أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-6-2019
6016
التاريخ: 7-5-2019
18697
التاريخ: 29-7-2019
11339
التاريخ: 1-6-2019
5890
|
قال تعالى : {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف : 150 - 154] .
قال تعالى : {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف : 150 - 151].
أخبر سبحانه عما فعله موسى عليه السلام ، حين رجع من مناجاة ربه ، ورأى عكوف قومه على عبادة العجل ، فقال : {ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا} أي : حزينا عن ابن عباس . وقيل : الأسف الشديد : الغضب ، عن أبي الدرداء . وقيل : معنى الغضب والأسف واحد ، وإنما كررها للتأكيد واختلاف اللفظين ، كما قال الشاعر : (متى أدن منه ينأ عني ويبعد ، ، عن أبي مسلم . وقيل :
معناه غضبان على قومه إذ عبدوا العجل أسفا ، حزينا ، متلهفا على ما فاته من مناجاة ربه .
{قال بئسما خلفتموني من بعدي} أي : بئسما عملتم خلفي ، وبئس الفعل فعلكم بعد ذهابي إلى ميقات ربي . {أعجلتم أمر ربكم} أي : ميعاد ربكم ، فلم تصبروا له ، عن ابن عباس ونحو هذا قال الحسن . وعد ربكم الذي وعدني من الأربعين ليلة ، وذلك أنهم قدروا أنه قد مات لما لم يأت على رأس ثلاثين ليلة .
وقيل : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم ، عن الكلبي ، وقيل :
معناه استعجلتم وعد الله وثوابه على عبادته ، فلما لم تنالوه ، عدلتم إلى عبادة غيره ، عن أبي علي الجبائي .
{وألقى الألواح} معناه أنه ألقاها لما دخله من شدة الغضب والجزع على عبادة قومه العجل ، عن ابن عباس .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : (يرحم الله أخي موسى عليه السلام ، ليس المخبر كالمعاين ، لقد أخبره الله بفتنة قومه ، وقد عرف أن ما أخبره ربه حق ، وأنه على ذلك لمتمسك بما في يديه ، فرجع إلى قومه ورآهم ، فغضب وألقى الألواح) وقد تقدم ذكر ما قيل في الألواح {وأخذ برأس أخيه} يعني هارون .
{يجره إليه} قيل في معناه وجوه أحدها : إن موسى عليه السلام إنما فعل ذلك مستعظما لفعلهم ، مفكرا فيما كان منهم ، كما يفعل الانسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب ، وشدة الفكر ، فيقبض على لحيته ، ويعض على شفته . فأجرى موسى عليه السلام أخاه هارون مجرى نفسه ، فصنع به ما يصنع الانسان بنفسه عند حالة الغضب وشدة الفكر ، عن أبي علي الجبائي . وهذا من الأمور التي تختلف أحكامها بالعادات ، فيكون ما هو إكرام في موضع ، استخفافا في غيره ، ويكون ما هو استخفاف في موضع ، إكراما في آخر . وثانيها : إنه عليه السلام أراد أن يظهر ما اعتراه من الغضب على قومه ، لاكباره منهم ما صاروا إليه من الكفر والارتداد ، فصدر ذلك منه للتألم بضلالهم ، وإعلامهم عظم الحال عنده ، لينزجروا عن مثله في مستقبل الأحوال ، ذكره الشيخ المفيد أبو عبد الله بن النعمان وثالثها : إنه إنما جره إلى نفسه ، ليناجيه ويستبرئ حال القوم منه ، ولهذا أظهر هارون براءة نفسه . ولما أظهر هارون براءته دعا له ولنفسه ورابعها : إنه لما رأى بهارون مثل ما به من الجزع والقلق ، أخذ برأسه متوجعا له ، مسكنا فكرة هارون أن يظن الجهال ذلك استخفافا ، فأظهر براءته ، ودعا له موسى إزالة للتهمة وخامسها : إنه أنكر على هارون ما بينه في طه من قوله {ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن} الآية ، عن أبي مسلم .
{قال} يعني قال هارون (ابن أم) قال الحسن : والله لقد كان أخاه لأبيه وأمه ، إلا أنه إنما نسبه إلى الأم ، لأن ذكر الأم أبلغ في الاستعطاف (إن القوم استضعفوني) يعني إن القوم الذين تركتني بين أظهرهم ، اتخذوني ضعيفا {وكادوا يقتلونني} أي : هموا بقتلي ، وقرب أن يقتلوني لشدة إنكاري عليهم {فلا تشمت بي الأعداء} أي : لا تسرهم بأن تفعل ما يوهم ظاهره خلاف التعظيم {ولا تجعلني مع القوم الظالمين} أي : لا تجعلني مع عبدة العجل ، ومن جملتهم ، في إظهار الغضب والموجدة علي (2) .
(قال) موسى حين تبين له ما نبهه هارون عليه من خوف التهمة ، ودخول الشبهة على القوم {رب اغفر لي ولأخي} وهذا على وجه الانقطاع إلى الله سبحانه ، والتقرب إليه ، لا أنه كان وقع منه ، أو من أخيه ، قبيح ، كبير أو صغير ، يحتاج أن يستغفر منه ، فإن الدليل قد دل على أن الأنبياء لا يجوز أن يقع منهم شئ من القبيح . وقيل : إنه عليه السلام بين بهذا لبني إسرائيل ، أنه لم يجر رأسه إليه لعصيان وجد منه ، وإنما فعله كما يفعل الانسان بنفسه ، عند شدة غضبه على غيره ، عن الجبائي {وأدخلنا في رحمتك} أي : نعمتك وجنتك {وأنت أرحم الراحمين} ظاهر المعنى : وإنما يذكر في آخر الدعاء لبيان شدة الرجاء من جهته ، فإن الابتداء بالنعمة يوجب الإتمام ، وسعة الرحمة تقتضي الزيادة فيها ، فيقال أرحم الراحمين لاستدعاء الرحمة من جهته ، كما يقال أجود الأجودين لاستدعاء الجود من قبله .
- {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف : 152 - 154] .
ثم أوعدهم سبحانه فقال : {إن الذين اتخذوا العجل} فيه حذف ، أي : اتخذوه إلها ، أو معبودا من دون الله . {سينالهم غضب} أي : سيلحقهم على عبادتهم إياه عقوبة {من ربهم} . وإنما ذكر الغضب مع الوعيد بالنار ، لأنه أبلغ في الزجر عن القبيح . {وذلة في الحياة الدنيا} يعني : صغر النفس والمهانة ، قال الزجاج : والذلة ما أمروا به من قتل أنفسهم . وقيل : إن الذلة أخذ الجزية ، وأخذ الجزية لم يقع فيمن عبد العجل ، وإنما أراد استسلامهم للقتل ، {وكذلك نجزي المفترين} أي : مثل هذا الوعيد ، والعذاب ، والغضب ، نجزي الكاذبين والمتخرصين . وإنما سموا مفترين ، لأنهم عبدوا عجلا ، وقالوا : إنه إله ، فكانوا كاذبين .
ثم عطف سبحانه على ذلك بقوله {والذين عملوا السيئات} أي : الشرك والمعاصي . {ثم تابوا من بعدها وآمنوا} أي : واستأنفوا عمل الإيمان . وقيل :
معناه تابوا وآمنوا بأن الله قابل للتوبة {إن ربك} يا محمد {من بعدها} أي : من بعد التوبة . وقيل : من بعد السيئات . {لغفور} لذنوبهم {رحيم} بهم {ولما سكت} أي . سكن {عن موسى الغضب} وقيل في معناه : زالت فورة غضبه ، ولم يزل الغضب ، لأن توبتهم لم تخلص . وقيل : معناه زال غضبه ، لأنهم تابوا {أخذ الألواح} التي كانت فيها التوراة {وفي نسختها} أي : وفيما نسخ فيها وكتب ، عن الجبائي ، وأبي مسلم . وقيل : وفي نسختها التي كتبت ، ونسخت منها {هدى} أي : دلالة وبيان لما يحتاج إليه من أمور الدين {ورحمة} أي نعمة ومنفعة {للذين هم لربهم يرهبون} أي : يخشون ربهم . فلا يعصونه ، ويعملون بما فيها . وفي الآية دلالة على أنه يجوز إلقاء التوراة للغضب الذي يظهر بإلقائها ، ثم أخذها للحكمة التي فيها من غير أن يكون إلقاؤها رغبة عنها .
_____________________________
1 . مجمع البيان ، ج4 ، ص 363- 366 .
2 . الموجدة : الغضب .
{ولَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً} . حين كان موسى على الطور يناجي ربه أخبره المولى جل ثناؤه بأن قومه قد عبدوا العجل من بعده ، كما دلت الآية 87 من طه : {قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً} . . وظهر هذا الغضب بقوله : {بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} . تركهم على التوحيد ، ولما عاد وجدهم على الشرك . . أما أمر ربهم الذي لم يصبروا له فهو انتظار موسى أربعين ليلة ، ويدل هذا على قول موسى لهم كما في سورة طه : {أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} ؟
وكما بدا غضبه في قوله فقد بدا أيضا في فعله {وأَلْقَى الأَلْواحَ وأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} . قال جماعة من العلماء : ألقى موسى التوراة ، وفيها اسم اللَّه ، وأخذ برأس أخيه هارون ، وهو العبد الصالح الطيب ، وموسى معصوم فكيف حدث منه ذلك ؟ . . وبعد هذا التساؤل أخذوا يؤوّلون ويعللون .
أما نحن فلا نؤوّل ولا نعلل ، بل نبقي الكلام على ظاهره ، لأن العصمة لا تحوّل الإنسان عن طبيعته ، وتجعله حقيقة أخرى ، ولا تسلبه صفة الرضا والغضب ، بخاصة إذا كان للَّه ، وبصورة أخص إذا فوجئ بما فوجئ به موسى ( عليه السلام ) ، فلقد لبث في قومه عمرا يلقنهم التوحيد ، ويؤدبهم على دين اللَّه ، حتى إذا اطمأن إلى إيمانهم جابهوه بالردة والشرك ، دون أي سبب موجب .
وقال آخرون : ان موسى كان حديدا ، أما هارون فكان لينا . . ونقول : ان موسى كان شديد العزيمة ، قوي الإرادة ، عظيم الثقة بنفسه ، وكان هارون دونه بمراحل ، على صلاحه وفلاحه {قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْداءَ ولا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . يريد بالأعداء الذين عبدوا العجل ، لأنهم اتخذوا هارون عدوا ، وأرادوا قتله حين نهاهم عن الشرك وعبادة العجل ، فكأنه يقول لأخيه موسى : أتكون عليّ مع أعدائي وأعدائك ، فتأخذ برأسي ولحيتي أمامهم ليشمتوا بي ؟ . وكيف تغضب مني كغضبك منهم ، وأنا بريء منهم ومن أفعالهم ، ووقفت منهم موقف المعارض والمفند ، ولم أقصّر بما وجب عليّ من النصح والتحذير .
وهنا يلين موسى ( عليه السلام ) ، وتأخذه عاطفة الرحمة والأخوة {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ولأَخِي وأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} . استغفر لنفسه لما كان من قسوته مع أخيه ، واستغفر لأخيه مخافة تقصيره في هدايتهم وردعهم عن الشرك والارتداد . .
وليس من شك ان اللَّه قد استجاب لدعوة موسى ( عليه السلام ) لأنه أرحم الراحمين ، ولعلمه بإخلاص موسى وهارون .
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} . وتسأل : تدل هذه الآية بظاهرها على ان الذين اتخذوا العجل قد غضب اللَّه عليهم ، وأذلهم في الحياة الدنيا إلى يوم يبعثون ، مع العلم بأنهم تابوا واستغفروا اللَّه وسألوه الرحمة كما نصت الآية السابقة 149 . واللَّه سبحانه هو القائل : {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل - 119] . إذن كيف لزم الغضب الأبدي واللعنة الدائمة من تاب عن عبادة العجل ؟ .
وأجاب البعض بأن الذين عبدوا العجل انقسموا بعد رجوع موسى إليهم إلى فرقتين : فرقة تابت توبة صحيحة ، وهؤلاء قد غفر اللَّه لهم . وفرقة أصرت واستمرت على الشرك كالسامري وأشياعه ، وهؤلاء هم الذين غضب اللَّه عليهم وأذلهم في الحياة الدنيا .
ويلاحظ بأنه لا شيء في الآية يدل على هذا التقسيم . . وأنسب الأجوبة ان اللَّه قد علم ان اليهود لا يتوبون ولن يتوبوا أبدا عن الضلال واتباع الشهوات توبة خالصة ، لا ردة بعدها ، ويدل على هذه الحقيقة طبيعتهم وسيرتهم ، فإنهم كانوا وما زالوا لا يزدجرون من اللَّه والضمير بزاجر ، ولا يرتدعون عن الضلال والفساد برادع إلا القوة وحدها .
سؤال ثان : ان ليهود اليوم دولة باسم إسرائيل . . وبها زالت عنهم الذلة في الحياة الدنيا ، وهذا يتنافى مع ظاهر الآية ؟ .
الجواب : كلا ، وألف كلا ، ما قامت ولن تقوم أبدا دولة اليهود ، تماما كما سجل اللَّه في كتابه الحكيم . . أما إسرائيل فليست دولة كغيرها من الدول ، وإنما هي عصابة مسلحة ، تماما كجيش المرتزقة . . أوجدها الاستعمار لحماية مصالحه وضرب القوى الوطنية ، وليس لها من الدولة إلا الاسم ، وقد أثبتنا ذلك عند تفسير الآية 109 من آل عمران ، وغيرها في المجلد الأول والثاني من هذا التفسير ، وفي كتاب من هنا وهناك فصل : باع دينه للشيطان ، وغيره من الفصول .
{والَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} . معنى الآية واضح ، وتقدم نظيرها أكثر من مرة ، والقصد من ذكرها بعد الآية السابقة هو التأكيد بأن من تاب وأناب مخلصا ، ولم يعاود المعصية كما يفعل بنو إسرائيل فان اللَّه سبحانه يرحمه ويغفر له إسرائيليا كان أو قرشيا .
{ولَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْواحَ وفِي نُسْخَتِها هُدىً ورَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} . ان موسى نبي معصوم ، ما في ذلك ريب ، ولكنه انسان يحزن ويفرح ، ويرضى ويغضب . . وقد تملكه الغضب حين فوجئ بارتداد قومه عن دين اللَّه ، وتركه الغضب حين استعطفه أخوه هارون ، ووعده اللَّه بالانتقام من المرتدين ، وبعد أن عاد موسى (عليه السلام) إلى وضعه الطبيعي عاد إلى الألواح التي ألقاها حين غضبه ، واطمأن إلى ما فيها من الهدى لمن يتفتح قلبه للخير ، والى ما فيها من الرحمة لمن يخشى نقمة اللَّه وعذابه . . ان حكمة اللَّه جل ثناؤه اقتضت أن يهب الرضوان والرحمة لكل من أطاعه مخافة نقمته ، وان ينزل النقمة والعذاب بكل من عصاه اتكالا على رحمته .
__________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 397-399 .
قوله تعالى : {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف : 150] إلى آخر الآية الأسف بكسر السين صفة مشبهة من الأسف وهو شدة الغضب والحزن والخلافة القيام بالأمر بعد غيره ، والعجلة طلب الشيء وتحريه قبل أوانه على ما ذكره الراغب يقال : عجلت أمرا كذا أي طلبته قبل أوانه الذي له بحسب الطبع فمعنى الآية : ولما رجع موسى إلى قومه وهو في حال غضب وأسف لما أخبره الله تعالى لدى الرجوع بأن قومه ضلوا بعبادة العجل بعده فوبخهم وذمهم بما صنعوا وقال : بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وطلبتموه قبل بلوغ أجله ، وهو أمر من بيده خيركم وصلاحكم ولا يجري أمرا إلا على ما يقتضيه حكمته البالغة ، ولا يؤثر فيه عجلة غيره ولا طلبه ولا رضاه إلا بما شاء ، والظاهر أن المراد بأمر ربهم أمره الذي لأجله واعد موسى لميقاته ، وهو نزول التوراة .
وربما قيل : إن معنى ﴿أعجلتم أمر ربكم﴾ أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم : وقيل : المعنى استعجلتم وعد الله وثوابه على عبادته فلما لم تنالوه عدلتم إلى عبادة غيره؟ وقيل : المعنى أعجلتم عما أمركم به ربكم وهو انتظار رجوع موسى حافظين لعهده فبنيتم على أن الميقات قد بلغ آخره ولم يرجع إليكم فغيرتم هذا ، وما قدمناه من الوجه أنسب بالسياق .
وبالجملة اشتد غضب موسى (عليه السلام) لما شاهد قومه ووبخهم وذمهم بقوله : {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف : 150] وهو استفهام إنكاري - ﴿وألقى الألواح﴾ وهي ألواح التوراة ﴿وأخذ برأس أخيه﴾ قابضا على شعره {يجره إليه} وقد قال له - فيما حكى الله في سورة طه : {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه : 92 ، 93] .
﴿قال﴾ هارون يا ﴿ابن أم﴾ وإنما خاطبه بذكر أمهما دون أن يقول : يا أخي أو يا ابن أبي للترقيق وتهييج الرحمة {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف : 150] لما خالفتهم في أمر العجل ومنعتهم عن عبادته {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف : 150] بحسباني كأحدهم في مخالفتك ، وكان مما قال له على ما حكاه الله في سورة طه - إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي .
وظاهر سياق الآية وكذا ما في سورة طه من آيات القصة أن موسى غضب على هارون كما غضب على بني إسرائيل غير أنه غضب عليه حسبانا منه أنه لم يبذل الجهد في مقاومة بني إسرائيل لما زعم أن الصلاح في ذلك مع أنه وصاه عند المفارقة وصية مطلقة بقوله : {وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف : 142] وهذا المقدار من الاختلاف في السليقة والمشية بين نبيين معصومين لا دليل على منعه ، وإنما العصمة فيما يرجع إلى حكم الله سبحانه دون ما يرجع إلى السلائق وطرق الحياة على اختلافها .
وكذا ما فعله موسى بأخيه من أخذ رأسه يجره إليه كأنه مقدمة لضربه حسبانا منه إن استقل بالرأي زاعما المصلحة في ذلك وترك أمر موسى فما وقع منه إنما هو تأديب في أمر إرشادي لا عقاب في أمر مولوي وإن كان الحق في ذلك مع هارون ، ولذلك لما قص عليه القصص عذره في ذلك ، ودعا لنفسه ولأخيه بقوله رب اغفر لي ولأخي إلخ .
وقد وجه قوله : {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف : 150] بوجوه أخر :
الأول : أن موسى إنما فعل ذلك مستعظما لفعلهم مفكرا فيما كان منهم كما يفعل الإنسان ذلك بنفسه عند الوجد وشدة الغضب فيقبض على لحيته ويعض على شفته فأجرى موسى أخاه هارون مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان بنفسه عند الغضب والأسف .
الثاني : أنه أراد أن يظهر ما اعتراه من الغضب على قومه لإكباره منهم ما صاروا إليه من الكفر والارتداد فصدر ذلك منه لإعلامهم عظم الحال عنده لينزجروا عن مثله في مستقبل الأحوال .
الثالث : أنه إنما جره إلى نفسه ليناجيه ويستفسر حال القوم منه ، ولذلك لما ذكر هارون ما ذكر ، قبله منه ودعا له .
الرابع : أنه لما رأى أن بهارون مثل ما به من الغضب والأسف أخذ برأسه متوجعا له مسكنا لما به من القلق فكره هارون أن يظن الجهال أنه استخفاف وإهانة فأظهر براءة نفسه ودعا له أخوه وجل هذه الوجوه أو كلها لا تلائم سياق الآيات .
وقوله في صدر الآية {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف : 150] يدل على أنه كان عالما بأمر ارتداد قومه من قبل ، وهو كذلك فإن الله سبحانه - كما حكى في سورة طه - قال له وهو في الميقات : فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري .
وإنما ظهر حكم غضبه عند ما شاهد قومه فاشتد عليهم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه كل ذلك فعله بعد ما رجع إليهم لا حينما أخبره بذلك ربه ، وإخبار الله سبحانه أصدق من الحس لأن الحس يصدق ويكذب ، والله سبحانه لا يقول إلا الحق .
وذلك لأن للعلم حكما وللمشاهدة حكما آخر ، والغضب هيجان القوة الدافعة للدفع أو الانتقام ، ولا يتحقق مورد للدفع والانتقام بمجرد تحقق العلم لكن الحس والمشاهدة تصاحب وجود المغضوب عليه عند العصيان فيتأتى منه الدفع والانتقام بالقول والفعل ، ولا يؤثر العلم قبل المشاهدة إلا حزنا وغما ونظير ذلك بالمقابلة أنك لو بشرت بقدوم من تحبه وتتوق نفسك إلى لقائه فلك عند تحقق البشرى حال وهو الفرح ، وعند لقاء الحبيب حال آخر وحكم جديد ، وكذا إذا شاهدت أمرا عجيبا وأنت وحدك كان حكمه التعجب ، وإذا شاهدته ومعك غيرك تعجبت وضحكت ، وله نظائر أخر .
قوله تعالى : {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} [الأعراف : 151] الآية دعاء منه (عليه السلام) وقد تقدم في الكلام على المغفرة في آخر الجزء السادس من الكتاب أن المغفرة أعم موردا من المعصية .
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [الأعراف : 152] الآية .
تنكير الغضب وكذا الذلة للإشعار بعظمتهما وقد أبهم الله سبحانه ما سينالهم من غضبه وذلة الحياة فلم يبين ما هما فمن المحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى ما جرى عليهم بعد ذلك من تحريق العجل المعبود ونسفه في اليم وطرد السامري وقتل جمع منهم ، أو أن يكون المراد به ما ضرب الله على قومهم من الذلة والمسكنة والقتل والإبادة والإسارة ، ويمكن أن يكون المراد بالغضب هو عذاب الآخرة فيجمع لهم بذلك هوان الآخرة وذلة الدنيا .
وكيف كان فذيل الآية : {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف : 152] بظاهره يدل على أن ذلك أعني نيل غضب الرب سبحانه وذلة الحياة الدنيا سنة جارية إلهية في المفترين على الله وهذا الذي يدل عليه الآية يهدي إليه الأبحاث العقلية أيضا كما مر مرارا .
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف : 153] ضمير ﴿من بعدها﴾ الأول راجع إلى السيئات ، والثاني إلى التوبة ، ومعنى الآية ظاهر .
والآية وإن كانت في نفسها عامة لكنها بالنظر إلى المورد بمنزلة الاستثناء من الذين اتخذوا العجل المذكورين في الآية السابقة فالتوبة إذا تحققت بحقيقة معناها في أية سيئة كانت لم يمنع من قبولها مانع كما تقدم في تفسير قوله تعالى : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء : 17] .
وهذه الآية والتي قبلها معترضتان في القصة ، ووجه الخطاب فيهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والدليل على ذلك قوله في الآية الأولى : {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف : 152] وفي الآية الثانية ﴿إن ربك﴾ الآية وظاهر السياق أن الكلام فيهما جار على حكاية الحال الماضية بدليل قوله : ﴿سينالهم غضب﴾ .
قوله تعالى : {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} [الأعراف : 154] الآية ، الرهبة هي خوف مع تحرز : والباقي ظاهر .
___________________________
1 . تفسير الميزان ، ج8 ، ص 255-259 .
قال تعالى : {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف : 150-151] .
ردة فعل شديدة تجاه عبادة العجل :
في هاتين الآيتين بيّن تعالى بالتفصيل ما جرى بين موسى عليه السلام وبين عبدة العجل عند عودته من ميقاته المشار اليه في الآية السابقة. فهاتان الآيتان تعكسان ردة فعل موسى عليه السلام الشديدة التي أدت إلى يقظة هذه الجماعة .
يقول في البدء : ولما عاد موسى عليه السلام إلى قومه غضبان ممّا صنع قومه من عبادة العجل ، قال لهم : ضيعتم ديني وأسأتم الخلافة {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} (2).
إنّ هذه الآية تفيد بوضوح أن موسى عند رجوعه إلى قومه من الميقات وقبل أن يلتقي ببني إسرائيل كان غضبان أسفا ، وهذا لأجل أن الله تعالى كان قد أخبر موسى عليه السلام بأنّه اختبر قومه من بعده وقد أضلّهم السامريّ {قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ} [طه : 58] .
ثمّ إنّ موسى عليه السلام قال لهم : {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} .
للمفسّرين كلام كثير في تفسير هذه الجملة ، وقد ذكروا احتمالات عديدة مختلفة ، إلّا أن ظاهر الآيات يفيد أن المراد هو أنّكم تعجلتم في الحكم بالنسبة إلى أمر الله تعالى في قضية تمديد مدّة الميقات من ثلاثين إلى أربعين ، فاعتبرتم عدم مجيئي في المدة المقررة ـ أوّلا ـ دليلا على موتي ، في حين كان يتعين عليكم أن تتريثوا وتنتظروا قليلا ريثما تمرّ أيّام ثمّ تتّضح الحقيقة .
وفي هذا الوقت بالذات ، أي عند ما واجه موسى عليه السلام هذه الأزمة الخطيرة من حياة بني إسرائيل ، وكان الغضب الشديد يسر بل كل كيانه ، ويثقل روحه حزن عميق ، وقلق شديد على مستقبل بني إسرائيل ، لأنّ التخريب والإفساد أمر سهل ، وربّما استطاع شخص واحد تخريب كيان عظيم ولكن الإصلاح والتعمير أمر صعب وعسير جدّا. خاصّة أنّه إذا سرت في شعب جاهل متعنت نغمة مخالفة شاذة ، وافقت هوى ورغبة ، فإنّ محوها لا شك لن يكون أمرا ممكنا وسهلا.
فهنا لا بدّ أن يظهر موسى عليه السلام غضبه الشديد ويقوم بالحدّ الأعلى من ردّ الفعل والسخط ، كي يوقظ الأفكار المخدّرة لدى بني إسرائيل ، ويوجد انقلابا في ذلك المجتمع الذي انحرف عن الحق ، إذ العودة إلى الحق والصواب عسيرة في غير هذه الصورة .
إنّ القرآن يستعرض ردّة فعل موسى الشديدة في قبال ذلك المشهد وفي تلك الأزمة ، إذ يقول : إنّ موسى ألقى ألواح التوراة التي كانت بيده ، وعمد إلى أخيه هارون وأخذ برأسه ولحيته وجرهما إلى ناحيته ساخطا غاضبا.
وكما يستفاد من آيات قرآنية أخرى ، وبخاصّة في سورة طه ، أنّه علاوة على ذلك لام هارون بشدّة ، وصاح به ، لماذا قصّرت في المحافظة على عقائد بني إسرائيل وخالفت أمري (3) .
وفي الحقيقة كان هذا الموقف يعكس ـ من جانب ـ حالة موسى عليه السلام النفسية ، وانزعاجه الشديد تجاه وثنية بني إسرائيل وانحرافهم ، ومن جانب آخر كان ذلك وسيلة مؤثرة لهزّ عقول بني إسرائيل الغافية ، والفاتهم إلى بشاعة عملهم.
وبناء على هذا إذا كان إلقاء ألواح التوراة في هذا الموقف قبيحا ـ فرضا ـ وكان الهجوم على أخيه لا يبدو كونه عملا صحيحا ، ولكن مع ملاحظة الحقيقة التالية ، وهي أنّه من دون إظهار هذا الموقف الانزعاجي الشديد لم يكن من الممكن إلفات نظر بني إسرائيل إلى بشاعة خطئهم ... ولكان من الممكن أن تبقى رواسب الوثنية في أعماق نفوسهم وأفكارهم ... إنّ هذا العمل لم يكن فقط غير مذموم فحسب ، بل كان يعد عملا واجبا وضروريا.
ومن هنا يتّضح أنّنا نحتاج أبدا إلى التبريرات والتوجيهات التي ذهب إليها بعض المفسّرين ، للتوفيق بين عمل موسى عليه السلام هذا وبين مقام العصمة التي يتحلى بها الأنبياء ، لأنّه يمكن أن يقال هنا : إنّ موسى عليه السلام انزعج في هذه اللحظة من تأريخ بني إسرائيل انزعاجا شديدا لم يسبق له مثيل ، لأنّه وجد نفسه أمام أسوأ المشاهد ألا وهو الانحراف عن التوحيد إلى عبادة العجل ، وكان يرى جميع آثارها وأخطارها المتوقعة .
وعلى هذا فإنّ إلقاء الألواح ومؤاخذة أخيه بشدّة في مثل هذه اللحظة مسألة طبيعية تماما.
إنّ ردة الفعل الشديدة هذه وإظهار الغضب هذا ، كان له أثر تربوي بالغ في بني إسرائيل ، فقد قلب المشهد رأسا على عقب في حين أنّ موسى لو كان يريد أن ينصحهم بالكلمات اللينة والمواعظ الهادئة ، لكان قبولهم لكلامه ونصحه أقلّ بكثير.
ثمّ إنّ القرآن الكريم ذكر أنّ هارون قال ـ وهو يحاول استعطاف موسى وإثبات برائته في هذه المسألة ـ : يا ابن أمّ هذه الجماعة الجاهلة جعلوني ضعيفا إلى درجة أنّهم كادوا يقتلونني ، فإذن أنا بريء ، فلا تفعل بي ما سيكون موجبا لشماتة الأعداء بي ولا تجعلني في صف هؤلاء الظالمين {قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
إن التعبير ب : «ابن أمّ» في الآية الحاضرة أو «يا ابن أمّ» (كما في الآية 94 من سورة طه) مع أن موسى وهارون كانا من أب وأم واحدة ، إنّما هو لأجل تحريك مشاعر الرحمة والعطف لدى موسى عليه السلام في هذه الحالة الساخنة.
وفي المآل تركت هذه القصّة أثرها ، وسرعان ما التفت بنو إسرائيل إلى قبح أعمالهم ، فاستغفروا الله وطلبوا العفو منه .
لقد هدأ غضب موسى عليه السلام بعض الشيء ، وتوجه إلى الله {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
إنّ طلب موسى عليه السلام العفو والمغفرة من الله تعالى لنفسه ولأخيه ، لم يكن لذنب اقترفاه ، بل كان نوعا من الخضوع لله ، والعودة إليه ، وإظهار النفرة من أعمال الوثنيين القبيحة ، وكذا لإعطاء درس عملي للجميع حتى يفكروا ويروا إذا كان موسى وأخوه ـ وهما لم يقترفا انحرافا ـ يطلبان من الله العفو والمغفرة هكذا ، فالأجدر بالآخرين أن ينتبهوا ويحاسبوا أنفسهم ، ويتوجهوا إلى الله ويسألوه العفو والمغفرة لذنوبهم . وقد فعل بنو إسرائيل هذا فعلا ـ كما تفيد الآيتان السابقتان .
- {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف : 152-154] .
لقد فعلت ردة فعل موسى عليه السلام الشديدة فعلتها في المآل فقد ندم عبدة العجل الإسرائيليون ـ وهم أكثرية القوم ـ على فعلهم ، وقد طرح هذا الندم في عدّة آيات قبل هذه الآية أيضا (الآية 149) ومن أجل أن لا يتصور أن مجرّد الندم من مثل هذه المعصية العظيمة يكفي للتوبة ، يضيف القرآن الكريم قائلا : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا}.
وهكذا لأجل أن لا يتصور أنّ هذا القانون يختص بهم أضاف قائلا : {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}.
إن التعبير بـ «اتّخذوا» إشارة إلى أنّ الوثن ليس له أية واقعية ، ولكن انتخاب عبدة الأوثان هو الذي أعطاه تلك الشخصية والقيمة الوهمية ، ولهذا أتى بكلمة «العجل» وراء هذه الجملة فورا ، يعني أنّ ذلك العجل هو نفس ذلك العجل حتّى بعد انتخابه للعبادة.
أمّا أنّ هذا الغضب ما هو؟ وهذه الذّلة ما هي؟ فالقرآن لم يصرح بشيء عنهما في هذه الآية ، وإنّما اكتفى بإشارة مجملة ، ولكن يمكن أن تكون إشارة إلى الشقاء والمصائب والمشكلات التي ابتلوا بها بعد هذه الحادثة وقبل دخولهم الأرض المقدسة.
أو أنّه إشارة إلى مهمّة قتل بعضهم بعضا العجيبة التي كلّفوا بها كجزاء وعقوبة لمثل ذلك الذنب العظيم.
وهنا قد يطرح هذا السؤال ، وهو أنّ من المرتكزات الفكرية هو أنّ حقيقة التوبة تتحقق بالندامة ، فكيف لم يشمل العفو الإلهي بني إسرائيل مع أنّهم ندموا على فعلهم؟
والجواب هو أنّه ليس لدينا أي دليل على أنّ مجرّد الندامة لوحدها تنفع في جميع الأحوال والمواضع. صحيح أنّ الندامة هي أحد أركان التوبة ، ولكنّها ليست كل شيء.
إنّ معصية عبادة الأوثان السجود للعجل في ذلك النطاق الواسع وفي تلك المدّة القصيرة ، وبالنسبة إلى ذلك الشعب الذي شاهد بأم عينيه كل تلكم المعاجز والآيات ، لم تكن معصية يمكن التغاضي عنها بمثل هذه السهولة ، وكفاية يقول مرتكبها : «أستغفر الله» وينتهي كلّ شيء.
بل لا بدّ أن يرى هذا الشعب غضب الله ويذوق طعم المذلة في هذه الحياة ، ويساط الذين افتروا على الله الكذب بسوط البلاء حتى لا يفكروا مرّة أخرى في ارتكاب مثل هذا الذنب العظيم.
وفي الآية اللاحقة يكمّل القرآن الكريم هذا الموضوع ويقول في صورة قانون عام : {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فالذين يتوبون من بعد السيئة وتتوفر كل شروط التوبة لديهم يغفر الله لهم ويعفو عنهم.
جواب على سؤالين :
1 ـ هل الآيتان الحاضرتان جملة معترضة وقعت وسط قصّة بني إسرائيل كتذكير لرسول الله والمسلمين؟ أو أنّه خطاب الله لموسى عليه السلام بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل؟
ذهب بعض المفسّرين إلى الاحتمال الأوّل ، وارتضى بعض آخر الاحتمال الثّاني .
والذين ارتضوا الاحتمال الأوّل استدلوا بجملة {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لأنّ الجملة في صورة خطاب إلى الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .
والذين ارتضوا الاحتمال الثّاني استدلوا بجملة {سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ} الذي جاء في صورة الفعل المضارع .
ولكن ظاهر الآيات يفيد أنّ هذه الجملة قسم من خطاب الله إلى موسى عليه السلام في تعقيب قصّة العجل ، وفعل المضارع (سينالهم) شاهد جيد على هذا الموضوع ، وليس هناك ما يمنع أن يكون «إنّ ربّك» خطاب موجه إلى موسى عليه السلام (4) .
2 ـ لماذا جاء الإيمان في الآية الحاضرة بعد ذكر التوبة والحال أنّه ما لم يكن هناك إيمان لا تتحقق توبة ؟
إنّ الجواب على هذا السؤال يتّضح من أن قواعد الإيمان تتزلزل عند ارتكاب المعصية ، ويصيبها نوع من الوهن ، إلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث الإسلامية :
«لا يشرب الخمر وهو مؤمن ، ولا يزني وهو مؤمن» أي أن الإيمان يتضاءل ضوؤه ، ويفقد أثره .
ولكن عند ما تتحقق التوبة يعود الإيمان إلى ضوئه وأثره الأوّل ، وكأنّ الإيمان تجدّد مرّة أخرى.
ثمّ إنّ الآيات الحاضرة ركزت ـ فقط ـ على الذلة في الحياة الدنيا ، ويستفاد من ذلك أن توبة بني إسرائيل من هذه المعصية بعد الندامة من قضية الوثنية وتذوق العقوبة في هذه الدنيا ، قد قبلت بحيث أنّها أزالت عقوبتهم في الآخرة ، وإن بقيت أعباء الذنوب الأخرى التي لم يتوبوا منها في أعناقهم .
الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة تقول : ولما سكن غضب موسى عليه السلام ، وحصل على النتيجة التي كان يتوخاها ، أخذ الألواح من الأرض ، تلك الألواح التي كانت تحتوي ـ من أوّلها إلى آخرها ـ على الرحمة والهداية ، رحمة وهداية للذين يشعرون بالمسؤولية ، والذين يخافون الله ، ويخضعون لأوامره وتعاليمه {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} .
_________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 516-523 .
2. «الأسف» كما يقول الراغب في «المفردات» بمعنى الحزن المقرون بالغضب ، وهذه الكلمة قد تستعمل في أحد المعنيين أيضا. وتعني في الأصل أن ينزعج الإنسان من شيء بشدة ، ومن الطبيعي أن هذا الانزعاج إذا كان بسبب من هو دونه ظهر مقرونا بالغضب ، وبردة فعل غاضبة ، وإذا كان ممن هو فوقه ممن لا يستطيع مقاومته ظهر من صورة الحزن المجرّد ، وقد نقل عن ابن عباس أيضا أن للحزن والغضب أصل واحد وإن اختلفا لفظا .
3. سورة طه : 92 ـ 93.
4. فيكون التقدير في الآية الحقيقة هكذا : «قال الله لموسى أن الذين ...».
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|