أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-12-2019
6098
التاريخ: 23-03-2015
17097
التاريخ: 23-03-2015
21997
التاريخ: 5-12-2019
4069
|
الأدب الجاهلي أدب قديم، كان يلقى، وينشد، ويحفظ، ويروى عن طريق المشافهة، والروايات الشفهية، ولم يدون إلا بعد زمن طويل، كما مر الحديث عن ذلك بالتفصيل فيما سبق.
وكل أثر له قيمته وأهميته وتكتنفه مثل هذه الظروف، يكون عرضة للشك والاتهام، والقيل والقال، والظن، والطعن في أصله، ونسبه، وأصحابه، وصحته، وصدقه، وقيمته، وحجمه، ونقصه، والزيادة عليه، وما إلى ذلك مما قد يعرض لفكر الإنسان وعقله من شكوك وظنون حينما يتصدى لدرس أثر من الآثار لم ينل من وسائل المحافظة عليه والاحتياجات الدقيقة ما يكفل له البقاء سليمًا صحيحًا:
والأدب -في كل أمة من الأمم، وبخاصة ما فيه من نصوص رائعة- من الآثار الفنية الممتازة، التي تعتز بها الأمم وتفتخر، وتعتبرها دليل مجدها، وسجل مفاخرها، ومن ثم تعرضت الآداب القديمة في كل الأمم للشك والاتهام، ورمي كثير منها بالاختلاق والافتعال، فاتهم الأدب الجاهلي بالوضع والانتحال، وحدث مثل هذا للآداب القديمة الأخرى كالآداب اليونانية(1) والرومانية والإنجليزية، فقد رمي كل أثر من هذه الآثار القديمة الخالدة، بأنه ليس لأصحابه الذين يدعى أنه لهم، وأنه دخله كثير من التحريف والتزييف والادعاء، فليست الأمة العربية أول أمة رمي أدبها الجاهلي القديم بالوضع والانتحال، وإنما الأمم الأخرى رميت آدابها القديمة بمثل هذا الاتهام.
والأدب بعامة، والشعر منه بخاصة، كانت العرب في جاهليتها وإسلامها تكبره وتجله، وكانت له منزلة سامية في نفوسهم، وكانت القطع الرائعة فيه تحظى بالعناية والاحترام، وكان أصحابها يلقون منهم مهابة وإجلالًا، لذلك نتوقع أن تكون الروائع الأدبية محلًا للادعاء،يدعي أكثر من واحد أنها له، وكانت القبائل تعتز بما لها من نتاج أدبي، وتتيه على غيرها بالكثير المحفوظ لها منه، ويعتز السادة بما قيل فيهم وفي أسلافهم من روائع القول وفصيح البيان، فتسابق الكل في جمع ما كان لهم ولذويهم وأسلافهم من آثار، وأحس الرواة هذا الاهتمام من الجميع، فتسابقوا هم كذلك، في الجمع والرواية، وتنافسوا في الإكثار من ذلك ليفوق كل منهم سواه في الحظوة، والمنزلة، والمكافأة. وبطبيعة الحال نتوقع كذلك أن يتطرق إلى الأدب شيء من الدخيل، أو ما يظن أنه دخيل، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في حديثنا عن بعض الرواة فيما سبق.
ولم تكن هذه الملاحظة لتغيب عن الثقات من العلماء والرواة والباحثين منذ جمع الأدب الجاهلي وتدوينه، فقد تنبهوا إلى ذلك ووقفوا على كثير من النصوص التي ليست أصيلة، فعرفوها، ولم يقبلوها، واستطاعوا أن يميزوا بين الأصلي والمختلق، ويتبينوا الصحيح من الزائف. وكتب الأدب والتاريخ مملوءة بذكر ملاحظات هؤلاء الثقات وتنبيهاتهم، وقد أشرنا كذلك إلى بعضها في حديثنا عن الرواة، وأمثال المفضل والأصمعي، وأبي عمرو بن العلاء، وأبي عبيدة معمر بن المثنى.
من ذلك مثلًا، ما روي عن أبي عبيدة(2) أنه قال: "كان قراد بن حنش من شعراء غطفان، وكان جيد الشعر قليله، وكانت شعراء غطفان تغير على شعره، فتأخذه وتدعيه".
ويروى أن أبا عمرو بن العلاء، ذكر أن ذا الإصبع العدواني قال يرثي قومه(3):
وليس المرء في شيء من الإبرام والنقض
إذا يفعل شيئا خا له يقضى وما يقضي
جديد العيش ملبوس وقد يوشك أن ينضي
ثم نص على أنه لا يصح من أبيات ذي الإصبع الضادية هذه إلا الأبيات التي أنشدها، وأن سائرها منحول.
وكان محمد بن سلام المتوفى سنة 231هـ أول من درس قضية الانتحال وآثارها في كتابه "طبقات فحول الشعراء" إذ أورد فيه كثيرًا من الملاحظات والآراء التي تدل على دراسة
وتحقيق، وقد أوردنا فيما سبق بعض ملاحظاته عن محمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية، ومما يقوله عن انتحال الشعر(4): "فلما راجعت العرب رواية الشعر، وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار فقالوا على ألسنة شعرائهم، ثم كان الرواة بعد، فزادوا في الأشعار، وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك، ولأن ما وضع المولدون... وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال". فهو بهذا النص يبين أن الشعر الجاهلي قد وجد به شيء من الدخيل، الذي صنع ونسب إلى غير قائليه، ثم بين أسباب ذلك، وأرجعها إلى رغبة القبائل في الاستكثار من شعرها. وزيادة الرواة على ما كانوا يروون من محفوظ لديهم. ولكنه لم ينس أن يذكر الفضل لذويه، فاعترف بأن أهل العلم، بفطنتهم وخبرتهم، وعلمهم وذوقهم، كانوا يستطيعون أن يعرفوا الحقيقة، ويميزوا بين الأصيل والدخيل.
وكتابه فيه كثير من الملاحظات والتعقيبات على الشعراء الجاهليين وأشعارهم. من ذلك مثلا قوله، وقد أوردناه سابقًا: "ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه، قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد، اللذين صح لهما قصائد بقدر عشر. ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير، غير أن الذي نالهما من ذلك أكثر، وكانا أقدم الفحول، فلعل ذلك لذاك، فلما قل كلامهما حمل عليهما حمل كثير"(5).
وقال عن عدي بن زيد "كان يسكن الحيرة ومراكز الريف، فلان لسانه وسهل منطقه، فحمل عليه شيء كثير، وتخليصه شديد، واضطرب فيه خلف وخلط فيه المفضل"(6).
وقال عن حسان بن ثابت: "كثير الشعر جيده، وقد حمل عليه ما لم يحمل على أحد، لما تعاضهت قريش، واستبت، وضعوا عليه أشعارًا كثيرة، لا تليق به"(7).
ولم يغفل ابن سلام حق الرواة، فذكر كثيرًا من الملاحظات التي تتصل ببعضهم، من ذلك ما أورده(8) -وقد ذكرناه سابقا-عن أبي عبيدة مع داود بن متمم بن نويرة حين قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي، في الجلب والمبرة.
وكذلك قوله(9) "أخبرني أبو عبيدة عن يونس قال، قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة، وهو عليها، فقال: ما أطرفتني شيئًا، فعاد إليه، فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة مديح أبي موسى، قال: ويحك، يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعلم به، وأنا أعلم شعر الحطيئة؟ ولكن دعها تذهب في الناس"(10).
وإذا كان ابن سلام قد رأى بعد بحثه ودراسته أن هناك في الشعر ما هو مختلق ومنتحل، وفي الرواة من هو ثقة عدل ومن هو متهم، فقد انتهى إلى أن أهل العلم والدراية لم يكن ليشكل عليهم ما زاده الرواة ولا ما وضعه المولدون، ومن ثم، فعلينا أن نقبل ما قبله الثقات، وأن نرفض ما رفضوه، وفي ذلك يقول(11): "وفي الشعر المسموع مفتعل موضوع كثير، لا خير فيه ولا حجة في عربيته ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف، وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه من أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد، إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه، أن يقبل من صحيفة، ولا يروي عن صحفي. وقد اختلف العلماء في بعض الشعر كما اختلفت في بعض الأشياء، أما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج عنه".
فهو هنا يعتقد بوجود دخيل في الشعر، فقد افتعل وصنع صنعًا، ووضع على غير قائليه، وأن هذا الدخيل لا قيمة له، ومن الممكن تبينه ومعرفته لخلوه من نواحي الروعة والجمال في شتى الأغراض الشعرية، وأنه لم يكن مما رواه أهل الثقة عن مصادر موثوق بها من أهل البادية، ويرى أن الثقات من العلماء والرواة ينبغي أن يكونوا محل ثقة منا، فنقبل منهم كل ما ارتضوه، ونرفض كل ما رفضوه.
ولا شك أنه على حق في دعوته إلى الاعتماد على من وثق به الرواة الذين قاموا بجمع الأدب وتدوينه، فإذا كان هؤلاء أهلًا للثقة والتصديق في عصرهم فهم أولى بذلك في العصور التالية، وبخاصة في عصرنا الحاضر، فلقد كانوا قريبين في زمن هذا النتاج الأدبي الذين قاموا بجمعه وتدوينه وكان بينهم من يعرف الجاهليين، أو كان على صلة بمن عرف الجاهليين. على أن الظروف التي أحاطت بالرواة والعلماء في زمن الجمع والتدوين -وقد حملتهم على التنافس في الدقة والتحري-تستدعينا أن نجعلهم محل ثقة في جميع ما قبلوه، ما لم يقم لدينا الدليل القاطع على خلاف ذلك. ولا أظن دليلًا مثل ذلك سيحدث إلا إن كان معجزة لطول العهد بين زمن هذا الأدب، وبيننا الآن.
وفي القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، أثار الباحثون من المستشرقين والعرب قضية الانتحال من جديد. ففي سنة 1864م "تناول المستشرق نولدكه الموضوع، فأشار إلى الشكوك التي يثيرها مظهر الشعر الجاهلي. وبعد ثماني سنوات تناول المستشرق أهلوارد المسألة بدون أي تجديد فيها، فعرضها بدقة لم يتناولها سلفه، وقال: إن الوثائق المروية غير موثوق بصحتها، إن من ناحية المؤلف، أو ظروف النظم، أو ترتيب الأبيات، فمن الواجب إذن إخضاع كل أثر من القرن السادس وأوائل السابع لفحص دقيق قبل قبوله".
"وتابع العلماء أمثال موير وباسيه وليال وبروكلمان طوال ثلاثين سنة المستشرقين: نولدكه وأدلوراد في موقفها الحذر"(12).
وفي سنة 1916 نشر المستشرق مرجليوث margoliouth بحثا عن الشعر الجاهلي، في المجلة الأسيوية الملكية، وكان قد تحدث عن وضع الشعر الجاهلي قبل ذلك في مادة "محمد" من دائرة معارف الأديان والأخلاق encyclopaedia of religion and ethics وفي كتابه عن "محمد وظهور الإسلام" mohamed and the rise of islam وقد تصدى للرد عليه سير تشارلز ليال lyall في مقدمة ترجمة المفضليات، ولكن مرجيلوث عاد ونشر في المجلة السابقة "عدد يوليو سنة 1925" بحثًا عنوانه: "أصول الشعر العربي" the origins of arabic poetry وقد أطال في هذا البحث، وذكر فيه الشبه التي دعته إلى الشك في الشعر الجاهلي(13)، وحملته على أن يقول: إن الشعر الذي جمع ونسب إلى الجاهليين مصنوع ومنحول، صنع في العصور الإسلامية، ونسبه واضعوه إلى شعراء جاهليين زورًا وبهتانًا.
وملخص مقالته باختصار: أنه كان قبل الإسلام في الجزيرة العربية شعر وشعراء بدليل ورود الإشارة إلى ذلك في القرآن، ثم يتعرض لوصف القرآن للشعراء، ويشير إلى العدد الكبير من الشعراء الجاهليين الذي وردت لهم أشعار في الأدب الجاهلي، ويشك في أن الشعر الجاهلي قد حفظ بالرواية الشفهية لأن الإسلام -في نظره- ما كان يحث على ذلك، ولكنه في الوقت ذاته يحاول أن ينفي أن الشعر الجاهلي كتب كذلك، إذ إنه لو حفظ بطريق الكتابة، لكان للعرب -في نظره- كتاب أو كتب، والقرآن ينفي أنه كان لهم كتاب، ويزعم أن الشعر الجاهلي الموجود مرحلة تالية للقرآن لا سابقة عليه، ويرى أن التطور من الأسلوب القرآني إلى الأسلوب الشعري المنتظم يبدو -في نظره- متمشيًا مع المألوف، وهو بهذا يعتقد أن الشعر الجاهلي وضع بعد الإسلام بعد أن سمع العرب القرآن، فتأثروا به، فقالوا شعرهم بلغته وساروا بفنهم من الصور الشاذة إلى المنتظمة.
فكأنه يريد أن يقول: إن العرب قبل الإسلام، كان لهم شعر وفيهم شعراء ولكن شعرهم لم يكن كامل النضج، ولا في درجة عالية من التهذب والكمال كالتي نرى عليها الشعر الجاهلي المنسوب إلى الجاهليين، وبعد أن سمع العرب القرآن، تطوروا بفنهم الشعري إلى هذه الدرجة العليا من النضج والكمال. التي نرى عليها الشعر المنسوب إلى الجاهليين.
ويجره الحديث إلى الرواية والرواة، فيتحدث عن سوء أخلاق الرواة أمثال حماد وخلف، ويذكر ما قاله كل من الرواة في الآخرين، ويدعي أنهم لم يكونوا يوثق بعضهم بعضًا، وينكر الرواية بحجة أن الشعراء الجاهليين كانوا لسان الوثنية الناطق، وقد أبطل الإسلام الوثنية وحاربها، فلم يكن هناك مجال -في نظره-لحفظ تلك الأشعار التي قيلت في نظام أبطله الإسلام.
وهو بهذا كله يرى أن الشعر الذي وصلنا منسوبًا إلى الجاهليين، ليس لهم، وإنما قيل بعد الإسلام ونسب إليهم، ويستمر في إيراد الأدلة التي يعتقد أنها تؤيد رأيه هذا، فيدعي أن الشعر الجاهلي المنسوب إلى الجاهليين يحمل في طياته دلائل بطلانه، ذلك أن فيه كثيرًا من القصص الديني الذي ورد في القرآن، وفي كلمات إسلامية مثل الحياة الدنيا ويوم القيامة والحساب، وليس فيه ما يشير إلى الآلهة المتعددة التي كانت عند الجاهليين، وأن آراء الشعراء الجاهليين في الموضوعات الدينية تبدو مماثلة لما في القرآن. وأنه لا يرى في الشعر المنسوب إلى الجاهليين أثرًا للاختلاف بين لهجات القبائل، ولهجات الشماليين والجنوبيين، ويرى أنه من الصعب عليه أن يتصور أنه كانت هناك لغة مشتركة في أنحاء الجزيرة العربية قبل الإسلام، وينتهي إلى أن الشعر الذي ينسب إلى العرب قبل العصر الأموي مشكوك فيه، بحجة أن الممالك التي كانت في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام كانت لها حضارة راقية، ولكن النقوش التي عثر عليها لهم وبخاصة في اليمن، لا تدل على وجود أي نشاط شعري لها، فكيف يمكن تصديق أن بدوًا أقل رقيًّا من هذه الممالك المتحضرة بكثير، كان لهم شعر في هذه الدرجة العالية؟ ومن ينظر في كلام مرجليوث السابق يجد أنه تضمن أفكارًا عجيبة، لا تعتمد على سند عقلي سليم.
فهل من المعقول أن التقاليد الشعرية التي كانت لدى العرب قبل الإسلام كانت شاذة وغير منتظمة، ولم تصبح في الدرجة العليا التي نرى عليها الشعر المنسوب إلى الجاهليين إلا بعد أن سمعوا ما في القرآن من سجع، وبعض التراكيب الموزونة؟
وإذا كان القرآن نفسه يهاجم الشعر والشعراء، فكيف يجيء فيه شعر يحاكي أسلوب الشعراء؟ إن ذلك لبعيد كل البعد عن القرآن. ثم هل من المعقول أن ما تضمنه القرآن من بعض الألفاظ الموزونة، كفيل بأن يجعل العرب في فترة أقل من قرن يطفرون بفنهم الشعري من بدائية وفطرية وشذوذ، إلى أوزان منتظمة موسيقية متنوعة، وإلى أسلوب شعري في درجة عليا من النضج والكمال؟
وإذا كان مرجليوث ينكر الرواية الشفهية، والكتابة، في المحافظة على الشعر الجاهلي، فبأي الوسائل كان يحفظ، أو يتناقل من مكان إلى آخر، ومن جيل إلى جيل؟ إنه لمن البديهي أن نقول: إن الأغاني والأناشيد التي يرتلها الأميون ومن هم على الفطرة، يتناقلونها من جيل إلى جيل عن طريق الرواية الشفهية، إن لم تجد من يدونها، والكتاب الذي ينفي القرآن وجوده بين العرب يقصد به الكتاب الديني المقدس.
ثم إن الطعن في الرواة جميعهم، ورفضهم كلهم بحجة سوء أخلاق بعضهم أو بسبب بعض كلمات تقال، طعنًا فيهم، بدافع الغيرة والتنافس، أمر لا يستسيغه المنطق، ولا يقبله منصف، ولماذا لا نأخذ في الاعتبار شهادات الاعتراف بالأمانة والصدق والنزاهة التي قيلت في كثير من الرواة الصادقين؟
وهل يتصور عاقل أن الإسلام اخترع ألفاظًا جديدة لم يكن للعرب بها سابق عهد؟ إذن كيف كان العرب يفهمونها لو كان الأمر كذلك؟ المعروف أن الإسلام قد أدخل معاني جديدة، ومفهومات جديدة لبعض ألفاظ كانت معروفة ومستعملة لديهم.
وأما عدم وجود أثر للآلهة المتعددة عند العرب في الشعر المنسوب إلى الجاهليين، فهذا سوف نبحثه مع أشياء أخرى عندما نعرض لآراء بعض الباحثين فيما بعد إن شاء الله، وكذلك الحال في شأن اختلاف اللهجات بين العرب قبل الإسلام.
ومن الأساتذة المستشرقين الذين أفاضوا في الحديث عن قضية الانتحال في الأدب الجاهلي الدكتور ريجيس بلاشير، فقد عقد لذلك فصلًا طويلًا(14)، بدأه بأن الحديث عن صحة الشعر الجاهلي قديم قدم الشعر نفسه، وأثنى على جهود علماء العراق وقت التدوين في تحريهم الحقيقة، ثم عرض بعد ذلك آراء كثير من المستشرقين أمثال مرجليوث، وبرونليخ، ونولدكه، وأهلوارد، وجولدزيهر، ونوراندريه،ووليم مارسيه، وتريتون، وعقد بعض مقارنات بين آرائهم حول هذه القضية، كما عرض لرأي الدكتور طه حسين، الذي سيأتي الحديث عنه بالتفصيل إن شاء الله، ثم يستعرض هو نفسه الموضوع من جوانب متعددة، فيقول(15) عن الجوانب التي تثير الشك في الأدب العربي القديم:
"إننا إذا فحصنا النصوص الشعرية الجاهلية بمجملها، وجدنا أولًا أن الشكوك التي أثارتها يجب أن تمتد إلى آثار معاصرة للإسلام، أو جاءت بعده بقليل. وتجدر الإشارة من جهة ثانية إلى أن الانتحال لا يبقى محصورًا في الشعر، بل يتناول النثر، حتى لنستطيع الجزم أن ليس لدينا -باستثناء القرآن-سطر واحد من النثر يرجع تاريخه إلى هذا العهد، ومن الضروري إذا أردنا أن نتبين حقيقة المسألة، أن نشير إلى أن هناك كمية من الآثار القديمة التي أفسدتها الرواية الشفهية والتدوين، امتزجت بآثار منحولة ذات مظاهر مختلفة، ومنها قطع أدبية بديعة، صنعت حسب التقاليد الشعرية المتبعة طوال النصف الثاني للقرن السابع، في حين أن مصادرها أقدم من ذلك -دون ريب- وقسم آخر على العكس، قطع منحولة صنعت بسذاجة وقلة دراية، تكفي تجربة قليلة للكشف عن حقيقتها. ولا بد إذن من عمل مزدوج سواء أكان المقصود قطعًا أدبية، أو أشعارًا منحولة.
ثم يذكر طائفة من الشعر المدسوس، فيقول(16): "إننا نفرد دون تردد، كمية هائلة من الشعر المدسوس في أساطير وردت في سيرة ابن هشام، وكتاب التيجان لعبيد بن شرية، وكتاب الأغاني. إن هذا الإفراد يتناول قطعًا منسوبة إلى العمالقة، والثموديين، كما يتناول أيضا قصائد ذات طابع ديني، أمثال قصائد ورقة وأمية بن أبي الصلت، أو قصائد متأخرة ذات طابع سياسي، وديني، منسوبة إلى أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم، كأبي طالب، وابنه علي" ويتطرق في حديثه إلى إنكار بعض نصوص فيها طابع ديني.
وظاهر أنه في كلامه هذا، يردد كثيرًا مما قاله الباحثون القدماء من العرب، فهم قد تبينوا صنع كثير مما أشار إليه في كلامه السابق. وأما النصوص الجاهلية ذات الطابع الديني، فلنا عندها وقفة فيما بعد إن شاء الله.
ثم يتحدث عن الطريقة التي يمكن بها معرفة الدخيل من الأصيل، في نصوص الأدب الجاهلي.
ويثير الكلام عن الرواية الشفهية، ولغة الشعر، والرواة، ثم يتحدث عن الناحية الدينية في النصوص الجاهلية، ويعقب على آراء جولدزيهر، ودرونبوج وباسيه وليال، كل هذا سنعرض له فيما بعد إن شاء الله.
أما الباحثون العرب فأشهر من تحدث في قضية انتحال الأدب الجاهلي منهم اثنان، هما الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، والأستاذ الدكتور طه حسين.
فالأستاذ مصطفى صادق الرافعي عرض هذه القضية عرضًا مفصلًا في كتابه "تاريخ آداب العرب" الذي ألفه سنة 1911م، وقد جمع كل ما قاله الباحثون القدماء حول هذا الموضوع، فذكر ما قيل حول استكثار القبائل من أشعارها حينما وجدت أن ما لها منه قليل، وأن أكثرها في ذلك كانت قبيلة قريش(17). ثم تحدث عما قيل في الشواهد وأنه دخلها كثير من الوضع والاختلاق، فالعلماء كانوا في حاجة إلى الشواهد في تفسير الغريب ومسائل النحو(18) ويذكر أن الكوفيين اتهموا بأنهم كانوا أكثر الناس وضعًا للشعر الذي يستشهدون به لضعف مذهبهم، وتعلقهم بالشواذ، واتخاذهم منها أصولًا يقاس عليها، فكانوا يتخذون من الشاذ أصلًا(19)، ويقال: إن أول من سن لهم هذه الطريقة شيخهم الكسائي، ولهذا يقولون إن الكوفيين اضطروا إلى الوضع فيما لا يصيبون له شاهدًا إذا كان العرب على خلافهم، ولذلك كثيرًا ما نجد في شواهدهم من الشعر ما لا يعرف قائله، بل ربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف قائله.
ويتعرض كذلك للشواهد التي كان يخترعها بعض المتكلمين والمعتزلة ليستشهدوا بها على آرائهم(20)، ويذكر ما جاءوا به ليثبتوا أن معنى الكرسي هو العلم في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض}، إذ قالوا شطر بيت لشاعر مجهول: هو:
ولا بكرسي علم الله مخلوق
ثم ذكر أثر القصص في انتحال الشعر، فقال: إن القصاصين لما كثروا واضطروا أن يضعوا الشعر لما يلفقونه من الأساطير، ليثبتوا تلك الأساطير في أفئدة العامة، فوضعوا الشعر على آدم، ومن دونه من الأنبياء، ثم جاوزوا ذلك إلى عاد وثمود، كما أن للأعراب شعرًا ينسبونه إلى الجن(21).
ثم عرض ما قيل في شأن الرواية، والرواة فقال: إن الاتساع في الرواية كان من أسباب الوضع، فالرواة كانوا يتهافتون على الشعر، ويتسابقون على روايته؛ لأنه عمود الرواية وزينتها، وكان التسابق فيه من جهتين: الاتساع في الرواية، ومعرفة تفسيره والبصر بمعانيه.
ويذكر أن بعض الفحول من الرواة كانوا يحبون أن يتسعوا في روايتهم، فيستأثروا بما لا يحسن غيرهم من أبوابها، إظهارًا لتفوقهم، وأنهم يعرفون ما لا يعرف غيرهم، وأن ذاكرتهم أقوى من سواهم، ولذلك كانوا يضعون على فحول الشعراء قصائد لم يقولوها، ويزيدون في قصائدهم التي تعرف لهم، ويضرب مثلًا لهؤلاء الرواة بحماد الراوية وخلف، ويذكر نبذًا مما قيل عن رواية كل منهما(22).
فالأستاذ الرافعي قد استقصى كل ما قاله الباحثون من العرب القدماء، وجمعه في القسم الذي خصصه لهذا الموضوع.
أما الدكتور طه حسين، فقد ألم بالموضوع من جميع نواحيه، ووقف على ما قاله جميع الباحثين من العرب والمستشرقين حول قضية الانتحال، وكون له في ذلك رأيًا، شرحه في كتاب نشره في سنة 1926، سماه "في الشعر الجاهلي" ثم نشره في السنة التالية باسم "في الأدب الجاهلي"، وقد أحدث هذا الكتاب حينئذ ضجة عنيفة، فألف بعض الباحثين كتبًا في الرد عليه، من أهمها:
1- النقد التحليلي لكتاب "في الأدب الجاهلي" للأستاذ محمد أحمد الغمراوي.
2- نقد كتاب "في الشعر الجاهلي"، للأستاذ محمد فريد وجدي.
3- نقض كتاب "في الشعر الجاهلي"، للأستاذ محمد الخضر حسين.
4- "الشهاب الراشد" للأستاذ محمد لطفي جمعة.
5- "تحت راية القرآن" للأستاذ مصطفى صادق الرافعي.
وكتاب الدكتور طه حسين قسمه سبعة أقسام. سمى كل قسم منها كتابًا.
وهذا الكتاب يدور حول رأي الدكتور طه حسين في الأدب الجاهلي الذي انتهى إليه بعد البحث والتفكير، والقراءة والتدبر، وقد لخص رأيه هذا بقوله(23): "إن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًّا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. ولا أكاد أشك في أن ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدًّا. لا يمثل شيئًا، ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الصحيحة لهذا العصر الجاهلي".
وظاهر أن الدكتور طه حسين في رأيه هذا متأثر بآراء الذين يطعنون في أصالة الأدب الجاهلي من المستشرقين، وعلى الأخص مرجليوث، ويعلق بلاشير على ذلك فيقول(24):
وينفرد طه حسين عن مرجليوث في نقطة واحدة، فهو يعلم مبدئيًّا، بأن ليس كل ما يسمى بالشعر الجاهلي مصنوعًا، ولكن ما بقي من القديم منه قليل لا يمثل شيئًا، ولا يدل على شيء، وهكذا فهو بوقوفه موقفًا حذرًا اقترب بفكرته من آراء عدد من المستشرقين، أمثال جولد زيهر، ونور أندريه، ووليام مارسيه، وتريتون، وغود فروا، وديمونتين، وبرونليخ "في نقده الثاني لبحث مرجليوث سنة 1972"، ويعتقد هؤلاء أن نولدكه وأهلوارد، ومدرستيهما يفسحون مجالًا واسعًا للشعر المسمى بالجاهلي. وهم وإن لم يثبتوا نظرية مرجليوث الجريئة، فقد وقفوا موقفًا فيه تحفظ".
ومن رأي الدكتور طه حسين، يتبين واضحًا، أنه لا يشك في كل الأدب المنسوب إلى الجاهليين، بل الشك عنده ينصب على الكثرة المطلقة من هذا الأدب، ومعنى هذا أن هناك قلة منه موضع الثقة والقبول، ولكنه يعود فيقول: إن هذا الجزء القليل الصحيح الباقي من الأدب الجاهلي لا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الصحيحة لهذا العصر.
ولكن إذا كان هذا الجزء -ولو قليلًا-صحيحًا وأصيلًا، فلماذا نهمله ولا نعتمد عليه في أي شيء؟ أعتقد أنه إن لم يكن كافيًا لإعطاء صورة كاملة للعصر الجاهلي، فليس أقل من أن يعطينا صورة صحيحة جزئية تمثل الناحية التي هو نص صريح فيها.
وإذا كانت المسالة مسألة رأى واعتقاد، فهناك آراء كثيرة تجعل هذا الجزء الصحيح الباقي لنا من أدب الجاهليين موضع احترام، وترى أنه مرآة للعصر الجاهلي. وإذا كانت آراء الباحثين من العرب التي تؤيد ذلك موضع جدال، فهناك كثير من المستشرقين يعتقدون ذلك، فمنهم نيكلسون إذ يقول(25): "إن مزايا العصر الجاهلي، وخواصه، مرسومة صورها "كما تعكس صورة الأشياء في المرآة" بأمانة ووضوح في الأغاني والأناشيد التي نظمها الشعراء الجاهليون" ويقول(26): "إن الأدب الجاهلي، المنظوم منه والمنثور يمكننا من تصوير حياة تلك الأيام الجاهلية تصويرًا أقرب ما يكون من الدقة في مظاهره الكبرى".
ويقول ثوربيكه THORBEKE في كتابه "عنترة أحد شعراء الجاهلية ص14": "لا نملك مصدرًا موثوقًا منها لتدوين تلك الغارات البدوية سوى القصائد والمقطوعات المحفوظة عن شعراء الجاهلية، ويقول ص29: "يمكن تعريف الشعر الجاهلي بأنه وصف مزين بالشواهد لحياة الجاهلية وأفكارها، فقد صور العرب أنفسهم في الشعر صورة منطبقة على الحقيقة بدون تزويق ولا تشويه"(27).
ويقول نولدكه في كتابه من الشعر العربي القديم "ص17، طبع هانوفر سنة 1864": "إن عادات عرب الجاهلية وأحوالهم معلومة لنا بدقة، نقلًا عن أشعارهم"(28). وقد كان الباحثون والمؤرخون الذين يتصدون للبحث في تاريخ العرب يتخذون من نصوص الأدب الجاهلي، أهم مصدر يعتمدون عليه في بحوثهم، وما زال الباقي منه إلى اليوم، من أهم المراجع للباحثين في أحوال العرب قبل الإسلام.
وكأن الدكتور طه حينما دعا إلى عدم الاعتماد على البقية الباقية من تراث الجاهليين الأدبي في تصوير حالة الجاهليين، أحس أن الباحثين دائمًا يتطلعون إلى المصادر الهامة التي يعتمدون عليها في بحوثهم، فكان أن وجه الأنظار إلى المصدر الذي يعتقد أنه خير ما يصور حالة العرب قبل الإسلام، فقال(29): "إذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير وقس بن ساعدة وأكثم بن صيفي؛ لأني لا أثق بما ينسب إليهم، وإنما أسلك إليها طريقًا أخرى، وأدرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته، أدرسها في القرآن، وأدرسها في شعر هؤلاء الشعراء الذين عاصروا النبي، وجادلوه، وفي شعر الشعراء الآخرين الذين جاءوا بعده، ولم تكن نفوسهم قد طابت عن الآراء والحياة التي ألفها آباؤهم قبل ظهور الإسلام. بل أدرسها في الشعر الأموي نفسه، فلست أعرف أمة من الأمم القديمة استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب، ولم تجدد فيه إلا بمقدار، كالأمة العربية. فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلى طرفة وعنترة وبشر بن أبي خازم".
ثم يسير في بيان الأسباب التي دعته إلى توجيه الباحثين عن صورة صادقة لحياة الجاهليين أن يلتمسوا ذلك في القرآن: فيحاول أن يشرح أن القرآن صور حالتهم الدينية خير تصوير، ووصف حياتهم العقلية والاقتصادية والاجتماعية أحسن وصف.
فأما عن تصويره لحياتهم الدينية، فيقول(30): "فأنت ترى أن القرآن حين يتحدث عن الوثنيين واليهود والنصارى، وغيرهم من أصحاب النحل والديانات، إنما يتحدث عن العرب، وعن نحل وديانات ألفها العرب، فهو يبطل منها ما يبطل، ويؤيد منها ما يؤيد، وهو يلقى في ذلك من المعارضة والتأييد بمقدار ما لهذه النحل والديانات من السلطان على نفوس الناس، وإذن فما أبعد الفرق بين نتيجة البحث عن الحياة الجاهلية في هذا الأدب أو الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين فيظهر لنا حياة غامضة جافة، بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي والعاطفة الدينية المتسلطة على النفوس، والمسيطرة على الحياة العملية، وإلا فأين نجد شيئا من هذا في شعر امرئ القيس أو طرفة أو عنترة؟ أو ليس عجيبًا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين؟! أما القرآن فيمثل لنا شيئا آخر، يمثل لنا حياة دينية قوية تدعو أهلها إلى أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال، فإذا رأوا أنه قد أصبح قليل الغناء لجئوا إلى الكيد، ثم إلى الاضطهاد، ثم إلى إعلان حرب لا تبقي ولا تذر".
وواضح أن الدكتور طه حسين في هذا، يوافق مرجليوث في الطعن في أصالة الأدب الجاهلي لخلوه من تصوير الحياة الدينية عند العرب قبل الإسلام.
أما أن القرآن نص ثابت، لا سبيل إلى الشك فيه، فذلك حق، ولا جدال فيه، وأما أن القرآن يصور حياة العرب الدينية قبل الإسلام، فذلك أيضًا مقبول، لأن الناحية الدينية أهم النواحي التي جاء الإسلام لإصلاحها، وبيان الحق فيها، فالدين الإسلامي جاء لهداية الناس، وتبصيرهم بالعقيدة الصحيحة والخلق القويم، وإخراجهم من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإيمان والتوحيد، فكان من الطبيعي أن يبين وجه الفساد والخطأ في المعتقدات الدينية التي لا تتمشى مع هذه المبادئ، ولا تتفق مع العقل السليم والتفكير السديد، ومن ثم كان لا بد أن يفيض في محاربة عبادة الأوثان التي لا تضر ولا تنفع، ومعارضة الذين يتمسكون باتباع آبائهم وأجدادهم بغير استعمال العقل والتفكير الصحيح، ومجادلة أصحاب العقائد التي لا تتمشى مع مبادئه ومناهجه، ومن ثم نتوقع أن نجد في القرآن الكريم تصويرًا تامًّا للحياة الدينية التي يحياها العرب في الجاهلية؛ لأن الدين الصحيح كان الغرض الأساسي من الدعوة الإسلامية.
ولكن مقارنة الشعر الجاهلي بالقرآن الكريم في هذه الناحية، أمر لا ينبغي أن يكون؛ ذلك لأن الشعر ليس من أهدافه الوعظ والإرشاد، ولا الدخول في جدل أيًّا كان نوعه، وبخاصة في النواحي الحساسة التي تمس مشاعر طوائف معينة كمسائل الدين والعقيدة، حقيقة أن الأديب -كغيره من الناس-له إحساسه الديني، وعواطفه الدينية، ولا شك أنه -من المحتمل جدًّا-قد تحركت مشاعره الدينية، فتغنى بشعره ليصور ما يجيش بجوانحه من عواطف دينية فياضة، كما نرى كثيرًا من النصوص الأدبية، في عصرنا الحاضر، وفي غيره من العصور، في جميع الأمم. ولذلك من الجائز -بل من المؤكد-أن كان من الشعراء الجاهليين من تغنى بعاطفته الدينية، وصور أثر عقيدته في نفسه، أو تحدث عن الشعائر الدينية في شعره، ولا شك أن ذلك قد وجد في الشعر الجاهلي، إن قليلًا وإن كثيرًا. ولكننا نعلم أن الشعر الجاهلي ظل يحفظ ويتناقل عن طريق الرواية والمشافهة منذ العصر الجاهلي، وفي العصر الإسلامي إلى أن دون فيما بعد. ومن المعلوم أن الدين الإسلامي الجديد جاء بمبادئ جديدة في العقيدة والدين المعاملات، وأبطل كل ما كان مخالفًا لمبادئه وقوانينه، وطالب متبعيه بتركها، والتمسك بأسس الدين الجديد وقواعده، والقيام بكل ما أمر به، والبعد عن كل ما نهى عنه. ومن ثم، كان من أول الأشياء التي لا يهتم بها الرواة المسلمون تلك النصوص التي تتصل بهذه الديانات والعقائد، التي جاء الدين الإسلامي لإبطالها والنهي عنها، ولذلك لن يكون عجيبًا ألَّا نجد في الأدب الجاهلي عامة والشعر منه خاصة، ما يصور فيض المشاعر الدينية عند العرب الجاهليين، وخلو الأدب الجاهلي من الحديث عن العواطف الدينية التي كانت مسيطرة على العرب الجاهليين لا ينبغي أن يتخذ سببًا للطعن في أصالة الأدب الجاهلي، ولا ينبغي أن يقال فيه لذلك إنه يصور لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني والعاطفة الدينية، المتسلطة على النفس والمسيطرة على الحياة العملية، فمن المقطوع به أن كثيرًا من الشعراء قد تغنوا في قصائدهم بذكر آلهتهم كاللات والعزى وغيرها، وتحدثوا عن شعائرهم الدينية الوثنية وغيرها التي كانت منتشرة بينهم، لكن مثل هذه النصوص لا ينتظر خلودها؛ لأنها كانت في عقيدة فاسدة، وطقوس دينية باطلة جاء الدين الإسلامي لمحاربتها والقضاء عليها لن ينتظر من العرب أن يحافظوا عليها، وهم قد دخلوا في دين الله أفواجًا، وأعجبوا بتعاليمه ومبادئه، واقتنعوا عن عقيدة وإيمان ببطلان ما كانوا عليه. فمن المؤكد -أو على الأقل مما يغلب على الظن-أن العرب على العموم، والرواة على الخصوص، وكلهم من المسلمين المؤمنين الذين امتلأت قلوبهم بهذا الدين الجديد الصحيح، لم يهتموا بهذه النصوص ولم يحافظوا عليها، فلم يدونوها. ومن ثم، ليس غريبًا أن نسيها العرب أو تناسوها، وأغفلها الذين قاموا بتدوين هذا الأدب.
ومع هذا فالشعر الجاهلي لا يخلو من أبيات فيها إشارات إلى العقائد والشعائر الدينية التي كانت شائعة بين العرب في الجاهلية، وفي كتاب الأصنام لابن الكلبي، ودواوين الشعراء كثير من الأمثلة على ذلك، إذ نجد في ثنايا بعض القصائد ما يشير إلى شيء من النواحي الدينية.
كقول عدي بن زيد(31):
سعى الأعداء لا يألون شرًّا عليك ورب مكة والصليب
وقول أوس بن حجر في وصف الرمح(32):
عليه كمصباح العزيز يشبه لفصح ويحشوه الذبال المفتلا
وقوله(33):
وباللات والعزى ومن دان دينها وبالله إن الله منهن أكبر
وقول امرئ القيس أو التوءم اليشكري(34):
أحار ترى بريقًا هب وهنًا كنار مجوس تستعر استعارا
وقول طرفة يخاطب عمر بن هند(35):
إني وجدك ما هجوتك وال أنصاب يسفح بينهن دم
وقوله:
للفتى عقل يعيش به حيث تهدي ساقه قدمه
أخذ الأزلام مقتسمًا فأبى أغواهما زلمه
عند أنصاب لها زفر في صعيد جمة أدمه(36)
وقول النابغة الذبياني:
فلا لعمر الذي مسحت كعبته وما هريق على الأنصار من جسد
ما قلت من سيئ مما أتيت به إذا فلا رفعت سوطي إلى يدي(37)
وقال جابر بن حني التغلبي النصراني، وكانت النصرانية لا تبيح سفك الدم:
وقد زعمت بهراء أن رماحنا رماح نصارى لا تخوض إلى دم
وقول امرئ القيس:
فأدركنه يأخذن بالساق والنسا كما شبرق الولدان ثوب المقدس
فهذا يشير إلى أن رجال الدين الرهبان كان يتبرك بهم، فالمقدس هو الراهب، وكان إذا نزل إلى صومعته يجتمع الصبيان إليه، فيخرقون ثيابه، ويمزقونها تمسحًا به وتبركًا(38). وأمثلة ذلك كثيرة من الأبيات المنتثرة في ثنايا القصائد يشير كل منها إلى عقيدة، أو شعيرة دينية. ولكنا لن نجد قصيدة كاملة خالصة في الشعور الديني، للأسباب المتقدمة: كما حفظت كتب التاريخ والأدب كثيرًا من الأبيات للمشركين والكفار وبخاصة إبان الدعوة الإسلامية وأيام الغزوات(39).
ثم ينتقل الدكتور طه حسين إلى ناحية أخرى، فيقول(40): "ولكن القرآن لا يمثل الحياة الدينية وحدها، إنما يمثل شيئًا آخر غيرها لا نجده في هذا الشعر الجاهلي: يمثل حياة عقلية قوية، يمثل قدرة على الجدال والخصام أنفق القرآن في جهادها حظًّا عظيمًا، أليس القرآن قد وصف أولئك الذين كانوا يجادلون النبي بقوة الجدال، والقدرة على الخصام، والشدة في المحاورة؟ وفيم كانوا يجادلون ويخاصمون ويحاورون؟ في الدين وفيما يتصل بالدين من هذه المسائل المعضلة التي ينفق الفلاسفة فيها حياتهم دون أن يوفقوا لحلها: في البعث، في الخلق، في إمكان الاتصال بين الله والناس، في المعجزة وما إلى ذلك، أفتظن قومًا يجادلون في هذه الأشياء جدالًا يصفه القرآن بالقوة، ويشهد لأصحابه بالمهارة؟ أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة بحيث يمثله لنا هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين؟"
وهنا يقول: إن القرآن يصف الحياة العقلية للعرب الجاهليين ويصورهم بأنهم كانوا أقوياء في الجدال والمناظرة كالفلاسفة، في حين أن الأديب الجاهلي يصورهم بأنهم جهلاء أغبياء ولكن العكس هو الصحيح، فالقرآن وصفهم دائمًا في هذه المناسبات بأنهم لا يعقلون ولا يفقهون، وأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلًا وإني أوافق الأستاذ الغمراوي في رده على هذه النقطة إذ يقول(41): "فأما الحظ الذي أنفقه القرآن في الجهاد بالحجة فعظيم، لكن عظمه لم يكن ناشئًا عن عظم قدرة على الجدال كانت عند المجادلين، ولا عن حسن بصرهم بمواطن الحجة، بل كان ناشئًا عن عظم رسوخ ما كان يجاهده القرآن فيهم، من اعتقادات وعادات، تأصلت فيهم على مر القرون. فالقرآن أنفق ذلك الحظ العظيم في جهاد العادة لا في جهاد مقدرة على المخاصمة". فلم يكن جدالهم في الناحية الدينية ناشئًا عن قوتهم العقلية في هذه الناحية، ولا عن حجج قوية أوردوها، أو براهين جاءوا بها بل كان عنادًا في الحق ومكابرة في الباطل أخذ القرآن في تخليصهم منها نصيبًا كبيرًا، فالحقيقة أن حججهم وبراهينهم هنا كانت واهية ضعيفة لا سند لها من عقل، أو تفكير سليم، إنما هو تأصل العادة، والتمسك بما كان عليه الآباء والأجداد.
ولا يصور الأدب الجاهلي العرب قبل الإسلام جهلاء أغبياء، بل إن الأدب الجاهلي بعامة والشعر فيه بخاصة من أهم البراهين التي تنفي عن العرب قبل الإسلام الجهل والغباء، فهو يثبت أن العرب الجاهليين كان فيهم الذكاء والفطنة، وسعة الخيال، ورقة الشعور، وفيض العواطف النبيلة بما تضمنه من معانٍ سامية، ونظرات صادقة، في الكون، والإنسان، وحسن التعبير وجمال التصوير.
وبعد ذلك يتحدث عن تصوير اتصال العرب بغيرهم، في القرآن، وفي الشعر الجاهلي فيقول(42): "والقرآن لا يمثل الأمة العربية متدينة مستنيرة، فحسب، بل هو يعطينا منها
صورة أخرى يدهش لها الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في درس الحياة العربية قبل الإسلام. فهم يعتقدون أن العرب كانوا قبل الإسلام أمة معتزلة، تعيش في صحرائها لا تعرف العالم الخارجي، ولا يعرفها العالم الخارجي، وهم يبنون على هذا قضايا ونظريات، فهم يقولون: إن الشعر الجاهلي لم يتأثر بهذه المؤثرات الخارجية التي أثرت في الشعر الإسلامي: لم يتأثر بحضارة الفرس والروم. وأنى له ذلك؟! لقد كان يقال في صحراء لا صلة بينها وبين الأمم المتحضرة، كلا! القرآن يحدثنا بشيء غير هذا، القرآن يحدثنا بأن العرب كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم، بل كانوا على اتصال قوي، قسمهم أحزابًا، وفرقهم شيعًا. أليس القرآن يحدثنا عن الروم وما كان بينهم وبين الفرس من حرب انقسم فيها العرب إلى حزبين مختلفين: حزب يشايع أولئك، وحزب يناصر هؤلاء؟ أليس في القرآن سورة تسمى "سورة الروم" تبتدئ بهذه الآيات: {الم، غُلِبَتْ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ}؟ لم يكن العرب إذن كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلي معتزلين.
فأنت ترى أن القرآن يصف عنايتهم بسياسة الفرس والروم، وهو وصف اتصالهم الاقتصادي بغيرهم من الأمم في السورة المعروفة: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} وكانت إحدى الرحلتين إلى الشام حيث الروم، والأخرى إلى اليمن حيث الحبشة، أو الفرس".
والحق أن الأدب الجاهلي لا يصور العرب في الجاهلية منعزلين عما سواهم من الأمم، وبخاصة من كانوا يجاورونهم، كالروم والفرس والحبشة، من ذلك ما يقوله ابن سلام:
"وكان أبو الصلت يمدح أهل فارس حين قتلوا الحبشة، في كلمة قال فيها:
لله درهم من عصبة خرجوا ما إن ترى لهم في الناس أمثالا
بيضا مرازبة غرًّا جحاجحة أسدًا تربب في الغيضات أشبالا
لا يرمضون إذا حرت مغافرهم ولا ترى منهم في الطعن ميالا
من مثل كسرى وسابور الجنود له أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا
فاشرب هنيئًا عليك التاج مرتفقًا في رأس غمدان دارا منك محلالا"(43)
كما وردت فيه إشارات كثيرة للهند، وبخاصة عند الكلام على السيوف، وقد سبق الحديث عن صلات العرب الخارجية، وما كان له من تأثير في لغتهم وأدبهم، وظهر ذلك واضحًا في كثير من الألفاظ الأجنبية التي عربها الجاهليون، وقد ورد بعضها في القرآن الكريم، فالواقع أن الأدب الجاهلي، وبخاصة الشعر، يدل دلالة قاطعة على صلة العرب الجاهليين بغيرهم من الأمم، فما كان للعرب أن يعيشوا في عزلة تامة، ولا بد أن يظهر أثر هذا الاتصال في لغة العرب الجاهليين وأدبهم. ولا يمكن أن يتجاهل دارسو الأدب الجاهلي هذا الأثر، فيعتقدوا "أن العرب كانوا قبل الإسلام أمة معتزلة تعيش في صحرائها لا تعرف العالم الخارجي ولا يعرفها العالم الخارجي".
حقيقة أن التأثير الخارجي في لغة العرب وأدبهم كان كثيرًا بعد ظهور الإسلام، واتساع رقعة العالم الإسلامي بعد الفتوحات التي تمت للمسلمين، بحكم الاتصال الذي زاد واتسع عما كان الحال عليه قبل الإسلام.
ثم ادعاء أن القرآن الكريم تحدث عن صلة العرب بغيرهم من الأمم الأخرى ليس صحيحًا، لأن القرآن لم يقصد ذلك وكان في آيتين أو آيات معدودات، وجاءت إشارته إلى هذه الصلة في تلك الآيات في معرض حديثه عن أغراض أخرى تتصل بمبادئه وأهدافه، ولم يكن الحديث فيه عن هذه الصلة مقصودًا لذاته. وجاء حديثه عنها مقتضبًا، بحيث لا يمكن أن يقال: إنه صور صلة العرب بغيرهم تصويرًا تامًّا من جميع النواحي. إنما هو صورها من الناحية التي تتصل بأغراضه ومقاصده فقط.
وفي تصوير الحالة الاقتصادية بين العرب في الجاهلية يقارن الدكتور طه حسين بين القرآن الكريم والأدب الجاهلي في هذه الناحية فيقول(44): "وأنت إذا قرأت في القرآن رأيت أنه يقسم العرب إلى فريقين آخرين: فريق الأغنياء المستأثرين بالثروة، المسرفين في الربا. وفريق الفقراء المعدمين، أو الذين ليس لهم من الثروة ما يمكنهم أن يقاوموا هؤلاء المرابين، أو يستغنوا عنهم. وقد وقف الإسلام في صراحة وحزم وقوة إلى جانب هؤلاء الفقراء المستضعفين، وناضل عنهم، وذاد خصومهم والمسرفين في ظلمهم، وسلك في هذا النضال والذياد مسالك مختلفة: سلك فيها مسلك القوة والعنف حين حرم الربا وألح في تحريمه، ومثل الذين يأكلون
الربا بالذين يتخبطهم الشيطان من المس، وأمر الذين آمنوا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا، وآذنهم بحرب من الله ورسوله إن لم يفعلوا، وسلك فيها مسلك اللين والرفق حين أمر بالصدقة، وأوصى الأغنياء بالفقراء، وضرب هذه الأمثال البينات يرغب بها أصحاب الأموال في البر بالفقراء والعطف عليهم، وجعل الصدقة قرضًا يقدمه صاحبها إلى الله على أن يرد إليه مضاعفًا يوم القيامة، وسلك فيها بين بين، فيه حزم وشدة وفيه لين ورفق، حين شرع الزكاة على أنها تطهير للأغنياء وسد لحاجة الفقراء". ثم يستمر فيقول: "أفتظن أن القرآن كان يعنى هذه العناية كلها بتحريم الربا والحث على الصدقة، وفرض الزكاة لو لم تكن حياة العرب الاقتصادية الداخلية من الفساد والاضطراب بحيث تدعو إلى ذلك؟ فالتمس لي هذا أو شيئًا كهذا في الأدب الجاهلي، وحدثني أين نجد في هذا الأدب الذي لا يمثل فقر الفقير، وما يحمل صاحبه من ضر، وما يعرضه له من أذى، والذي لا يمثل طغيان الغني وإسرافه في الظلم والبطش وامتصاص دماء المعدمين؟ ألم يكن بين هؤلاء العرب البائسين من انطلق لسانه مرة بالشكوى من هذه الحياة السيئة المنكرة؟ ألم يكن بين هؤلاء العرب المسرفين في الظلم من انطلق لسانه مرة بما يمثل كبرياءه وتسلطه على هؤلاء البائسين؟".
وهو هنا كذلك يسهب في بيان أن القرآن وصف الحالة الاقتصادية للعرب الجاهليين بالتفصيل، ويستدل على ذلك بحديث القرآن عن الفقراء والأغنياء، وفرض الزكاة، وسن الصدقات، وتحريم الربا، ويذكر أن الأدب الجاهلي ليس فيه ما يشير إلى ذلك، ومن ثم فهو لا يصور حالة العرب الاقتصادية.
حقيقة إن القرآن الكريم تحدث عن الأغنياء والفقراء، وحرم الربا، ونفر من البخل، وكره في الشح والحرص وذم الطمع والجشع؛ لأن من أهم مبادئ الدين الإسلامي، إصلاح الفاسد، وتقويم المعوج، ومحاربة الصفات الذميمة، والقضاء على العادات السيئة. فبجانب اهتمام الدعوة الإسلامية ببيان العقيدة الصحيحة، ودعوة الناس إلى الدين القويم، كانت تهتم بإصلاح النواحي الاجتماعية التي كان الفساد فيها ظاهرًا ومستشريًا، فحارب الإسلام كل المفاسد الخلقية والاجتماعية، ومن بينها الربا، والسرقة، والسلب، والنهب، والاعتداء على حقوق الآخرين، وأعراضهم، ودعا إلى المبادئ التي ترفع من شأن الإنسان والمجتمع ومن بينها الزكاة والصدقات وبذل الأموال وتداولها فيما هو صالح للأفراد والمجتمعات.
وإذا لم يرد ذكر الربا في الأدب الجاهلي فلا ينبغي أن يعتبر ذلك نقصًا فيه. ولا سببًا للطعن في أصالته، فالمعروف أن الأدب ليس إلا أثرًا لانفعال الأدباء بظاهرة تثير انفعالهم، وليس بلازم أن ينفعل الأدباء بكل الظواهر التي يحتويها الكون والحياة والظروف المختلفة، ومن ثم، ليس بلازم أن ينفعل الأدباء بظاهرة الربا، فقد تكون بين الظواهر التي لم تثر مشاعرهم فلم يقولوا فيها شعرًا، ويجوز أن الشعراء أو بعضهم قد ثارت مشاعرهم بسبب الربا، فقالوا فيه شعرًا، ولكنه ضاع ضمن ذلك الجزء الكبير الذي ضاع من نتاج الجاهليين الأدبي.
ويجوز أنه لم يوجد من الأدباء من تعامل بالربا، فأحس بشاعته، فقال فيه نصًّا أدبيًّا، ويغلب على الظن أن ذلك قد حدث، فلم يكن بين الأدباء، وبخاصة الشعراء، من كان يدين أو يستدين بالربا، ذلك لأن من يقرض ماله بالربا لابد أن يكون غنيًّا، ذا ثراء ظاهر، ومال يفيض عن حاجته، وحقًّا كان في العرب من هذه حاله، ولكنا لا نعتقد أن أحد الشعراء الجاهليين كان من هذه الطبقة الثرية، فكتب التاريخ والأدب تتحدث عن الشعراء الجاهليين، سواء كانوا حضرًا أو بدوًا، وتصفهم بأنهم كانوا فقراء، ولم تصف واحدًا منهم بالغنى الكثير، والمال الفائض الذي يقرضه بربا أو بدون ربا. كما أنا لم نسمع عن أحد من الأدباء أنه اقترض من غنيّ مالًا بالربا، حتى ولا بدون ربا، رغم أنهم كانوا جميعًا فقراء، وإنما نعتقد أن حاجات الأدباء وبخاصة الشعراء كانت تقضى بسهولة ويسر، وكان جميع أفراد القبيلة يتسابقون في سد حاجات شعرائهم، وقضاء مصالحهم، بل ويتسامحون كثيرًا فيما يأخذه شعراؤهم من أموالهم ولو في غيبتهم، وبدون سابق إذن منهم. فالشعراء كانت لهم منزلة في قومهم وفي غير قومهم، جعلتهم موضع الاحترام والتبجيل، من الجميع وبخاصة الأغنياء وذوو الثراء، بل كثيرًا ما كان الناس يتهيبونهم، ويخافون ألسنتهم، ويرهبون تشهيرهم، فكانوا على الأقل، يتملقونهم، ويتظاهرون بإكرامهم وإكبارهم. ومن كانت هذه حالهم، فمن المستبعد جدًّا أن يقرضهم الأغنياء بربا، إن لم يقرضوهم بدون انتظار للوفاء أو السداد ومن ناحية أخرى لن ننتظر من الشعراء أن يقولوا شيئا يمس شعور المرابين ما دام الشعراء يلقون منهم كل احترام وإكبار.
على أن الثراء كان غالبًا يظهر في بعض أشخاص من الحضر الذين يعيشون على التجارة والزراعة، ومن هنا كان الربا يوجد عادة بين أهل المدن ولم نسمع عن أحد من الشعراء الحضريين، أنه كان يشتغل بإحدى هاتين المهنتين، فكان ثريًّا ثراء يمكنه من التعامل بالربا، أو أنه كان فقيرًا اضطر إلى مد يده لأحد الأغنياء ليقرضه على أن يرد أكثر مما أخذ.
واستبعاد التعامل بالربا بين شعراء البدو أكثر احتمالًا؛ ذلك لأن التعامل بالربا لا يكون عادة إلا بين قوم في حياتهم استقرار، وفي ظروفهم ما يعمل على وجود ثقة متبادلة بين الدائن والمدين، فالمقرض، حتى بالربا، لا يعطي ماله لأي شخص دون أن يكون واثقًا من مقدرته على السداد من جهة، ومن إمكان العثور عليه بسهولة وبخاصة عندما يحين ميعاد السداد، من جهة أخرى، وذلك لا يكون إلا بين سكان المدن والقرى، الذين يستقرون فيها، ويعرف بعضهم بعضًا مثل مكة ويثرب والطائف واليمن، بعكس البدو الذين كانوا يسهل عليهم التنقل، ومن ثم يستبعد أن كان هناك تعامل بالربا بين سكان البدو على وجه العموم، وبين الشعراء على وجه الخصوص. وإذا علمنا أن معظم الأدب الجاهلي منسوب إلى شعراء البدو، فلن تكون هناك غرابة إذا لم يوجد ذكر للربا في الأدب الجاهلي، لهذا لا ينبغي أن يكون ذلك نقيصة في الأدب الجاهلي، وسببًا في رميه بأنه لا يصور الحياة الاقتصادية في العصر الجاهلي.
على أن هذه الناحية بالذات، أعني التعامل بالربا ظاهرة موجودة بين الناس في جميع العصور ولم نرها سجلت في دواوين الشعراء، أو احتلت مكانًا بين الظواهر المثيرة الأخرى التي حركت مشاعر الأدباء(45)، فهل يجوز لنا حينئذ أن نقول: إن أدب عصر من هذه العصور لا يصور الحياة الاقتصادية لأمة ذلك العصر لأنه لم يتحدث عن الربا.
ثم لماذا يخص الربا دون غيره من الموضوعات الاقتصادية الأخرى، فهناك مثلًا: الرهن الضار، والتلاعب بالأسعار، وإخفاء السلع، والإتجار بها في السوق السوداء، وأساليب البيع العجيبة التي كانت منتشرة بين الجاهليين، وهي تتضمن أنواع الخداع والتحايل والمكر
والغش، مثل: بيع الحصاة(46) وبيع الغرر(47) وبيع الملامسة(48) وبيع النجش(49)؛ وكذلك التطفيف في الوزن والكيل، وغير ذلك من المفاسد الاقتصادية التي كانت منتشرة بين الجاهليين، وهي تضر بالفرد والمجتمع، وقد نهى الإسلام عن كل ذلك، وحرمه تحريمًا قاطعًا، وأوعد كل من يتعامل بأي نوع من هذه العلامات الضارة بالويل والثبور، والمعروف أن المعاملات بين الناس ضرورية لهم جميعًا؛ لأنها تتصل بحياتهم، ولا يستغني عنها فرد من الأفراد، ولا شك أن الشعراء كانت لهم صلة بها؛ فهل إذا لم نجد للأدباء نتاجًا يصور هذه الحالة الشنيعة، ويصف آثارها السيئة على النفوس، كان ذلك مطعنًا في أصالة الأدب؟ أعتقد أن أصالة الأدب شيء، وتصويره لمثل هذه الحالات وغيرها شيء آخر، ولا صلة لهذا بذلك.
فهناك ظواهر اقتصادية وغير اقتصادية لم يظهر لها أثر في الأدب؛ لأنها لم تثر عواطف الأدباء، كما أن هناك ظواهر أخرى كان لها تأثير في مشاعرهم، فسجلوها في نصوصهم الأدبية. وإن أدب الصعاليك ليصف الفقر في الجاهلية، ويدل دلالة واضحة على الشكوى والتألم من الفقر وآثاره في الإنسان.
ثم يتحدث الدكتور طه حسين في جانب آخر من جوانب الناحية الاقتصادية فيقول(50):
"ثم لا يمثل القرآن هذه الناحية وحدها من الحياة الاقتصادية الداخلية، وإنما يمثل ناحية أخرى أقوم وأعظم خطرًا منها: يمثل هذه الناحية التي كنا ننتظر أن يمثلها الشعر لأنها خليقة به، وتكاد تكون موقوفة عليه -نريد هذه الناحية النفسية الخالصة، هذه الناحية التي تظهر لنا الصلة بين العربي والمال، هذه الناحية التي فكرنا فيها قليلًا لم نلبث أن نتساءل عن هذا الشعر الجاهلي: أصادق هو أم كاذب؟ فالشعر الجاهلي يمثل لنا العرب أجوادًا كرامًا مهينين للأموال، مسرفين في ازدرائها، ولكن في القرآن إلحاحًا في ذم البخل، وإلحاحًا في ذم الطمع، قد كان البخل والطمع إذن من آفات الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الجاهلية... إن العرب في الجاهلية لم يكونوا كما يمثلهم هذا الشعر أجوادًا منفقين للمال، مهينين لكرامته، وإنما كان منهم الجواد والبخيل، وكان منهم المتلاف والحريص، وكان منهم من يزدري المال، ومنهم من يزدري الفضيلة والعاطفة في سبيل جمعه وتحصيله".
وهذه النقطة أيضا لا ينبغي أن تكون سببًا في الطعن في الأدب الجاهلي ورميه بأنه لا يصور هذه الناحية الاقتصادية النفسية من حياة العرب الجاهليين، ففي زعم الطاعنين هنا مغالطة واضحة؛ ذلك لأن الأدب الجاهلي اشترك مع القرآن الكريم في تصويرها تصويرًا دقيقًا، ففي كليهما ذم للبخل، ومدح للجود والكرم. فالقرآن الكريم ذم البخل وذم الطمع، والأدب الجاهلي ذم البخل وذم الطمع كذلك، وحينما يتحدث القرآن الكريم عن هذه الأمور وأمثالها، فإنه لا يقصد العرب وحدهم، وإنما يريد أينما وجدت. ولم يصور الأدب الجاهلي العرب قبل الإسلام أجوادًا كرامًا، مهينين للمال، مسرفين في ازدرائه، بل صور العرب بأنهم كان فيهم أجواد كرماء، وفيهم أشحاء بخلاء، ففي الأدب الجاهلي كثير من النصوص يهجو فيها أصحابنا أعدائهم بالبخل والشح، ويذمونهم بالطمع والجشع، وفيه كذلك كثير من النصوص التي يتغنى فيها أصحابها بالجود والكرم، ولكن لا ينبغي أن يغيب عن البال أن هذه النصوص التي تفيض بذكر الجود والكرم إنما تكون عادة في الفخر والمدح، ومن المعلوم البديهي أن المدح أو الفخر لا يكون له شأن، ولا يؤدي معناه الحقيقي إلا إذا كان بشيء نادر، أو عظيم، وليس شائعًا بين الناس، ولا في متناول الجميع، وإلا لما كان للمدح أو الفخر به أي معنى، وبهذا يتبين أن الجود والكرم، والسخاء والبذل والعطاء والإنفاق والإسراف والإتلاف، وغيرها من الصفات التي يتردد المدح والفخر بها في نصوص الأدب الجاهلي، كانت صفات غير متيسرة للجميع، ولا يتصف حقيقة بها جميع العرب. ولكن ليس هناك ما يمنع من أن يدعيها لنفسه كل فرد وكل قبيلة، وما كل ما ينسبه المرء لنفسه صحيح، ولا كل ما يدعيه واقع وحق، ومن المعروف أن الشعر فيه كثير من الأماني والأحلام.
ثم يذكر الدكتور طه بعد ذلك جزئيات يدعي أنها ذكرت في القرآن الكريم، ولم تذكر في الشعر الجاهلي، هي البحر، والسفن، والصيد، واللؤلؤ، والمرجان فيقول(51): "ولكني ألاحظ أن ذكر القرآن لهذا كله، وامتنانه على العرب بهذا كله، دليل قاطع على أن العرب لم يكونوا يجهلون هذا كله، بل كانوا يعرفونه حق المعرفة، كانت حياتهم تتأثر به تأثرًا قويًّا، وإلا فما عرض القرآن له، وما أقام الحجة به عليهم. فأين تجد هذا أو شيئًا من هذا في الشعر الجاهلي؟".
هذا ما يقوله الدكتور طه حسين، وفي هذا تحامل على الشعر الجاهلي فقد ذكرت هذه الأشياء بكثرة في الشعر الجاهلي كلما سنحت الفرصة، أو جاءت المناسبة التي تستدعي ذكر أحد منها، وإليك من هذه الكثرة مثالا جاءت فيه كل هذه الأشياء، وهو من معلقة طرفة المشهورة، إذ يقول فيها(52):
كأن حدوج المالكية غدوة خلايا سفين بالنواصف من دد
عدولية، أو من سفين ابن يامن يجور به الملاح طورًا ويهتدي
يشق حباب الماء حيزومها بها كما قسم الترب المفايل باليد
ويقول فيها:
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن مظاهر سِمطي لؤلؤ وزبرجد
تلك هي الشبهات التي أثارها الدكتور طه حسين، وبسببها دعا الباحثين إلى أن يتجهوا -إذا أرادوا صورة صحيحة صادقة للعصر الجاهلي-إلى القرآن الكريم، وأن يتجاهلوا الأدب الجاهلي.
وغني عن البيان أن القرآن الكريم ليس خاصًّا بالعرب وحدهم، وما ورد فيه ليس بلازم أن يكون موجودًا في العرب، فهو لم ينزل مؤرخًا لهم، وحتى إذا كانت الأمور التي أثارها الدكتور طه حسين موجودة بين العرب في الجاهلية، فمما سبق يتبين أن القرآن الكريم لا يصور بها حياة العرب من جميع النواحي، ولكنه يصورها في النواحي التي تعرض لها، وهي تلك
التي تتصل بمبادئه وأهدافه، وأهمها الناحية الدينية، وبعض النواحي الاجتماعية التي تنظم حياة الناس، وتجعل مجتمعهم مجتمعًا صالحًا بعيدًا عن المفاسد والعيوب، فنبههم إلى أمثل النظم، ووجوه الفساد وطرق إصلاحها، فبجانب تبيانه للعقيدة الصحيحة والدين القويم، وضح لهم الصفات الذميمة والعادات السيئة التي كانت منتشرة بينهم، وحاول تنفير الناس منها، فأظهر ما فيه من فساد وقبح؛ لكي يبتعدوا عنها، فنهاهم عن الربا، والغيبة، والنميمة، وأكل أموال الناس بالباطل، والاعتداء على الآخرين، والمساس بشرفهم، كما حرم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، ووأد البنات وغير ذلك من الأمور التي تحتاج إلى إصلاح وتهذيب؛ لأن ذلك مما يتصل بغرضه وهو هداية الناس إلى الحياة السعيدة المثلى، أما نواحي الحياة وأحوالها الأخرى التي لا تتصل بأغراض الدين الجديد ومبادئه فلم يتعرض القرآن الكريم لها.
ومن ثم، لم يتحدث القرآن الكريم عن جميع أحوال العرب سيئها وحسنها، وشرها وخيرها، ولا يتوقع منه ذلك أبدًا؛ لأنه لم ينزل واصفًا للعرب ولا مؤرخًا لهم. فمن يقتصر -في البحث عن صورة للعرب قبل الإسلام-على ما ورد في القرآن الكريم خاصًا بهم، فلن يأخذ منه صورة العرب كاملة من جميع النواحي لأنه اقتصر على ذكر علاج النواحي السيئة التي كانت فيهم ولم يتعرض لذكر ما كان فيهم من محاسن؛ ذلك لأن غرضه التهذيب والإصلاح وذلك لا يكون إلا لنواحي النقص والعيب، فهي التي تحتاج إلى تهذيب وإصلاح. أما نواحي الحسن فمسكوت عنها، وإن وعد بالثواب من يفعل الطيب أو يتبع الحسن، كما أوعد بالعقاب من يرتكب إثمًا، أو يقترف جرمًا. فالخلاصة أن القرآن الكريم وحده لا يصور حياة العرب الجاهليين من كل النواحي، وإنما يصور تلك النواحي التي تتصل بالأغراض التي جاء من أجلها الدين الإسلامي.
وفي دعوة الدكتور طه حسين إلى تجاهل الأدب الجاهلي عند البحث عن صورة صحيحة للعرب قبل الإسلام، تحامل على الأدب الجاهلي، الذي جاء إلينا عن طريق أهل العلم والثقة، وإنكار لما تضمنه هذا الأدب من حقائق في غاية الأهمية يجدر بالباحث أن يدرسها، ويستقصيها، لتعينه على تكوين صورة صحيحة صادقة للعرب قبل الإسلام، فقد ثبت أن الأدب الجاهلي في الحقيقة مصدر أساسي من مصادر تاريخ العرب الجاهليين، إذ اعترف بذلك كثير من العلماء والباحثين، من العرب والمستشرقين.
ومما يثير الدهشة أن ينصح الدكتور طه حسين الباحثين والمتطلعين إلى تصوير الحياة الجاهلية بالبحث عنها في الشعر الأموي نفسه؛ لأنه لا يعرف أمة من الأمم القديمة استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب، ولم تجدد فيه إلا بمقدار كالأمة العربية، فحياة العرب الجاهليين في نظره ظاهرة في شعر "الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلى طرفة وعنترة وبشر بن أبي خازم".
وسبب هذا الدهش أن الدكتور طه يعترف بأن الأدباء العرب في العصر الأموي كانوا متمسكين بالمحافظة على التقاليد الأدبية التي كان يتمسك بها العرب القدماء، وهذا معناه أنه كانت هناك تقاليد أدبية قبل الإسلام، هي التي استمسك بها الأدباء الأمويون، ومن قبلهم بالطبع. وهذا معناه كذلك اعتراف بنتاج أدبي كان موجودًا في العصر الجاهلي، وأن هذا النتاج ظل موجودًا حيًّا حتى اقتدى به الأدباء في العصر الأموي وساروا على منواله، وترسموا خطاه. وهذا يفيد أنهم عرفوا النصوص الجاهلية الصحيحة، فجاء أدبهم تقليدًا صحيحًا كاملًا من جميع الوجوه، ومعنى ذلك أيضا أن الرواة الذين حملوا هذه النصوص الجاهلية التي قلدها الأدباء الأمويون، كانوا موضع ثقة واحترام من العلماء والأدباء وبخاصة هؤلاء الشعراء الذين سماهم الدكتور طه حسين، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا نثق بالتقليد وهو أدب الشعراء الأمويين ولا نثق بالأصل وهو الأدب الذي استمسك بالمحافظة على مذهبه الأدباء الأمويون، وساروا على أسسه ومبادئه! وأيهما أولى بالتصديق والقبول: الأصل أم صورته؟
وكيف تكون حياة العرب الجاهليين في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي، أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلى طرفة وعنترة وبشر بن أبي خازم؟ أذلك لأنه مختلف ومنحول ولم يقله من نسب إليهم، أم لأن صانعيه لم يوفقوا فيه إلى تصوير الحياة الجاهلية تصويرًا دقيقًا؟ إن كان الاحتمال الأول، فأقصى ما يمكن أن يقال حينئذ إنه اختلق في عصر الجمع والتدوين وذلك كان زمنه حوالي زمن هؤلاء الشعراء الذين سماهم ومن ثم لن يكون هناك فرق بين أدباء الدولة الأموية والأدباء الذين اختلقوا هذا الأدب ونسبوه إلى أدباء العصر الجاهلي، لن يكون هناك من فرق بين هؤلاء وأولئك لا من حيث الاتصال بالحياة العربية القديمة، ولا من حيث الإلمام بالتقاليد الأدبية، ومعرفة أساليب الكلام، وطرق التعبير الأدبي، والتصوير الشعري في العصر الجاهلي، فهؤلاء الذين اختلقوا بعض النصوص الأدبية، ونسبوها إلى أدباء جاهليين لم يقولوها، وما كانوا ليجرؤوا على ذلك، إلا إذا كانوا قد أنسوا من أنفسهم إحاطة تامة بحياة العرب الجاهليين، ومعرفة شاملة لأساليبهم في التعبير الأدبي، بدليل اعتراف بعض العلماء، بأن من المختلق ما قد يلتبس على النقاد الضليعين في اللغة والأدب بحيث لا يستطيعون تمييز الدخيل من الأصيل.
وإن كان الاحتمال الثاني، وهو قصور المزيفين عن التقليد الصحيح، فما أسهل -حينئذ-تمييزه، وما أحقه برميه والضرب به عرض الحائط.
فالدعوة إلى نبذ ما ورد عن طريق الرواة الثقات، فيها تحامل بغير أساس، ولا تعتمد على حجة معقولة.
بعد ذلك يتحدث الدكتور طه حسين عن لغة الأدب الجاهلي، ويتخذ منها سببًا قويًّا للطعن في أصالته، وللقول بأنه لا يمثل اللغة العربية في العصر الجاهلي، فيقول(53):
"إن الأدب الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية، ولنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي؟ أو ما إذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن أدبهم الجاهلي هذا قد ظهر فيه؟ أما الرأي الذي اتفق عليه الرواة، أو كادوا يتفقون عليه، فهو أن العرب ينقسمون إلى قسمين: قحطانية، منازلهم الأولى في اليمن، وعدنانية، منازلهم الأولى في الحجاز. وهم متفقون على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله فطروا على العربية، فهم العاربة وعلى أن العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتسابًا، كانوا يتكملون لغة أخرى هي العبرانية أو الكلدانية، ثم تعلموا لغة العرب العاربة؛ فمحيت لغتهم الأولى من صدورهم، وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة. وهم متفقون على أن هذه العدنانية المستعربة إنما يتصل نسبها بإسماعيل بن إبراهيم... على هذا كله يتفق الرواة، ولكنهم يتفقون على شيء آخر أثبته البحث الحديث، وهو أن هناك خلافًا جوهريًّا قويًّا بين لغة حمير و "هي العرب العاربة" ولغة عدنان "وهي العرب المستعربة". وقد روي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا". ثم يستمر فيقول: "وفي الحق إن البحث الحديث قد أثبت خلافًا جوهريًّا بين اللغة التي كان يصطنعها الناس في جنوب البلاد العربية، واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمال هذه البلاد
ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو، والتصريف أيضًا".
وبعد أن يتحدث طويلًا عن العرب البائدة والعرب الباقية، يورد نصوصًا من اللغة الحميرية ليتبين الفرق بينها وبين العربية، ثم يقول(54): "الأمر إذن أوضح وأبين من أن نبين القول في تفصيله، فالقحطانية شيء، والعدنانية شيء آخر... وإذن فما خطب هؤلاء الشعراء الذين ينتسبون إلى قحطان، والذين كانت كثرتهم تنزل اليمن، وكانت قلتهم من قبائل يقال إنها قحطانية قد هاجرت إلى الشمال؟ ما خطب هؤلاء الشعراء، وما خطب فريق من الكهان والخطباء يضاف إليهم نثر وسجع، وكلهم يتخذ لشعره ونثره اللغة العربية الفصحى كما نراها في القرآن؟".
ويستمر، فيقول: "أما أن هؤلاء الناس كانوا يتكلمون لغتنا العربية الفصحى ففرض لا سبيل إلى الوقوف عنده فيما يتصل بالعصر الجاهلي، قد ظهر أنهم كانوا يتكلمون لغة أخرى، أو قل لغات أخرى. فما يضاف إليهم من الشعر والنثر، في لغتنا الفصحى، كما يضاف إلى عاد وثمود وطسم وجديس ومن إليهم من الشعر والنثر، منحول متكلف لا سبيل إلى قبوله، أو الاطمئنان إليه".
وبعد ذلك يناقش القول بأن اليمنيين قد اتخذوا لغة العدنانيين لغة أدبية لهم، ينشئون بها شعرهم ونثرهم الفنيين، فيقبل هذا القول على أنه "حق لا يحتمل شكًّا ولا جدالًا بعد ظهور الإسلام؛ لأن اللغة العربية الفصحى -وهي لغة هذا الدين الجديد ولغة كتابه المقدس ولغة حكومته الناشئة القوية-أصبحت لغة رسمية، ثم لغة أدبية للدول الإسلامية كلها. أما قبل الإسلام، فلا يقبل هذا الرأي، بل يرفضه وينكره. معتمدًا على أن السيادة السياسية والاقتصادية -التي من شأنها أن تفرض اللغة على الشعوب-قد كانت للقحطانيين دون العدنانيين، ويقول: فما العلة إذن في أن تفرض لغة قوم لا حظ لهم من سيادة ولا ثروة ولا حضارة على قوم هم الساسة، وهم المترفون، وهم المتحضرون؟ وكيف لم تفرض القحطانية لغتها على العدنانية، والقحطانية -فيما يقول الرواة والمؤرخون-قد أذلت العدنانية وأخضعتهم لسلطانها المباشر في اليمن، كما أخضعتهم لسلطانها حين تسلط فريق منها على أطراف العراق والشام، تحت حماية الفرس والروم فيما يقول الرواة والمؤرخون"؟
ثم ينكر كذلك هجرة فريق من القحطانيين إلى شمال البلاد العربية واستقرارهم فيها واتخاذهم لغة الشمال أداة للتخاطب والآثار الأدبية بحجة، أن هذه الدعوى تقوم على أساسين، هما: النسب، وسيل مأرب وهو لا يقبل هذين إلا إذا قام الدليل العلمي البين على صحتهما. فهو لا يصدق ما يقوله النسابون عن أن هذه القبائل التي يقال إنها هاجرت، كانت حقًّا من القحطانيين فذلك في نظره أحاديث "يتكلفها القصاص وأصحاب الأغراض والأهواء للذة والمنفعة". ويرى كذلك أن دعوى هجرة فريق من عرب اليمن اضطرارًا بعد حادثة سيل العرم، من أحاديث القصاص إلى أن تقوم عليها الأدلة العلمية، فيقول: "نعم! ذكر القرآن سيل العرم، وأثبت البحث الحديث أن كان سيل العرم. وذكر القرآن أن هذا السيل قد تمزقت له سبأ كل ممزق، ولم يزد القرآن على هذا، ولم يحدد تاريخ سيل العرم، ولم يقل كيف مزقت سبأ كل ممزق، ولم يسم لنا القبائل السبئية التي مزقت، ولم يبين لنا المواطن التي هاجرت إليها، ولم تستكشف بعد نصوص تسمي هذه القبائل أو تدل على هذه المواطن". وينتهي إلى أن يقول(55): "نحن إذن بإزاء لغتين: إحداهما كانت قائمة في الشمال وهي التي نريد أن نؤرخ آدابها، والأخرى كانت قائمة في الجنوب، وهي التي تمثلها النصوص الحميرية والسبئية والمعينية. ونحن لا نسرف، ولا نشتط حين ننكر ما يضاف إلى أهل الجنوب من شعر وسجع ونثر قيل بلغة أهل الشمال قبل الإسلام".
الدكتور طه حسين كما نرى يرفض أدب اليمنيين الذي جاء بلغة الشماليين؛ لأن الجنوبيين كانت لهم لغة مخالفة للغة العدنانيين. حقيقة كان القحطانيون في أول الأمر يتخاطبون بلغة تختلف عن لغة العدنانيين، ولكنا نعتقد أنه ما كان خلافًا أساسيًّا، كاختلاف اللغة العربية عن اللغة الإنجليزية أو الألمانية أو الفرنسية، إنما كان اختلافًا بين أختين تفرعتا من أصل واحد، هو العربية الأصلية، فكل منهما لغة عربية، ولكن تبعا لاختلاف الظروف البيئية والحياة في كل قسم، اختلفت كل منهما عن الأخرى، وبطبيعة الحال لن يكون مثل هذا الاختلاف اختلافًا جوهريًّا، ربما يكون اختلافًا في بعض الألفاظ، أو في المدلولات لبعض الألفاظ، أو في طريقة النطق، وما إلى ذلك من الاختلافات غير الجوهرية التي تكون بين الفروع التي جاءت من أصل واحد، بدليل وجود اتفاق كبير بين بعض ألفاظ النقوش التي أوردها، ونظيرها في العربية الفصحى، كما فسرها هو في كتابه، مثل(56):
وأخهو -وأخوه.
كلبت -كلبة "بالتاء المربوطة وليس في الكتابة الحميرية تاء مربوطة".
هقنيو -أقنوا ومعناه أعطوا. والفعل الذي على وزن أفعل في اللغة الحميرية تبدل همزته هاء. والمعتل لا يحذف حرف العلة منه عند اتصاله بواو الجماعة.
وسعدهم -ساعدهم "بحذف ألف المد في الكتابة".
نعمتم -نعمة "والميم بدل التنوين".
أخت أمهو -أخت أمه "هو في "أمهو" بدل الهاء في العربية".
بعلتي -صاحبتي.
بعل -صاحب.
فتقارب هذه الألفاظ وتشابه بعض الألفاظ، ليس -كما يدعي-كتقارب الألفاظ وتشابه القواعد بين عربيتنا الفصحى من ناحية، والسريانية والعبرانية من ناحية أخرى. حقيقة، هذه اللغات فروع من الساميات، ولكن عربية الجنوب وعربية الشمال أختان قريبتان، من فرع واحد. فالاختلاف بينهما لن يكون كالاختلاف بين العربية والعبرية أو السريانية، فكلتاهما لغة عربية، وأصيلة في عربيتها، ومثلهما مثل عربية مصر وأخواتها العربيات في سوريا، ولبنان، والعراق، والمملكة العربية السعودية، وباقي أقطار العالم العربي، فلا يمكن أن يقال: إن لغة قطر تختلف اختلافًا جوهريًّا عن كل من أخواتها في الأقطار الأخرى. كلنا -نحن أبناء العالم العربي-يلمس أن هناك اختلافًا بين هذه الأقطار في اللغة، أو طريقة النطق لبعض الكلمات، ولا يمكن أن يقال: إن مثل هذا الاختلاف اختلاف أساسي بحيث يترتب عليه أن تكون كل منها مغايرة مختلفة تمام الاختلاف. ثم إن النص الذي أورده لأبي عمرو بن العلاء، ويعتمد عليه في اعتقاده أن لغة اليمنيين كانت غير لغة العدنانيين، بالرجوع إلى المصدر الأساسي الذي جاء فيه هذا النص، تبين أنه هكذا: "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا"(57) وليس كما جاء في استدلال الدكتور طه حسين إذ أورده هكذا: "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا"(58) والفرق بين العبارتين واضح، فالنص في العبارة الثانية يفهم منه أن لسان حمير غير لسان العدنانيين، وأن لغتهم غير لغة العدنانيين، كأن كلا منهما لسان خاص، ولغة مغايرة للأخرى. في حين أن العبارة الأولى تفيد أن كلتا الاثنتين عربية، فهما لغة عربية، وأن الاختلاف بين هاتين الأختين مقصور على الأماكن المتطرفة النائية من بلاد اليمن فقط.
ثم إن تسليم الدكتور طه حسين بأن اللغة الفصحى سادت في جميع القبائل اليمنية بعد الإسلام، دليل على التقارب الشديد بين هاتين اللهجتين، قبل الإسلام بوقت كاف، إذ من غير المعقول أن يحدث ذلك بحيث يستطيع الكتاب والأدباء أن ينشئوا بها أدبهم في فترة وجيزة بعد ظهور الإسلام.
ويؤيد التقارب التام بين اللهجتين الجنوبية والشمالية، نقش النمارة الذي عثر عليه لامرئ القيس وهو من أصل قحطاني، إذ ثبت أنه "بلهجة قريبة من لهجة القرآن.. بلهجة نستطيع أن نقول إنها من الأم التي ولدت عربية القرآن"(59).
على أن سيادة اليمنيين على الشماليين التي يتذرع بها، ويرتب عليها أن تسود لغة اليمن على الشمال لم تكن سيادة عامة، إنما كانت سيادة على بعض قبائل من أهل الشمال لا كلهم، ولم تستمر طويلًا لمدة تكفي لفرض اللغة، بل كانت لفترة وجيزة، فلم يلبث الشماليون أن انتقضوا على الجنوبيين، وتخلصوا منهم إلى الأبد.
ثم إنه ليس بلازم مطلقًا في كل فتح أو في كل سيادة، أن يستتبع ذلك فرض لغة الفاتحين أو السادة، بل قد يحدث، ومع ظروف وأسباب، ولكن ليس بلازم أبدًا أن يحدث ذلك، وكتب التاريخ والدراسات اللغوية خير شاهد على ذلك، وأقرب مثل لهذا في تلك البقعة، أن كلا من الفرس والأحباش قد احتلوا اليمن قبل الإسلام، ولكن لم نسمع أن اللغة الفارسية أو اللغة الحبشية قد فرضت سيادتها على اليمنيين المغلوبين وفي العصر الحديث مثلا احتل الإنجليز بعض الأقطار العربية مدة طويلة ولم تسيطر اللغة الإنجليزية على أهل هذه الأقطار، فسيادة اللغة في إقليم ما إذن تخضع لظروف وعوامل كثيرة مختلفة قد يكون منها الفتح أو الغلبة، ولكن ذلك ما كان ولا يكون السبب الوحيد.
وأما إنكاره هجرة بعض القبائل اليمنية واستقراراها في الشمال؛ لأنه لا يصدق ما قيل عن نسبها، وعن وقت هجرتها بأنه كان بعد سد مأرب. فاعتراضه على النسب غير واضح في هذا المكان؛ لأن هذه القبائل إما أن تكون من القحطانية أو من العدنانية، فإن كانت من العدنانية فلا إشكال حينئذ؛ لأن أدبهم سوف يجيء مطابقًا لما ورد إلينا. وإن كانت من القحطانية فهذا ما يقول به معارضو رأي الدكتور طه حسين، ويحاولون أن يعللوا بسببه مجيء أدبهم بلغة الشماليين.
وأما عن هجرتهم بسبب انهيار سد مأرب، فإنه مصدق بما جاء في القرآن وما أثبته التاريخ من أن سيل العرم قد حدث، وأنه مزق سبأ كل ممزق فمعنى هذا أن هناك قبائل من سبأ تركوا موطنهم الأصلي، واستقروا في مواضع أخرى، كل ذلك يوافق عليه الدكتور طه حسين ومن يعارضهم الدكتور طه حسين. والخلاف الذي يثيره هو بينه وبينهم هو: تحديد سيل العرم، وكيفية تمزيق هذه القبائل وأسماء هذه القبائل التي هاجرت، والمواطن الجديدة التي استقرت فيها، فمعارضوه يذكرون أن سيل العرم حدث في الجاهلية قبل ظهور الإسلام بوقت استقرت فيه هذه القبائل التي هاجرت، في موطنها الجديد، وأنها تفرقت في جهات شتى في الجزء الشمالي من شبه الجزيرة العربية ويذكرون أسماء قبائل معينة يحددون كلا منها بالاسم فإذا كان الدكتور طه حسين لديه معلومات أخرى عن تاريخ سيل العرم، وكيفية الهجرة، وأسماء أخرى غير هذه القبائل التي ذكروها، فإنه يؤدي للعلم والبحث خدمات جليلة بذكرها وتفصيلها.
ولو أصر على اختلاف لغة النقوش التي أوردها عن لغة الشماليين، فليبين لنا أصحابها وأين كانوا يسكنون وفي أي العصور، فلعلهم كانوا من أقاصي اليمن الذي ورد ذكرهم في كلمة أبي عمرو بن العلاء. أو لعل لغة هذه النقوش كانت من اللهجات الدارجة في الجنوب وليست لغة الأدب الفصحى.
والرأي المعقول في هذه المسألة، أن لغة الأدب كانت واحدة بين الجنوبيين والشماليين، فقد كان الأدباء في القسمين يؤلفون بها أدبهم، كما سبق أن وضحنا ذلك عند الكلام على لغة الأدب، وهذه اللغة العربية الفصحى، وليس بعجيب أن يحدث ذلك بين القسمين وإن اختلفت لهجاتهم، كما هو حادث الآن بين جميع أقطار العالم العربي، فكل قطر يتكلم بلهجة تختلف عن اللهجات الأخرى في أحاديثهم اليومية وقضاء مطالبهم الحيوية، فإذا جاء دور اللغة الأدبية اتحدت على جميع الألسنة في جميع الأقطار، وذلك في جميع اللغات التي يكثر الناطقون بها، وهم في أقطار متعددة كعالم المتحدثين باللغة الإنجليزية مثلًا.
والدليل على أن القسمين كانا متحدين في اللغة الأدبية وهي اللغة الفصحى: نزول القرآن الكريم، وفهم العرب جميعًا له، وجدالهم حوله. والدكتور طه حسين نفسه يعترف بأنهم كانوا يجادلون ويخاصمون في مسائل معضلة. وأن جدالهم كان قويًّا يشهد لأصحابه بالمهارة(60)، ولم يقل أحد ولا الدكتور طه نفسه، أن هذا الجدال كان عن طريق ترجمته لفريق من العرب، أو للعرب الجنوبيين فقط. إنما الأخبار والتاريخ والمعلومات الوثيقة تؤيد أن العرب جميعهم فهموه حق الفهم، ولم يترجم كله أو بعضه لأحد من الجنوبيين، ومعنى ذلك أنهم جميعًا فهموا نصوصه، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت لغته معروفة لهم جميعًا، ثم إن التحدي الذي وجهه القرآن كان للعرب جميعًا وليس لفريق الشماليين دون فريق الجنوبيين. والتحدي لا يكون له معنى إلا إذا كان في ناحية يدعي المتحدي أن له فيها تفوقًا ونبوغًا، وهذا معناه أن العرب الذين تحداهم القرآن بالفصاحة والبلاغة، كانوا العرب كلهم، لا العرب الشماليين دون الجنوبيين.
ثم إن من الثابت تاريخيًّا، أن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يرسل مبعوثين إلى الجهات النائية في شبه الجزيرة العربية ومن بينها اليمن، وأطرافها، وكانوا يتفاهمون معهم باللغة العربية الفصحى، لغة القرآن، ولغة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت أن الترجمة كانت سبيل تفاهمهم. كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الوفود من جميع الجهات، ومن بينها اليمن، وكان يحدثهم، ويتفاهمون معه، بلغة يفهمها الجميع، ولم يثبت أن الترجمة كانت الوسيلة في التحدث والتفاهم بينهم، كما يحدث بين الذين تختلف لغاتهم، وهذا ليس معناه إلا أنه كانت هناك لغة مشتركة يفهمها الجميع، الشماليون والجنوبيون من العرب، هذه اللغة هي لغة القرآن وهى اللغة الفصحى، التي هي لغة الأدب الجاهلي.
والدكتور طه يعترف بصراحة ووضوح، أن لغة القرآن كانت اللغة الأدبية التي كان يستعملها الناس في العصر الجاهلي، فهو يقول ما يلي بالحرف(61): "وليس من العسير أن نفهم أن العرب قد قاوموا القرآن، وناهضوه، وجادلوا النبي فيه إلا أن يكونوا قد فهموه، ووقفوا على أسراره ودقائقه، وليس من اليسير، بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدًا كله على العرب فلو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه، ولا آمن به بعضهم، ولا ناهضه، وجادل فيه بعضهم الآخر. إنما كان جديدًا في أسلوبه، جديدًا فيما يدعو إليه. جديدًا فيما شرع للناس من دين وقانون، ولكنه كان كتابًا عربيًّا، لغته هي اللغة الأدبية التي كان يصنعها الناس في عصره، أي في العصر الجاهلي". وذلك معناه أن هذه اللغة كانت معروفة لهم وشائعة الاستعمال بينهم في الأدب.
ثم إذا لم يكن هذا مقنعًا في إثبات أن الجنوبيين كانوا مع الشماليين يستعملون لغة أدبية واحدة، بل إن القسمين كانا يستعملان لغتين أدبيتين مختلفتين، فكيف غاب ذلك عن إدراك هؤلاء المزيفين الذين قاموا بصنع هذه النصوص الجاهلية المنسوبة إلى الجنوبيين؟ كيف ينسبون إليهم نصوصًا بلغة لم تكن معروفة لهم، ولا يؤلفون بها أدبهم؟ والمعروف أن هؤلاء المزيفين كانوا مشهورين بالذكاء الخارق، والفطنة التامة، والإحاطة الكاملة بكل نواحي الحياة الجاهلية عند العرب جميعًا وبخاصة التقاليد الأدبية التي كانت شائعة عند الجاهليين، جنوبيهم وشماليهم، حتى استطاعوا بمقدرتهم الفائقة أن يختلقوا نصوصًا مزيفة، مشابهة تمام المشابهة للنصوص الأصلية، حتى التبس الدخيل بالأصيل، ولم يتمكن أقدر النقاد، وأقواهم فطنة وذكاء من التمييز بين هذا وذاك.
ثم إذا غفل المزيفون عن هذه الناحية، ووقعوا فيها، ألم يكن هناك من النقاد أو العلماء، أو حتى من عامة الناس من يستطيع لأول وهلة أن يرد عليهم ادعاءهم ويبين كذبهم، بحجة أن ما يختلقونه واضح التزييف؛ لأنه يختلف في لغته عن لغة المنسوب إليهم، المعروفة عنهم؟
على أننا أشرنا فيما سبق إلى أن الأدباء من الجنوبيين الذين جاءت لهم نصوص أدبية في تراث الجاهليين، إنما كانوا من أولئك الذين كانوا يعيشون في وسط العدنانيين أو قريبًا منهم، فكانت ديارهم في الشمال، أو قريبًا منه، وليسوا من أولئك الذين كانوا يعيشون في أقاصي اليمن، فليس هناك من الأدباء الجاهليين الجنوبيين الذين وردت لهم نصوص أدبية جاهلية، من كانت داره في الجهات النائية من القسم الجنوبي. ولعل ذلك مما ينهي الخلاف أو يضيق شقته على الأقل. وبذلك ننتهي إلى أنه من المعقول -وهو الواقع فعلًا-أن يتحد الشماليون والجنوبيون في اللغة الأدبية، قبل ظهور الإسلام للأدلة التي وضحناها آنفًا، ومعظمها واقع وملموس. ولا ينبغي مطلقًا أن يكون اتحاد الجنوبيين والشماليين في لغة الأدب المنسوب إليهما سببًا في الطعن في أصالته.
ويتحدث الدكتور طه حسين عن الشعر الجاهلي واللهجات الشمالية، فيحاول أن يتخذ من ذلك مطعنًا جديدًا في أصالة الأدب الجاهلي، وصدقه، فيقول (62): "فالرواة مجمعون على أن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة قبل أن يظهر الإسلام، فيقارب بين اللغات المختلفة، ويزيل كثيرًا من تباين اللهجات. وكان من المعقول أن تختلف لغات العرب العدنانيين، وتتباين لهجاتهم قبل ظهور الإسلام. فإذا صح هذا كله كان من المعقول جدًّا أن تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها ومذهبها في الكلام، وأن يظهر اختلاف اللغات وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل الذي قيل قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة ولهجات متقاربة، ولكننا لا نرى شيئًا من ذلك في الشعر الجاهلي، فأنت تستطيع أن تقرأ هذه المطولات أو المعلقات التي يتخذها أنصار القديم نموذجًا للشعر الجاهلي الصحيح، وسترى أن فيها مطولة لامرئ القيس، وهو من كندة أي من قحطان، وأخرى لزهير، وأخرى لعنترة، وثالثة للبيد، وكلهم من قيس، ثم قصيدة لطرفة، وقصيدة لعمرو بن كلثوم، وقصيدة أخرى للحارث بن حلزة، وكلهم من ربيعة. تستطيع أن تقرأ هذه القصائد السبع دون أن تشعر فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافًا في اللهجة، أو تباعدًا في اللغة، أو تباينًا في مذهب الكلام: البحر العروضي هو هو، وقواعد القافية هي هي، والألفاظ مستعملة في معانيها كما تجدها عند شعراء المسلمين، والمذهب الشعري هو هو. كل شيء في هذه المطولات يدل على أن اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيرًا ما. فنحن بين اثنتين: إما أن نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان
لا في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي، وإما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل، وإنما حمل عليها بعد الإسلام حملا". ثم يقول: "ونحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى. فالبرهان القاطع قائم على أن اختلاف اللغة واللهجة كان حقيقة واقعة بالقياس إلى عدنان وقحطان".
وظاهر أنه هنا يشك في الأدب الجاهلي المنسوب إلى شعراء من القبائل العدنانية، بحجة أن هذه القبائل كانت تختلف في اللهجات، وأن كل قبيلة كانت لها لهجة خاصة بها، ومن ثم يرفض الشعر الجاهلي المنسوب إليهم؛ لأنه جاء بلغة واحدة، ولا أثر لاختلاف لهجات القبائل فيه، ويعتقد أن هذا الأدب المنسوب إلى الأدباء الجاهليين الشماليين، لم يصدر عنهم، وإنما حمل عليهم حملا.
حقيقة، كانت هناك لهجات بين القبائل العربية، لكل قبيلة لهجتها الخاصة، ولكن اختلاف اللهجات بين العرب العدنانيين -كالاختلاف بين لهجات القبائل القحطانية- كان اختلافًا يسيرًا، ولم يكن اختلافًا جوهريًّا؛ لأنه اختلاف بين أخوات من فرع واحد، وشأن الاختلاف بين هذه اللهجات أقل بكثير من الاختلاف بين عربية الشماليين وعربية الجنوبيين فالاختلاف بين هذه اللهجات العدنانية، بعضها وبعض، ليس إلا اختلافًا بين أخوات بينها تقارب شديد وكبير، مثله كمثل الاختلاف بين اللهجات في مناطق الدولة الواحدة، وإنا لنرى ذلك مشاهدًا في كل أمة وفي كل دولة في جميع العصور، ففي جمهورية مصر العربية مثلًا، هناك لهجة القاهرة، ولهجة الإسكندرية، ولهجة الوجه البحري، ولهجة الصعيد، بل وفي مناطق كل من الوجهين القبلي والبحري اختلاف في اللهجات بين سكانها فهناك لهجة الشرقية، ولهجة الغربية، ولهجة منطقة القنال، وهكذا في كل بلد عربي، وغير عربي، وفي كل دولة من دول العالم، في جميع العصور. ولكن اختلاف هذه اللهجات لا يعدو أن يكون خلافًا يسيرًا قليلًا، وجميع المناطق يفهم كل منها الآخر بسهولة ويسر، وهذا الاختلاف كذلك لا يستلزم اختلافًا في لغة الأدب، بل إن الواقع يثبت -والتاريخ على مر العصور يؤيد-أن سكان كل دولة، مهما اختلفت لهجاتهم المحلية في مناطقهم، فإنهم يتفقون جميعًا في اللغة الرسمية، لغة الأدب، فالجميع يؤلفون بها أدبهم، وكلهم يفهم هذه اللغة، فهم جميعًا متحدون في هذه اللغة، مع اختلاف اللهجات المحلية(63). وإذا كانت الأدلة
الواقعة التي سقناها لبيان إمكانية وجود لغة أدبية تجمع بين الشماليين والجنوبيين، مقبولة ومقنعة، فهي هنا تكون دلالتها أقوى، وإقناعها أشد، وقبولها أوجب. ومن ثم، فلم يكن هناك ما يمنع من أن تتحد جميع هذه القبائل في اللغة الأدبية، خصوصًا أن الإنسان دائمًا مدفوع بغريزته إلى حب الشهرة وبعد الصيت، والأدباء بالذات يحب كل منهم أن تشيع نصوصه في الآفاق، وتجري كلماتها على كل لسان في كل مكان. وهذا يستلزم الاتحاد في التعبير الأدبي ليكون المجال أمام النصوص الأدبية مفتوحًا، وكلما اتسع نطاق هذه الوحدة كانت الشهرة أكبر وأعظم.
ومع ذلك يسوق الدكتور طه حسين دليلًا آخر ليؤيد به اعتقاده أن أدب الجاهليين الشماليين مصنوع ومنحول، فيسوق مسألة تعدد القراءات في القرآن، ويقول(64): "إن القرآن الذي تلي بلغة واحدة، ولهجة واحدة، هي لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته، وتعددت اللهجات فيه، وتباينت تباينًا كثيرًا، جد القراء والعلماء المتأخرون في ضبطه وتحقيقه، وأقاموا له علمًا أو علومًا خاصة. ولسنا نشير هنا إلى هذه القراءات التي تختلف فيما بينها اختلافًا كثيرًا في ضبط الحركات سواء أكانت حركات بناء أو حركات إعراب. إنما نشير إلى اختلاف آخر في القراءات يقبله العقل، ويسيغه النقل، وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي وعشيرته من قريش، فقرأته كما كانت تتكلم، فأمالت حيث لم تكن قريش تميل، ومدت حيث لم تكن تمد، وقصرت حيث لم تكن تقصر، وسكنت حيث لم تكن تسكن، وأدغمت أو أخفت أو ثقلت حيث لم تكن تدغم ولا تخفي ولا تثقل". ثم يقول: "وليست هذه القراءات بالأحرف: جمع حرف، والحرف. اللغة، فمعنى أنزل القرآن على سبعة أحرف، أنه نزل على سبع لغات مختلفة في لفظها ومادتها. يفسر ذلك قول ابن مسعود: "هل ينظرون إلا زقية واحدة" مكان {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً}.. فأنت ترى أن هذه القراءات التي عرضنا لها إنما هي مظهر من مظاهر اختلاف اللهجات". وبعد أن يستطرد بحديث طويل عن القراءات للطبري، يقول الدكتور طه(65):
"إن هذا النوع من اختلاف اللهجات له أثره الطبيعي اللازم في الشعر: في أوزانه وتقاطيعه وبحوره وقوافيه بوجه عام، ولسنا نستطيع أن نفهم كيف استقامت أوزان الشعر وبحوره وقوافيه كما دونها الخليل لقبائل العرب كلها على ما كان بينها من تباين اللغات واختلاف اللهجات، وإذا لم يكن نظم القرآن، وهو ليس شعرًا ولا مقيدًا بما يتقيد به الشعر، قد استطاع أن يستقيم في الأداء لهذه القبائل، فكيف استطاع الشعر، وهو مقيد بما نعلم من القيود، أن يستقيم لها؟ وكيف لم تحدث هذه اللهجات المتباينة آثارها في وزن الشعر وتقطيعه الموسيقي، أي كيف لم توجد صلة واضحة بين هذا الاختلاف في اللهجات، وبين الأوزان الشعرية التي كانت تصطنعها القبائل؟".
وهو بهذا يريد أن يقول: إن أثر اختلاف اللهجات بين القبائل العربية قد ظهر في قراءات القرآن، فلماذا لم يظهر هذا الأثر في الشعر الجاهلي كذلك؟ إن ظهور أثر هذه الاختلافات بين اللهجات في قراءات القرآن، وعدم ظهورها لا يستحق أن يكون سببًا لإثارة الشبهة والاتهام ضد الأدب الجاهلي.
فالقراءات في القرآن إنما هي في الغالب ترجع إلى كيفية النطق ببعض الحروف والأصوات، فالاختلاف بينها في معظم الحالات راجع إلى كيفية النطق، كالإمالة والمد والقصر والتسكين والإدغام والإخفاء، وما إلى ذلك، كما نص على ذلك الدكتور طه حسين في نصه الذي أوردناه آنفًا. وذلك كان بطبيعة الحال يتلقى بالمشافهة والرواية حتى يستطيع السامع أن يعرف كيفية النطق الصحيح بالقراءة المطلوبة. ولذلك كان من المبادئ المقررة في علوم القرآن أن: "المقرئ هو من علم بالقراءات أداء، ورواها مشافهة، فلو حفظ كتابًا امتنع عليه إقراؤه بما فيه إن لم يشافهه من شوفه به مسلسلا؛ لأن القراءة شيء لا يحكم إلا بالسماع والمشافهة"(66). والأدب الجاهلي إنما وصلنا مكتوبًا، ولم يحافظ على الرواية والمشافهة في الانتقال من جيل إلى جيل حتى وصل إلينا بهذه الطريقة، وإنما من وقت تدوينه كتب بلغة واحدة. وإذا كان القرآن الكريم نفسه، وهو النص الكريم المقدس، قد كتب بلغة واحدة منذ زمن عثمان، فهل يتوقع أن يدون الأدب الجاهلي عندما بدأ تدوينه -وذلك كان بعد كتابة القرآن الكريم بزمن طويل-بلهجات العرب جميعًا حتى ولو كانوا فيه مختلفين؟
والاختلاف ولا شك كان موجودًا -كما رأينا في قراءات القرآن-في النطق ببعض الحروف والأصوات، فإذا لم يحافظ على تبيين هذا الاختلاف في كتابة القرآن الكريم، فهل يحافظ عليه في تدوين الأدب الجاهلي؟ ونحن الآن نقرأ الأدب الجاهلي، وننطق به وهو مكتوب أمامنا بلغة واحدة، وكل قارئ ينطق ألفاظه حسب عادته وطريقته في الأداء، ومن ثم قد يظهر بين الناطقين به في أقطار العالم العربي اختلاف في نطق بعض الحروف أو الألفاظ أو الأصوات، كل حسب ما تعوده لسانه ونشأ عليه منذ الصغر في بيئته الخاصة، ومثل هذا الاختلاف يصور -في نظري-الاختلاف الذي كان بين القبائل المختلفة في العصر الجاهلي.
أما مسألة الاختلاف في بعض الكلمات واستبدالها بكلمات أخرى في بعض القراءات، فذلك قليل ونادر جدًّا، بل حدث ذلك في كلمات معدودات في القرآن الكريم، وكلها طبعًا كانت بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن الكريم نزل بها، ونظير ذلك نجد في الأدب الجاهلي، فكثيرًا ما نجد بعض الألفاظ في بيت أو قصيدة تختلف باختلاف الروايات، فلعل ذلك أثر من آثار اختلاف اللهجات، فيجوز أن الشاعر قالها بحسب لهجة قبيلته ثم غيرها كل راوٍ حسب لهجته، أو لعل الشاعر قالها بألفاظ مختلفة ليجمع في نصه ما يستطيع من لهجات، وذلك في نظري خير دليل على إثبات ظهور الاختلاف بين اللهجات القبلية في الأدب القديم، وإن دراسة شعر الهذليين في المجموعة التي بين أيدينا الآن من مجموعات القبائل التي دونها الرواة، تدل دلالة واضحة على كثير من الألفاظ القبلية التي جمعها العلماء والرواة القدماء بقيت لنا إلى اليوم، لاستطعنا أن نقف منها على كثير من الألفاظ القبلية الخاصة، وحينئذ كان يمكن أن تقوم عليها دراسات لغوية مقارنة ممتعة.
وأما مسألة البحور والأوزان الشعرية، فهي ناحية موسيقية، وهذه تخضع للذوق السمعي للإنسان بحكم كونه إنسانًا، ولا يختلف الإنسان الطبيعي في شأن النغمات الجميلة المستحسنة، فهي ولا شك تنال منه ارتياحًا واستحسانًا مهما اختلفت ظروفه أو بيئته كما هو مشاهد بيننا، فالإنسان يطرب لسماع الموسيقى العذبة الشجية الصادرة من أي مكان وعن أي الأجناس من البشر فكلها توافق الذوق الإنساني السليم. ومن ثم كان لكل إنسان أن يحب، ويعشق، ويردد، ويكرر، ويستعمل، ما يشار منها ما دام قد وافق منه قبولًا ونال عنده الاستحسان
والإعجاب، ولا شك أن الذوق السمعي العام في كل مجموعة من البشر قد يألف أو يطرب لنوع خاص من الموسيقى والأنغام، فيجب أن يعشق نوعًا خاصًّا منها، وذلك شيء طبيعي لأنه خاضع للميول والرغبات التي تختلف في الأفراد والمجتمعات. ولكن المشاهد أيضًا، أن الذوق السمعي العام في كل أمة يكاد يكون واحدًا بين الأمة الواحدة، وإن اختلفت طبقاتها، أو تعددت مناطقها، أو كثر أفرادها، فإذا لقيت هذه الأوزان والبحور الشعرية قبولًا عامًّا من القبائل العربية في العصر الجاهلي، فذلك شيء طبيعي؛ لأنهم جميعًا قبائل عربية من أصل واحد، وفي بيئة واحدة، وظروف الحياة والمعيشة تكاد تكون واحدة، على أن البحور والأوزان التي استخرجها الخليل من الشعر القديم كانت متعددة وكثيرة، وكان للشاعر أن يختار منها ما يحلو له، وما يراه أنسب لغرضه، فاختلاف اللهجات -في اعتقادي- ليس له شأن في الأوزان الشعرية، فهذه مسألة موسيقية، وليس هناك ما يمنع أن تتفق هذه اللهجات العربية في كثير من النغمات الموسيقية، فتجمع على استحسانها والإعجاب بها، خصوصًا أن هذه اللهجات عربية، والقبائل من أصل عربي واحد. فيغلب على الظن بل إن الواقع الطبيعي يؤيد أن هذه القبائل كانت متفقة في الذوق السمعي. فاتحدت لديهم البحور والأوزان الشعرية.
وختم الدكتور طه حسين حديثه في موضوع الاختلاق والنحل في الأدب الجاهلي بالكلام عن الشواهد الشعرية التي كان يستعملها العلماء، فقال(67): "ونلاحظ أن العلماء قد اتخذوا هذا الشعر الجاهلي مادة للاستشهاد على ألفاظ القرآن والحديث، ونحوهما، ومذاهبهما الكلامية، ومن الغريب أنهم لا يكادون يجدون في ذلك مشقة ولا عسرًا، حتى إنك لتحس كأن هذا الشعر الجاهلي، إنما قد على قد القرآن والحديث، كما يقد الثوب على قد لابسه لا يزيد ولا ينقص عما أراد طولًا وسعة، إذن فنحن نجهر بأن هذا ليس من طبيعة الأشياء وأن هذه الدقة في الموازاة بين القرآن والحديث والشعر الجاهلي لا ينبغي أن تحمل على الاطمئنان إلا الذين رزقوا حظًّا من السذاجة لم يتح لنا مثله. إنما يجب أن تحملنا هذه الدقة في الموازاة على الشك والحيرة، وعلى أن نسأل أنفسنا: أليس يمكن ألا تكون هذه الدقة في الموازاة نتيجة من نتاج المصادفة، إنما هي شيء تكلف وطلب، وأنفق فيه أصحابه بياض
(67) في الأدب الجاهلي، ص108.
وثائق قام بتسجيلها قوم منذ أمد طويل، والآن قد يبعد العهد بيننا وبين الزمن الذي أنشئت فيه هذه النصوص. وبيننا وبين الزمن الذي دونت فيه. ولكن لا جدال في أن هؤلاء الذين قاموا بتسجيل هذه الوثائق كانوا أقرب منا عهدًا بالزمن الذي قيلت فيه هذه النصوص، فقد نقلوا -كما سبق أن ذكرنا-إما من أصحابها مباشرة، وإما ممن أخذوا عن أصحابها، ثم إنهم كانوا -ولا شك- أدرى منا بحال العصر الجاهلي الأدبية، وظروف الأدباء الجاهليين وحياتهم، والأساليب التي كانوا يتبعونها، وجميع التقاليد الأدبية التي كانوا يسيرون عليها في العصر الجاهلي، حتى كان لدى كثير منهم ذوق أدبي حاد، استطاع به -عند الحاجة- أن يعرف الأصيل والدخيل.
وهؤلاء الذين اشتركوا في عمل هذه الوثائق -كل في ميدانه-كانوا يختلفون في الشخصيات والصفات، والسلوك والعادات، والميول والاتجاهات، ولكنهم -ككل البشر في جميع العصور-ليس بينهم ما يمنع أن يتفق بعض الأشخاص في قدر مشترك من الأخلاق أو السلوك أو الرغبات. ومن ثم، كان فيهم قوم اتخذوا جانب الحيطة والحذر، وسلكوا سبيل البحث وتحري الحقيقة في كل ما يقومون به من أعمال، فاشتهروا بالأمانة والنزاهة والصدق، ووجد فيهم من ثبت عنه الكذب والادعاء. ومن هنا أعتقد أن الأساس الذي يضع للشك حدًّا يقف عنده ويمنعه أن يجرنا إلى ما لا نهاية في هذا الشأن: أن نتخذ من هؤلاء الذين ثبت عنهم الأمانة والصدق موردًا معينًا، نقبل منه كل ما يمدنا به على أنه نقي، خالص من كل الشوائب والعيوب، ونرفض ما عداه لأنه معرض للشك والاتهام.
وإذا بحثنا الأدب الجاهلي على هذا الأساس فسنجد فيه الأنواع الآتية:
نوع مقطوع بصحته وأصالته
1- نوع مقطوع بصحته وأصالته: وهو ما قبله واعتمده الثقات من الرواة والنقاد، ولم تقم ضده أدلة تقدح في صحته وأصالته، فجاء عن طريق شخص أو أشخاص، كان -أو كانوا- موضع الصدق والأمانة، وأهلا للثقة والاطمئنان، ولم يطعن بشيء حقيقي ثابت، فهذا النوع من النصوص يجب قبوله، والاعتماد عليه في كل شيء: في تصوير ما يتضمنه من مظاهر الحياة الجاهلية، وفي تبيين النواحي الفنية للعصر الجاهلي، والجوانب المختلفة لشخصيات من نسبت إليهم من الأدباء الجاهليين.
نوع مقطوع بانتحاله
2- نوع مقطوع بانتحاله: وهو ما نص الثقات على تلفيقه وتزويره، وقامت الأدلة
نوع جاء عن طريق غير موثوق بها
3- نوع جاء عن طريق غير موثوق بها: وهو ما انفرد بروايته شخص أو أشخاص، ثبت عنه -أو عنهم- الكذب والادعاء كحماد الرواية، وخلف الأحمر، فإذا لم تشارك هذه الطريق المشبوهة، طريق أخرى موثوق بها، في رواية هذا النوع، ولم يقبله الثقات، بل رفضوه، فليس لنا إلا أن نرفضه ولا نتخذه على أنه يمثل أية ناحية من النواحي الأدبية في العصر الجاهلي، أما إذا لم يرد فيه تجريح أو اتهام من أحد الثقات النزيهين، فحينئذ لنا أن نقبله على أنه نص أدبي يمكن أن يمثل ما يتضمنه من نواحي العصر الجاهلي وهو -حقًّا- محتمل للصدق والكذب، ولكنه ما دام لم يثر أي اتهام فمعناه أنه -ولو كان منتحلًا- يحمل طابع الجاهليين الأدبي من جميع الوجوه، إلا أنه لا ينبغي أن يعتد به في تصوير الشخصية الأدبية التي نسب إليها. ورفضه في هذا المجال -بطبيعة الحال-إنما هو من باب الاحتياط، لا من قبيل التأكد واليقين.
نوع جاء عن طريق رواة موثوق بهم
4- نوع جاء عن طريق رواة موثوق بهم: ولكنهم لم يتفقوا على نسبته لأديب معين، فراوية ينسبه لشخص، وراوية ثانٍ ينسبه لشخص آخر، وقد يتعدد المنسوب إليهم -أكثر من ذلك- بعدد الرواة الذين رووا النص. وهذا النوع الذي تعددت رواته ومن نسب إليهم من الجاهليين، يمكن القطع بجاهليته، ما لم يقم دليل ثابت على ضد ذلك؛ وبذلك يصح لنا أن نعتمد عليه في تصوير ما فيه من النواحي الجاهلية؛ لأن جميع من رووه ثقات، وقد أجمعوا على نسبته لجاهلي، ولكنهم اختلفوا على تعيين صاحبه. وواضح أنه لا ينبغي لنا أن نتخذ منه مقاسًا للحكم على شخصية معينة من هذه الشخصيات المتعددة ما لم يقم دليل قطعي على تعيين هذه الشخصية يثبت أحقيتها به.
نوع منسوب إلى جاهلي بدون سند
5- نوع منسوب إلى جاهلي بدون سند: وهذا النوع هو ما نجده مدونا في المصادر منسوبًا إلى أحد الأدباء الجاهليين من غير أن يذكر الراوي أو الرواة الذين وصل إلينا عن طريقهم، ولم يرد فيه طعن، ولم يثر أي شك. فأما من حيث جاهليته، فيجوز لنا أن نعتمده من هذه الناحية، فندرسه ونستفيد به في تصوير الحياة الأدبية في العصر الجاهلي، وأما من حيث نسبته للشخصية التي نسب إليها، فقد تكون نسبته إليها جزافًا، وعندئذ يكون النسب
نوع منسوب إلى جاهلي بدون سند
مزورًا، وقد تكون النسبة حقيقية وأن الشخص المنسوب إليه هو صاحبه، وهذا النوع -ومثله النوع الرابع-إذا رجحت نسبته لشخصية معينة، يجوز لنا أن نستعمل في كل منهما أذواقنا الخاصة. وذلك يكون بعد أن نقرأ نتاج هذه الشخصية الأدبي الذي أجمع الرواة الثقات على أنه لها، ولم يتطرق لذلك أي احتمال. فبعد فهمنا لهذا النتاج الموثوق بصحة نسبه إلى الشخصية. حينئذ نستعرض النص الذي من أحد النوعين المشار إليهما، وندرسه دراسة تحليلية تفصيلية، فإذا أحسسنا أن فيه ما يخالف روح هذه الشخصية الأدبية رفضناه، وإن وجدنا أنه يتفق مع ما تكون لدينا من ذوق وإحساس نحو هذا الأديب، جاز لنا أن نقبله، وندخله -مع ذكر المبررات-ضمن النصوص التي نعتمد عليها في تحليل شخصية هذا الأديب، وتصوير نفسيته وموهبته الأدبية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع بحثا طويلًا عن المشكلة الهومرية في كتاب مصادر الشعر الجاهلي الدكتور ناصر الدين الأسد صفحة 87-320.
(2) (2) طبقات ابن سلام ص147-148.
(3) (3) الأغاني جـ3 ص106.
(4) طبقات فحول الشعراء، ص4. المزهر جـ1 ص174.
(5) طبقات الشعراء ص10.
(6) المصدر السابق، ص31.
(7) المصدر السابق، ص52.
(8) المصدر السابق ص14. والمزهر 1 ص175.
(9) المصدر السابق 15، والمزهر ج1 ص176.
(10) هذا ما يقوله ابن سلام، ولكني ما زلت أعتقد أن حمادًا لم يكن شاعرًا كما أوضحت ذلك في كلامي عن حماد.
ولعل هذه القصيدة للحطيئة أو لغيره، واستغل حماد جهل بلال بصاحبها فادعاها لنفسه أو تظاهر بموافقة بلال بتركها تذيع باسم الحطيئة.
(11) ابن سلام: 5-6.
(12) تاريخ الأدب العربي لبلاشير، ص176.
(13) لخص هذه المقالة تلخيصًا وافيًا الدكتور ناصر الدين الأسد في كتابه "مصادر الشعر الجاهلي" ص352 وما بعدها.
(14) قضية الشعر الموضوع، تاريخ الأدب العربي لبلاشير، ص176 وما بعدها.
(15) المرجع السابق، ص183-184.
(16) المرجع السابق، ص184.
(17) تاريخ آداب العرب جـ1 ص366.
(18) المصدر السابق، ص369.
(19) المصدر السابق، ص370.
(20) المصدر السابق، ص373.
(21) المصدر السابق، ص376.
(22) المصدر السابق، ص379.
(23) في الأدب الجاهلي، ص65.
(24) تاريخ الأدب العربي لبلاشير، ص182.
(25) literary history of the arab, p. 26.
(26) p. 27.
(27) "الشهاب الرصد". ص40.
(28) الشهاب الراصد، ص41.
(29) في الأدب الجاهلي. ص70-71.
(30) المرجع السابق، ص72-73.
(31) شعراء النصرانية، ص451.
(32) شعر الحرب للدكتور علي الجندي.
(33) أديان العرب، ص172.
(34) ديوان امرئ القيس، ص147 ب: 1. وقيل في شرحه: إنه بالغ في وصف النار بقوله تستعر استعارًا، وخص نار المجوس لأنهم عبدتها، فنارهم أعظم، وأشد استعارًا.
(35) ديوان طرفة للدكتور علي الجندي، البيت رقم403.
(36) الزلم: واحد من الأزلام. الصعيد: التراب. الأنصاب: الحجارة التي كانوا يذبحون عندها. جمة: كثيرة. أدمه: جلوده، أي جلود ما حمل الرجل إلى الأنصاب.
(37) أديان العرب، ص174.
(38) ديوان امرئ القيس، ص104، ب 14.
(39) راجع كتب السيرة والأغاني وغيره من كتب الأدب مثل طبقات الشعراء لابن سلام عند الكلام على الشعراء الكفار كأمية بن أبي الصلت وابن الزبعرى قبل إسلامه.
(40) في الأدب الجاهلي، ص173.
(41) الشهاب الراصد، ص148.
(42) في الأدب الجاهلي، ص74-75.
(43) طبقات الشعراء، ص66.
(44) في الأدب الجاهلي ص76-77.
(45) حقيقة قد وجد بعض الأمثلة التي تتحدث عن الربا كتاجر البندقية لشكسبير، ولكن هذه الأمثلة قليلة ونادرة بحيث يمكن أن تعد في حكم المعدوم، مما يجعلنا نقول: إن الحديث عن الربا ليس ظاهرة أدبية عامة بين جميع الأمم في كل العصور.
(46) بيع الحصاة: قيل هو أن يقول أحد المتبايعين للآخر: ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بدرهم، أو أن يبيعه سلعة، ويقبض على كف من الحصى، ويقول بكل حصاة درهم، وقيل معناه غير ذلك.
(47) بيع الغرر: وهو بيع المخاطرة. وهو الجهل بالثمن أو المثمن أو سلامته، كبيع السمك في الماء. والطير في الهواء.
(48) بيع الملامسة: على أنواع، منها أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة، فيلمسه المستام، فيقول له صاحب الثوب بعتكه بكذا، على أن يقوم لمسك مقام نظرك، ولا خيار لك إذا رأيته.
(49) بيع النجش: أن يبيع الإنسان سلعة بيعًا صوريًّا لشخص اتفق معه على مساومته فيها بثمن كبير، لينظر إليه ناظر، فيقع فيها.
راجع تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي جـ8 ص176 وما بعدها.
(50) في الأدب الجاهلي، ص77.
(51) في الأدب الجاهلي، 79
(52 ديوان طرفة للمؤلف، الأبيات: 25، 26، 27، 28.
(53) في الأدب الجاهلي، ص80-81.
(54) المصدر السابق، ص88-89.
(55) في الأدب الجاهلي، ص29.
(56) في الأدب الجاهلي، ص86.
(57) طبقات فحول الشعراء لابن سلام، ص4-5 والمزهر جـ1 ص174.
(58) في الأدب الجاهلي، ص81
(59) جواد علي جـ 4 ص342.
(60) في الأدب الجاهلي ص73.
(61) المصدر السابق ص71
(62) في الأدب الجاهلي، ص93-94.
(63) في الأدب الجاهلي، ص104.
(64) في الأدب الجاهلي، ص94-96.
(65) في الأدب الجاهلي، ص103.
(66) راجع كتاب القراءات واللهجات للأستاذ عبد الوهاب حمودة "النهضة المصرية سنة 1948".
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|