحديث وجاراهم فيه أهل الأدب حتى قالوا: إن المعاصرة حجاب، كما قدمنا".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) تاريخ آداب العرب - الطبعة الثانية سنة 1940 من ص277 إلى ص434.

 (2) تاريخ آداب العرب: 365.

(3) المصدر السابق: 366.

(4) المصدر السابق: 366-367.

(5) المصدر السابق: 368.

(6) المصدر السابق: 369.

(7) المصدر السابق: 370.

(8) المصدر السابق: 373.

 (9) تاريخ آداب العرب: 375.

(10) المصدر السابق: 376.

(11) المصدر السابق: 379.

 (12) في الأدب الجاهلي: 71-72.

(13) المصدر السابق: 73.

 (14) في الأدب الجاهلي: 88.

 (15) ص80.

(16) ص81.

(17) ص82-83.

(18) ص83.

 (19) ص84.

(20) ص85.

 (21) ص87.

(22) ص88.

(23) ص89-90.

(24) ص98.

 (25) ص98.

(26) ص103-104.

 (27) ص120.

 (28) ص159.

(29) ص123.

(30) ص193.

(31) ص132.

(32) ص133.

(33) ص134.

(34) ص134.

(35) ص222-223.

(36) ص145-146.

(37) ص 147.

(38) ص147-148.

(39) ص149.

(40) ص150.

(41) ص153.

(42) ص153.

(43) ص154-155.

(44) ص157.

(45) ص162-163.

 (46) ص168-169.

(47) ص174.

(48) ص175.

(49) ص176.

(50) ص178.

(51) ص186.

(52) ص187.

 (53) ص188.

(54) ص191-192.

(55) ص216-218.

(56) ص221.

(57) ص225.

(58) ص225.

(59) ص226.

(60) ص227.

(61) ص232.

(62) ص232.

 (63) ص233.

(64) ص235.

(65) ص237.

(66) ص239-240.

(67) ص240.

(68) ص240-241.

(69) ص241.

(70) ص243-244.

(71) ص246.

(72) ص245.

(73) ص248-249.

(74) ص250.

(75) ص252.

(76) ص254-255.

(77) ص255.

(78) ص255-256.

(79) ص257.

(80) ص265.

(81) ص263.

(82) ص265.

(83) ص267.

(84) ص275-276.

(85) ص286.

(86) ص286. ألحظ أن الدكتور في ص295 يقول: "فنحن نشترط أن يكون لفظ زهير ومعناه ملائمين ملاءمة ظاهرة للحياة البدوية آخر العصر الجاهلي. ولا ينبغي أن يعترض بما قدمنا من أننا ننكر أن تكون اللغة الجاهلية المضرية قد دونت تدوينًا علميًّا صحيحًا، فنحن لا نغير رأينا في هذا، ولكننا مع ذلك نعرف هذه اللغة بوجه ما، بفضل القرآن والحديث، فنستطيع إذن أن نتصورها تصورًا ما، ونستطيع إذن أن نقول إن هذه الألفاظ ملائمة أو غير ملائمة للغة الجاهليين أيام النبي!!".

(87) ص287.

(88) ص291، ومع ذلك فقد رأينا فيما تقدم أنه شك في بعض الشعر لسهولة ألفاظه ويسرها وقرب فهمها!

 (89) ص296-297.

 (90) في الأدب الجاهلي: 74.

(91) محمد لطفي جمعة، الشهاب الراصد: 10-25.

(92) المصدر السابق: 20.

(93) محمد الخضر حسين، نقض كتاب في الشعر الجاهلي: 11.

(94) محمد فريد وجدي، نقد كتاب الشعر الجاهلي: 2.

(95) انظر مثلًا: الخضر حسين: 199-201، 271، 276 والخضري: 38-41.

(96) الغمراوي: 141-146.

(97) الخضري: 8.

(98) الخضري: 25.

(99) الخضر حسين: 212.

(100) الخضر حسين: 247.

(101) الخضر حسين: 248-249.

(102) الخضري: 32.

(103) الخضر حسين: 306.

(104) الخضر حسين: 99-100، وانظر أيضًا الغمراوي: 194.

 (105) الحضر حسين: 323.

(106) الغمراوي: 188.

 (107) انظر مثلًا: الخضر حسين: 19-20 و 263 و 315 و 346 و 352-356؛ والخضري: 84؛ والغمراوي: 200، 313.

(108) انظر لذلك الخضر حسين: 272.

(109) الغمراوي: 180.

(110) الخضري: 36-37.

(111) الخضري: 41.

(112) الخضر حسين: 3-4.

(113) محمد لطفي جمعة: 26.

(114) انظر الخضر حسين: 17، 18، 19، 20، 22، 47، 70، 100، 115، 174-177، 212-213، 269، 270، 271، 275، 361؛ والغمراوي: 100.

(115) الخضر حسين: 17-18.

(116) الغمراوي: 100.

 (117) ص47.

(118) ص48.

(119) الشهاب الراصد: 85-92.

(120) المصدر السابق: 90.

(121) ص147-148.

 (122) ص51.

(123) ص148.

(124) ص152.

 (125) ص57.

(126) ص152.

(127) ص153.

(128) ص62-63.

(129) ص76.

(130) ص154.

(131) ص155.

(132) ص156.

(133) ص157.

(134) ص158.

 (135) انظر ص70-75، 90، 91-94، 100، 103-104، 30-305، 361-362.

(136) ص70-71.

 (137) ص71-72.

(138) ص73.

(139) ص73-74.

 (140) ص92.

(141) ص94.

(142) ص100.

(143) ص136-137.

(144) ص139.

(145) ص154-157.

(146) ص10-11.

(147) ص15.

(148) ص18.

(149) ص162-163، 166، 170-171، 174، 188.

(150) ص188.

 (151) ص201.

(152) ص185.

 (153) ص184.

(154) ص193.

(155) ص32.

 (156) ص34.

(157) ص188.

(158) ص220.

 (159) ص212.

(160) ص226-230.

(161) ص34-35.

(162) ص35.

 (163) ص41-42.

(164) ص245.

 (165) ص53.

(166) ص247.

(167) ص249.

(168) ص248.

(169) ص54.

(170) ص264-265.

(171) ص267.

(172) ص274-275.

(173) ص271-272.

 

 

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.